(79) العَوْدَةُ إلَى الأوْطَانِ:
إنِّي أدَعُ إلى القارئ الكريم تقديرَ شَوْقِ الغريبِ إلى أوطانِهِ بعد أنْ طرحتهُ النَّوَى عنها مطارحها إلى أبعد بلاد اللهِ نحو بلاده؛ لأنِّي كُنْتُ لا يهنأ لي طعامٌ ولا شرابٌ حينما كنتُ أفرغ من العمل الذي لأجله غادرتُ أوطاني وأختلي بنفسي مُفَكِّرًا في الأحوال والأطوار التي تطرأ على المَرْءِ في حياته، ولكن كانت تسليتي هي الخدمة الدِّينيَّة التي قُمْتُ بها وتَحَمَّلْتُ المَشَاقَ لأجلها.

هذا ولَمَّا قضينا في بلاد الشَّمس المُشرقة نحو اثنين وثلاثين يومًا عَزمتُ العودة إلى وطني ومسقط رأسي وكان بصُحبتي رفيقي، فلم يكد يسمع بهذا النبأ مَنْ عرفتهم من أهل اليابان خصوصًا الذين أسلموا منهم على يدنا حتى حضروا إلينا يوم الوداع، وكلهم أسَفٌ على فراقنا راغبين في بقائنا بين ظهرانيهم أيامًا عديدة، ولكن بَيَّنَّا لهم وجه العُذر وعرَّفناهُمْ أننا لا ندعُ فرصة تُمكّنُنَا من العودة إليهم إلَّا اغتنمناها، ولَمَّا جاء ميعاد السَّفَرِ صَحِبَنَا جناب المسيو جازنيف والمسيو أرانتيبور وإخوته إلى يوكوهاما، ولَمَّا وصلناها كان الأسَفُ الشديدُ تبدو علاماته على وجْهِ كُلٍّ من المسيو جازنيف والمسيو أرانتيبور وإخوته وحينئذٍ تحقَّقنا من صِحَّةِ إسلامهم، ولَمَّا جاء ميعادُ إقلاع الباخرة ودَّعْنِاهُمْ والقلبُ مِلْؤهُ الأسَفُ الشديد.

غادرنا بلاد اليابان بعد أن قضينا بها نحو اثنين وثلاثين يومًا وبعد أنْ عرفتُ من أحوال هذه الأمَّةِ الرَّاقية ما لم يكن يخطرُ على بال وبعد أنْ قمتُ بمهمَّتي، وبعد أنْ صرفتُ من جيبي الخاص ما قدَّرني اللهُ تعالى عليه بدون التماس مليم وَاحِدٍ مِنْ أحَدٍ من الناس سواء كان في مِصْرَ أو الخارج وهذه يدي شهيدة عليَّ بذلك، وقُمْنَا على باخرة من بواخر الشركة الصينية ومَكَثَتْ تَمْخُرُ في عَبَابِ الْيَمِّ نحو واحدٍ وعشرين يومًا، حتى رَسَتْ في مياه كلْكُتَه، وقد مَرَّتْ في طريقها على جُزُرٍ وبُلدانٍ كثيرةٍ تقدَّمَ وصفها والإطناب فيها في غير هذا الموضع ممَّا لا داعي لذكره الآن.