تعليق المُرَاجِع
الدكتور: محمد جمال الدين الفندي
أستاذ الطبيعة الجوية بجامعة القاهرة
تخرج في قسم الطبيعة بكلية العلوم جامعة القاهرة عام 1935 مع مرتبة الشرف الأولى - حصل على دبلوم معهد الأرصاد من جامعة لندن عام 1938 - ثم على دكتوراه في فلسفة العلوم عام 1946 - كما حصل على جائزة الدولة في العلوم عام 1950 - له بحوث كثيرة ومؤلفات عديدة في موضوع العلوم المبسطة - ترجَّم عِدَّةَ كُتُبٍ لمؤسسة فرانكلين.

التَّعليق:
كان لِزَامَاً أن يُضَمَّ لهذا الكتاب، الذي حَرَّرَ فُصُولَهُ نُخبة من عُلماء أمريكا المُعاصرين ونادَوا فيه بوجوب إعمال الفِكْرِ وتسخير العِلْمِ تصديقاً لِمَا جاء في الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ، ولنلمس أيادي العَلَيِّ القدير في كل ما هو حولنا في هذا الوجُود، أقول: كان لِزَامَاً أن يُضَمَّ إليه فَصْلٌ أغْفِلَ عن آخر كِتَابٍ مُقَدَّسٍ نزل حين اكتملت الإنسانية ونضجت عُقُول البشر واستعدَّت للبحث والتَّفكير والتَّدبُّر والتَّأمُّل، وذلك بطبيعة الحال بالإضافة إلي ما أوردنا -تحت الهوامش- من آيات ذلك الكِتَابِ البَيِّنَاتِ في بعض المُناسَبَاتِ كتعقيبٍ على ما جاء في بعض الصفحات.

ولقد خاطب القرآنُ العقولَ، ووجَّهَ الحديث إلي أهل العِلْمِ والمعرفة في مواضع عديدة منها -بالاضافة إلي ما أوردناه تحت الهامش-: (وَمِنۡ ءَايَـٰتِهِۦۤ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ۬ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٌ۬ تَنتَشِرُونَ) (الروم: 20) (وَمِنۡ ءَايَـٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَٲتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفُ أَلۡسِنَتِڪُمۡ وَأَلۡوَٲنِكُمۡ إن فِى ذَٲلِكَ لَأَيَـٰتٍ۬ لِّلۡعَـٰلِمِينَ) (الروم: 22)، (وَمِنۡ ءَايَـٰتِهِۦ يُرِيڪُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفً۬ا وَطَمَعً۬ا وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً۬ فَيُحۡىِۦ بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآ إن فِى ذَٲلِكَ لَأَيَـٰتٍ۬ لِّقَوۡمٍ۬ يَعۡقِلُونَ) (الروم: 24).

والقرآنُ في حَدِّ ذاته، أكبر مُعجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخلدها، وليس أخلد على الأرض من كتابٍ يُتلَى، وليس أبقى عليها ولا أنفع للناس فيها من كتاب فيه دواءٌ لقلوب المرضى واليائسين، وسكنٌ لنفوس الحيارى والمَحرُومين، وأمَلٌ ورجَاءٌ للبشر أجمعين، فيه شفاءٌ للناس وهدىً ورحمةٌ للعَالَمِينَ، وغِذَاءٌ للرُّوح والعقل ولِكُلِّ مَنْ أخلصَ النِّيَّة بالفعل.

وفي أول الأمر أعجز القرآنُ العَرَبَ بفصاحته وبلاغته وحكمته وتنبؤاته التي تحقّقت، ولكن لا تمضي فترة تتقدَّم فيها المعرفة ويسير خلالها ركبُ المدنية نحو درجات أرفع إلا ويكشف القرآن عن معجزة أروع، فإعجاز لا يقف عند حَدٍّ، ولعمري تلك صفة المعجزة الكبرى الخالدة.

وفي هذا العصر، عصر الإعجاز العلمي، ترى القرآن يصف بعض حقائق الوجود المادية، بل ويتنبأ بما سيجيء منها في المستقبل، بدقة علمية وسلامة لفظية لا مثيل لهما في كتاب من الكتب، أنظر إلي قوله تعالى -على سبيل المثال لا على سبيل الحصر-:
1- (اللهُ الّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطهُ فِي السّمآء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلَهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) (الروم: 18).

ويُثبتُ عِلْمُ الأرصاد أنَّ الأصل في إثارة السُّحُبِ ونزول المطر منها هو إرسال الرِّيَاحِ لتتجمَّع في صعيدٍ واحدٍ، وتلك حقيقة لا جدال فيها.

2. (يجعلْ صَدرهُ ضيقاً حرَجاً كأنمَا يصّعدُ في السماء) (الأنعام: 125)، والمعروف بالتجربة، بعد أن طار الإنسان وحلّق في هذا العصر على ارتفاعات مختلفة، أن الصُّعود في الجو والتعرُّض لطبقاته العليا يصحبه حتماً ضيق الصَّدر حتى تصل الحال إلي درجة الاختناق على أبعادٍ تقل فيها كمية الأوكسيجين، بل ويقل فيها الهواء الجوي عموماً.

3- (والسّماءَ بنَيَنهَا بأييدٍ وإنا لمُوسِعونَ) (الذاريات: 47).

وحدود الكون، كما تُمثلها السَّماء، ثبت علمياً أنها تتَّسِعَ وتتمدَّد.

4- (فلا أُقسمُ بمواقعِ النُّجُومِ وإنَّهُ لقسَمٌ لو تعلمونَ عظيمٌ) (الواقعة: 75، 76).

ويُحَدِّثُنَا علماء الفلك بأن المسافات بين النجوم تبلغ حَدَّ الخيال، وهي جديرة بأن يُقْسِمُ بها الخالق لعِظَمِهَا، فإن مجموعات النجوم التي تكون أقرب مجرَّات السماء منا تبعد عنها بنحو 700 ألف سنة ضوئية، والسَّنَة الضوئية تعادل عشرة ملايين الملايين من الكيلومترات.

ومن آياته التنبؤ بما سيجيء في المستقبل مما يبشر به العلم أو لا ينكره:
1-  عصر الفضاء: (يا مَعشرَ الجنْ والإنس أن استطعتمْ أن تَنفذوا من أقطارِ السّموات والأرض فانفُذوا لا تنفذون إلا بسلطانٍ) (الرحمن: 33).

2-  مستقبل المدنية على الأرض: (حتى إذا أخذَتَ الأرضُ زخرُفها وازّينتْ وظنَّ أهلُها أنهم قادِرونَ عليها أتاها أمرُنا ليلاً أو نهاراً..) (يونس: 24).

ودقة التعبير العلمي واضحة في هذه الأية إذ عندما يكون نصف الأرض نهاراً يكون نصفها الآخر ليلاً.

3-  مصير المجموعة الشمسية: (فارتقبْ يومَ تأتي السَّماءُ بدُخانٍ مُبينٍ) (الدخان: 10)، (فإذا برَق البَصَرُ وخَسَفَ القَمَرُ وجُمِعَ الشَّمْسُ والقَمَرُ يقولُ الإنسَانُ يومئذٍ أينَ المَفَر) (القيامة: 7-10)، (وحُمِلَتِ الأرْضُ والجِبَالُ فدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَة..) (الحاقة: 14).

ويؤكد علماء الفلك جميعاً أن الشمس (كأي نجم آخر) لابد أن يعتريها ازدياد مفاجئ في حرارتها وحجمها وإشعاعها بدرجة لا تُصَدِّقُها العُقُول، وعند ذلك يتمدَّد سطحها الخارجي بما حوى من لهب ودخان حتى يصل القمر، ويختلُّ توازن المجموعة الشمسية كلها.

وكل شمس في السَّماء لابد أن تمُرَّ على مثل هذه الحالة قبل أن تحصل على اتزانها الدَّائم، ولم تمُرَّ شمسُنا بالذّات بهذا الدور بعد.

وأنا عندما أسوق هذه الآيات لا أدَّعِي أنَّ القرآن مرجعٌ عِلْمِيٌ بالمعنى المعروف، ولكني أحِبُّ أن أتساءل كيف استطاع رَجُلٌ منذ أكثر من 1300 سنة أن يأتي بمثل هذه الحقائق العلمية الرائعة؟

فهل كان صاحب تلك الرسالة، ذلك النبي الأمي، عالماً من علماء الفلك، أو أستاذاً من أساطين الطبيعة؟.. الحق أنه لا سبيل إلي الجدال، وليس أمامنا إلا التسليم بأنه وحي من عند الله العليم الخبير.

والقرآن إلي جانب ذلك كله يُكْمِلُ (آدمية البشر) أو (إنسانيتهم)، ويُعْلِي قدر ابن آدم اذ يقول مثلاً: (لقدْ خلقنا الإنسان في أحسنِ تقويمٍ) (التين: 4).

(ولقدْ كرّمنا بني آدمَ وفضّلناهم على كثيرٍ مِمّنْ خلقنا تَفضِيلًا) (الإسراء: 70).

كما أعطاه فرصة العمل الصالح والتقرُّب من بارئه مختاراً، ومقاومة الشرور مختاراً، ومساعدة الغير مختاراً.. إلى غير ذلك من أعمال الإنسانية والبِرِّ.

وهكذا فتح هذا الباب على مصراعيه وجعل لكل مجتهد نصيباً ولكل عامل في سبيل الكمال مقاماً، فهناك فرصة لتنمية غرائز الخير وتوظيفها، ما بين الغني والفقير والقوي والضعيف والحاكم والمحكوم.

وإنه لمن الخير للمجتمع أن يوجد فيه عشرة يساعدون الضعيف مُختارين عن مجتمع يكلف فيه ألف شخص تكليفاً بالمساعدة والعون.

إن المجتمع الأول جدير بآدميته وهو يرتقي في الروح والجسد وتنمو فيه عوامل المحبَّة وتظهر مبادئ الإنسانية والحرية والاجتهاد، أمَّا المجتمع الثاني فهو جسد بلا روح.

والآن لم يبق أمام المُكابر من سبيل، وليس وراء هذا الوجود من غاية غير الله تعالى، فهو مظهر من مظاهر الألوهية، وكل شيء فيه إنما يسعى إليه تعالى، ولكن كان الإنسان أكثر جدلاً: (وَضربَ لنا مثلاً ونسيَ خلقهُ، قال مَنْ يُحي العظامَ وهيَ رَميمٌ قل يُحيها الذي أنشأها أَّوَّل مَرَّةٍ وهوَ بكل خلقٍ عَليمٌ) (يس: 78، 79).
دكتور: محمد جمال الدين الفندي