وجُود الله حقيقة مُطلقة
كتبه: أندرو كونواي ايغي
عالم فسيولوجي
من العلماء الطبيعيين ذوي الشهرة العالمية - من سنة 1925 إلى سنة 1946م رئيس قسم الدراسات الفسيولوجية والصيدلية بجامعة نورث وسترن - ومن سنة 1946 إلى سنة 1953م أستاذ في كلية الطب ووكيل الكلية في جامعة إلىنوي - وفي الوقت الحاضر أستاذ الفسيولوجيا ورئيس قسم العلوم الإكلينيكية بكلية الطب بجامعة شيكاغو.

المُشَارَكَة:
هل هناك إِلَهٌ؟

نعم إنني أؤمن بوجوده كما أؤمن بوجود شيءٍ ألمسُهُ، وكما أؤمن بوجود نفسي.

إن الاعتقاد بوجود الله هو الوسيلة الفكرية الكاملة الوحيدة التي تجعل لهذا الوجود معنى، وهذا الاعتقاد هو الذي يجعل لوجود الإنسان معنى أكثر من أنه مجرد كتلة من المادة أو الطاقة.

والاعتقاد بوجود الله هو المنبع لأسمى فكرة إنسانية حول المحبة، والقاعدة التي تقوم عليها الأخوة بين البشر بسبب اجتماعهم على محبة الله وطاعته، وهو مصدر إحساسنا بالحقوق والواجبات، لأننا لا نتساوى إلا في نظر الحُبِّ والعدالة والرَّحمة المُطلقة.

والاعتقاد بوجود الله هو الحصن الذي يعصمنا من الشرور، وهو بعد ذلك الأساس المتين الذي يقوم عليه الإيمان، وتدوم بسببه القيم الروحية التي يعتبر وجودها رهينة بوجوده تعالى.

المَنْطِقُ يُثْبِتُ وجُودَ الله
من المُمكن أن نستخدم المنطق لإثبات وجود الله، وذلك باستخدام أسس التفكير المشتقة من تفاعل خبرتنا الحسيَّة المُعتادة مع عقولنا، وأول من استخدم هذه الطريقة هو القديس توماس الاكويني.

وتمثل المبادئ الأساسية التي يقوم عليها هذا النوع من الاستدلال بمشاهدات الآباء الفعلية في أثناء تطور عقول أبنائهم العاديين كما سنبين فيما بعد.

وقد آمن باستخدام هذه الطريقة ملايين من البشر الذين يفكرون تفكيراً واقعياً عميقاً، ومنهم مَنْ أدَّى للعُلوم وللبشرية أجَلَّ الخدمات.

إنكار وجود الله لا يستند إلى دليل منطقي
إن أحداً لا يستطيع أن يُثبت خطأ الفكرة التي تقول: (إن الله موجود)، كما أن أحداً لا يستطيع أن يُثبت صحة الفكرة التي تقول: (إن الله غير موجود).

وقد يُنكِرُ مُنْكِرٌ وجودَ الله، ولكنه لا يستطيع أن يؤيد إنكاره بدليل.

وأحياناً يشُكُّ الإنسانُ في وجود شيء من الأشياء، ولابد في هذه الحالة أن يستند شَكُّهُ إلى أساسٍ فكري.

ولكنني لم أقرأ ولم أسمع في حياتي دليلاً عقلياً واحداً على عدم وجوده تعالى.

وقد قرأتُ وسمعتُ في الوقت ذاته أدلّة كثيرة على وجوده، كما لمستُ بنفسي بعض ما يتركه الإيمان من حلاوة في نفوس المؤمنين، وما يخلفه الإلحاد من مرارة في نفوس المُلحدين.

والبُرهانُ الذي يتطلبه المُلحدون لإثبات وجود الله هو نفس البُرهان الذي يُطلب كما لو كان الله تعالى شبيهاً بالإنسان أو شيئاً ماديَّاً، أو حتى تمثالاً من التماثيل أو صنماً من الأصنام.

ولو كان لله مثل هذا الوجود المادي لَمَا وُجِدَ هنالك مجالٌ للشَّكِّ في وجوده، ولكن الله أراد ضِمْنَ ما أراد أن يختبر عقولنا حول الإيمان به، فترك لنا حرية الاختيار لكي يؤمن به مَنْ يُؤمن وينكره مَنْ يُنكر، فالإنسان يستطيع إذا شاء -بخداع نفسه- أن يُنكر وجُودَ الله، وعليه أن يتحمَّل النتائج.

ومُعظم المُلحدين والمارقين من الأديان ينظرون إلى الله كما لو كان بشراً يمكن التعامل معه تعامل الأنداد فيقولون مثلاً: سوف أعتقد بوجود الله إذا شفاني من مرضي، أو إذا أنزل المطر، وإذا قضى حاجتي، أو إذا أوقف الفيضان، أو إذا محا الشر والظلم من الكون.. الخ.

وقد يقول بعضهم إذا كان هنالك إلَهٌ عادلٌ ما أصابني وجع في أسناني..

ومعنى ذلك بعبارة أخرى أنني أؤمن بالله إذا بنى الكون أو عدَّلهُ تبعاً لخطتي الخاصَّة التي تقوم على الأنانية وتبعاً لصالحي الشخصي.

ولا مناص من الوصول إلى الله، ولكي يفكر الإنسان فيه تفكيراً مستقيماً لا عِوَجَ فيه ولا نُفور، عليه أن يُحَرِّرَ عقله من الأنانية ومن الأحقاد ومن كل ما يعوق التفكير الصافي السليم حتى يتسنَّى له أن يصل إلى الله ويُحِبَّهُ، وبذلك يُسْهِمُ في محاربة الشرور والظلم الذي يتحدَّث عنه مَنْ يشكُّون في أمره ووجوده تعالى، فلقد اقتضت حكمة الله أن يستخدم الإنسان عقله وإرادته وحريته في اتخاذ القرارات اللازمة لمُحاربة هذه الشرور حتى يصير حكم الله في الأرض مثل حكمه في السماء.

لابد أن يقوم الإيمان والأمل والمحبة على أساس العقل.

إن اعتقادي بوجود الله الذي خلق كل شيء، والذي يوجد داخل الكون وخارجه، والذي يرعاني ويرعاك، يقوم أولاً على استخدام العقل، ثم يقوم بعد ذلك على الإيمان والأمل والمحبة، فأنا لا استطيع أن أمتلك الإيمان والأمل والمحبة إلا إذا كانت كلها قائمة على أساس العقل.

ولا يجوز للإنسان أن يتخلّى عن عقله، بل لابد من استخدامه استخداماً دقيقاً قوياً.

والإيمان الذي لا يسبقه العقل يعتبر إيماناً ضعيفاً هزيلاً، ويكون عُرضَة للهجمات الفتّاكة والهزيمة السَّاحقة.

والإيمان الدِّيني الذي لا يقوم على العقل لا يؤدي إلى الأخلاق السَّيئة والسُّلوك الشّائن، ولذلك ينبغي إلا يتخلّى الإنسان عن عقله أبداً، ولا عن المبادئ الفكرية التي تقوم عليها الأعمال والأفكار التي يستخدمها الناس في حياتهم إلىومية، والتي يقوم عليها جميع ما أحرزه علماؤنا من انتصارات في الميادين العلمية.

والاعتقاد بوجود الله يقوم على نفس المبادئ الفكرية التي يقوم عليها الإيمان بمستقبل التقدم المادي، وهي نفس الأسباب التي تجعلني وتجعلك تعتقد بأن الشمس سوف تشرق صباح الغد، أو أنني سأعيش غداً وأذهب إلى عملي وأستمتع به.

فإذا كان التفكير هو وسيلة التقدم المادي، فلماذا لا يكون كذلك وسيلة للتقدم الروحي والأخلاقي؟

ولابد أن يكون لدى كل منا الشجاعة الأدبية التي تجعله قادراً على توضيح الأسباب التي تجعله يؤمن بدين من الأديان وإن يُثبت مدى إيمانه بصحة هذا الدِّين وإخلاصه له بما يؤديه من الأعمال الصالحة.

فاذا لم تكن قادراً على إثبات وجود الله بطريق ناجحة فقد تُسَلِّمَ بوجوده على أساس الإيمان والقبول، أو تقول أنه أمر واضح لا يحتاج إلى دليل، وتفعل كما فعل توماس جيفرسن عندما كتب وثيقة الاستقلال الأمريكي بالصورة التإلىة: (إننا نعتقد أن هذه الحقائق واضحة لا ريب فيها، فالناس متساوون وقد وهبهم خالقهم بعض الحُقوق الثابتة، ومن هذه الحُقوق حق الحياة والحرية وتحقيق السعادة، وأنه لصيانة هذه الحُقوق تقوم الحُكومات وتستمد قوتها العادلة من الشعب الذي تحكمه).

ذلك هو الأساس العميق للايمان الديني والأخلاقي والسياسي الذي يقوم عليه دستور الولايات المتحدة وحكومتها.

ولقد كانت الولايات المتحدة من أولى الدُّوَل التي يقوم نظامها على مثل هذا الأساس، ولقد توافر لدى جيفرسن وغيره من حُكَّام الولايات المتحدة من الأسباب الخفية ما دعاهم إلى الأخذ بهذا الاتجاه.

ومع ذلك فإنه حتى عندما يقول الناس أنهم يعتقدون بوجود الله على أساس التسليم، فإننا نجد أن هذا التسليم لابد أن يكون قائماً على أساس معلومات سابقة، أو خبرة سابقة، أو تفكير سابق.

فالتسليم بأي شيء لا يمكن أن يقوم إلا على أساس من المعرفة والتفكير.

فإذا قلنا: أن وجود الله أمرٌ واضحٌ أو بدهيٌ، فإن ذلك قد يعني إننا لا نستطيع أن نتناول الموضوع بطريقة علمية أو شكية بسبب نقص في تعليمنا، أو لأننا لم يسبق لنا تنظيم تفكيرنا حول الموضوع، أو بسبب عدم الاستعداد للمناقشة، أو غير ذلك من الأسباب الأخرى.

إنني لم أعثر في حياتي كلها على شخص واحد لا يستطيع عند مناقشة هذا الموضوع أن يُبَيِّنَ لماذا يعتقد أو لماذا ينبغي أن يعتقد بوجود الله.

وتُشيرُ معظم الأسباب إلى أنه لابد أن يكون لهذا الكون من خالق، ولتلك القوانين التي يسير عليها الوجود من صائغ، وأنه لا يمكن أن تكون هنالك آلة دون صانع.. تلك حقيقة أساسية يُدركها كل إنسان طبيعي سواءً أكان كبيراً أو صغيراً.

نشأة المبادئ الأولى في عقل الطفل
عندما كان عمري ثلاث سنوات -كسائر الأطفال بين الثالثة والخامسة- سألت أبي وأمي: مَنِ الذي صنعني؟
ومَنِ الذي صنع الطيور؟
ومَنِ الذي صنع بقرتنا؟
ومَنِ الذي صنع الدُّنيا؟


لقد تفاعلت حقائق الحياة أو خبرتي الحسية مع عقلي حين تكوينه بحيث جعلتني أصل إلى أنه لا يمكن أن تكون هنالك آلة دون صانع.

ثم تحرَّك ذكائي وعقلي إلى ما وراء الحقائق المباشرة، إلى ما وراء ذاتي والطير والبقرة، ووصل إلى أنه لا يمكن أن أكون (أنا) أو يكون الطير، أو تكون البقرة، دون أن يكون هنالك سببٌ لوجودها أو صانعٌ لها.

لقد توصَّل عقلي البسيط البريء غير المتحيِّز أو المختلط، غير المكبوت أو المضطرب إلى مبدأ يعتبر من أرسخ المبادئ الفلسفية والعلمية التي توصل إلىها العقل البشري حول الوجود والفكر.

لقد تفاعل عقلي مع خبرتي الحسية تفاعلاً يكفي لإنتاج قدر من التفكير يُعينُ على الإحساس بالوجود، فانا أدرك أن هذا أنا أو تلك ذاتي، كما أنني وصلت في نفس الوقت إلى مبدأ عدم الوجود، فأنا لست طائراً أو بقرةً أو الدُّنيا، وبعبارة أخرى توصَّل عقلي إلى مبدأ الوجود وعدمه ومبدأ الجزيء والكل أكبر من الجزء.

وما إن يتكوَّن لدى الطفل هذا الاحساس بالوجود وعدمه حتى يكون قد ألَمَّ بالمبدأ الأول من مبادئ الفكر وهو: (أننا لا نستطيع أن نثبت وجود شيء وننكره في نفس الوقت).

فالطفل الصغير يقول أنا توم وهذه أختي ماري.

وقد وصل الطفل إلى درجة من التفكير تمنعه من أن يخلط بين نفسه وبين أخته فيقول أنا ماري وأختي توم إلا على سبيل الفكاهة.

ثم يعرف الطفل بعد قليل أنه من الخطأ أن نقول أن المربع مستدير، فهو يدرك أن المربع لديه من الأسباب ما يكفي لجعله مربعاً، وهذه الأسباب تجعله مربعاً وتجعل ذلك أمراً واضحاً بالنسبة له.

هذه المعلومات من جانب الطفل وسؤاله مَنِ الذي صنعني؟ ومَنِ الذي صنع الدنيا؟

يوضح لنا أن الطفل قد اكتشف مبدأ السببية أو قانون السببية الذي ينص على أنه: (لا تأثير بغير مُؤثر)، ومعناه أنه لابد لكل آلة من صانع ولكل تغيير من مُحْدِثٍ.

ثم يسير التفكير في سلسلة من المُسببات تبدأ بوجودي ووجود الدنيا وتنتهي إلى وجود الله بوصفه السَّبب الأول، أو تبدأ من وجود الحركة وتنتهي إلى المحرك الأول.

ويمكننا أن نُعَبِّرَ عن ذلك كله بطريقة أخرى وهي أنه إذا كان هنالك تصميم فلابد أن يكون من ورائه مُصَمِّمٌ، ولابد أن تكون لذلك المُصَمِّم الكوني صفات لا نهائية، ذلك الخالق البارع هو الله.

ويبلغ قانون السَّببية درجة من الشِّدَّة تجعل الطفل ما بين الثالثة والخامسة يتحقّق من أنه لابد أن يكون هنالك إله.

ولقد كَرَّسْتُ حياتي بحكم اشتغإلى بالعلوم للبحث عن الأسباب التي تقع وراء الحقائق الواضحة المعروفة.

إن عقلي بحكم اهتمامه بالخبرات الحِسِّيَّة وما يترتب عليها يُصِرُّ على أن ينظر إلى ما وراء الحقائق المباشرة عن الحياة التي تكشف حقائق جديدة لها قيمتها حول النواحي المادية والروحية للوجود.

وقد دفعني هذا البحث إلى القراءة والدراسة في ميدان العلوم الطبيعية أو (العالم كما هو قائم فعلاً)، وفي ميدإن الأخلاق والدين أو (العالم كما ينبغي أن يكون)، وقد وجدتُ أن كثيراً من الكُتَّابِ المُمتازين، ومن أولئك الذين يُسَمَّوْنَ الفلاسفة، ومن غيرهم من صفوة المفكرين، إمَّا أنهم وقعوا في أخطاء جسيمة واضحة تثير الغبار، وإمَّا أنهم أقاموا أمام أنفسهم حاجزاً يحول بينهم وبين النظر إلى ما وراء الحقائق مباشرة، وإمَّا أنهم تجاهلوا الحقائق المباشرة الواضحة.

 ورجل العلوم الذي يفعل ذلك يضع حائلاً بين نفسه وبين التقدم، فبمعرفة الحقائق الواضحة، وبالنظر إلى ما وراءها في معمل القيم المادية والروحية والقانون والنظام، وبالبحث عن أسباب القوانين الطبيعية بحثاً تحدُوهُ الثقة والأمل، نقول بكل ذلك يتحقق التقدم.

مبدأ السَّببيَّة
منذ سنوات عديدة كنت أجلس إلى مائدة الطعام مع جماعة من رجال الأعمال وكان معنا أحد مشهوري رجال العلوم.

وفي أثناء الحديث الذي دار بيننا قال أحد رجال الأعمال: (سمعتُ أن معظم المُشتغلين بالعُلوم مُلحدون... فهل هذا صحيح)؟

ثم نظر رجل الأعمال إلى فأجبته قائلاً:
(إنني لا أعتقد أن هذا القول صحيحأ بل أنني -على نقيض ذلك- وجدتُ في قراءاتي ومناقشاتي أن معظم مَنْ اشتغلوا في ميدان العلوم من العباقرة لم يكونوا مُلحدين، ولكن الناس أساءوا نقل أحاديثهم أو أساءوا فهمهم)، ثم استطردتُ قائلاً: (إن الإلحاد، أو الإلحاد المادي، يتعارض مع الطريقة التي يتبعها رجل العُلوم في تفكيره وعمله وحياته، فهو يتبع المبدأ الذي يقول بأنه لا يمكن أن توجد آلة دون صانع، وهو يستخدم العقل على أساس الحقائق المعروفة، ويدخل إلى معمله يحدوه الأمل ويمتلئ قلبه بالإيمان، ومعظم رجال العلوم يقومون بأعمالهم حُبَّاً في المعرفة وفي الناس وفي الله، حقيقة أن رجل العلوم يستخدم فكرة الإلىة بوصفها إحدى وسائله أو أدواته، فهو يتكلم مثلاً عن إلىة الجسم، ولكنه يُجري بُحوثه على أساس مبدأ السببية، مبدأ السبب والنتيجة، على أساس وحدة الكون وما يسوده من القانون والنظام، وهو كأي إنسان آخر يتَّخذ كل قرار ويفكر في كل أمر على أساس الإيمان بمبدأ السببية).

(ففي علم وظائف الأعضاء، عندما يدرس الإنسان النمو والتكوين والصيانة وإصلاح الجسم، يجد أن كل خليَّة من خلايا الجسم -دون استثناء- (تعرف) الدَّور الذي تلعبه في سبيل تحقيق سلامة الجسم كله، ففي الجهاز العصبي تَتَّسِمُ الأفعال العكسية البسيطة بالغرضية كصفة من صفاتها الأساسية، فإذا ما أنعمنا النظر والدراسة فإننا واصلون حتماً إلى الاستعدادات الموروثة في تكوين العقل قد ركبت بحي أنه عندما يتأثر هذا العقل بالخبرات الحسية تأثراً كافياً يصل حتماً إلى مبدأ السببية، وبعبارةٍ أخرى: فإن الجهاز المسؤول عن التصرفات الغرضية في سائر الكائنات يزداد تخصصه زيادة مستمرة حتى يصير قادراً على المعرفة التمييزية أو الشعور، ويتم ذلك نتيجة لتفاعل الخبرات الحسية مع العقل)؟

(وبازدياد قدرة الإنسان على التمييز الإدراكي تنشأ لديه حاسَّة ترتيب الأشياء تبعاً لأسبقيتها السببية، أو يصير قادراً على رَدِّ الأشياء إلى أسبابها الأولى، فإذا بدأنا بالطبيعة الغرضية التي تظهر في الخلايا المُفردة وتتبَّعنا ما يطرأ عليها من التطور حتى تصير مُدركة للبيئة التي تُحيط بها، فإننا نستطيع أن نتوقع ظهور القدرة على الحُكم واستخدام قانون السببية الذي وصل الإنسان باستخدامه إلى مزيد من السيطرة على البيئة)؟

(ففي علم وظائف الأعضاء تدل خياشيم الأسماك على أسبقية الماء، كما تدلُّ أجنحة الطيور ورئات الإنسان على أسبقية الهواء، وتدلُّ أعين الإنسان على أسبقية الضوء، كما يدلُّ حُبُّ الاستطلاع العلمي على أسبقية الوقائع، وكما تدلُّ الحياة على أسبقية القانون الطبيعي اللازم لنشأتها، وإنني أتساءل الآن: أفلا يدل التدبُّر العميق والتفكير الصافي والشجاعة العظمى والواجب الأعظم والإيمان الكبير والحب العميق - أقول أفلا يدل كل أولئك على شيء سابق؟ من الحماقة أن نظن أن أعمق الأفكار والعواطف والأعمال التي نشاهدها في الإنسان لا تدل على شيء سابق، إنها تدل على أسبقية وجود عقل علوي، إنها تدل على وجود خالق يتجلّى في خبرة أولئك الذين لا يضعون الحواجز في طريق عقولهم عند البحث عن العقل الأسمى أو الخالق الأعلى).

(إن أحداً لا يستطيع أن يُثبت خطأ قانون السببية، فبدونه تنعدم جميع الأشياء الحيَّة، والعقل البشري لا يستطيع أن يعمل إلا على أساس السببية، إنني أسَلِّمُ أن لقانون السببية وجوداً حقيقياً).

(وقد سمعت بعض رجال العلوم يقولون: أن السببية تنتهي حيث تبدأ الميتافيزيقا أو مبادئ التفكير، ولكنني لا أوافق على أن يستخدم الإنسان هذا القانون في المواطن التي تعجبه، ثم يرفض استخدامه عندما يخشى النتائج التي يوصله إلىها، وإضافة حلقة ميتافيزيقية جديدة إلى سلسلة السببية لا تعتبر تعارُضاً مع المنطق، فنحن نفعل ذلك دائماً في ميدإن العلوم وفي شؤون حياتنا إلىومية، والبحث عن حقيقة هذه الحلقة أمرٌ آخر، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يكشف مدى تمثيل هذه الحلقة للحقيقة الواقعة فعلاً إلا إذا طرقها واختبرها، فالاختبار هو الوسيلة الوحيدة لكشف الحقيقة حولها).

(ويظهر أن المُلحدين أو المُنكرين بما لديهم من الشَّكِّ لديهم بقعة عمياء أو بقعة مُخَدَّرَةٌ داخل عقولهم تمنعهم من تصوُّر أن كل هذه العوالم سواءٌ منها ما كان ميتاً أو حياً تصير لا معنى لها بدون الاعتقاد بوجود الله، وكما قال أينشتين: (إن الشخص الذي يعتبر حياته وحياة غيره من المخلوقات عديمة المعنى ليس تعيساً فحسب، ولكنه غير مؤهل للحياة).

وأحِبُّ أن أضيف إلى ذلك أن السبب الأوحد الذي يمنعه من أن يكون غير مؤهل تأهيلاً تامَّاً للحياة، هو الأمل -القائم على العقل والإيمان- في أنه قد يرتد إلى عقله فيُدرك الصواب أو يرتد طفلاً فيستطيع أن يفكر في أمور الحياة كما يفكر الأطفال).

ثم التفتُّ إلى زميلي العلامة الذي أعجبت كما أعجب كل شخص آخر بتفكيره وقدرته على النقد وسألته: (هل ما قتله صحيح؟) فقال: (نعم ولكن السؤال المهم هو أي نوع من الإله؟).

وقد وافقت على أن أهم سؤال يواجهه الشخص المُفكِّرُ في هذا الموضوع أول ما يواجه هو:
هل هنالك إلَهٌ؟
وإن السؤال الثاني هو: ما نوع هذا الإله؟
والسؤال الثالث هو: ما الغرض من الحياة؟
والسؤال الرابع هو: ما الصواب وما الخطأ؟


ثم قلت: (إن الاعتقاد بأن الله مُجَرَّد خالق ومُبدع لا يتفق مع الفكرة الدينية عنه، ولكي أكون واضحاً وموجزاً، فإنني أحِبُّ أن أستمر في التشبيه الذي بدأته عن الآلة وصانعها، وقبل أن أفعل ذلك أحِبُّ أن أشير إلى أن الدِّينَ يذهب إلى أبعد مما يستطيع أن يصل إلىه العقل حول هذا الأمر، ولكنه لا يتعارض معه، فعندما يقوم صانعٌ مُفكرٌ بعمل آلةٍ، يكون لديه تصميمٌ لها وغاية من ورائها، وهو في أثناء صناعتها يَبُثُّ فيها رُوحَهُ ونفسه، وبعد أن يُتِمَّهَا يرتبط بها عاطفياً لأنه يكون مهتماً بصيانتها أو بالطريقة التي تعمل بها، وأنا لا أستطيع أن أتصوَّر خالقاً مُدركاً لا يصدق عليه هذا القول، والخالق سبحانه كما تدل عليه أعماله يمكن الوصول إلى أنه بالغ العقل والحكمة، إنني أعتقد بوجود إلهٍ إذا أدخله الناس إلى قلوبهم وحفظوه في عقولهم هداهم إلى مكارم الأخلاق، وإلى السُّلوك السَّويِّ، والقصد النبيل، وأغدق عليهم محبَّته ومحبَّة النَّاس).

وعندئذ كانت الساعة قد بلغت الثانية من بعد الظهر وانتهى وقت الغذاء وانتهت معه المحادثة.

ولا يتسع هذا الكتاب ولا الوقت لمناقشة الموضوع الذي بدأناه مناقشة كاملة، ومع ذلك فإنني أحِبُّ أن أوضِّحَ بعض النِّقاط الأخرى إتماماً لإجابتي عن سؤال: (هل يوجد إلَهٌ)؟

صفات الله
لقد درستُ صفات الله دراسة مطولة على أساس التحليل المنطقي الذي قام به الفلاسفة.

وأمكن باستخدام المنطق الوصول إلى أن لله صفات مُعَيَّنَة.

وفيما يلي مجموعة غير كاملة منها:
(الله أبديٌ - خالدٌ - لطيفٌ (ليس مادياً) - ليس حادثاً- قدوسٌ - طيبٌ - يعلمُ الشّرَّ ولكنه ليس شريراً ولا يريد الشَّرَّ - لا يكرر الأشياء - حقٌ - عليمٌ - مُحِبٌّ - مُريدٌ - مُنَزَّهٌ عن الشهوات والنزوات - أصل الفضائل جميعاً، وتتفق هذه الصفات إلى حَدٍّ كبير مع الصفات التي وردت عن الله في الإنجيل) (1)، وبخاصة في العهد الحديث.

ولكن معظم صفات الله التي وردت في الإنجيل، جاءت على إنها بديهيات ولم تقدم على أساس منطقي.

السَّببية الأخلاقية مُضافة إلى حرية الاختيار
هنالك كثير من الأسباب التي تدعو إلى الاعتقاد بوجود الله، ومن الأسباب التي لا يجوز إغفالها في هذا المقام ما أسميه بالسببية الأخلاقية مضافة إلى حرية الاختيار، وأعني بحرية الاختيار هنا حرية اتخاذ القرارات.

إن النواحي الروحانية والأخلاقية من حياة الإنسان وما ينبغي أن يفعله لها أهمية بالغة بالنسبة لسلامة الإنسان ورفاهيته، وهي أهمية تفوق أهمية معرفته وسيطرته على الطبيعة غير الإنسانية.

فإحاطتنا بالعلوم الطبيعية تزيد من فهمنا للعالم الذي نعيش فيه، ومن وسائلنا في تحسين الانتاج وتوزيع الضروريات ووسائل الاستمتاع بالحياة، وتقلل من الآلام وتطيل الحياة، ومع ذلك فإن المشكلة العظمى في العالم في الوقت الحاضر تعد مشكلة أخلاقية ودينية، فهي تدور حول معرفة كيف نستخدم الطاقة الذرية لتحقيق صالح البشر ورفاهيتهم، لا لكي تنزل بهم الدمار.

ولعل أعظم ما صادف الناس والمجتمعات من مشكلات في الحياة كانت من النوع الخلقي، وكانت تدور حول معرفة كيف تتخذ القرارات الصائبة.

أينما وجَّهنا انظارنا حولنا وجدنا الطبيعة الجامدة تحكمها قوانين ثابتة.

وكذلك الحال بالنسبة للحيوانات في معيشتها البرية.

ولكن الإنسان خُلِقَ على غِرَارِ كائنٍ عُلويٍ آخر، إذ أن له حُريَّة الاختيار، أو بعبارة أخرى فإن المجتمع الإنساني قد خُلِقَ كما لو كان مجموعة من الأرواح أو الأشخاص الذين لديهم الحرية في أن يُقَرِّرُوا ما يشاءون، وإن يأكلوا أو لا يأكلوا من (شجرة المعرفة).

فإذا لم نطق القانون الأخلاقي الذي وضعه الله، فعلينا أن نتحمَّل النتائج.

ومن الواضح أنه لو كان للطبيعة المادية حرية الاختيار لفقد الإنسان ذاته حرية الاختيار ولأصبح كل شيء فوضى.

وتدلُّ دراسة سلوك الحيوإن على أن القانونين الأساسيين اللذين يتحكمان في سلوك سائر الكائنات الحيَّة التي هي دون الإنسان هما:
1-  بقاء النفس.
2-  بقاء النوع.


ونستطيع بقليل من التفكير أن نتبيَّن أنه بدون هذين القانونين لا يكون هنالك سبيل لاستمرار حياة الأنواع الحيوانية المختلفة فترة طويلة.

والسُّلوك العكسي غير المُكتسب هو الذي يتحكَّم على ما يظهر تحكماً كلياً في سلوك الحيوانات الدنيا.

وكلما ارتقى الحيوان في المملكة الحيوانية كان أكثر اعتماداً على السُّلوك المُكتسب الذي يتعلّمه.

ولكن هنالك شكاً فيما إذا كان لدى الحيوانات التي هي أقل رُقياً من الإنسان أي درجة من الحرية في اتخاذ القرارات، وهي الحرية التي نعرفها لدى الإنسان.

فإذا كان الأمر كذلك فإن حرية هذه الحيوانات محدودة، ومعنى ذلك أن طبيعة الحيوان هي التي تجعله يحافظ على جسمه فلا يتلفه أو يعرضه لاذى إلا في سبيل الدفاع عن نفسه أو نوعه.

ويُلاحظ أنه في العلاقات التي تقوم بين الأنواع المختلفة من الحيوانات أو بين افراد النوع الواحد يكون قانون الغابة الذي يرى أن (القوة هي الحق) هو السائد.

وهذا القانون هو الذي يحكم الحيوانات ابتداءً من القرود فما دونها.

أمَّا الكائنات التي تعيش معيشة اجتماعية فتخضع لنوع من الحكم المُستبد.

والخلاصة هي أن هنالك قوانين للسلوك تتبعها الحيوانات التي هي دون الإنسان ولا تجد عنها محيداً.

ويدلُّ تاريخ الإنسان على أن سلوكه يخضع للقانون الطبيعي الذي تخضع له الحيوانات ولكنه يتأثر فوق ذلك بعوامل أخرى إضافية، فمن ذلك أولاً شعوره بالرَّهبة من المجهول، ومن ذلك ثانياً شعوره بالإثم أو بالواجب (الضمير)، ومن ذلك ثالثاً الحكم بأن القوة التي تُسبب الرَّهبة تستنكر الأعمال أو القرارات التي يتسبَّب عنها الشعور بالإثم.

وعلى ذلك فإنه يلاحظ أن سلسلة من الأسباب تبدأ من العالم المادي إلى الحيوانات الدنيا، ثم تنتهي إلى الحيوانات العليا التي يقع الإنسان في قمتها.          

وقد أدَّى ذلك إلى ما نشاهده من امتياز الإنسان بدرجة أكبر من حرية الاختيار، وهذه بدورها أدَّتْ إلى زيادة سيطرته على بيئته ونفسه.          

وقد ترتَّبَ على هذه الحرية شعور الإنسان بالخطأ أو الصواب، أو قدرته على التمييز بين الخطأ والصواب.

فماذا عسى أن يكون مصدر هذه السلسلة السببية؟

هل نشأت عن غير شيء؟

أم حدثت نتيجة للمُصادفة العمياء؟

إن الأخذ بهذا الرأي يُعَدُّ أشَدُّ سخافة وأكثر حُمْقَاً من القول بأن الإنسان يستطيع أن يحصل على صورة رائعة للعالم عندما يسكب زجاجة من الماء على الأرض.

وليس من العجيب أن نجد أن قانون السببية الذي يُعَدُّ أساسياً في فهم ظواهر الكون المادي، والذي يتحكّم في النباتات والحيوان، والذي يتكوَّن العقل الإنساني بمقتضاه، هو ذاته القانون الذي نستطيع أن نصل به إلى إدراك قِيَمِ القانون الأخلاقي الطبيعي القائم على المَحَبَّةِ والعدل والرَّحمة والحُقوق والمسؤوليات والجمال.

بل هو ذاته القانون الذي يوصلنا إلى إدراك وجود الله.

وبعبارة أخرى: فإن هذا القانون يوصلنا إلى قِيَم ومعانٍ ساميةٍ لا نستطيع أن نُبَيِّنَ قيمتها الحقيقية أو نُحصيها عَدَّاً، ونعتقد أن الأمل في مستقبل الإنسان يقع أولاً على الدوافع التي تقودُنا إلى امتلاك هذه الفضائل في الحياة، وهي الفضائل التي لا نستطيع لهد عَدَّاً ولا وزناً.

فإذا توافرت لدى الإنسان ضروريات الحياة، فإن السعادة الحقيقية تأتي عن طريق الأشياء التي لا يتناولها العَدُّ أو الوزن، وعن تلك المُتَعِ التي لا يحتاج الإنسان أن يندم عليها.

وقد أقنعني التفكير والتاريخ أن أهمية القِيَمِ الرُّوحية والأخلاقية بالنسبة للإنسان ترجع إلى عقيدته أو عدم عقيدته في وجود شخصية مُقدَّسَةٍ تُمَثِّلُ الكمال المُقَدَّسِ وتُوَجِّهُ سُلُوكَ الإنسان.

أو عقولنا تكشف عن وحدة الكون ونظامه وعن مبدأ السببية، ولكن هذه الأشياء وحدها لا تكونُ الدِّينَ، أو لا تكون ديناً ثابتاً إلا عندما يسمح لها بأن تؤثر في حياتنا إلىومية على أساس الحرية في اتخاذ القرارات وصِدْقِ العبودية لله والأخوة بين البشر.

فإذا كنا نريد أن تبقى الحياة على سطح الأرض محافظة على ما عُرِفَ عنها في الماضي من سُمُوٍّ، فإننا نحتاج إلى توجيه مُقَدَّسٍ.

فالأحزان والأمراض والكوارث التاريخية تُثْبِتُ لنا أن الأخلاق والحق والعدالة والرَّحمة، قد تفقد معانيها وتؤدِّي إلى حياة ذليلة خسيسة ما لم تكن متصلة بإيمانٍ عمليٍّ أو قائمةٍ على أساس (1).

ففي ظل النازية اللادينية والنزعات الإلحادية، ضاعت المواهب التي حبا اللهُ بها الإنسان وتلطّخت بالأوحال.
-----------------------------------------
(1) –(وَمَا أرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) سورة الأنبياء، آية: 107.
-----------------------------------------

إن الإنسان لا يستطيع أن يكون حُرَّاً أو أن يعيش معيشة إنسانية إلا في عالم يقوم على الأخلاق وعلى تحمُّل المسؤوليات، فالنَّاسُ متساوون وأحرار لا لشيءٍ إلا لأنهم عِبَادُ الله، أي لم تقم المساواة بينهم إلا بوصفهم خُلَفَاءَ للهِ على الأرض، فهي مساواة من وجهة نظر الله (1) والقانون الأخلاقي.          

فإذا أنكر وجود الله وأنكر القانون الأخلاقي فلا سبيل إلى إنكار الاستعباد ولا إلى محاربة المبدأ الذي يرى أن القوة هي الحق، أو إلى محاربة الجشع واستغلال البشر.

وإذا لم يكن لدى الناس قِيَمٌ داخليَّة، فأنَّى تكون لهم حرية اختيار مطلقة تنبعث عن النفس أو واجب مطلق.

إن ذلك يؤدي إلى فهم هذه القيم فهماً سطحياً وإلى إمكان استخدامها لتحقيق الأثرة والتوسع في الصالح الشخصي كاستخدام الآلة أو الرقيق في أيدي ذوي السلطان.

إن الحقوق التي أعطاها الله للإنسان لا يستطيع أن يستردَّها سواه، أمَّا الحقوق التي يعطيها الإنسان لأخيه الإنسان، أو تعطيها له إحدى المؤسسات التي صنعها البشر فليس من العسير إنكارها أو استردادها.

فإذا لم تكن حقوقنا الثابتة صادرة عن المصدر الأعظم، عن الخالق، فمن الجهل والحماقة أن نظنَّ أن للبشر حقوقاً لا يستطيع إنسان أو مؤسسة من المؤسسات التي صنعها الناس أن يتغافلها أو ينكرها، وعلى ذلك فإنه ليس للإنسان الحق في أن يدَّعي أن له قيمة داخليَّة أو كرامة أو حقوقاً أو واجبات مطلقة، أو مسؤولياتٍ إلا بوصفه مخلوقاً من مخلوقات الله.

وأعودُ فأقول: هل الأخوة بين الناس اتفاق مادي يقوم على أساس أن القوة وحدها هي التي تُحَدِّدُ سلوك الأفراد والجماعات، ام أن هذه الأخوة ترجع إلى اشتراكنا في عبودية الله؟
-----------------------------------------
(1) - يصف القرآن الكريم هذه المساواة وصفاً رائعاً في عدَّة آيات، منها:
(يَا أيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) سورة الحجرات، آية: 12.
ويقول محمد عليه الصلاة والسلام: (لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى)، (النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْط.ِ.) الخ.
-----------------------------------------

وأي المصدرين يهيئ لها بقاء أطول ودواماً أدوم؟

وهل ترجع حريتنا إلى حرية الرُّوح، حرية اتخاذ القرارات وحرية الفعل؟

أم أنها مجرَّد اتفاق له صبغة اجتماعية؟

وكيف يمكن أن يستمتع الإنسان بالحرية إذا كان ينظر إليه على أنه عَبْدٌ من عبيد الدولة؟

عندما ينعدم الاعتقاد بوجود القِيَمِ الداخليَّة وفي كرامة الفرد، تظهر الكوارث الأخلاقية وتَعُمُّ الوحشية وتجد لها مسوغات في فكرة الأجناس الرَّاقية أو الأجناس الممتازة في فكرة أن صالح الدولة هو الغاية التي ليس وراءها غاية، وفي مبدأ (الغَايَةُ تُبَرِّرُ الوَسِيلَةَ).

ولقد كان هذا هو الأسلوب الذي استخدم في نورنبرغ.

وإلا فكيف اعتبر زعماء النازيين ودكتاتوريوهم مِمَّنْ كانوا مسؤولين عن جميع التصرُّفات الوحشيَّة؟

نقول: كيف اعتبروا مذنبين فوجهت إلىهم الاتهامات وثبتت إدانتهم.

ولم يكونوا في كل ما قاموا به من هذه الأعمال المُزرية إلا منفّذين لأوامر سادتهم وقوانين النازيين ومبادئهم؟

إنهم لا يمكن أن تُوجَّه إليهم الاتهامات ويُدانُوا إلا في ظل القانون الإلهي الأبدي الذي يُطلق عليه الملحدون اسم (مبادئ الإنسانية).

ولو كانت القوانين الوضعية هي المصدر الوحيد لحقوق الإنسان فعلى أي أساس نستطيع أن نُدِينَ النازيين على اضطهادهم الأجناس كالغجر والبولنديين وأعدائهم السياسيين؟

وعلى أي أساس نستطيع أن نُدِينَ ما لقيه الوطنيون المجريون المُجاهدون من اضطهادات؟

لقد هدر النازيون حقوق غيرهم، ولم يعتبروا أنَّ للبشر حُقوقاً وأن للاضطهاد حُدوداً، فإذا كانت هنالك حقوق ثابتة للناس فمَنِ الذي يُثْبِتُ هذه الحقوق؟

وإذا لم يكن الإنسان قد خُلِقَ فكيف يستطيع أن يدَّعي أنه هو الذي خلق العزَّة والكرامة والحُقوق والواجبات وحرية الإرادة والتَّحَرُّرِ؟

سوف تجد نفسك دائماً وقد أمسكت بسلسلة من المُسببات توصلك في النهاية إلى الله، إلا إذا أبعدته قاصداً عن تفكيرك وأخرجته من دائرة اعتبارك قبل أن تصل إليه.

وإننا لنجد في الحياة الأميركية المُعاصرة كثيراً من الأدِّلَّةِ على أن الديمقراطية الأمريكية قد وهنت وزلزلت أركانها بسبب سيرها في الاتجاه المادي وابتعادها عن الأساس الدِّينِي والرُّوحِي.

 وهنالك محاولات عديدة في العالم الغربي للعمل على صيانة حُقوق الإنسان بعد نكران أصلها المُقَدَّسِ، ولكن هذه الحُقوق التي هي رصيد روحي وثمرة من ثمار الدِّينِ في العُهود الماضية، لا يمكن أن تبقى إذا اقْتُلِعَتْ جُذورُها واجْتُثّتْ من فوق الأرض، أو شُوِّهَتْ أعضاؤها وضاعت معالمها، أو لم يُعْنَ أحَدٌ بزراعتها أو غرسها.

وللاعتقاد بوجود الله مزاياه الخالدة: وهنالك ثلاثة أسباب تحملنا على الاعتقاد بأن الإيمان بالله لا يضيع أبداً.

فمن ذلك:
أولاً: أن النظام التربوي الذي يناسب كل الناس في سائر الأزمان يقوم على الإيمان.

أمَّا النظام التربوي الذي يقوم على الفلسفة الطبيعية ويستهدف الصحة والمُتعة، فإنه لا يناسب ذوي الأمراض المُزمنة التي لا تبرأ، ولا يُناسب المُشوَّهين أو المرضى الذين فقدوا الأمل في الشفاء.

والنظام التربوي الذي يقوم على الفلسفة البراغماتية لا يُناسب غير القادرين عليه وغير المُتهيئين له.

والتربية التي تقوم على الفلسفة الإنسانية لا تُناسب مَنْ لديهم استعدادات ميكانيكية.

أمَّا التعليم الذي يقوم على الإيمان وعلى الاعتبارات الدينية، فإنه يُناسب سائر البشر على اختلافهم في الكُليَّات وفي الأسواق وفي البُيوت والمُستشفيات وفي الأحياء الفقيرة والسُّجون وفي المعارك.

إن الإيمان بالله يُوَلّدُ قوة تضمن لصاحبها ألا يحيق به ضررٌ مُطلق.

إن الدِّينَ من الوجهة البيولوجية يمكن تعريفه بأنه: عبادة الإنسان لقوة عُليَا نتيجة لشعوره بحاجة في قرارة نفسه إلى هذه القوة، وإنه لَمِنَ العسير أن تكبت هذه الحاجة في معظم نفوس البشر.

ثانياً: أن الاعتقاد في وجود الله ضروري لإكمال معنى الحياة والكون.

ولاشك أن العقلاء من الناس سوف يبحثون دائماً عن هذا المعنى.

ثالثا: بصرف النظر عن الهجمات المُتكرِّرة التي تشنُّها العقول الضَّالّة المُرتبكة أو العقول المفكرة، فإن الأطفال سوف يولدون في المستقبل ما شاء لهم أن يولدوا، وسوف يخضعون في تكوين عقولهم لنفس القوانين التي خضعت لها العقول عندما تكوَّنت في الماضي ما دام هنالك تفاعل بين العقل والخبرة الحِسِّيَّة، وما دام الكَوْنُ يخضع لنفس القوانين التي خضع لها في الماضي.

وسوف يستمر العقل الناضج في استجابته لمبادئ القانون الطبيعي والتفكير السَّويِّ إلا إذا حِيلَ بينه وبين السَّيْرَ في هذا الطريق الطبيعي، بأن وضعت العوائق في سبيله أو أضل عن السبيل.

وأن عقول الغالبية العظمى من البشر قد سارت في طريقها غير منحرفة عن المبادئ الأساسية التي تقوم عليها القوانين التي تتحكم في الطبيعة وسائر وظائفها.

لقد ذهبت هذه العقول المفكرة تبحث فيما وراء الوقائع المباشرة التي يدركها الحس لعلها تعرف (السَّبب) وتكشف عن (الحقيقة).

وقد وصلت إلى الاعتقاد في وجود الله.

من أجل ذلك يحق لنا أن نستبشر خيراً.

(فَأَمَّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جفَاءً وأمَّا مَا يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (1) (الرعد: 17).

وما من بقاء إلا للأشياء المُلائمة التي ينتفع بها الناس جميعاً تحت كل الظروف وفي سائر الأزمان.

ولذلك فإن الإيمان الدِّينِي والفكرة الدِّينيَّة وما لهما من أثر على الفرد والمجتمع، قد بقيا عاليين خفّاقين على مَرِّ الأجيال سواء في الأزمنة التي ازدهرت فيها المدنية، أو في تلك التي أخنى عليها فيها الدهر.

وفوق ذلك فإن المبادئ الأساسية التي يقوم عليها التفكير السليم وتستند إليها العقيدة الرَّاسخة سوف تستمر عالية خفاقة كلما ولد طفل، فالطفل كما ذكرنا من قبل قد حباه الله الفطرة السليمة، والإخلاص، والأمل، والمحبة.
-----------------------------------------
(1) - من الأية 17 سورة الرعد: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) (قرآن كريم).
-----------------------------------------

ولعل ذلك هو الذي دعا عيسى (عليه السلام) إلى تمجيد الطفولة حيث يقول: (الأطفال هم الأمراء في مملكة الله).

ويقول: (إن الذي لا ينال ملك الله كما يناله الطفل الصغير، لا يستطيع أن يناله بطريقة أخرى).

ويقول: (إنك لن تستطيع أن تلج مملكة السماء إلا إذا تغيَّرتَ وصِرْتَ مثل الأطفال).

ويقول: (إن الإنسان لا يستطيع أن يرى مملكة الله إلا إذا وُلِدَ من جديد) (1).

وكما قال ماكس بلانك العالم الطبيعي الذي فتح الطريق إلى أسرار الذرَّة: (إن الدِّينَ والعلوم الطبيعية يقاتلان معاً في معركة مشتركة ضد الشَّكِّ والجُحُود والخُرافة، ولقد كانت الصَّيحة في هذه الحرب وسوف تكون دائماً: إلى الله).

وأحِبُّ أن أتمثّل هنا بما قاله لويس باستير الذي يُعَدُّ من صفوة الممتازين من البشر حينما قال: (إذا قيل لي أنني بما وصلت إليه من هذه النتائج قد ذهبت إلى ما وراء الوقائع المحسُوسة فإنني أقول: نعم إنني وجدت نفسي في خِضَمٍ من الأفكار التي لا يمكن دائماً إثباتها إثباتاً قاطعاً، وتلك هي طريقتي في النظر إلى الأشياء).

(فإذا كنتُ قد ذهبتُ إلى ما وراء الوقائع المحسُوسة، وإذا كنت قد وقعتُ في بعض الأخطاء، فهل لك أن تَدُلَّنِي عليها فإنني شَغُوفٌ دائماً بأن أتعلّم).
-----------------------------------------
 (1) - ويقول محمد عليه الصلاة والسلام: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ).
-----------------------------------------