وقال أبو الفضل الزهري:
كان في مجلس جعفر الفريابي من أصحاب الحديث مَن يكتب حدود عشرة آلاف، ما بقي منهم غيري، سوى من لا يكتب.
وأملى أبو مسلم الكجي في رحبة غسان
فكان في مجلسه سبعة مستملين يبلغ كل واحد منهم صاحبه الذي يليه، وكتب الناس عنه قيامًا بأيديهم المحابر، ثم مسحت الرحبة وحسب من حضر بمحبرة، فبلغ ذلك نيفًا وأربعين ألف محبرة، سوى العطارة.
قال ابن الجوزي:
قد كانت الهمم في طلب العلم كما قد ذكرنا، ثم ما زالتْ تقلُّ الرغبات حتى اضمحلت، فحكى شيخنا أبو حفص عمر بن طفر المغازلي، قال: كنا في حلقة ابن يوسف نسمع الحديث، فطلبنا محبرة نكتب بها السماع، فما وجدنا، قال: وقد كان الخلفاء والكبراء يغبطون المحدثين على هذه المرتبة، ثم روى بإسناده عن محمد بن سلام الجمحي أنه قال: قيل للمنصور: هل من لذَّات الدنيا شيء لم تنلْه؟ قال: بقيتْ خصلةٌ، أنْ أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث، فيقول المستملي: من ذكرتَ - رحمك الله؟ قال: فغدا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر، فقال: لستم بهم، إنما هم الدنسة ثيابُهم، المتشققة أرجلُهم، الطويلة شعورُهم، برد الآفاق، ونَقَلة الحديث.
وقال يحيى بن أكثم:
قال لي الرشيد: ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين، قال: فتعرف أجلَّ مني؟ قلت: لا، قال: لكني أعرفه: رجلٌ في حلقة يقول: حدثنا فلان عن فلان، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: يا أمير المؤمنين، هذا خيرٌ منك، وأنت ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولي عهد المسلمين؟! قال: نعم، ويلك هذا خير مني؛ لأن اسمه مقترن باسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يموت أبدًا، ونحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر.
وقال المأمون:
ما طلبتْ مني نفسي شيئًا إلا وقد نالتْه، ما خلا هذا الحديث، فإني كنت أحب أن أقعد على كرسي ويقال لي: من حدثك؟ فأقول: حدثني فلان، قيل له: يا أمير المؤمنين، فلِمَ لا تحدث؟ قال: لا يصلح الملك والخلافة مع الحديث.
وقال يحيى بن أكثم:
وليت القضاء، وقضاء القضاء، والوزارة، وكذا وكذا، ما سررتُ لشيء كسروري بقول المستملين: مَنْ ذكرت - رضي الله عنك؟
بينما ابن عباس جالسٌ في مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ما كفَّ بصرُه، وحوله ناس من قريش، إذ أقبل أعرابي يخطر وعليه مطرف خز، وجبَّة وعمامة خز، حتى سلم على القوم، فردُّوا عليه السلام، فقال: أيا ابن عم رسول الله، أفتني، قال: في ماذا؟ قال: أتخاف عليَّ جناحًا إن ظلمني رجل فظلمته، وشتمني فشتمته، وقصّر بي فقصرت به؟ فقال: العفو خير، ومن انتصر فلا جناح عليه، فقال: يا ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرأيت امرأ أتاني فوعدني وغرَّني ومنَّاني، ثم أخلفني واستخف بحرمتي، أيسعني أن أهجوه؟ قال: لا يصلح الهجاء؛ لأنه لابد لك من أن تهجو غيرَه من عشيرته، فتظلم مَنْ لم يظلمْك، وتشتم مَنْ لم يشتمك، وتبغي على مَنْ لم يبغِ عليك، والبغي مرتعٌ وخيم، وفي العفو ما قد علمتَ من الفضل، قال: صدقتَ وبرِرتَ.
فلم ينشب أن أقبل عبدالرحمن بن سيحان المحاربي حليف قريش، فلما رأى الأعرابي، أجلَّه وأعظمه وألطف في مسألته، وقال: قرَّب الله دارك يا أبا مليكة، فقال ابن عباس: أجرول؟ قال: جرول، فإذا هو الحطيئة، فقال ابن عباس: لله أنت، أي مردي قذاف وذائد عن عشيرته، ومثنى بعارفه تؤتاها أنت يا أبا مليكة، والله لو كنت عركت بجنبك بعض ما كرهت من أمر الزبرقان كان خيرًا لك، ولقد ظلمت من قومه من لم يظلمك، وشتمت من لم يشتمك، قال: إني والله بهم يا أبا العباس لَعالمٌ، قال: ما أنت بأعلم بهم من غيرك، قال: بلى والله -يرحمك الله-.
ثم أنشأ يقول:
أَنَا ابْنُ بَجْدَتِهِمْ عِلْمًا وَتَجْرِبَةً
فَسَلْ بِسَعْدٍ تَجِدْنِي أَعْلَمَ النَّاسِ
سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ كَثِيرٌ إِنْ عَدَدْتَهُمُ
وَرَأْسُ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ آلُ شَمَّاسِ
وَالزِّبْرِقَانُ ذُنَابَاهُمْ وَشَرُّهُمُ
لَيْسَ الذُّنَابَى أَبَا العَبَّاسِ كَالرَّاسِ
فقال ابن عباس:
أقسمت عليك ألا تقول إلا خيرًا، قال: أفعل، ثم قال ابن عباس: يا أبا مليكة مَنْ أشعر الناس؟ قال: أمن الماضين أم من الباقين؟ قال: من الماضين؟
قال: الذي يقول:
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ
يَفِرْهُ وَمَنْ لاَ يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ
وما بدونه الذي يقول:
وَلَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أَخًا لاَ تَلُمُّهُ
عَلَى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجَالِ المُهَذَّبُ
ولكن الضراعة أفسدتْه كما أفسدت جرولاً -يعني نفسه- واللهِ يا ابن عم رسول الله، لولا الطمع والجشع لكنتُ أشعر الناس الماضين، فأما الباقون فلا تشكك أني أشعرهم وأصوبهم سهمًا إذا رميت [22].
كان أبو بكر بن الأنباري
يحفظ كل جمعة عشرة آلاف ورقة [23].
كان أبو العلاء الهمذاني
يحفظ من جملة محفوظاته كتاب "الجمهرة" [24].
محمد بن يحيى الزبيدي القرشي:
صنف كتبًا في فنون العلم تزيد على مائة تصنيف [25].
أبو النجيب السهروردي
حفظ كتاب الوسيط في التفسير للواحدي [26].
ابن حمويه اليزدي علي بن أحمد بن الحسين:
زادت مصنفاته على خمسين مصنفًا [27].
عبدالرحمن بن عبدالله بن أحمد أبو القاسم السهيلي:
استخرج "الروض الأنف" من نيف وعشرين ومائة ديوان [28].
ابن يونس موسى بن محمد بن منعة، المعروف بابن يونس الموصلي الشافعي:
أحد المتبحرين في العلوم المتنوعة، قيل: إنه كان يتقن أربعة عشر علمًا، كان يقرأ عليه الحنفيون كتبهم، وكان يقرأ عليه أهل الكتاب التوراة والإنجيل، فيقرُّون أنهم لم يسمعوا بمثل تفسيره لها، وكان الشيخ تقي الدين بن الصلاح يبالغ في الثناء عليه، فقيل له يومًا: من شيخُه؟ فقال: هذا الرجل خلقه الله عالمًا، لا يقال: على من اشتغل؟ فإنه أكبر من هذا، قال ابن خلكان: وكان يتهم في دينه؛ لكون العلوم العقلية غالبة عليه، توفي سنة 639هـ [29].
أبو عمر محمد بن عبدالواحد الزاهد، المعروف بغلام ثعلب:
أحد أئمة اللغة المشاهير المكثرين، صحب أبا العباس ثعلبًا فعُرف به، وله تصانيفُ كثيرة، وكانت تسعه روايتُه وحفظه، يكذبه أدباء زمانه في أكثر نقل اللغة، ويقولون: لو طار طائر يقول أبو عمر: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئًا كثيرًا، وكان أغلب تصانيفه من حفظه، حتى إنه أملى في اللغة ثلاثين ألف ورقة؛ فلهذا الإكثار نُسب إلى الكذب، قال الملك المؤيد صاحب حماة في تاريخه: وكان اشتغاله بالعلوم قد منعه من اكتساب الرزق، فلم يزل مضيقًا عليه، توفي سنة 345هـ.
ابن مقلة الوزير:
أحد المشاهير الكتاب، محمد بن علي بن الحسين بن عبدالله أبو علي، المعروف بابن مقلة الوزير، كان له بستان كبير جدًّا، وعليه جميعه شبكة من أبريسم، وفيه من الطيور والقمارى والهزار والطواويس شيءٌ كثير، وفيه من الغزلان وبقر الوحش وحميره والنعام والأيل شيء كثير أيضًا، ولي الوزارةَ لثلاثة من الخلفاء: المقتدر والظاهر والراضي، وبنى له دارًا، فجُمع عند بنائها خلقٌ كثير من المنجمين، فاتَّفقوا على أن تبنى في الوقت الفلاني، فأسس جدرانها بين العشاءين كما أشاروا، فما لبث بعد استتمامها إلا يسيرًا.
وقد أنشد فيه بعض الشعراء:
قُلْ لاِبْنِ مُقْلَةَ مَهْلاً لاَ تَكُنْ عَجِلاً
وَاصْبِرْ فَإِنَّكَ فِي أَضْغَاثِ أَحْلاَمِ
تَبْنِي بِأَنْقَاضِ دُورِ النَّاسِ مُجْتَهِدًا
دَارًا سَتَنْقَضُّ أيَضًا بَعْدَ أَيَّامِ
مَا زِلْتَ تَخْتَارُ سَعْدًا تَطْلُبُهُ لَهَا
فَلَمْ تُوَقَّ بِهَا مِنْ نَحْسِ بَهْرَامِ
إِنَّ القُرَانَ وَبَطْلَيْمُوسَ مَا اجْتَمَعَا
فِي حَالِ نَقْضٍ وَلاَ فِي حَالِ إِبْرَامِ
ثم عزل عن وزارته، وأحرقتْ دارُه، وانقلعت أشجاره، وقُطعت يده، ثم قُطع لسانه، وأغرم ألف ألف دينار، ثم سجن وحده، مع الكبَر والضعف والضرورة، وكان يستقي الماء بنفسه من بئر عميق يدلي الحبل بيده اليُسرى ويمسكه بفيه، وقاسى جهدًا جهيدًا، حتى مات في الحبس سنة 328هـ.
ومن نظمه وهو يبكي على يده:
إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضًا
فَإِنَّ البَعْضَ مــِنْ بَعْضٍ قَرِيبُ [30]
ابن الدهان:
ناصح الدين أبو محمد سعيد، المعروف بابن الدهان النحوي البغدادي، شارح كتاب "الإيضاح والتكملة" وكتاب "اللمع" لابن جني، وكان يفضل على أبي محمد الجواليقي وابن الخشاب الشجري المعاصرينِ له، انتقل إلى الموصل قاصدًا جناب الوزير جمال الدين الأصفهاني المعروف بالجواد، وكانت كتبه ببغداد، واستولى الغرق في تلك السنة على البلد فغرقت كتبه، وكان خلف داره مدبغة، ففاضت بالغرق إلى بيته، فتلفت كتبُه بهذا السبب زيادة على تلف الغرق، فأرسل من أحضرها له وكان قد أفنى عمره فيها، فأشاروا عليه أن يطيبها بالبخور ويصلح ما أمكنه فيها، فبخرها باللاذن ولازمها بالبخور، إلى أن بخَّرها بأكثر من ثلاثين رطلاً لاذنًا، فطلع ذلك إلى رأسه وعينيه فأحدث له العمى، توفي سنة 569هـ [31].
محمد بن الزيات:
أبو جعفر بن عبدالملك، وزير المعتصم ثم ابنه هارون الواثق، ثم لما مات الواثق أشار هو بتولية ولده، وأشار القاضي أحمد بن أبي دؤاد بتولية أخيه المتوكل، وتم أمر المتوكل فحقد ذلك عليه، مضمومًا إلى حقده عليه القديم؛ لأنه كان يغلظ عليه في حياة الواثق تقرُّبًا إليه، وكان ابن الزيات قد صنع تنورًا من حديد في أيام وزارته، وله مسامير محددة إلى داخله، يعذِّب فيه الناس، وكان يقول إذا استرحم: الرحمة خور في الطبيعة، فلما اعتقله المتوكل أدخله التنور، وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد، ومات في التنور سنة 333هـ [32].
فوجد قد كتب في التنور بفحمة:
مَنْ لَهُ عَهْدٌ بِنُو
رٍ يُرْشِدُ الصَّبَّ إِلَيْهِ
سَهِرَتْ عَيْنِي وَنَامَتْ
عَيْنُ مَنْ هُنْتُ عَلَيْهِ
رَحِمَ اللَّهُ رَحِيمًا
دَلَّ عَيْنِي عَلَيْهِ
أبو حامد الإسفرايني:
أحمد بن محمد بن أحمد، أبو حامد الإسفرايني، طبق الشيخ أبو حامد الأرض بالأصحاب، وجمع مجلسه ثلاثمائة متفقِّهٍ، واتَّفق الموافق والمخالف على تفضيله، حتى قال أبو الحسين القدوري: هو عندي أفقه أو أنظر من الشافعي، وأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة، وقام يفتي إلى ثمانين سنة، انتهتْ إليه رئاسة الدين والدنيا، حتى إنه قال للخليفة: إنك لست بقادر على عزلي من ولايتي التي أولاني الله - تعالى - إيَّاها، وأنا أقدر أن أكتب إلى خراسان بكلمتين أو ثلاثة، أعزلك عن خلافتك، وأرسل إلى مصر فاشترى أمالي الشافعي بمائة دينار.
قال السبكي في الطبقات عن سليم الرازي:
إن الشيخ أبا حامد كان يحرس في درب، وكان يطالع في زيت الحرس، ويأكل من أجرة الحرس، توفي في شوال سنة 456هـ.
محمد بن عبدالرزاق بن رزق بن أبي بكر العدل العالم شمس الدين بن محمد المحدث الرسعني الحنبلي:
كان من أعيان الشهود تحت الساعات.
ومن شعره:
وَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا يُبَلِّغُ لَوْعَتِي
وَوَجْدِي وَأَشْجَانِي إِلَى ذَلِكَ الرَّشَا
لأَسْكَنْتُهُ عَيْنِي وَلَمْ أَرْضَهَا لَهُ
وَلَوْلاَ لَهِيبُ القَلْبِ أَسْكَنْتُهُ الحَشَا
سافر إلى مصر في شهادة، ثم عاد على حمار، فسُرق حماره وما عليه في الطريق، فرجع إلى القاهرة شاكيًا فلم يحصل له مقصود، فخرج متوجهًا إلى دمشق، فأتى ليسقي فرسه بالتشريعة فغرق، ولم يظهر له خبر، توفي سنة 689هـ.