الإجهاض *
الشيـخ: دبيــان محمــد الدبيــان
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد.
تعريف الإسقاط لغة وشرعاً:
جاء في المصباح المنير: "السِّقط: الولد ذكراً كان أو أنثى يسقط قبل تمامه، وهو مستبين الخلق.
وفي تاج العروس: "الولد يسقط من بطن أمه لغير تمام" اهـ.
ولم يشترط كونه مستبين الخلق.
وجاء في المصباح المنير، يقال: سقط الولد من بطن أمه سقوطاً، فهو سقط بالكسر.
والتثليث لغة.
ولا يقال: وقع.
وأسقطت الحامل: ألقت سقطاً.
وفي تاج العروس: السقط مثلثة، والكسر أكثر.
وجاء في تاج العروس أيضاً: "أسقطت الناقة وغيرها ولدها: إذا ألقت ولدها، والذي في أمالي القالي: أنه خاص في بني آدم. اهـ
وفي معنى الإسقاط: الإجهاض.
جاء في المصباح المنير: أجهضت المرأة ولدها إجهاضاً: أسقطته ناقص الخلق. اهـ (1).
تعريف الإسقاط في اصطلاح الفقهاء:
تبين لنا من تعريف الإسقاط لغة أنه يطلق على إلقاء الحمل ناقصاً سواء كان النقص في المدة، أو كان النقص في الخلق.
وتعريف الفقهاء لا يخرج عن هذا المعنى.
عرف ابن عابدين الإجهاض في رسائله: "هو إنزال الجنين قبل أن يستكمل مدة الحمل" (2).
وللفقهاء ألفاظ مرادفة لمعنى الإسقاط والإجهاض، وهي تؤدي نفس المعنى منها: الإلقاء، الإملاص، الإنزال، الإخراج، الطرح.
أسباب السقط:
الإسقاط تارة يكون تلقائياً، ويكون سببه والله أعلم إما تشوهات في الجنين، أو يكون رحم المرأة يعاني من أمراض معينة، أو يعاني من اتساع في عنق الرحم، أو غيرها من الأسباب التي يعرفها أهل الاختصاص (3).
وتارة تكون أسبابه اجتماعية، كأن يقصد من الإسقاط التستر على الفاحشة (الزنا) أو الرغبة في تحديد النسل.
وتارة تكون أسبابه صحية، كأن يكون الحامل على الإجهاض المحافظة على صحة الأم، أو إراحة الجنين بحيث لو ترك ينمو ولد مشوهاً تشويهاً غير محتمل.
وسوف نتناول حكم الإجهاض إذا كان اختيارياً، ومتى تكون المرأة المسقطة نفساء، ومتى لا تكون.
أما الإجهاض التلقائي فلا يلحق به تكليف؛ لأنه خارج عن إرادة المرأة.
الحكم التكليفي للإسقاط:
هناك من الفقهاء من فرق بين حكم الإجهاض بعد نفخ الروح، وبين حكمه قبل ذلك، لذلك سنعرض حكم كل حالة من الحالات على انفراد.
إسقاط الجنين بعد نفخ الروح:
ذهب الحنفية (4)، والمالكية (5)، والشافعية (6)، والحنابلة (7) إلى تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح.
الأدلة على تحريم الإسقاط بعد نفخ الروح:
الدليل الأول:
الإجماع.
فقد حكى الإجماع غير واحد.
جاء في الشرح الكبير: "لا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم، ولو قبل الأربعين يوماً، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعاً" (8).
وقال ابن جزي: "وإذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له، وأشد من ذلك إذا تخلق، وأشد من ذلك إذا نفخ فيه الروح؛ فإنه قتل نفس إجماعاً" (9).
ونقله صاحب أسهل المدارك، وأقره (10).
وقال ابن تيمية: "إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين، وهو من الوأد، الذي قال الله فيه: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير: 8، 9).
وقد قال الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) (الإسراء: من الآية 31) (11).
الدليل الثاني:
وجوب الدية في قتله دليل على تحريم إسقاطه؛ إذ لو كان جائزاً لما وجبت به عقوبة.
فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة: عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى لها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها (12).
وقد ذهب ابن حزم إلى وجوب القود، فيمن تعمد قتل الجنين بعد نفخ الروح، فقال رحمه الله: "فإن قال قائل: فما تقولون فيمن تعمدت قتل جنينها، وقد تجاوزت مائة ليلة وعشرين ليلة بيقين، فقتلته، أو تعمد أجنبي قتله في بطنها، فقتله، فمن قولنا: إن القود واجب في ذلك، ولا بد، ولا غرة في ذلك حينئذ إلا أن يعفى عنه، فتجب الغرة فقط؛ لأنها دية، ولا كفارة في ذلك؛ لأنه عمد، وإنما وجب القود؛ لأنه قاتل نفس مؤمنة عمداً، فهو نفس بنفس، وأهله مخيرين: إما القود، وإما الدية، أو المفادات كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قتل مؤمناً. وبالله تعالى التوفيق" (13).
وشرط الفقهاء في وجوب القود أن ينفصل حياً، ثم يموت.
قال الحافظ: "وقد شرط الفقهاء في وجوب الغرة انفصال الجنين ميتاً بسبب الجناية، فلو انفصل حياً، ثم مات، وجب فيه القود أو الدية كاملة" (14).
وليس هذا موضع تحرير هذه المسألة، والذي يهمنا وجود العقوبة على من أسقط الجنين، وهو ظاهر في تحريم الإسقاط. والله أعلم.
بقي سؤال: متى نحكم بأن الجنين قد نفخت فيه الروح؟
ذهب الفقهاء إلى أن نفخ الروح يكون بعد أن يتم للحمل أربعة أشهر.
الدليل على أن نفخ الروح يكون بعد تمام أربعة أشهر:
الدليل الأول:
الإجماع، فقد نقل الإجماع غير واحد على أن مرحلة نفخ الروح بعد تمام الحمل أربعة أشهر:
قال القرطبي: "لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس" (15).
وقال النووي: "اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر" (16).
وقال ابن حجر: "اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر" (17).
الدليل الثاني:
روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن زيد بن وهب: قال عبدالله: حدثنا رسول الله - وهو الصادق المصدوق - قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة" (18).
فقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم ينفخ فيه الروح" جعل هذا بعد أطوار النطفة، والعلقة، والمضغة، وقد كان لكل طور أربعون يوماً، فمجموع ذلك مائة وعشرون يوماً.
حكم الإسقاط قبل نفخ الروح:
اختلف في هذه المسألة على أقوال:
فقيل يحرم الإسقاط مطلقاً، ولو كان نطفة.
ذهب إلى هذا بعض الحنفية (19)، وهو المعتمد عند المالكية (20)، وقول الغزالي (21)، وابن العماد من الشافعية (22)، واختيار ابن الجوزي من الحنابلة (23).
وقيل: يجوز التسبب لإسقاط الجنين مطلقاً، ما لم يتخلق، والمراد بالتخلق عندهم نفخ الروح.
وهو الراجح عند الحنفية (24).
فهذان قولان متقابلان: التحريم مطلقاً، والإباحة مطلقاً ما لم ينفخ فيه الروح.
وبقي في المسألة أقوال: منها:
وقيل: يباح الإسقاط ما دام نطفة مطلقاً لعذر أو لغير عذر، أما العلقة والمضغة فلا يجوز إسقاطها.
انفرد به اللخمي من المالكية (25)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (26).
وقيل: يباح إلقاء النطفة إذا كان لعذر، أما من غير عذر فلا يجوز، اختاره بعض الحنفية (27).
وقيل: يجوز التسبب لإسقاط النطفة والعلقة دون المضغة.
حكاه الكرابيسي عن أبي بكر الفراتي من الشافعية (28).
وقيل: يكره إلقاء النطفة.
اختاره علي بن موسى من الحنفية (29)، وهو رأي عند بعض المالكية فيما قبل الأربعين يوماً (30).
أدلة القائلين بتحريم إسقاط النطفة:
قالوا: النطفة بعد الاستقراء آيلة إلى التخلق، مهيأة لنفخ الروح فلا يجوز إسقاطها، وهي أول مراحل الوجود؛ إذ الولد لا يخلق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعاً، فإذا امتزج ماء الرجل بماء المرأة، واستقر في الرحم فإن النطفة حينئذٍ تكون مهيأة للتخلق ووجود الولد.
الدليل الثاني:
حرم الله تعالى قتل الصيد حال الإحرام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ... الآية) (المائدة: من الآية 95).
وجاء في السُّنَّة تحريم أكل بيض الصيد؛ لأنه أصل الصيد، فكذلك لا يجوز إلقاء النطفة؛ لأنها أصل الإنسان.
والحديث الذي فيه تحريم أكل بيض الصيد قد رواه أحمد، قال: حدثني أبي ثنا هاشم بن سليمان يعني بن المغيرة عن علي بن زيد ثنا عبد الله ابن الحارث بن نوفل الهاشمي قال: كان أبي الحرث على أمر من أمر مكة في زمن عثمان، فأقبل عثمان رضي الله تعالى عنه إلى مكة، فقال عبد الله بن الحارث، فاستقبلت عثمان بالنزل بقديد، فاصطاد أهل الماء جحلاً، فطبخناه بماء وملح، فجعلناه عراقاً للثريد، فقدمناه إلى عثمان وأصحابه، فأمسكوا، فقال عثمان: صيد لم أصطده ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حل فأطعموناه، فما بأس؟ فقال عثمان: من يقول في هذا؟ فقالوا: علي.
فبعث إلى علي رضي الله تعالى عنه، فجاء.
قال عبد الله بن الحارث: فكأني أنظر إلى علي حين جاء، وهو يحت الخبط عن كفيه، فقال له عثمان: صيداً لم نصطده، ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حل، فأطعموناه فما بأس؟ قال: فغضب علي، وقال: أنشد الله رجلاً شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتى بقائمة حمار وحش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قوم حرم فأطعموا أهل الحل.
قال: فشهد اثنا عشر رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال علي: أشهد الله رجلاً شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتى ببيض النعام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قوم حرم أطعموه أهل الحل، قال: فشهد دونهم من العدة من الاثني عشر.
قال: فثنى عثمان وركه عن الطعام، فدخل رحله وأكل ذلك الطعام أهل الماء.
(الحديث إسناده ضعيف، والحديث بقصة حمار الوحش صحيح لغيره، وزيادة بيض النعام زيادة منكرة) (31).
الدليل الثالث:
أول الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية.
ووجهه قال: ماء المرأة ركن في الانعقاد، فيجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول، فمن أوجب، ثم رجع قبل القبول -يعني العزل- لم يكن جانياً على العقد بالنقض والفسخ، ومهما اجتمع الإيجاب والقبول -يعني ماء الرجل والمرأة- كان الرجوع بعد رفعاً، وفسخاً وقطعاً، وكما أن النطفة في الفقار لا يتخلق منها الولد، فكذا بعد الخروج من الإحليل، ما لم يمتزج بماء المرأة أو دمها، فهذا هو القياس الجلي (32).
دليل من أباح إسقاط النطفة:
الدليل الأول:
القياس على جواز العزل، فإذا كان العزل جائزاً، وهو إلقاء الماء خارج الفرج، فكذلك إنزال المني بعد وجوده في الرحم إذ لا فرق، فإخراج النطفة من رحم المرأة لا يثبت لها حكم السقط أو الوأد؛ لأنه لا يصدق عليها ذلك، فلا حرمة في إخراجها (33).
الدليل الثاني:
المني حال نزوله جماد محض، لا يتهيأ للحياة بوجه، بخلافه بعد استقراره في الرحم، وأخذه في مبادي التخلق.
وبداية التخلق كما أرشد إليها حديث حذيفة الغفاري يكون بعد اثنتين وأربعين ليلة (34).
فقد روى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره.
فأتى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص (35).
فهذا الحديث نص أن المني قبل الأربعين لا يكون قد تهيأ للحياة، وإنما هو نطفة، هو والعزل سواء، بخلاف بعد الأربعين فقد بدأ بالتخلق، وهو مرحلة كونه علقة. والله أعلم.
دليل مَنْ قال: يجوز إسقاط الجنين قبل التخلق.
قالوا: إذا لم يتخلق بظهور الأعضاء الدالة على كونه آدمياً، فلا يثبت له حكم الآدمي من وجوب صيانته وحرمة الاعتداء عليه، وعليه فلا إثم في إسقاطه (36).
دليل مَنْ قال: يجوز إسقاط الجنين قبل أن ينفخ فيه الروح:
قال ابن عقيل: ما لم تحله الروح يجوز إسقاطه؛ لأنه ليس وأداً؛ لأن الوأد لا يكون إلا بعد التارات السبع (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون: 12) إلى قوله: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ) (المؤمنون: من الآية 14)..
قال ابن مفلح: وهذا منه فقه عظيم، وتدقيق حسن، حيث سمع (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير: 8، 9).
وهذا لما حلته الروح؛ لأن ما لم تحله الروح لا يبعث، فيؤخذ منه أنه لا يحرم إسقاطه. وله وجه. اهـ (37).
الراجح جواز إلقاء النطفة بشروط:
أولاً: ألا يكون في ذلك ضرر على الأم، لا حالاً، ولا مآلاً.
ثانياً: أن يكون ذلك برضى الزوج؛ لأن له حقاً في طلب الولد.
ثالثاً: أن يكون في ذلك تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة.
وإن قَلَّت؛ لأن إلقاء النطفة إذا كان خلواً من المصلحة كان منافياً لمقصود الشارع من تكثير النسل.
رابعاً: ألا يكون الحامل على ذلك سوء ظن بالله، وذلك خوفاً من العالة والفقر.