يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانهمْ إذَا ضَرَبُوا في الْأَرْض أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتلُوا ليَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلكَ حَسْرَةً في قُلُوبهمْ وَاللَّهُ يُحْيي وَيُميتُ وَاللَّهُ بمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ [١٥٦]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
والضرب في الأرض هو السعي واستنباط فضل الله في الأرض وفي سبيله لإعلاء كلمته، فالذين كفروا يرتبون الموت والقتل والعمليات التي يفارق الإنسان فيها الحياة على ماذا؟
على أنه ضرب في الأرض أو خرج ليقاتل في سبيل الله، وقالوا: لو لم يخرجوا ما حصل لهم هذا! سنرد عليهم، ونقول لهم: كأنكم لم تروا أبداً ميتاً في فراشه.
كأنكم لم تروا مقتولاً يسقط عليه جدار، أو يصول عليه جمل، أو تصيبه طلقة طائشة، هل كل من يموت أو يقتل يكون ضارباً في الأرض لشيء أو خارجاً للجهاد في سبيل الله؟
إذن فهذا حُمق في استقراء الواقع، وجاء الحق بذلك ليعطينا صورة من حكمهم على الأشياء، إنه حكم غير مبني على قواعد استقرائية حقيقية.
فإذا عرفنا أنهم كفروا نقول: هذه طبيعتهم، لأننا نجد أن حكمهم ليس صحيحاً في الأشياء الواضحة، وما دام حكمهم ليس صحيحاً أو حقيقياً في الجزئيات التي تحدث -فإذا عرفتم أنهم كفروا فهذا كلام منطقي بالنسبة لهم- فشأنهم أنهم لا يتثبتون في أحكامهم فلا عجب -إذن- أن كانوا كافرين.
{أَوْ كَانُواْ غُزًّى} [آل عمران: 156], وغُزى: جمع غازٍ، مثل: صُوّم وقُوَّم؛ يعني جمع: صائم وقائم.
{لَّوْ كَانُواْ عنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتلُواْ ليَجْعَلَ ٱللَّهُ ذٰلكَ حَسْرَةً في قُلُوبهمْ} [آل عمران: 156].
إذن فالله سبحانه وتعالى يصور لهم ما يقولونه ليعذبهم به، كيف؟
لأنهم عندما يقولون: لو كانوا عندنا لكنا منعناهم أن يخرجوا أو يُقتلوا، إذن فنحن السبب.
وهكذا نجد أنهم كلما ذكروا قتلاهم أو موتاهم يعرفون أنهم أخطوا، وهذه حسرة في قلوبهم، ولو أنهم ردوها إلى الحق الأعلى لكان في ذلك راحة لهم ولَما كانوا قد أدخلوا أنفسهم في متاهة، ويحدُث منهم هذا حتى نعرف غباءهم أيضاً؛ فهم أغبياء في كل حركاتهم وفي استقراء الأحداث الجزئية، وأغبياء في استخراج القضية الإيمانية الكلية، أغبياء في أنهم حشروا أنفسهم وأدخلوها في مسألة ليست من شأنهم، فأراد ربنا سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك حسرة عليهم.
{لَّوْ كَانُواْ عنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتلُواْ ليَجْعَلَ ٱللَّهُ ذٰلكَ حَسْرَةً في قُلُوبهمْ} [آل عمران: 156] إن القضية الإيمانية هي {وَٱللَّهُ يُحْيـي وَيُميتُ} [آل عمران: 156] أي هو الذي يَهَب الحياة وهو الذي يهب الموت، فلا الضرب في الأرض ولا الخروج في سبيل الله هو السبب في الموت، ولذلك يقول خالد بن الوليد -رضي الله عنه-: لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربةُ سيف أو طعنة رمح، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر -أي حتف أنفه- فلا نامت أعين الجبناء.
والشاعر يقول:
ألا أيهــذا الزاجري أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مُخْلدي؟
أي يا من تمنعني أن أحضر الحرب هل تضمن لي الخلود ودوام البقاء إذا أحجمت عن القتال.
ويكمل الشاعر قوله:
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بمــا ملكت يدي
ويختم الحق الآية بقوله: {وَٱللَّهُ بمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ} [آل عمران: 156] فكأنهم قد بلغوا من الغباء أنهم لم يستتروا حتى في المعصية، ولكنهم جعلوها حركة تُرى، وهذا القول هنا أقوى من "عليم"؛ لأن "عليم" تؤدي إلى أن نفهم أنهم يملكون بعضاً من حياء ويسترون الأشياء، ولكن علم الله هو الذي يفضحهم.
لا، هي صارت حركة واضحة بحيث تُبْصَر.
فجاء قوله: {وَٱللَّهُ بمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ} [آل عمران: 156].
ويقول الحق من بعد ذلك: {وَلَئنْ قُتلْتُمْ في سَبيل ٱللَّه أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفرَةٌ...}.