(14) سياسة فرنسا في تونس:
كانت الدول ذات الحول والطول في العصر الأول إذا دخلت بلادًا فاتحة حاملة راية النصر تستعمل القسوة، وأنواع العسف، والفتك بالأرواح، واضطهاد الأمَّة المغلوبة لتتوطد بذلك سُلطاتها، وتُثَبِّت في النُّفُوس هيبتها كقمبيز الفارسي حين دخوله مصر، وكما فعل بختنصر البابلي في بيت المقدس والفراعنة حين امتداد مُلكهم إلى آسيا الكبرى، وكما فعل الحجَّاج وزياد في العراق ولو أردنا أن نورد الشواهد التاريخية لاتسع بنا المجال واحتجنا إلى الوقت الطويل، ولكن في هذا العصر قد اتخذت الدول سياسةً خِلاف تلك السياسة في البلاد التي تدخلها فاتحة غالبة وهي سياسة حُسْنُ المعاملة، والرِّفق بالأهالي، وجلب مودتهم بأنواع العدل، والمساواة، والإصلاح وغير ذلك من الأشياء التي لا تنفِّر عنها الأمم الخاضعة لها، ولكن دولة فرنسا اتبعت تلك السياسة القديمة في تونس، والجزائر فهي تعامل الأهالي معاملة الإذلال والضغط والمُسْلِمين منهم على وجهٍ أخص، فالوظائف العالية كلها في يد الفرنسويين والأمْرُ والنَّهي بيدهم، يفعلون كيف يشاءون شأن الحاكم المُستبد المُطلق التصرف بغير رقيب عليه.

وما يُقال من وجود قوانين في الإدارة وغيرها فإنما هو أمْرٌ صُوريٌ فقط.
•••
وفي هذا المقام يجملُ بنا أن نورد المقارنة بين سياسة فرنسا في تونس والجزائر، وبين سياسة إنكلترا في مصر، وبذلك يكون القياس على سياسة فرنسا -كما سنذكره- ولست أريد بإيراد هذه المقارنة مدح سياسة الإنكليز في مصر ولكن أذكرها من باب توضيح أن بعض الشرِّ أهون من بعض.
•••
احتلّت إنكلترا مصر بدعوة من الخديوي السابق المغفور له توفيق باشا لتأييد مركز الخديوية فأخمدت نيران الثورة وبمجرد دخولها أخذت في بذر بذور الإصلاح فأصلحت دائرة الرَّي والمالية، ونظَّمت الجيش، وها هي قد بدأت توسِّع دائرة التعليم مع الاعتناء بلغة البلاد الرسمية؛ حيث حضَّت الأهالي على إنشاء الكتاتيب، ومحت آثار الظلم والاستبداد، وألغت السُّخرة، والعونة، وجعلت الموظفين سائرين على دستور يُوقِفُ كُلًّا عند حَدِّهِ، وما شاكل ذلك من أنواع الإصلاح الذي نشاهد آثاره الآن بالعيان.
•••
أمَّا فرنسا فإنها حين دخلت مصر استعملت أنواع الظلم والجُورِ فقتلت كثيرًا من الأهالي ويتمَّت أطفالًا، وأيَّمَتْ أرامل، وأهانت أكابر المصريين بالقتل والنَّفي، وعاثت في البلاد فسادًا حتى اختلطت الأنساب وذاك لا تفعله دولة مُتمدِّنَةً، حتى إنها خرجت من البلاد مُرغمة ولم تترك لها حسنةً يذكرها لها المصريون.

والذي يقرأ تاريخ دخول فرنسا مصر في ذلك العهد يعلم كيف كانت سياسة هذه الدولة في معاملتها الأهالي؛ إذ مكثت ثلاث سنوات كل أيامها مملوءة بالفظائع والحوادث التي تقشعرُّ لها الأبدان، وترتعد منها الفرائص.

وقد اتَّخذت فرنسا هذه السياسة نفسها في تونس فهي تُعاملُ المُسْلِمينَ هناك معاملة الغِلْظَةِ، والقَسْوَةِ.

وإليك بعض الحوادث التي حدثت في تونس وسمعتها من أوثق المصادر:
أولًا: اتُّهم اثنان من أهل تونس بارتكاب جريمةٍ غير القتل فأُودِعا في السجن، وكُبِّلا بالقيود، ولبثا فيه حينًا من الدهر وهما يذوقان كُلَّ يوم أنواع العذاب وصنوف الإهانة من السَّجَّانين، حتى وصلت الحالة بهما إلى أن مرضا مرضًا شديدًا وأشرفا على الهلاك، وعجزا عن الحِرَاك والنطق فلم يمكثا إلَّا قليلًا بعد أن دخلا في دور المرض حتى فارقا الحياة وذهبا ضحية قسوة السياسة الفرنسوية، ويشاع أنهما دُفِنا وروحاهما لم تفارق الحياة.

وفي ذلك الوقت قامت جريدة الزهرة لصاحبها الغيور السيد عبد الرحمن الصنادلي -الآنف الذكر- تدافع عن حقوق الإنسانية وتنتقد عمل الحكومة فلم يرُقْ في عينها إلَّا قفل هذه الجريدة، وبعد سنة تقريبًا عادت مرة ثانية بعد أن قدَّم احتجاجه بصورة قضية بينه وبين الحكومة يطالبها فيها بعدم قفل الجريدة؛ لأنه لم يذكر شيئًا يُعَدُّ جريمة شخصية أو سياسية.

ثانيًا: كان أحَدُ الجنود الفرنسويين الذي اسمه “ديك” متغيِّبًا عن منزله فلمَّا عاد إليه أخبرته زوجته أن أحد الأهالي دخل عليها وهي في بيتها قاصدًا سوءاً فلم يكن من الجندي، إلَّا أن تناول مسدسه وخرج من البيت وركب البسكليت وسار في الطريق ولم يبعد عن داره قليلًا، حتى أبصر بعض الوطنيين الذي يُدعَى محمد عبد الله عمر مارًّا فناداه بالوقوف، فذُعِر الوطني منه؛ لأنه ناداه نداء إرهاب فولَّى من أمامه، فأخذ الجندي يعدو وراءه بسرعة سير الدراجة، وقبل أن يلحقه رماه برصاصة من المسدس أصابته فوقع على الأرض مُضرَّجًا بالدماء ولكنه لم يَمُتْ.

وعلى أثر ذلك استدعى الجنديُّ مَنْ حَمَلَ المضروب إلى المستشفى، ولَمَّا ضُبِطتْ الواقعة وأخذ التحقيق مجراه استُدعِيت زوجة الجندي إلى المستشفى، وأمرها قاضي التحقيق أن تُعَيِّنَ الرجل من بين المرضى فعَيَّنَتْ رَجُلًا آخر مضى عليه زمن لم يبرح المستشفى.

ولَمَّا سُئِلَ الجنديُّ عن سبب إطلاق المسدس على رجل لم يتحقّق أنه هو الفاعل أجاب بأنه فعل ذلك على ظنٍّ منه أنه هو الجاني الحقيقي.

وكَأنَّ المحكمة التي قضاتها من الفرنسويين رأت أن إظهار خطأ الجندي وبراءة الرجل الذي ضُرِبَ مِمَّا يَحُطُّ من كرأمَّة الجندي أو يلحق العار بدولة فرنسا، فاحتالت في إثبات التهمة على الرجل التونسي.

وساعدها على ذلك أن له سابقة فحكمت عليه بسنة سجنًا وعلى الجندي بستة أشهر!

ثالثًا: اتهم القضاء أحد الأهالي التونسيين فحُكم عليه لأجلها بخمس عشرة سنة سجنًا مع الأشغال الشاقة، وبعد انقضاء هذه المدة يُنفَى من القطر التونسي عشرين سنة أخرى.

رابعًا: تعدَّى أحد النزلاء الغربيين على أحد الأهالي من المُسْلِمين، وحرق أجرانه، ويُقالُ إنه حُرِقَ اثنان بسبب ذلك من الأهالي، وفي أثناء التحقيق ادَّعَى الرجل الأوروبي أن المُسْلِم كان بادئًا بالتعدي فحكمت المحكمة على الجاني بستة أشهر سجنًا، ولكن هل حُبِس الجاني؟ لم يُحبَس؛ لأن قانون سرسيا وهو قانون خاص بمحاكمة الأجانب يقضي بأن لا يُحبَس الأوروبي، بل يظل مطلق السراح باسم المحبوس، ولا يدخل السجن إلَّا بعد أن يرتكب جناية أخرى في ظرف خمس سنوات تمضي من تاريخ وقوع الجناية، أما إذا مضت هذه المُدَّةُ ولم يفعل ذنبًا ثُمَّ ارتكب جناية أخرى تُعتبَر الجناية الأولى كأنها لم تكن وقعت منه.

خامسًا: يقول الفرنساويون إنهم أول الأمم محافظةً على حرية الأديان، ولكنهم مُخالفون لهذه الدعوى كُلَّ المخالفة في تونس، مثل ذلك البَدَلِيَة العسكرية يدفعها المُسْلِم ثُمَّانمائة فرنك، وأمَّا اليهودي فيدفع خمسمائة فقط، وإذا دهس الترام مسلمًا فالغرأمَّة التي تدفعها الشركة خمسمائة فرنك، وأما إذا كان يهوديًّا فثُمَّانمائة.

سادسًا: إذا أراد أحَدُ الأهالي أن يُنشئ مكتبًا لتعليم الأطفال كالمكاتب الإسلامية التي يُعلَّم فيها القرآن الشريف، أجبرته الحكومة على إدخال اللغة الفرنساوية في بروجرام التعليم.

سابعًا: حادثة القصرين: إذا كان حادث دنشواي شغل أفكار العالم السياسي، وأقام الصحف وأقعدها، ورُدِّدَ صَدَاهُ في أنحاء العالم أجمع، فإن حادث القصرين أفظع وأشنع، لا بل هو النقطة السَّوداء في تاريخ فرنسا السياسي الاستعماري؛ حيث مثَّلت فيه التَّوَحُّشَ والقسوة أسوأ تمثيل وغرست بذور البغضاء في قلوب أهل تونس والجزائر.
•••
وقعت مُشاجرة بين بعض أهالي تونس وبعض الأوروبيين؛ فأرجف الفرنسويون بأن هذا ناتج عن تعصُّب ديني، فألقت القبض على الوطنيين وجرت محاكمتهم.

فصدر الحكم بشنق، وسجن، ونفي الأشخاص الآتي بيان أسمائهم:
حُكِمَ بالإعدام على ثلاثة في مدينة سوسة وهم: محمد سعيد الوقاف، ومحمد بلقاسم قعيد، وعمر علي عبده، وبالأشغال الشاقة مُدَّةَ عشر سنين على: عمر عثُمَّان، والمَنْعُ من دخوله البلاد؛ أي نفيه بعد قضاء مُدَّةَ السجن عشرين سنة، وبالأشغال الشاقة المؤبدة على المقدم علي محمد صالح، وحراث بلقاسم علي، وبالأشغال الشاقة لمدة عشرين سنة على تسعة أشخاص، وبها على خمسة لمدة عشرة أعوام، وستة لخمسة أعوام، وعلى ثلاثة لمدة خمس سنوات سجنًا بسيطًا، وسبعة لعامين كذلك، وعلى واحد بعشرين سنة بسجن الصبيان، وعلى ثلاثة بالسجن مثله لخمسة أعوام.

وقد اتصل بي بعد عودتي إلى القاهرة من بعض المعارف هناك أن الحكومة أصدرت عفوها عن المحكوم عليهم بالإعدام، وأن هذا العفو مُسَبَّبٌ عن تذمُّر الأهالي لهذه الأحكام القاسية، فلينظر الذين شاهدوا وعرفوا حادث دنشواي إلى هذه الحادثة أيضًا التي تذوب لها القلوب، بل الصخر الجلمود، وليضعوا هذه الدولة موضعها من المدنية أو التوحُّش.

ولَمَّا كان الشيءُ بالشيءِ يُذكر نذكرُ هنا على سبيل الاستطراد بعض ما فعله الفرنسيون في مصر حين احتلوها في عهد بونابرت ليعلم الجاهل بالتاريخ أن الذين يصفون الفرنسوي بالشفقة على بني الإنسان مخطئون خطأ بيِّنًا.

أول ما دخل الفرنسويون مصر لم يحترموا الدِّين، فجعلوا الأزهر إسطبلًا لخيولهم وأهانُوا العلماء، وعاثوا في البلاد فسادًا، وانتهكوا الأعراض، وداسُوا بأقدامهم على الفضيلة، فاختلطت الأنساب، هذا فضلًا عن الأبرياء الذين شُنِقوا من الأهالي في حادثة مقتل كليبر؛ حيث جاء أحَدُ السُّوريين من المُسْلِمين واعتدى على هذا القائد بقتله بحديقة الدار بالجيزة، فحُكِم عليه وعلى الذين يعرفهم من الأهالي وطلبة العلم الشريف بالشنق، ولم يشتركوا معه في الجناية.

ولقد بلغ استبداد دولة فرنسا في تونس إلى درجة لم تكن تُتَوَقَّع من دولة متمدِّنة؛ لأنها حظرت على الأهالي أن يقبلوا نزيلًا من إخوانهم المُسْلِمين من أهل المدينة المنورة ومكة المشرفة بدعوى الاحتراس من الدسائس والفتن، فإذا قَدِمَ مكي أو مدني ضيفًا في منزل أحدهم لم يسع صاحب المنزل إلَّا إخطار الحكومة وقتيًّا.

ولقد أخذ التونسيون والجزائريون يهاجرون من بلادهم بعد بيع جميع ممتلكاتهم تخلُّصًا من سُوءِ معاملة الحكومة لهم، حتى إنه أُشِيع في العام الماضي أن سبعين رجلًا هاجروا من تونس بعد ما باعوا كُلَّ ما يمتلكون من الأملاك والعقار.

إلى هنا نكتفي بإيراد ما تقدَّم دليلًا على أن دولة فرنسا إن ادَّعَتْ أنها نصيرة الحرية، وأنها تحترم الأديان، وأنها أول الدول نجاحًا في سياسة الاستعمار فإنها دعوى عديمة البُرهان فاسدة المُقدِّمَات، وما أتينا به شاهدُ عدْلٍ على ما نقول.