الفصل الرَّابع عشر: قُوَّةُ التَّصَوُّر

دعنا نترك العِلْمَ بُرْهَةً، ونَعْمِدُ إلى التَّصَوُّر!

يُمكن الافتراض بأنَّ جميع الحيوانات ترى الحقائق والحوادث، والأشياء المَادِّيَّة، كما هي، وأنَّ رَدَّ الفِعْلِ الذِّهنِّي عندها مُبَاشِر.

ورَدُّ الفِعْلِ ماثلٌ في مُحاولتها الاستيلاء على الغذاء.

والفرَار من العدو، والاختفاء أمام الخطر، أو التماس الرَّاحة في مكانٍ مأمونٍ.

ومن المُمكن أنَّ بعض الحيوانات التي بلغت درجة عالية من التَّقَدُّمِ، كالكلاب مثلاً قد تحلم، والحلم بالطبع هو نَوْعٌ من التَّصَوُّر، خارج عن السَّيطرة عليه.

إنَّ التَّصَوُّرَ هو من أعجب كفايات الإنسان.

فهو في تَصَوُّرِهِ قد يُسافرُ على الفور إلى حيث يشاء.

والخطيب قد ينتقل بسامعيه إلى حيث يُريد.

فهو إذا وصف في تَصَوُّرِهِ جزيرة مَرجانية من جُزُرِ الهند الشرقيَّة، فإنَّه يرى بذهنه هذه الجزيرة، وسامعوه أيضاً يرون بأذهانهم سلسلة صُخُورٍ مرجانيةٍ تُحيطُ بها، ويرون الشَّاطئ المَرجاني، وتغيَّرات لون المُحيط، والسَّماء المُطلَّة عليها، والنَّخيل التي تهزُّها الرِّيح، وجزيرة في الوسط في حُلَّةٍ قشيبةٍ من نباتات المناطق الحارَّة.

وقد يَصِفُ الخطيبُ لهم أيضاً البُحَيْرَةَ الرَّائقة، وهي زرقاء مثل صفحة السَّماء، صافية كالمرآة، وإذا انتقل به الفِكْرُ إلى أبعدَ من ذلك، فقد يرى سامعوه أعماق تلك البُحيرة.

ومن هذا المَنْظَر من مناظر المناطق الاستوائيَّة، يستطيعُ الخطيبُ أنْ ينتقل بسامعيه تَوَّاً إلى نهر جليدي بألوانه الزَّرقاء والخضراء والبيضاء، وبحركته البطيئة.

ويلفتُ أنظارهم إلى الجبال التي يُغطي قِمَمَهَا الجليدُ والتي تقع خلف ذلك النَّهر وهي تسطع في أشعَّة الشَّمس بلونٍ ورديٍّ جميلٍ!

ويُمْكِنُهُ كذلك أن يُحَلِّقُ بهم إلى نَجْمٍ قَصِيٍّ حتى ليَكادُ يُسمِعُهُم تَصَادُمِ العناصر الطّائرة، أو يكادُ يُشعرهُم بفيض الضُّوء والحرارة وهو مُسْرِعٌ إلى الكُرَةِ الأرضيَّة ليُدفئها ويجيئها بالحياة، وليرى ساكنيها صُورةً بديعةً للهلال وهو يُضِيءُ من خلال خُضْرَةِ غابةٍ مُعتمَةٍ.

ويستطيعُ أنْ يُصَوِّرُ لأذهانهم، ما لا يُحِيطُ بهم فحسب، بل كذلك الصُّورَةُ التي يتخيلونها لزوجاتهم وأطفالهم في تلك اللحظة.

وهُنَا يخذلهمُ التَّصَوُّر، إذ ينتابهم النَّقصُ، وتكونُ الصُّورةُ الحقيقية غَيْرَ تلك التي تخيَّلوها..

إنَّ قوَّة التَّصَوُّرِ هذه هي للطفل مصدر سعادة.

فهو يستخدمُها في لِعْبِهِ كما يحلو له.

وما عليك إلا أنْ تَطَّلِعُ على ما يعتقده الأطفال في أنفسهم حين اللعب معاً: إنَّ الغُلامَ الذي يحمل على كَتِفِهِ بُندقيَّة من الخشب، قد يعتقدُ أنَّهُ جُنْدِيٌّ بالفعل.

والتعليمُ والتجربةُ والبيئة والمَهارةُ، كُلُّ أولاء قد تُحَيلُ الخيال الرَّائع إلى قطعةٍ فنيَّةٍ، سواءً أكانت رواية تمثيليَّة أمْ قطعة مُوسيقيَّة من نوع السِّيمفُوني، أمْ لَوْحَة رَسْمٍ أم جهازاً دقيقاً.

والأفكارُ إنَّمَا هي بناتُ التَّصَوُّرِ، فهي إذنْ أسُسُ العبقريَّة.

وأعظمُ نِتَاجِ العقل البَشَرِيِّ -مثل الاختراعات والآلات الميكانيكيَّة والرياضة العُليا- إنَّمَا هي التَّحقيق النِّهائِي لآراءٍ انبعثت عن التَّصَوُّرِ.

غير أنَّ التَّصَوُّرَ يَلْقَى دائماً عَوَائِقَ من البيئة المَادِّيَّة، فهو لذلك لا يبلُغُ إلا درجة قريبة من الصَّوابِ، حتى تُحَقِّقَهُ المُلاحظة أو التَّجربة أو الاستكشاف.

ولكن في عقولنا المَادِّيَّة نفسها، لا يُقيمُ التَّصَوُّرُ اعتباراً لِفِكْرَةِ الزَّمَنِ أو المسافة.

فهو يصل تواً إلى مَقْصَدِهِ، سواءً أكان نجماً أمْ طِفْلُكَ!

ولا مَندُوحَة لنا من أنْ نستنتج في النِّهاية، أنَّ قوَّة التَّصَوُّرِ هي جِدُّ قريبة من القوَّة الرُّوحانيَّة.

فإذا كان هناك خُلُودٌ للرُّوح، فهُناك أيضاً خُلُودٌ للتَّصَوُّرِ.

وكُلَّمَا أدرك الفلاسفة العِظَامُ ذلك العُنصر الأسْمِي في طبيعة الإنسان، ونعني نشاط الرُّوح، واجَهَتْهُمْ صِعَابٌ لا تُوَاجِهُ مَنْ هم أقلَّ منهم تفكيراً.

فهم إذا قالوا بخُلُودِ الرُّوح صَعُبَ عليهم أنْ يُحَدِّدُوا مكاناً لهذه الرُّوح الخالدة.

والشَّخص العادي يُفَكِّرُ بالطّبع في الجنَّةِ كمكانٍ، ويتصوَّر الطّرُقَ الذَّهبيَّة والأبواب المصنُوعة من اللؤلؤ.

وإذا كان مآلُ الرُّوح بعد انطلاقها هو الجنَّة، فإنَّ الإنسان بالبداهة قد يسأل: (وأين الجنَّة؟ وكم تبعُدُ عَنَّا؟).

أمَّا الفيلسُوفُ الذي له روحٌ واعيةٌ، فإنَّهُ لابُدَّ أنْ يخطر له أنَّ الجنَّة ليست (مكاناً) بالمعنى الذي يفهمه البشر، ولكنها أعجب كثيراً من أنْ تُدركها عقولنا المَحدُودَة، ومثلُ ذلكَ يُقالُ عن الخُلود واللانهائيَّة.

وفي الحقيقة قد نضطر، حيال احتياجنا إلى تجربة بشرية تهدينا.

إلى أنْ نظنَّ أنَّ الجنَّة قد تكون الفضاء نفسه!

وبالطبع قد يكرهُ كُلُّ إنسانٍ أو يخاف، فكرة كَوْنِهِ ساكناً وحيداً للفضاء.. وقد يتنبَّه العالم إلى أنَّه إذا أرادت رُوحُهُ أنْ تصل إلى نُقطةٍ في الفضاء، سواءً أكانت جزيرة مرجانيَّة أو سَدِيمَاً بعيداً، فإنَّ المسافة التي تقطعُها، قصيرة كانت أو طويلة، لابُدَّ أنْ تستغرق فترةً من الزَّمَن.

وإذا كانت الرِّحلة يمكن القيام بها على شُعاع من الضَّوء، فقد تستغرقُ ألف سَنَةٍ ضَوئيَّة للوصول إلى شَمْسٍ قريبةٍ نِسْبِيّاً.

ومِنْ ثَمَّ فإنَّ الإنسان المُقَيَّدِ تقييداً شديداً بصلاته المَادِّيَّة البشريَّة بالبوصات والأميال وسنوات الضَّوء والزَّمن، يبدو له أنَّه من غير المعقول أنْ توجد سعادته في الفضاء الأبيض الذي لا حُدُودَ لهُ، ولا في الأبديَّة المجهولة.

وهنا يأتي إيحاءَ التَّصَوُّر الذي بلغ الكمال: إنَّنَا على ظهر الأرض مرتبطون بما هو مَادِّيٍ، مُقيَّدُونَ بجميع تلك القياسات المَادِّيَّة التي أشرتُ إليها.

ولكن يجب أن نذكُر أنَّ تَصَوُّرَنَا -كما أسلفتُ القوْلَ- يتغلّب فوراً على المسافة، وينقلنا إلى كُلِّ مكانٍ، ويأتي لنا بإلهاماتٍ تُقَرِّبُ من الحقيقة وتفتح أذهاننا لضُرُوبٍ من الجمال تفُوقُ الواقع.

والوقائع التي تتولّد عن الأفكار يُمكن أنْ تُصبح حقائق مادِّيَّة يراها الغير، كما قد يحلُم المُهندس المعماري ونضربُ مثلاً على ذلك من الأهرام، أو (تاج محل) (1)، أو ناطحة سحاب حديثة.

وإذا صَحَّ أنَّ رُوحَ الإنسانِ التي أصبحت خالدةً، لا ترى إلا الحقيقة، فإنَّ الرُّوحَ لفوْرِهَا، عن طريق التَّصَوُّر الذي بَلَغَ حَدَّ الكمال، تُبْصِرُ الأشياء كما هي.

والأفكارُ هي حقائق -حقائق رُوحيَّة- خالدة، سواءً أتحقَّقت مَادِّيَّا في شكل تمثال، أمْ نطق بها كحقيقة تُحْدِثُ انقلاباً في الفِكْرِ البشري.

والعَالِمُ الجيولوجي قد يتتَّبَعُ، بتصوُّرِهِ الرَّوحاني، طبقات الأرض إلى مركزها المصهُور.

والذي يراه هو العلاقة المضبوطة التي لكل طبقةٍ بقشرة الأرض.

وقد تقعد رُوحُ الإنسان هادئة فوق شاطئ جزيرة مرجانيَّة، ويُغَنِّي لها البحرُ المُتلاطم.

ويستطيع الإنسان بتصوُّرِهِ الكامل أنْ يَرْقُبَ الغازات المُتماوجة بالشَّمس البعيدة، وقد يُجْمِلُ الزَّمَنَ فيراها ابتداءً من بدايتها السَّديميَّة، ويتتَّبَع تطوراتها حتى بردت وأصبحت غير مرئيَّة.
--------------------------------
(1) - (تاج محل):
هو الضَّريحُ الجميلُ المشهُور الذي بناه الإمبراطور المُسلم شاه جهان لزوجته بالهند.
(المُتَرْجِمُ).
--------------------------------
وإذا كانت الرُّوحُ الخالدةُ تستطيع رؤية الأشياء كما هي فإنَّها تقدرُ أنْ تكتسب جميع الحَوَاسِّ المُختلفة الرَّقيقة التي لكل الكائنات الحيَّة.

وبذا نستطيع أن ندخُل في ميادين جديدة عجيبة للمعرفة والتجربة والشعور.

وسترى أيضاً -إذا شاءت- الذَّرَّات وهي تكون نفسها جُزئيَّات، والجُزئيَّات وهي تقهرُ الجراثيم المُغِيرَة.

ورُبَّمَا تستمتعُ بموسيقى جديدة، تتولَّدُ عن اهتزازات الأثير غير المَحدُودَة وعن آلاف أجوبة النَّغم.

وهناك ألوانٌ أزهى من أنْ تتحملها عيونُ البشريَّة تنتظر تطوُّر قُدْرَتِنَا على الإحاطةِ بها.

وهُنَاكَ مَسَرَّاتٍ لا نهاية لها، ترتقبُ رُوحَ الإنسان بعد تحرُّرِهَا من الجسد!

ولستُ أدري أي مَدَى تبلُغُهُ قوَّة التَّصَوُّر إذا اكْتُسِبَتْ في الحياة الأخرى.

ولا يُمكنُ أنْ نبحث هنا القيودَ التي سوف تحمي حقِّنَا المُقَدَّسِ في العُزْلَةِ الفرديَّة.. وإنَّمَا نُعطي هنا مُجَرَّد فِكْرَة.

وكذلك لا نُحَاوِلُ أنْ نَصِفَ الجنَّة التي يتمنَّاها كُلَّ فَرْدٍ، ولَكِنَّا يُمكنُنا على الأقل أنْ نزعُمَ أنَّهُ توجدُ أجوبة عن أمثال هذه الأسئلة التي يسألُها البشر.

إنَّ الرُّوحَ الخالدةَ، التي لا يعُوقها الزَّمَنُ، قد ترى أحبَّاءِها، وقد تضمُّهُم إلى صدرها.

ولَمَّا كان تَصَوُّرِهَا الذي كان قد أصبح حقيقة روحانيَّة، فإنَّها تقدرُ أنْ ترى الحقيقة الكُبرى، أعْنِي الخَالِقَ عَزَّوَجَلَّ، والجنَّة هي حيثُ يشاءُ أنْ تكون.

فدعنا نعتقد أَّنَّ تصورنا سيبلُغ درجة الكمال، وأنَّ الصُّمَّ سوف يسمعون بالفعل أصواتاً جميلة تفُوقُ ما يحلُمُ به الإنسان.

وأنَّ البُكْمَ سوف يتكلّمُون بكل لُغَةٍ، وأنَّ العُمْيَ سوف يُبصرُونَ كُلَّ عجيبةٍ من عجائب خلق الله.

وإذ ترتفع روح الإنسان الخالدة صَوْبَ الله، كاسبة في طريقها سِعَةً من الفهم، إذ ترقى نحو المَلَكُوتِ الأسمى، فإنَّ جمال خلق الله في العالم العادي يتباعد عن النَّظر كما تضمحل قصص الطفولة من ذهن الإنسان حيث ينضج وهكذا تهبط الكُرَةُ الأرضيَّة حقاً إلى درجة التفاهة، مع تأمُّل الكَوْنِ.

وإذن في رَوْعَةِ الإدراك الرَّوحاني قد تُصبحُ المَادَّةُ مثل الظِلِّ الذي يبهتُ أمام الشَّمْسِ المُشرَقةَ،ِ وتُصبحُ كَلَا شَيْء.

وهكذا يستطيعُ الإنسانُ بكفايتهِ الرَّوحانيَّة أنْ يتصوَّرَ القُدرَةَ الإلهيَّة، ومع تطوُّر روحانيَّته سيكونُ أقْرَبَ إلى إدراك جلال الخالق وقُدرته وعظمته.