أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: لحن الختام.. القرنة في سُبَات.. معماري يبحث عن نصير الثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:51 pm | |
| لحن الختام القرنة في سبات معماري يبحث عن نصير
بعد ثلاثة مواسم من العمل في القرنة، وجدتُ أنه من الصُّعوبة البالغة أن أنْجِزَ أيَّ عمل بينما تُواجهُنِي مُعَوِّقًات مصلحة الآثار التي تزداد تصلُّباً.
وَوَدَدَّتُ أن أنقل كل المشروع إلى مصلحة أخرى أكثر مُلاءَمَة وهكذا حاولت أن يتِمَّ الاستيلاءُ عليه من مصلحة الفلاح، ولكنهم لم يكونوا ليلمسوه؛ فحاولت مصلحة الإسكان، التي تنازلت أيضاً عن هذا الشَّرف.
وهنا، عندما أوضحت أن الفلاحين لا يُمكنهم تحمُّل تكلفة الإسمنت، قيل لي: ((سوف نبني نحن بالإسمنت))، وكان هذا أمر غير عملي بما لا يُطاق، إنه بمثابة تحديث لقول ماري أنطوانيت ((فيأكلوا كعكاً)).
ووصل التعويق إلى ذُروته عندما حدثت بعض التغييرات في العاملين بالمصلحة فأتت بموظًّفَيْنِ كانا على عَدَاءٍ للمشروع وأصبحا في مركزين قياديين، كما نُقِلَ نصيري الأخير؛ شفيق غربال وكيل وزارة إلى وزارة الشئون الاجتماعية.
وتصوَّرتُ أنه مع وجود شفيق غربال في وزارة الشئون الاجتماعية، فإن المشروع قد يكون حاله أفضل تحت رعايته هناك، وهكذا قدَّمتُ طلباً لمصلحة الفلاح في تلك الوزارة.
وقبل مُرُور زمن طويل أصبح من الواضح أن مصلحة الفلاح ليست كثيرة الاهتمام بالفلاح -أو على الأقل بإسكانه- وهكذا أخْبِرْتُ مرَّةً أخرى بأن أقَدِّمَ طلباً إلى مصلحة الإسكان.
وهنا وصل مشروعنا الإسكاني إلى التوقُّف بالكامل.
وكان كُلُّ تَحَرُّكٍ من تلك التَّحَرُّكَاتِ يجعل الموقف أسْوَأ، بصرف النظر تماماً عن أن ذلك كان سيُورِّطُنَا أيضاً في أعمال كتابية لا نهاية لها عند القيام بالجرد وتسليم المخازن.
وفي كل مصلحة من المصالح الثلاث، كانت تُعقد اللجان التي كان من الواضح أنها تُعقد فحسب بهدف إيجاد أعذار لوقت العمل ولتمكين المصلحة المعنية من غسل يديها من القرنة بالكلية.
كان من الواضح استحالة الاستمرار في العمل مع أناس هكذا، ولهذا فعندما أُنْبِئْتُ في النهاية أنه إمَّا أن أعود إلى مدرسة الفنون الجميلة أو أتخلّى عن كُرْسِيَّ هُنَاكَ لأصبح موظفاً مُستديماً في مصلحة الإسكان، فقرَّرْتُ أن أعودَ للتدريس وقد ارتحتُ بالاً.
على أنه حتى التَّدريس لم يكن فيه إلا القليل.
وأحْسَسْتُ أني أحاول تدريس شيءٍ قد فشلتُ أنا نفسي في إنجازه، وتزايد شُعُورِي بالقلق ونفاذ الصَّبر.
إن ظهور النتائج يستغرق زمناً أطول مِمَّا ينبغي؛ فالأمرُ يُشبه تنمية شجرة نخل من بذرة، فلا أقل من عشر سنوات قبل أن تستطيع جمع بلحة واحدة.
ثم حملتني سلسلة من مِحَنٍ جديدة على اتخاذ قراري.
كانت هناك مُسابقة لتصميم أرخص منزل قروي وافٍ.
وكان المطلوب تصميمين، وفازت التصميمات التي قدمتُها من كِلَا النَّوعَيْنِ.
وأعطى وزير الشئون الاجتماعية مِنْحَة 250 جنيهاً لإقامة أحَدِ هذين التَّصميمين كتجربة.
وتَمَّ اختيار موقع على أرض ما يمتلكُها المركز الاجتماعي في المَرْج، قريباً من القاهرة.
وعَمِلْتُ عملاً شَاقّاً في الرُّسُومَاتِ التفصيليَّة والتقديرات الماليَّة حتى تكون جاهزة قبل أن يُغَيِّرَ أيَّ واحِدٍ من رَأيِهِ، وأنهيتُ كُلَّ ذلك خلال أسبوع.
ورغم هذا إلا أن مصلحة الإسكان لم تَبْنِ قط هذا البَيْتِ، مع أنهم كان عندهم كل شيء -التصميمات، والموقع، والنقود- والسَّبب كما قالوا، أنهم لم يستطيعوا أن يُقرِّرُوا تحت أي بند من بنود ميزانيتهم سيتم إدخال ذلك.
وافتتحت الحكومة في ذلك الوقت مركز أبحاث البناء، فاقترحتُ نقل مبلغ 250 جنيهاً إلى مركز الأبحاث هذا وأن أبني البيت تحت رعايتهم.
وكنت آمُلُ بهذه الطريقة أن يتِمَّ تعرُّض بناء من طوب اللبن لاختبار رسمي مُعتمد، وبذا يثبت أن طوب اللبن رخيص حقاً.
ووافق مركز الأبحاث، ولكنه قال أنه سيكون من الضروري بناء بيتٍ آخر بالمواد التقليدية (كمرات خرسانية سابقة الإجهاد)، لمقارنته ببيتي.
وفي النهاية بنوا هذا البيت الثاني (الذي كلفهم 1000 جنيه)، ولم يَبْنُوا بَيْتِي وكنتُ قد عَلّقْتُ آمالاً عظيمة على هذه التجربة لإثبات آرائي فيما يتعلّق بتكلفة طوب اللبن ولأضع حَدّاً للحكايات التي كانت تُرْوَي عن ارتفاع تكلفة القرنة، ولكني لم أخرج بشيءٍ من هذه التجربة، ومازالت ال250 جنيهاً مع مركز الأبحاث.
وبعد ذلك، وبينما كنت آمل أن نجاح مدرستي في فارس سيُبَرِئُ في النهاية طريقة طوب اللبن، إلا أن أحَدَ كِبَارِ موظفي مصلحة المباني المدرسية روى مباشرة كِذْبِةً مُتعمَّدة للوزير، قائلاً أن المدرسة قد تكلّفت 19.000 جنيه بينما هي في الحقيقة قد تكلّفت 6000 جنيه.
وعندما عَلِمْتُ بذلك، أدركتُ أن لا ماكن لي في مصر؛ كان من الواضح أن البناء بطوب اللبن يُثِيرُ عَدَاءً فَعَّالاً عند أولئك المُهِمِّينْ.
واتَّفق أنْ وقَعْتُ مؤخراً في مُغامرة مع لِصَّينِ اقتحما منزلي وطعناني، على أنه ليس من المُبالغة أن أقول أنِّي أحْسَسْتُ مع هذين اللصين أني آمن أكثر مما أكونه مع أولئك الرَّسميين الذين يستطيعون الكَذِبَ لمنع وصول ما فيه فائدة للفلاحين.
ويقول القرآن للمؤمن الذي يجد من المستحيل عليه أن ينفذ رسالته بين قومه أن عليه إذن أن يَشُدَّ الرِّحَالَ مُهاجراً إلى مكانٍ آخر.
وفي ذلك الوقت سألني الدكتور دوكسياديس أن أنضمَّ إلى مؤسَّسَتِهِ في أثينا باليونان، لا عمل عنده إلا التخطيط للريف في العراق.
وأحْسَسْتُ أن العمل الأهم هو البناء لا التَّدريس؛ وأن المباني أياً كان موقعها في العالم ستتحدث بصوت أعلى من المُحاضرات؛ وأنه إذا جذب مشروع ما مكتمل انتباهاً دولياً، فإنه في النهاية سيكون له تأثيره في مصر.
اخترتُ إذن أن أبني بدلاً من أن أقوم بالتدريس، وقد أحْسَسْتُ أني استطيع إيداع النظرية التي طورتها بالقرنة في هذا الكتاب، الذي هو إسهام في نظرية التكامل.
والتناول المُتكامل، وإن كان ينبغي أن يكون عملياً بقدر الإمكان، إلا أنه يتطلّبُ الإشارة إلى بعض العَثَرَاتِ والعقبات في طريق التطبيق العملي للنظرية، ومن هنا كان هذا الجزء الثاني.
والمهندسون المعماريون الشُّبَّانِ الذين يقرؤون هذا الكتاب يجب ألا يفترضوا أنهم ما إن يعرفوا كُلَّ شَيْءٍ عن المواد والإنشاءات، وما إن يلهبهم حُبُّ المباني الجميلة والعزم على جلب الجمال إلى حيوات رفاقهم في البشرية، فإنهم إذن قد تجهَّزوا للانطلاق للبناء.
إن المهندس المعماري حين يشعر بِحِسِّ الرِّسَالَةِ التي يقوم بها، سوف يجد حتماً قدراً كبيراً من المُقاومة لهدفه.
وهو إذا كان يُريد أن يبني للشعب، فإنه يجب أن يفهم منذ البداية أنه ستكون أمامه مقاومة عنيدة.
وإذا كان سوف يقابل مشاكل تقنية وفنية تستدعي استخدام كل تدريبه ومهاراته، إلا أن التغلّب على هذه المشاكل فيه ما يثير الحماس ويرفع المعنويَّات، مثل تسلّق الجبال، ومن المفروض أنه لم يصبح قط مهندساً معمارياً إلا بسبب حُبِّهِ لتناول صعوبات كهذه.
على أنه ستكون هناك عقبات أخرى في طريقه بالإضافة إلى العقبات المُباشرة التقنية والفنية، عقبات ستجعله يَشُكُّ حتى في أكثر مُعتقداته صلابة.
وكُلَّمَا دفعه حِسَّهُ المعماري من خلال المنطق الواضح إلى المزيد، والمزيد من الحُلُول الجذرية، فإنه سيجد من داخل نفسه مشاعر غدَّارَة تُغويه بالتَّخَلّي عن رسالته ليتواءَمَ مع أسلوب المُمَارَسَة السَّائد في المعمار.
وعندما وَجَدتُّ أنه حتى الفلاحين يُعادون مشروع القرنة، بدأت أشُكُّ في مبدأ قبو طوب اللبن كله.
وفكَّرتُ أنه وإن كان المبدأ سليماً اقتصادياً وجمالياً، ومن الوجهة الهندسية، إلا أنه ربما يحمل بعض إيحاء بالقبور، أو أي من تداعيات مُحْبِطَة أخرى، تُنَفِّرُ الفلاح.
وقد هَدَّأَ من رَوْعِي بهذا الشأن، فأكَّدَ لي أنه وإن كان القبو نصف الدائري مرتبطاً بأوزيريس والموت قد يجعله من غير المناسب، إلا أن أي عقد مُدَبَّبٌ من قطع مكافئ أو مقطع دائري لن يكون فيه ما يحمل أي رمز مُنَفِّرٍ.
وقد زارني هو نفسه في القرية الجديدة ووجد أن المَضْيَفَةَ ذات القُبَّة تُحْدِثُ انطباعاً بهيجاً جداً.
والحقيقة أن بعضاً من المُعارضة ربما يكون قد طُرِحَ نتيجة ذكريات لبعض مساكن مُعَيَّنَة مُزرية أقامها مُلّاكٌ زراعيون من البُخلاء (لفلاحيهم) في البحيرة، في شمال الدِّلتا، وهي مساكن سُقِفَتْ بقبابٍ واطئة تجثُمُ على الصُّدور بما يُذَكِرُكَ حقاً بالمَقبرة.
ومن الناحية الأخرى، فإن الأقبية والقباب من نوع آخر تُستخدم بما يُثير البهجة في مساكن النوبة، وسوريا، وجزر بحر آيجه، وصقلية، وإيطاليا، دون أن يُفَكِّرَ أحَدٌ في أي مَدْفَنْ.
على أنه بالنسبة للمعماري الشَّاب الذي ظل يطرح مثل هذه المناهج غير التقليدية، فإن الشَّكَّ في الذَّات كان يُثيرُ فيه أبلغ القلق.
وبصرف النظر عن هذا التشكك الجوهري، فإن المعماري ليضيق صدره بكل أحداث الحياة اليومية التي تضعف من الروح.
ذلك القصور الذاتي، والرغبة في حياة هادئة، واعتبارات الرَّاحة المادية، والنفور من الإساءة للأخريين، بل والخوف المُجَرَّدِ، كل هذه الأمور تنصح المعماري الخلّاق بأن يخونَ رؤيته ليُصبحَ مُحتًرًمًاً مثله مثل أي واحِدٍ آخر.
إن هذا الصراع الداخلي لابد أن يُمارسهُ كل الفنانين الخلّاقين, على أن المعماري سيجد أن الصِّراع في حالته يُحْدُثُ أيضاً خارجياً, وذلك عندما يحاول أن يحقق رؤيته في مبان مُجَسَّمَة.
وعندها فإنه سوف يُدْرِكُ أن نفس الأعداء، القصور الذاتي والرغبة في حياة هادئة... الخ، التي سبق له أن تغلّب عليها من داخل ذاته، فقد تخندَّقت في الهيئات الرَّسميَّة التي يجب أن يتعاون معها لينجح في مهمته.
وهكذا فإن آخر إغواء له هو أن يثور غضباً وازدراءٍ من تعقيدات ومقاومة الرَّسميين الذين يجب أن يتعامل معهم، وأن يتخلّى عن كل محاولة للعمل من خلال هيئات رسمية.
وحتى يساعد نفسه على تجاهل هذا الإغواء، ينبغي على المعماري أن يتذكَّر مدى ما تَوَفَّرَ له من حُسْنِ الحظ بما وراءه من تعليم تِقَنِي طويل.
وينبغي عليه أن يتذكَّرَ أنه بالنسبة له فإن ذات حماسة لحل المشكل المعمارية ولرؤية مبانيه وهي ترتفع ليمده بالإحساس بالرضا والمكافأة عما قام به من فعل خلاق، على أن هذا السوء يكون بالنسبة للرسميين تعقيد آخر في روتينهم اليومي، وصداع آخر للموظف الحكومي الذي يُعاني من زحمة العمل وسوء الأجر، ذلك الموظف الذي كثيراً ما يكون دافعه الوحيد للتصرف هو خوفه من مساءلة ديوان المحاسبات.
كيف يمكن أن نتوقَّع من موظف كبير أن يكون له أي اهتمام باقتراحات ثورية تكون مما يُلزم مصلحته بخطط كبرى تتطلب تكنيكات لم يسبق تجربتها وإجراءات مالية تبدو وكأنها غير سليمة؟
إنه قد وصل إلى مركزه بعد أن قضى حياته بطولها في تقدم حذر على درجات السلم الوظيفي، وهو الآن يجلس متثاقلاً إلى مكتبه، لا يشغله إلا كيفية تجنب ارتكاب الأخطاء وربما هو يضع عَيْناً مُترَدِّدَة على المركز الأعلى التالي.
والمعماري ذو الإلهام لابُدَّ لسُوءِ الحظ من أن يُنَمِّي الصَّبر والتكنيك اللازمين للعمل في تناسق مع ملكوت الرسميين.
ورغم ذلك، فإنه إذا كان حَلِّ المشاكل المعمارية يُعطي إحساساً بالرِّضَا مثلما يُعطيه تسلّق الجبال، إلا أن التعاون مع البيروقراطيين يُشبه الخوض في مستنقع، فيه تخريب للروح ليس إلا.
على أن هؤلاء الرَّسميين هم ومَنْ يرأسون مكاتبهم ليسوا إلا أناساً عاديين، جزء من الشعب، مثلنا كلنا.
وهم كأفراد، طيبون، حسَّاسُونَ، وأذكياء، وحريصون فيما يأمل المَرْءُ على إعادة بناء بلدهم.
أفلا يمكنهم أن يرو أن الطموحات الثورية تحتاج إلى إجراءات رسمية يكرهه كل واحد، ويُدْرِكُ الجميع أنه نمو لأعشاب ضارة خانقة، لا يوجد مَنْ هو على استعداد لاقتلاعها؟
بل أن الفلاح أيضاً يتباطأ في الاهتمام بالاقتراحات التي تُطرح لتحسين حاله.
فهو أبكم فاتر الشعور، بلا تعليم، وبلا إدراك للقضايا القومية، وبلا وضع اجتماعي.
وهو لا يؤمن بأنه يستطيع أن يُساعد نفسه أو بأنه يستطيع أن يجعل صوته مسموعاً. * * *
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: لحن الختام.. القرنة في سُبَات.. معماري يبحث عن نصير الثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:54 pm | |
| الافتراء يستمر
استخدم شَتَّامُو القرنة أنواعاً شَتَّى من الكَذِبِ: فقالوا أن أهل القرنة لم يعيشوا في القرية لأنهم لم يُحِبُّوا البيوت المَسقوفة باللبن في أقبية وقِبَاب،، وقالوا أن استخدام طوب اللبن ليس أمراً تقدُّميّاً وأنه ليس بالمادة السَّليمة هندسياً، على أنهم رَكَّزُوا هُجُومَهُمْ بطريقة الدكتور جوبلز، على أقوى حُجَّةٍ تُؤدِّي للاعتراف بتلك التقنيات المُستخدمة: وهي أنّها رخيصة الثمن.
فقالوا أن طريقة البناء هذه غالية جداً، وهكذا فلابد من أن أحاول هنا بعض التفسير.
فأولاً: فيما يتعلّق بأن أهل القرنة لم يرغبوا العيش في القرية.
ولكن لماذا لم يرغبوا ذلك؟
لا شك أنه ينبغي أن يكون لدينا من الفُضول ما يجعلنا نسأل عن السَّبَبْ؟.
ونحن نعرف من قبل سبب جاذبية القرية القديمة.
فالأفراد الذين يربحون أوفر الرِّبح من القبُور -وهم بالطبع القرويون الأغنى- هم الذين يُشَكِّلُونَ ((لجنة المشايخ)) التي تُقاومُ النقل.
وقد تعاقدوا مع مُحَامٍ وابتكروا أكثر الأعذار جُمُوحاً حتى لا ينتقلوا، بل وقالوا أنهم سيكونون في القرنة الجديدة في خطر من الذّئاب.
وهذه اللجنة كانت كُلُّهَا تتألّف من تُجَّارِ العَادِيَات، والتراجمة، والخفر السابقين للآثار، وما إلى ذلك -ومن الواضح أنهم أناس لهم أعظم مصلحة في البقاء كما هم- إلا أن أصواتهم كانت هي المَسْمُوعَة، بينما ظلَّ مُعظم القرويين، الذين وافقوا على الانتقال، صامتين في سَلْبِيَة.
ولا يُفترض في المهندس المعماري أن يكون رجُلَ شُرْطَةٍ يدفعُ النَّاس داخل وخارج بيوتهم.
هل كان من مُهِمَّتِي أن أعمل على نقل أهل القرنة؟
إن الحكومة قد أصدرت قانوناً بانتزاع ملكية أهل القرنة.
فهل نُفِّذَ هذا القانون؟
وكثيراً ما سمعتُ موظفينَ مسئولين يتحدَّثُون عن الفلاحين كأولاد الكِلَابِ ويقولون عنهم أن الطريقة الوحيدة للتَّعامل معهم هي أن تُبْنَى لهم بيوت من أي نوع وتُدَكُّ القرية القديمة بالبُولدُوزَرْ.
ولم تَقُمْ مصلحة الآثار بأي محاولة لاكتساب تعاون الفلاحين، بل وبدا أحياناً أنها تتخذ جانبهم في مُعارَضَة الخِطّة.
وكان موقف موظفي المصلحة بالنسبة للفلاحين في أحاديثهم الخاصة بين أنفسهم، وهو القسوة الوحشية والمُمَاطلة الرِّعْدِيدَة عند التطبيق.
وكنت في وضع تَعِسٍ بَيْنَ.. بَيْنٍ، فلا أنا من الحكومة ولا أنا من القرية بما ينبغي لأي منهما؛ وهكذا عَانَيْتُ من كِلَا الطرفين.
ونعودُ إلى ما إذا كان أهل القرنة قد أحَبُّوا البيوت أو لم يحبوها: ذات مَرَّةٍ أمكنني الحصول على عَوْنٍ من أخصائي اجتماعي شاب، هو حسين سري، لإجراء مقابلات مع عائلات الفلاحين والحُصُول على تفاصيل البيوت التي يريدونها.
وقد أجرى حسين خلال عشرين يوماً مُقابلات مع مائتي عائلة وحصل على موافقتهم مكتوبة ومُوَقّعَة بشأن خُطُوط المُواصَفات العريضة لبيوت كل عائلة منهم.
ومازالت هذه الموافقات عندي.
وينبغي ألا يُفترض أنهم دُفِعُوا أو دُوهِنُوا ليُوَافِقُوا على خِطَطٍ لا يستطيعون حُكْماً عليها؛ فقد كانت لديهم الفُرَصُ لمُعاينة مبان قائمة.
والحقيقة أنه عندما أحضر علي أبو بكر عائلته لترى أحَدِ البيوت، سَعِدَتْ النِّسَاء بالبيت؛ ولكنه عندما عاد إلى القرية هُوجِمَ هُجُومَاً مريراً لخيانته لقضية القرويين.
ولو كانت الحكومة قد تركت حسين سري لشهر آخر واحد فقط، فإني على ثقة من أنه كان سيجعل كل عائلة في القرنة توافق على الانتقال إلى منزلها الجديد الخاص بها (ربما فيما عدا المشايخ الإثني عشر!) والحقيقة أنني كدتُ أكون سعيداً حينما تركتني الحكومة لأتعامل بطريقتي الخاصة مع القرويين، لأني بالطبع لم أكن قط لأشارك في تكنيكات الهدم ((بالبلدوزر)) التي يُحَبِّذُهُا أولئك الرَّسْمِيُّونْ.
فكان ما يتَّفِقُ ومبادئ هو أن يُسمح لي بأن أجعل كل أسرة بمثابة عَمِيل خاص لي وأن يَتِمَّ ما أبنيه بمعونة الأسرة ورضاها.
وفي الحقيقة أنني كلما زادت السُّلطات ابتعاداً، أصبحتُ أحِسُّ بسعادة أكثر.
وكثيراً ما حاولتُ أن أشرحَ للقرويين أننا لدينا الآن فُرصة لأن نبني معاً في هُدُوءٍ ما نشاؤه بالضَّبط، وذلك قبل أن تدخل علينا الحكومة فتُوقف من عوننا لأنفسنا.
وقلتُ لهم: أنه قد شَاعَ عنِّي في دوائر مُعَيَّنَةٍ أنِّي أدَلِّل الفلاحين، وأن مصلحة الآثار لا تهتم إلا بأن تُجليهم عن التَّل وتدفع بهم إلى بيوت من أي نوع، وأنهم لا يمكنهم أن يتوقعوا أي اعتبار لأشخاصهم من مصلحة حكومية.. وتوسَّلتُ إليهم ألا يستخدموا الحكومة كسلاح ضِدِّي، أنا الذي لا أريد إلا خدمتهم. ---------------------------------------------------- * وزير دعاية هتلر دكتاتور ألمانيا، وكان مشهوراً بالمُبالغات والكَذِبِ في دعايته للحزب النازي وفي الحرب العالمية الثانية. (المترجم). ---------------------------------------------------- ومازلت أذكر ذات يوم جمعة، وأنا أجلس مع المشايخ بعد الصلاة لأقنعهم بهذه الحُجَجِ، وإذا بِرَجُلٍ جداً صالح وعجوز ومُبَجَّل تبجيلاً عميقاً في المنطقة كلها، وهو الشيخ الطيب، إذا به يقول لإخوانه المشايخ في غضب عظيم أنه لإثمٌ يُرْتَكَبُ أن تُرْكَلُ يَدِ رَجُلٍ قدَّمَهَا لك في صداقة.
وثانياً، فقد قرَّرُوا أن طوب اللبن ليس بمادة بناءٍ هندسية، وهكذا فإنه ينبغي ألا يكون لأي هيئة حكومية أي تعامل في طوب اللبن؛ وأن طوب اللبن يحتاج إلى صيانة وإصلاحات مُتكرِّرَة؛ وباختصار فإنه ينبغي أن يُتركَ للفلاحين أن يَبْنُوا به على مسئوليتهم الخاصَّة.
والرَّدُّ على ذلك هو: أن هؤلاء المهندسين المعماريين الذين يُلْغُونَ باستخفافٍ بالغٍ الطوب اللبن هم في الحقيقة عاجزون عن الحُكْمِ على صلاحيته أو عدم صلاحيته كمادَّةِ بناءٍ هندسية.
إن العِلْمَ الوحيد الذي يمكنه إعطاءنا حُكْمَاً وافياً عن مَدَى قوة الطين وإمكانية الاعتماد عليه هو عِلْمُ ميكانيكا التُّربة.
وقد أجْرِيَتْ تجاربَ في أنحاءٍ كثيرةٍ من العالم على الطين كمادَّةِ بناءٍ -وخاصة في جامعة كاليفورنيا وفي تكساس- وفي مصر فإن الدكتور محمد سعيد يوسف أستاذ ميكانيكا التُّربة في جامعة القاهرة، والدكتور مصطفى يحيى أستاذ المَوَاد، والعقيد دعبس كلهم أجرو أبحاثاً على خواص طوب التربة.
وقد وُجِدَ من الأبحاث التي أجراها العقيد دعبس على عّيِّنَاتٍ من طوب لبن عادي في معامل كلية هندسة جامعة القاهرة أن حِمْلِ التَّفتيت يصلُ في المتوسط إلى حوالي ثلاثين كيلوجراماً للسنتمتر المُرَبَّع.
وكدليل قاطع على مُلائَمَة طوب اللبن للأغراض الهندسية، فإني أرجِعُ القُرَّاءَ إلى نتائج اختبارات العقيد دعبس الرَّائِدَة، ونتائج اختبارات تبليل وتجفيف طوب اللبن التي أجراها د. مصطفى يحيى، وهي مبنيَّة في مُلحق (5) ويتبيَّن بوضوح تام من هذه الجداول أنه يمكن الوثوق من أن كل أنواع طوب اللبن تتحمَّل أي قدر معقول من الأحمال تحت ظروف من المطر هي أسوأ مما يمكن توقعه قط في مصر.
وفي القرنة لا يتعرَّضُ الطوب لحمل أكثر من كيلوجرامين ونصف الكيلوجرام لكل سنتيمتر مربع، مما يُعطي مُعامل أمان يقرب من 10.
ولعل أحد الأسباب في أن المهندسين المعماريين يستحُونَ هكذا من استخدام طوب اللبن هو أنه مَادَّةٌ أكثر حيوية من الخرسانة.
فالخرسانة ما أن تُصَبُّ حتى تظلَّ نفس الشيء؛ أمَّا الطينُ فليس كذلك، إنه يظلُّ ينكمش حتى يُصبحُ جافاً.
وربما استغرق ذلك عاماً أو أكثر، حسب درجة نفاذية التُّربة هي والظروف المناخية.
وعلى كُلٍ فما من داع للإحساس بالخطر من هذا المسلك.
إنه لا يُقلقُ بالَ الفلاح الذي يبني بطوب اللبن؛ وهو يعرف بخبرة الأجيال، كيف يتحسَّب لذلك، كما مثلاً عندما يبني جداراً بأن يَرُصَّ مداميك معدودة في كل مَرَّةٍ، ليترك للبناء فرصة أن يجف بعض الوقت قبل أن يُواصل الإنشاء.
والأمْرُ أيضاً لا يُزعِجُ بَالَ مهندس ميكانيكا التُّربة، لأنه يستطيع أن يتحسَّبَ له في حساباته ومُعالجاته.
أمَّا المهندس المعماري الذي ليس لديه تُراثُ الفلاح ولا معرفة العالم، فهو وحدُه الذي يرفضُ المُغامرة بعيداً عن الخرسانة التي يظنُّ أنه يعرفها بما فيه الكفاية ويُحِسُّ بأنه جداً آمن عند استخدامها.
وقد توصلت إلى ذلك حديثاً جِدَّاَ، ولابُدَّ من أن أفَسِّرَ ذلك، فبعد أن رأى وزير المعارف مدرستي في القرنة والمدرسة الأخرى التي بنيتها في فارس، فإنه قرَّرَ أن يبني مدرستين تجريبيتين أخريين من طوب اللبن، إحداهما في الرادسية والأخرى في البيارات.
وتم الإبلاغ مؤخراً عن أن هاتين المدرستين الأخيرتين على وشك الانهيار؛ فتم إخلاؤها، بل وكان هناك اقتراح بأنه ينبغي نقل أعمال النجارة منها لإنقاذها من الخراب.
ولحُسْنِ الحظ تصادف أن كنتُ في القاهرة في نفس الوقت بالضّبط الذي عُيِّنَتْ فيه لجنة الاستقصاء هذا الأمر.
وبَيَّنْتُ للوزير خطورة هذه المزاعم وتوسَّلتُ إليه أن يُعَيِّنَ في اللجنة أحد العُلمَاءِ المسئولين.
وهكذا انتهى الأمر بدعوة الدكتور محمد سعيد يوسف والدكتور مشيل باخوم، أستاذيّ ميكانيكا التُّربة والإنشاءات بجامعة القاهرة، لفحص المدرستين المُشْتَبَهِ في أمرهما.
ووجدوا أن المدرستين المُبَلَّغ أنهما تنهاران سليمتان تماماً؛ وكان ما حدث هو أن الانكماش الطبيعي في الجدران قد أدَّى إلى تشقُّق الجَصِّ، وسبب ذلك وحده هو أن المهندسين المعماريين قد وضعوا جَصَّاً صَلباً من رمل وجير فوق طوب اللبن، بينما القاعدة الهندسية هي أن يكون الأساس أقوى مما تضعه فوقه؛ وأي فلاح كان سيُخبرهم بما عليهم توقعه.
أما مدرستا القرنة وفارس حيث استخدم جَصٌ من التربة.
فلم تتأثّرا بالكُلّيَّة ويتفق أننا قد وجدنا أن إحدى المدرستين، التي في الرادسية، قد بُنِيَتْ في المنتصف من أحد الوديان.
وأنه كنتيجة للأمطار الغزيرة فإنها غُمرت بالمياه لارتفاع متر و20 سنتيمتراً طيلة شهر بأكمله إلا أن البنية لم تتأثر بشيء.
وبعد كل المُحاولات التي رأيناها لِتُسَوْئَ سُمْعَة طريقة طوب اللبن، خطر ببالي أن هذه المدرسة ربما حُدِّدَ لها عن عَمْدٍ موقعها في ذلك الوادي -الذي كان معروفاً أنه يغرق في المياه من آن لآخر- بحيث أنها حين تنهار يستطيع أحدُهم أن يقول: ((هاكم ما قلت لكم))، ولكن لعل هذا مني مجرد ظنون بالاضطهاد.
والاتهام الثالث هو، كما قلتُ، أكثرها أهميَّة: وهو أن القرنة قد ثبت في النهاية أنها باهظة التكلفة.
والآن فلو أنها كانت كذلك، لكانت هذه حقيقة جداً فريد وشائقة.
ولو كان من الحقيقي حقاً أن الطين والقش هما على نحو ما يكلّفان أكثر من الإسمنت والحديد والصُّلب، لكان هذا بلاشك أمراً خارقاً ويستدعي التحقيق.
ولكن تحقيقاً كهذا لم يتم أجراؤه، لأنه سيكشف في التَّو أن المباني قد كلفت في الحقيقة أقل من أي مبان يمكن أن تُقارن بها مما أقامته أي مصلحة حكومية في أي مكان آخر في مصر، وأن ثلاثة أرباع تكلفة العِمَالة الماهرة الدَّائمة كانت تضيع في دفع أجُور هيئة عاملين قد توقفت عن العمل بسبب التعطيلات الإدارية.
وأكثر تفنيد مُقنع بشأن هذا الزَّعم هو تحليل كيفية الإنفاق الفعلي لنقود القرنة.
وقد عالجت هذا في الملحق رقم (6).
وأرجو أن يكون نصب الأعين أن النفقات الكُليَّة عندما سُلِّمَ المشروع لوزارة الشئون الاجتماعية كانت 94.120 جنيهاً، 36 قرشاَ، منها على الأقل 20.000 جنيه ينبغي أن تطرح كثمن لمعدات لم تستخدم، وشاحنات، ومواد قابعة في المخازن.
وهكذا فإن إجمالي النفقات هو 74.120 جنيهاً، بينما إجمالي المباني التي تمت هو 10/9 19.301 متراً مربعاً، وبالتالي فإن المباني بما فيها المسجد، والسوق، والخان، والمسرح، وقاعة البلدة، ومدرستان، قد تكلفت 4 جنيهات للمتر المربع.
تُرَى، في أي مكان آخر حَدَثَ أن أقيمَتْ مبان عامَّة بمثل هذا الرُّخص؟
والواقع أن وزير الشئون الاجتماعية اهتم بأن يُقارن تكلفة البناء بالنسبة لبناء ال 790 بيتاً الباقية وقتذاك، وذلك حسب النظامين اللذين يمثلهما بالترتيب البناء بالمقاولة، والبناء بالطريقة التي استخدمت في المشروع، فعيَّن لجنة استقصاء الأمر.
ووجدت اللجنة أنه بنظام المقاولة تكون التكلفة 441.864 جنيهاً بينما بالنظام الذي بُنِيَتْ به القرنة تكون التكلفة فحسب 237.202 جنيهاً (أنظر الملحق (1) لتحليل التكاليف).
وقد قال بعض الناس أن القرنة لا تزيد عن أن تكون استعراض مواهب تتوافر لفرد واحد.
وكان مما طرح أن التصميم لطوب اللبن فيه بالذات صُعُوبة ويتطلّب مهارة خاصَّة، وأن الطريقة غير مُلائمة لأن يتخذها المهندسون المعماريون الآخرون.
وبالطبع فإن هذا مُجرَّد هُرِاء.
فإذا كان يمكن لصبي قروي أن يتعلّم بناء قبو في ثلاثة شهور، فإن المهندس المعماري المؤهَّل يستطيع فيما يُفترض أن يتعلّم رسم القبو.
وقد سبق أن قدمتُ اقتراحاً، (أنظر الملحق 2) للتدريب المُتَأَنِّي لمجموعة من المهندسين المعماريين المؤهلين، لإعدادهم للعمل في القرى المصرية.
وكل آمالي في مستقبل الريف المصري لتستقر بين يدي هؤلاء المعماريين الشبان من بلدي.
إن هؤلاء المهندسين المعماريين الذين ينبغي أن يقوموا بدراسة البناء الريفي الآن هم الذين سيكون عليهم تطبيق المبادئ التي نشأت في القرنة.
فإعادة بناء الريف المصري ستستغرق أربعين عاماً من عمل شاق ومتواصل، وهؤلاء الشبان هم الذين سيكون عليهم العمل على تنفيذه.
وإني لمتأكد أني استطيع أن أثق في أنهم سَيُكَرِّسُونَ أنفسهم بإخلاص لبناء القرى، ذلك أني كنت دائماً ألقى أكثر الاستجابات حماساً وتعاطفاً من شباب المهندسين المعماريين.
على أنه ينبغي أن تُدرِكَ الحكومة حجم ومتطلبات مهمة إعادة بناء ريف مصر بالطريقة التي طرحتها.
ويجب أن تتقبَّل الحكومة مسئولياتها بالنسبة للمهندسين المعماريين الذين سينفذون البرنامج والذين سيتخلون عن أي فرصة لممارسة المهنة ممارسة حرة مجزية.
فلابد من أن تضمن لهؤلاء الرجال راتباً مُجزياً (على أن يوضع نصب الأعين أن الهدف هو اجتذاب أفضل ما في الأرض من المهندسين المعماريين الشبان، وليس فحسب أولئك الذين لا يستطيعون كسب عيشهم بالممارسة الحرة) وعلى الحكومة أن تُراعيهم في كل شئونهم الخاصة.
ويساوي ذلك أهمية، أن الحكومة يجب أن تترك لهؤلاء المعماريين حرية تأدية مهمتهم، وأن تستوثق من أن الموظفين الإداريين لا يعوقون العمل في البناء.
وما لم يتم تحديث الجهاز الإداري بحيث تُزال ((كل)) التعطيلات الناجمة عن الإجراءات الإدارية والحسابية، وما لم يتم دعم الهيئة الفنية بما يكفي من الموظفين الذين تخول لهم السلطات ويكونون من الراغبين في تحمل المسئولية، وما لم تحل الاتصالات التليفونية مكان الطلبات المقدمة من ثلاث صور مع توقيعات بالموافقة لا تقل عن خمسة عشر توقيعاً، ما لم يتم هذا كله فإن برنامجنا لإعادة بناء الريف سيكرر ببساطة فشل مشروع القرنة على نطاق يشمل ملايين الجنيهات، بينما يصل ثلاثمائة مهندس معماري إلى حال من المرارة والسخرية، ويضيع إلى الأبد أي أمل ممكن في مستقبل لائق بالنسبة لعشرين مليون فلاح.
عن خطر وقوع ذلك لهو أمر جداً حقيقي حتى لقد شعرتُ أن من واجبي أن أذكر بعض الأساليب التي استطاع الجهاز الإداري بها أن يجعل العمل في القرنة يتوقّف، وبذا فلعل حكومات المستقبل أن تتنبه للأمر ولعلها أن تتخذ إجراءاً بما يؤدي إلى تجنُّب وقوع مثل هذه الأحداث.
أما المهندسون المعماريون الشبان الذين سوف يشكلون مجموعة إعادة البناء المتفانية، فإنهم لابُدَّ أن يفهموا أيضاً أن طريق الرواد لهو طريق مليء بالصخور ومفروش بالأشواك.
وقد كنت فيما مضى أحجم عن تشجيع المهندسين المعماريين الشبان على اتباع خطواتي، لأني شعرت بإحساس من المسئولية بالنسبة لرفاهيتهم المادية.
وكما أن الواحد منا لا يُشجِّع ابنهُ على أن يُصبح شاعراً، نتيجة تحسُّبه لما سيحدث لأحفاده، فإنني أيضاً ما كنت لأستطيع التفكير في تأسيس مدرسة من المهندسين المعماريين لطوب اللبن.
فقد خبرت كل الصعوبات والمُعَوِّقَاتِ التي تترتَّب على هذا التناول المعماري؛ فكيف لي أن أرى أي معماري شاب وهو يُلزم نفسه وعائلته، في أول ابتداء حياته العملية، بالفقر الأكيد الذي يجلبه له تفانيه لمصلحة القرويين؟
وعلى الأقل فليمنع القديس فرنسيس أتباعه عن التَّنَسُّكِ. * * * |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: لحن الختام.. القرنة في سُبَات.. معماري يبحث عن نصير الثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:57 pm | |
| إعادة زيارة القرنة
في يناير 1961 زُرْتُ القرنة ثانية، كانت القرية كما تركتُها بالضَّبط؛ فلم يتم إقامَة بِنَاءٍ واحدٍ جديدٍ فيها.
وكانت إحدى الشكاوي ضد المشروع هي أنه قد استغرق زمناً أطول مِمَّا ينبغي، على أننا رغم كل العقبات أمكننا بالفعل أن نبني الشيء الكثير؛ أما في السَّنوات العشر التي ظل المشروع فيها في أيدي الوزارة، فما من قالب طوب واحد رُصَّ فوق الآخر، بينما استمر أهل القرنة يعيشون فوق التل بين المقابر.
وهذا التوقف في البناء يواكبه توقف آخر في النشاط الحِرَفِي.
لقد شَبَّ الآن أولئك الصِّبية الصِّغار الذين عملوا كان جداً مُبَشِّراً تحت إشراف طلعت أفندي.
وأصبحوا شُبَّاناً في العشرين أو ما يقرُب.
وجميعهم عاطلون.
ومات اسكندر المعلم العجوز للنسَّاجين من البُردة والمنير أخذ في الاحتضار.
ولم يزدهر سوى شيئين.
أحدهما هو الأشجار التي زرعتُها، والتي نَمَتْ لتصبح الآن قوية غليظة، ولعل ذلك لأنها لم تكن خاضعة للإدارة، والشيء الآخر هو السِّتة والأربعون بَنَّاءً الذين دَرَّبْنَاهُمْ.
فكُلُّ واحِدٍ منهم أصبح يعمل في المنطقة، مُستخدماً المَهَارَاتِ التي تعلّمها في القرنة، مما يُثبت قيمة تدريب الحِرَفيِّينَ المحليين.
وألقيتُ نظرة على القرية بمسرحها المَهجور، وخانها ومدرسة صنائعها الخاويين، والبيوت القليلة التي سكنها واضعو اليد، ولم يكن يُستخدم من القرية غير مدرستها الابتدائية للبنين، وإذ ألقيتُ هذه النظرة تصورتُ ما كان يُمكن أن تكون القرنة، وهو ما يجب للآن أن تكونه، ذلك أن مشكلة أهل القرنة مازالت متأزِّمَة نفس تأزُّمِهَا في 1945، وحتى الآن فما من حَلٍّ آخر قد طُرِح.
ومن المُؤكَّدِ أنِّي قد تعلمتُ من كفاحي أكثر مِمَّا كنتُ سأتعلّمُهُ لو كان طريقي مُمَهَّداً تماماً.
ويقول القرآن الكريم: ((وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ))، ولاشك أن إحدى النتائج المُباشرة لخيبة أملي في القرنة هي زيادة تعمُّقي في فهم مشاكل الإسكان الريفي تعمُّقاً هائلاً.
والمشكلة أكبر من أن تكون مُجَرَّد مُشكلة تقنية أو اقتصادية؛ إنها أساساً إنسانية، تَضُمُّ أنظمة وأناساً ومِهنيين، هم والفلاحين.
إنها أعظم كثيراً من القرنة ومن مصلحة الآثار وينبغي القيام بأكثر من بحث واحد في أكثر من مجال واحد، وينبغي القيام بأكثر من مشروع استرشادي ينفذ في أكثر من مكان واحد في الريف.
وينبغي تقييم المشروع وتقدير نتائج البحث قبل أن نستطيع إصدار حُكمنَا في الأمر وطرح السياسات لتُطَبَّقَ على نحو شامل.
ويبدو أن الوقت لم يَحِنْ بَعْدُ لمثل هذا الموقف تجاه مُشكلة الإسكان الرِّيفِي.
وفي السَّنوات اللاحقة التي تَلَتْ توقُّف العمل في القرنة، أثناء عملي في الخارج وبعد عودتي للوطن فإني -على العكس من الابن الضال وقد أنكره أبوه- ظللتُ أحاولُ بلا فائدة أن أتصيَّد نَصِيراً من أيٍّ من السُّلطات المَعْنِيَّة بالإسكان والبحث العلمي لترعى مشروعات من هذا النوع.
وهناك تجارب عديدة بدأت في مصر أو غيرها، ولكنها ما إن تصل إلى المرحلة التي ستُثمِرُ فيها أي نتائج قوية حتى تتوقّف وكأن ذلك يتم بِيَدٍ خَفِيَّة قويَّة، ومثل "سيزبف" أصبح عليَّ أن أحمل الصخرة لقمَّة الجبل، ثم انزلق لأسفله، وأحملها لأعلى الكَرَّةَ بعد الأخرى.
إن هذا لا يعني أن السُّلطات لا تهتم برفاهية الناس، وإنما يعني أن ثمَّة وجوداً لتضارب داخلي بين مبادئ وأهداف وإجراءات نظام البناء التعاوني ومثيلاتها في نظام المقاولات الذي رسخت قواعده تماماً في الاقتصاد والإدارة الرَّسميين.
وسوف يزيد ما نفهمه عن معارضة تعاونية البناء عندما نعلم أن الإسكان في كل الدول النامية يمتص من ثلث إلى نصف الدخل القومي المُخصص للتنمية، بما يعني إنفاق عدة بلايين من الجنيهات في كل عام.
وأدركتُ في النهاية أنني يجب أن أكون النَّصير لنفسي لو كنتُ أريدُ مواصلة النِّضَال. * * * |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: لحن الختام.. القرنة في سُبَات.. معماري يبحث عن نصير الثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:59 pm | |
| القرنة في نبروه
وهكذا، فإنِّي آمُلُ أن يكون عملي أنا في المستقبل هو أن أطَبِّقَ مبادئ البناء التعاوني وأوضِّحُ كُلَّ الأفكار، التي أوجزتُها بهذا الكتاب، في مشروع مُتواضِع في مدينة نبروه الإقليمية الصَّغيرة، التي مَنَحَتْ أمِّي كُلَّ ذكرياتها عن الرِّيف، والتي كانت أمِّي دائماً تهفو للعودة إليها.
ولو حدث ومضت هذه التجربة قُدُمَاً، فسيكون من المُهم أنها ينبغي ألا تُصبحَ مُجرَّد قطعة من البناء النموذجي المَعزُول غير المُثمِر مِمَّا يَكْثُرُ مُؤَخَّرَاً إقامتهُ في مصر.
وهكذا، فإن من الواضح أن التجربة تحتاج لأن يرعاها أحد أقسام الجامعة، أو الحكومة، أو أي هيئة دولية.
ومن الواضح بالفعل أن إضافة مُجتمع كامل جديد إلى مدينة إقليمية لا يُمكن أن يكون مسئولية فرديَّة؛ وإنَّمَا يتطلّب الأمْرَ تعاوناً وثيقاً مع السُّلطات المحلية كما مع الحكومة المركزية.
وإذا كان ينبغي حقاً أن تكون هيئة المشروع مُستقلّة بقدر الإمكان، لتجنُّب إحباطات العمل من خلال وزارات لم تُهيَّأ لمُعالجة قضايا كهذه، إلا أنَّهُ بدون رعاية رسميَّة لا يُمكن أن تخطو نبروه بالأهمية الدولية التي تستحقُها.
لقد وَفَّرَتْ تجربة القرنة كل ما يُمكنُها توفيره من المعلومات.
ورغم أنه كان يجب حقاً استكمالها، إلا أن التخطيط قد تَمَّ إنجازه، والظروف فيها على أي حال كانت ظروفها خاصة جداً بحيث أن الإنجاز الفعلي للعمل لم يكن له علاقة بالذات بمشاكل البناء التعاوني.
لقد أدَّتِ القرنة مُهمَّتها، ونبروه هي التي آمُلُ أن أرى فيها الازدهار الكامل للأفكار التي بدأت تَنْبُتُ هناك.
ولسوف يتمُّ تحقق القرنة تحققاً كاملاً في نبروه.
ثم من نبروه دعنا نأمُلُ أن ثورة إسكانية سوف تنتشر عَبْرَ مصر كلها. * * * |
|