(64) هِمَمُ اليَابَانِيِّينَ وَوَطَنِيَّتُهُمْ فِي زَمَنِ الحَرْبِ الرُّوسِيَّة:
مَنْ نظر في ناموس هذا الاجتماع الإنساني، وتأمَّل في ارتباط كُلِّ فردٍ من بني الإنسان بالآخر من حيثُ الحاجة إلى التعاون وتبادل المَنفعة في مُعترك الحياة، عرف جليًّا أن الأغنياء من كُلِّ أمَّة هم أوْلَى الناس بأن لا يَدَعُوا الدِّرْهَمَ والدِّينَارَ في خزائنهم؛ لأنهم بذلك يكونون قد جَنَوْا جناية كُبرى على المُجتمع الإنساني؛ لأننا إذا عرفنا أن الغاية من اكتساب الدِّرهم والدِّينار هي سَدُّ العَوَز وقضاء ما يحتاج إليه الإنسان من ضروريات المعاش لوجدنا أن مثل روكفلر، وكارنجي، وروتشلد وغيرهم مِمَّنْ تُعَدُّ ثروتهم بالملايين يكفي أحدهم من ثروته جزء من ألف ألف من مجموعها، فإذن لابُدَّ من أن يكون الباقي بعد هذه الكفاية وقفًاً على منفعة بني الإنسان، إمَّا بالأثُمَّار أو بالزراعة وغير ذلك من الأعمال التي تقضي بأن يعمل فيها غيره بكسب ما يقوم بحاجته، وقد حَذَّرَ اللهُ -سبحانه وتعالى- الأغنياءَ من اكتناز المال وعدم استعماله في كثير من المواضع، وأنذر الذين يكنزون الذهب والفضة بأنها ستُكْوَى بها جباههم وجُنُوبُهُمْ يوم القيأمَّة.

هذه المُقَدِّمَةِ أتينا بها لبيان أنَّ الغَنِي لم يكن ليُعطَى هذا الغِنَى لأجل أن يُخْتَصَّ به دون غيره من بني جنسه، وكما يكون استعمال المال في الوجوه النافعة بين الأفراد، فكذلك الأمر في مجموع الأمَّة؛ لأن الأمَّة التي يبلغ تعدادها الألف والمليون من النفوس إذا احتاج مجموعها إلى المال كان الواجب على كُلِّ غنيٍّ فيها أن يبذل من ماله ما يؤدي به هذا الواجب نحو وطنه وأمَّتِهِ وإلَّا يُعَدُّ خائنًا عاقًّا وكفى بهذا الوصف حِطَّة من قدْره، وهو في هذه الحالة يكون دون الفقير في النفع لبلاده، بل لا يصدق في حقِّه هذا الوصف؛ لأن الفقير قد يكون أنفع منه لأنه لو كان يكتسب في اليوم درهمًا واحدًا ويبذل في سبيل نفع أمَّتِهِ وبلاده جزءًا من هذا الدِّرهم فهو الكريم حقيقة؛ إذ حقيقة الكَرَمِ أن يجود المَرْءُ وهو في شدَّةِ العَوَز، هذا وإننا كثيرًا ما نقرأ في الصُّحُفِ ونشاهدُ بِأَعْيُنِنَا الأغنياء يجُودُونَ بالأموال الطائلة في سبيل نفع أمَّتِهِمْ ووطنهم، ونعجبُ كثيرًا إذا سمعنا أنَّ فلانًا حَبَسَ كذا من الأعيان مِمَّا يبلغ ريعُه كذا من الجنيهات، وفلانٌ وَهَبَ كذا من آلاف الجنيهات في سبيل ارتقاء العًلًومِ أو إعانة الفقراء، ولكن ما فعله اليابانيون في إبَّان الحرب الروسية يدعو إلى الإعجاب أكثر وإلى القارئ البيان.
•••
لَمَّا حدثت هذه الحربُ رأت الحكومة اليابانية أن تقترض مبلغ 60 مليون ينٍّ من بعض البنوك، فلمَّا علم بذلك أغنياؤهم هزَّتهم الأريحية ودعتهم الوطنية إلى أن يتبرعوا بما يعجز عنهم سواهم من أغنياء الأمم الأخرى، ولست في هذا بِمُبَالِغٍ لأنِّي عرفتُ ذلك حين وجُودِي في تلك البلاد معرفةً مِمَّنْ بَاشَرَ هذا التبرَّعَ بنفسه ورآه بعيني رأسه لا كما يرى الإنسان إلَّا شيئًا بالمناظر المُجَسِّمَةِ.

فأوَّلُ ما ذاعَ خبرُ هذا القرض عُمِلَ اكتتابٌ عَامٌ اشترك فيه الآلاف من المُوسِرِينَ وفي قليل من الزمن جُمِع مبلغ 11200000 عبارة عَمَّا يُعَادِلُ 1120000 جنيه مصري، ولم يقف الاكتتاب عند هذا الحَدِّ، بل فُتِحَتْ اكتتابات أخرى في سائر البلاد اليابانية، وإننا الآن نذكر أسماءهم على سبيل الفخر بهذه الهِمَمِ الشَّمَّاء التي قلَّتْ أنْ لا تُوجَدَ في غيرهم من أغنياء الأمَمِ الأخرى.

 وهاك البيان:
ين    عبارة عن جنيه مصري

11200000  ين عبارة عن 1120000 جنيه مصري.

مليونًا    100 ألف جنيه    البارون تانسيبوا
مليونًا    100 ألف جنيه    المركيز شانتو مالو
مليونًا    100 ألف جنيه    البرنس فالتادوار
مليونًا    100 ألف جنيه    البرنس موري
مليونًا    100 ألف جنيه    المركيز ماييدا
مليونًا    100 ألف جنيه    المركيز شيمادتبرون
مليونًا    100 ألف جنيه    المستر فوروكاوا
نصف مليون    500 ألف جنيه    المركيز دانتومار
نصف مليون    500 ألف جنيه    المركيز هوسوكاوا
نصف مليون    500 ألف جنيه    المستر واتانابي
نصف مليون    500 ألف جنيه    المستر هاراتومبتاو
 400 ألف    40 ألف جنيه    المركيز جابالوني
400  ألف    40 ألف جنيه    المستر دانتيرفوش
 300 ألف    30 ألف جنيه    المركيز توكوجاوا
 300 ألف    30 ألف جنيه    المستر إيويا
 300 ألف    30 ألف جنيه    المستر جيمون
 300 ألف    30 ألف جنيه    المركيز إنشاناو
200  ألف    20 ألف جنيه    المستر هوريكوشي

هذا هو جميع المُتبَرَعِ به في ذلك الوقت، ولا شك أن القارئ الكريم عندما يجد أنَّ مبلغًا مثل هذا جاد به ثُمَّانية عشر رجلًا من القوم يعجب جدًّا لهذا الكرم وهذه الوطنية، ولكن يكون استغرابه أكثر إذا علم بما جاد به المسيو ادكاروا فإن هذا الرجل كان عنده متحف جمع فيه من غريب الآثار القديمة، ما تقدِّر قيمته بخمسة وثُمَّانين ألفًا من الجنيهات، فباعه بهذا المقدار وقدَّمه إلى الميكادو الذي امتدح له وطنيته، وقال إني أودُّ أن يكون في بلادي المئات من أمثالك في الوطنية، وهذا العمل الجليل لا يقل عما فعله المسيو “فيدون بيس”، فإنَّ هذا الرجل جَادَ بالنَّفس والنَّفيس؛ وذلك أنه كان يملك منتزهًا جميلًا وعنده ولدان لم يرزق سواهما من البنين، فلمَّا عَلِمَ بأمر عزم دولته على اقتراض المبلغ المُتقدِّمِ ما كان منه إلَّا أنه باع ثلثي المنتزه بمبلغ 50 ألف ين عبارة عن 5000 جنيه مصريٍّ، وأخذ هذا المبلغ ونجله الأكبر وتقدَّم إلى الميكادو وقال له: ليسمح لي سيدي ومولاي بقبول هذا المبلغ وبقبولي أنا وابني هذا متطوعين في العسكرية؛ لأني ابتعت بهذا المبلغ ثلثي منتزهي وأبقيت الثلث ليكون مورد معاش زوجتي وابني الصغير، فأُعْجِبَ الميكادو به كُلَّ الإعجاب وشكر له هذه الأريحية.

هذه هي مُرُوءَةُ أهل اليابان نحو وطنهم وشعورهم لدى الظروف التي تقضي بأن يُؤَدِّي كُلُّ واحدٍ منهم هذا الواجب لبلاده وأمَّتِهِ، ومن العجب أنهم لا يَعُدُّونَ هذا من باب الأمُور التي يُمْدَحُ عليها الإنسان؛ لأنهم يَعُدُّونَ هذا التبرُّعَ فرضًا لازمًا لا يجبُ شُكْرَ القائم به؛ لأنَّ المَرْءَ لا يُمدَحُ على فعل الواجب، وهذا أيضًا من الأمُور التي يُمدَحُونَ عليها.

فلْيَحْكُمْ معنا القارئ الكريم على شهأمَّة هؤلاء الرِّجَالِ، وكأنِّي به يقول إنَّ سيرتهم هذه لا تُسطَّرُ بالمِدَادِ بل تُكْتَبُ بِمَاءِ الحياة والتِّبْرِ، أو بأطراف المُدَى على رقاق الأكْبَادِ.