تفسير أعظم آية في القرآن
آية الكرسي
(سورة البقرة: 255)
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [٢٥٥]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
ونقف بالتأمل الآن عند قوله الحق: {ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ} [البقرة: 255].
إن كلمة "الله" هي عَلَمٌ على واجب الوجود.
وعندما نقول: "الله" فإن الذهن ينصرف إلى الذات الواجبة الوجود.
ما معنى "واجبة الوجود"؟
إن الوجود قسمان: قسم واجب، وقسم ممكن.
والقسم الواجب هو الضروري الذي يجب أن يكون موجوداً، والحق سبحانه وتعالى حين أعلمنا باسمه "الله" أعطانا فكرة على أن كلمة "الله" هذه يتحدى بها -سبحانه- أن يُسمَّى بها سواه.
ولو كنا جميعاً مؤمنين لكان احترامنا لهذا التحدي نابعاً من الإيمان.
ولكنْ هناك كافرون بالله ومتمردون وملحدون يقولون: "الله خرافة"، ومع ذلك هل يجرؤ واحد من هؤلاء أن يسمي نفسه "الله"؟
لم يفعل أحد هذا؛ لأن الله تحدَّى بذلك، فلم يجرؤ واحد أن يدخل في هذه التجربة.
وعدم جرأة الكفار والملاحدة في أن يدخلوا في هذه التجربة دليل على أن كفرهم غير وطيد في نفوسهم، فلو كان كفرهم صحيحاً لقالوا: سنسمي ونرى ما يحدث، ولكن هذا لم يحدث.
إذن "الله" علم واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال.
وبعد ذلك جاء بالقضية الأساسية وهي قوله تعالى: {لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ} [البقرة: 255] وهنا نجد النفي ونجد الإثبات، النفي في "لا إله"، والإثبات في "إلا هو”.
والنفي تخلية والإثبات تحلية.
خلى سبحانه نفسه من وجود الشريك له ثم أثبت لنا وحدانيته.
و"لا إله إلا هو" أي لا معبود بحق إلا الله.
ونعرف أن بعضاً من البشر في فترات الغفلة قد عبدوا أصناماً وعبدوا الكواكب.
ولكن هل كانت آلهة بحق أم بباطل؟
لقد كانت آلهة بباطل.
ودليل صدق هذه القضية التي هي "لا إله إلا الله"، أي لا معبود إلا الله أن أحداً من تلك الآلهة لم يعترض على صدق هذه القضية.
إذن فهذا الكلام هو حق وصدق.
وإن ادعى أحد غير ذلك، نقول له: إن الله قد أخبرنا أنه لا معبود بحق غيره؛ لأنه هو الذي خلق وهو الذي رزق، وقال: أنا الذي خلقت.
إن كان هذا الكلام صحيحاً فهو صادق فيه، فلا نعبد إلا هو.
وإن كان هذا الكلام غير صحيح، وأن أحداً غيره هو الذي خلق هذا الكون فأين هذا الأحد الذي خلق، ثم ترك من لم يخلق ليأخذ الكون منه ويقول: "أنا الذي خلق الكون"؟
إنه أمر من اثنين، الأمر الأول: هو أنه ليس هناك إله غيره.
فالقضية -إذن- منتهية.
والأمر الآخر: هو أنه لو كان هناك آلهة أخرى، وبعد ذلك جاء واحد وقال: "أنا الإله وليس هناك إله إلا أنا".
فأين هذه الآلهة الأخرى؟
ألم تعلم بهذه الحكاية؟
إن كانوا لم يعلموا بها، فهم لا يصلحون أن يكونوا آلهة، وإن كانوا قد علموا فلماذا لم يقولوا: لا.
نحن الآلهة، وهذا الكلام كذب؟
وكما بعث الله رسلاً بمعجزات كان عليهم أن يبعثوا رسولاً بمعجزات.
فصاحب الدعوة إذا ادّعاها ولم يوجد معارض له، تثبت الدعوى إلى أن يوجد مُنازِع.
إذن كلمة "لا إله إلا الله" معها دليل الصدق؛ لأنه إما أن يكون هذا الكلام حقاً وصدقاً فتنتهي المسألة، وإن لم يكن حقاً فأين الإله الذي خلق والذي يجب أن يُعبد بعد أن سمع من جاء ليأخذ منه هذه القضية؟ وبعد ذلك لا نسمع له حساً ولا حركة، ولا يتكلم، ولا نعلم عنه شيئاً، فما هو شأنه؟
إما أنه لم يعلم فلا يصلح أن يكون إلهاً؛ لأنه لو كان قد علم ولم يرد فليست له قوة.
ولذلك ربنا سبحانه يأتي بهذه القضية من ناحية أخرى فيقول: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء: 42-43].
فلو كان عند تلك الآلهة المزعومة مظاهر قوة لذهبوا إلى الله سبحانه وتعالى وأنكروا ألوهيته، ولو كان هناك إله غير الله لحدثت معركة بين الآلهة، ولكن هذا لم يحدث.
فالكلمة "لا إله إلا الله" صدق في ذاتها حتى عند من ينكرها، والدليل فيها هو عدم وجود المنازع لهذه الدعوى؛ لأنه إن لم يوجد منازع فقد ثبت أنه سبحانه لا إله إلا الله.
وإن وجد المنازع نقول: أين هو؟
وأضرب هذا المثل -ولله المثل الأعلى- هب أننا في اجتماع، وبعد ذلك وجدنا حافظة نقود، فعرضناها على الموجودين، فلم نجد لها صاحباً، ثم جاء واحد كان معنا وخرج، وقال: يا قوم بينما كنت أجلس معكم ضاعت حافظة نقودي.
ولما لم يدعها واحد منا لنفسه فهي إذن حافظته هو.
إذن "لا إله إلا الله" هي قضية تمتلئ بالصدق والحق، والله هو المعبود الذي يُتَوَجّه إليه بالعبادة، والعبادة هي الطاعة.
فمعنى عابد أي طائع، وكل طاعة تقتضي أمراً وتقتضي نهياً، وما دامت العبادة تقتضي أمراً وتقتضي نهياً، فلا بد أن يكون المأمور والمنهي صالحاً أن يفعل وصالحاً ألاّ يفعل.
فعندما نقول له: افعل كذا كمنهج إيمان، فهو صالح لئلا يفعل.
وعندما نقول له: لا تفعل فهو صالح لأن يفعل، وإلا لو لم يكن صالحاً ألا يفعل أيقول له "افعل"؟
لا، لا يقول له ذلك.
ولو كان صالحاً ألا يفعل أيقول له "لا تفعل"؟
إن ذلك غير ممكن.
إذن لابد أن يكون صالحاً لهذه وتلك وإلا لكان الأمر والنهي عبثاً ولا طائل من ورائهما.
لذلك عندما أرادوا أن يقصروا الإسلام في العبادات الطقسية التي هي شهادة لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، قالوا: هل هذا هو كل الإسلام، وقالوا: إنه دين يعتمد على المظاهر فقط، قلنا لهم: لا، إن الإسلام هو كل حركة في الحياة تناسب خلافة الإنسان في الأرض؛ لأن الله يقول في كتابه الكريم: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
"واستعمركم فيها" أي طلب منكم أن تعمروها، فكل حركة في الحياة تؤدي إلى عمار الأرض فهي من العبادة، فلا تأخذ العبادة على أنها صوم وصلاة فقط؛ لأن الصوم والصلاة وغيرهما هي الأركان التي ستقوم عليها حركة الحياة التي سَيُبنى عليها الإسلام، فلو جعلت الإسلام هو هذه الأركان فقط لجعلت الإسلام أساساً بدون مبنى، فهذه هي الأركان التي يُبنى عليها الإسلام، فإذن الإسلام هو كل ما يناسب خلافة الإنسان في الأرض يبيّن ذلك ويؤكده قول الله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
ويخرج إلينا أناس يقولون: نحن ليس لنا إلا أن نعبد ولا نعمل.
ونقول لأي منهم: كم تأخذ الصلاة منك في اليوم؟ ساعة مثلاً.
والزكاة كم تأخذ منك في العالم يوماً واحداً في العام؟ والصوم كم يأخذ منك من وقت؟ نهار أيام شهر واحد.
وفريضة الحج أتأخذ منك أكثر من رحلة واحدة في عمرك؟
فبالله عليك ماذا تفعل في الباقي من عمرك من بعد ذلك وهو كثير؟
إنك لا تأخذ أكثر من ساعة في اليوم للصلاة، ولا تأخذ أكثر من يوم في السنة لإخراج الزكاة، وتقضي شهراً في السنة تصوم نهاره.
وتحج مرة واحدة في عمرك، فماذا تفعل في بقية الزمان، ستأكل وتلبس، ستطلب رغيف الخبز للطعام فمن الذي سيصنعه لك؟ إن هذا الرغيف يمر بمراحل حتى يصير لقمة تأكلها.
ويحتاج إلى أكثر من علم وأكثر من حركة وأكثر من طاقة.
إن المحل الذي يبيعه فقط ولا يخبزه يحتاج إلى واجهة من زجاج أو غيره، ولابد أن يعمل فيه من يذهب بعربته إلى المخبز ليحمل الخبز، وينقله إلى المحل ويبيعه، وإذا نظرت إلى الفرن فسوف تجد مراحل عدة من تسليم وتسلم للدقيق، ثم إلى العجين، وإلى النار التي توقد بالمازوت، ويقوم بذلك عمال يحتاجون لمن يخطط لهم، وقبل ذلك كان الدقيق مجرد حبوب، وتم طحنها لتصير دقيقاً، وهناك مهندسون يديرون الماكينات التي تطحن، ويعملون على صيانتها، وبعد ذلك الأرض التي نبت فيها القمح وكيف تم حرثها، وتهيئتها للزراعة، وريها، وتسميدها، وزرعها، وحصدها، وكيف دُرِسَ القشر والسنابل، وكيف تتم تذريته من بعد ذلك، لفصل الحبوب عن التبن، وتعبئة الحبوب، إلى غير ذلك؟ انظر كم من الجهد أخذ رغيف الخبز الذي تأكله، وكم من الطاقات وكم رجالٍ للعمل، فكيف تستسيغ لنفسك أن يصنعوه لك، وأنت فقط جالس لتصلي وتصوم؟
لا، إياك أن تأخذ عمل غيرك دون جهد منك.
مثال آخر، أنت تلبس جلباباً، كم أخذ هذا الجلباب من غزل ونسج وخيط؟ إذن فلا تقعد، وتنتفع بحركة المتحرك في الحياة، وتقول: أنا مخلوق للعبادة فقط، فليست هذه هي العبادة، ولكن العبادة هي أن تطيع الله في كل ما أمر، وأن تنتهي عن كل ما نهى في إطار قوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَ [هود: 61] إن كل عمل يعتبر عبادة، وإلا ستكون "تنبلاً" في الوجود.
والإيمان الحق يقتضي منك أن تنتفع بعملك ولا تعتمد على عمل غيرك.
إن الحق سبحانه وتعالى قد استخلفنا في الأرض من أجل أن نعمرها.
ومن حسن العبادة أن نتقن كل عمل وبذلك لا نقيم أركان الإسلام فقط، ولكن نقيم الأركان والبنيان معاً.
ونكون قد أدينا مسئولية الإيمان، وطابق كل فعل من أفعالنا قولنا: "لا إله إلا الله”.
ولقد عرفنا أن كلمة "الله" هي علَم على واجب الوجود، وهي الاسم الذي اختاره الله لنفسه وأعلمنا به، ولله أسماء كثيرة كما روى في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأل الله بكم اسم هو له أنزله في كتابه أو علمه أحداً من خلقه -أي خصّه به- أو استأثر به في علم الغيب عنده، فلا تظنن أن أسماء الله هي كلها هذه الأسماء التي نعرفها، ولكن هذه الأسماء هي التي أذن الله سبحانه وتعالى بأن نعلمها. ومن الجائز، أو من لفظ الحديث نعلم أن الله قد يُعلّم بعضاً من خلقه أسماء له، ويستأثر لنفسه بأسماء سنعرفها يوم القيامة حين نلقاه، وحين نتكلم عن الأسماء الأخرى نجد أنها ملحوظ فيها الصفة، ولكنها صارت أسماء لأنها الصفة الغالبة، فإذا قيل: "قادر" نجد أننا نستخدم هذه الكلمة لوصف واحد من البشر، ولكن "القادر" إذا أطلق انصرف إلى القادر الأعلى وهو الله. وكذلك "السميع"، و"البصير”.و"العليم". إننا نجد أن بعضاً من أسماء الله سبحانه وتعالى له مقابل، ومن أسماء الله الحسنى ما لا تجد له مقابلاً.
فإذا قيل "المحيي" تجد "المميت" و"المعز" تجد "المذل"، لأنها صفة يظهر أثرها في الغير، فهو مميت لغيره، ومعزّ لغيره، ومذل لغيره، لكن الصفة إن لم يوجد لها مقابل نسميها صفة ذات، فهو "حي" ولا نأتي بالمقابل إنما "مُحيي" نأتي بالمقابل وهو "المميت"، فهذه اسمها صفة فعل.
فصفات الفعل يتصف بها وبمقابلها لأنها في الغير.
لكن صفة الذات لا يتصف إلا بها.
وحينما قال الحق: "الله" فهو سبحانه يريد أن يعطينا بعض تجليات الله في أسمائه، فقال: "الله لا إله إلا هو" ليحقق لنا صفة التوحيد، ويجب أن نعلم أن "إلا" هنا ليست أداة استثناء، لأنها لو كانت أداة استثناء فكأنك تنفي أن توجد آلهة ويكون الله من ضمن هذه الآلهة التي نفيتها وذلك غير صحيح وإنما المراد أنه لا آلهة أبداً غير الله فهو واحد لا شريك له، وأنه لا معبود بحق إلا هو فكلمة "إلاّ" ليست للاستثناء وإنما هي بمعنى غير، أي لا إله غير الله.
وقد عرفنا أن هذه القضية معها دليلها، وإلا فلو كان هناك إله آخر لقال لنا: إنه موجود.
لكن لا إله إلا هو سبحانه أبلغنا "الله لا إله إلا هو”.
وأعجبني ما قاله الدكتور عبد الوهاب عزام -رحمة الله عليه- وكان متأثراً بالشاعر الباكستاني "إقبال"، كان للشاعر إقبال شيء اسمه "المثاني"، أي أن يقول بيتين من الشعر في معنى، وبيتين من الشعر في معنى، وكان يغلب على شعر إقبال الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي، وقد تأثر الدكتور عبد الوهاب عزام بشعر إقبال فجعل له مثاني أيضاً يناظر فيها "إقبال".
فيقول:
إنمـا التـوحـيـد إيجـاب وسـلـب وفيـهـما للنفـس عـزم ومضـاء
وقوله: "إنما التوحيد إيجاب وسلب" هو قول متأثر بالقضية الكهربية.
فيقول: إنما التوحيد إيجاب وسلب فيهما للنفس عزم ومضاء.
فأنت عندما تقول "لا إله"، فـ"لا" للنفي، وعندما تكمل قولك: "إلا الله" فـ"إلا" للإثبات، ويكمل الدكتور عزام قوله: لا وإلا قوة قاهرة.
فهما في القلب قطبا الكهرباء كأن الكهرباء تأتي بأنك تسلب وتوجب.
فالإيجاب في "إلا" والسلب في "لا”.
وما دام فيه إيجاب وسلب، إذن ففيه شرارة كهرباء.
{ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، و"الحيّ" هو أول صفة يجب أن تكون لذلك الإله، لأن القدرة بعد الحياة، والعلم بعد الحياة.
فكل صفة لابد أن تأتي بعدها في الذكر وإلا فليست صفة من صفات الله أسبق من صفة ولا متقدمة عليها فكلها قديمة لا أول لها، فلو كان عدماً فكيف تأتي الصفات على العدم؟.
وكلمة "حيّ" عندما نسمعها نقول: ما هو الحيّ؟.
إن الفلاسفة قد احتاروا في تفسيرها.
فمنهم من قال: الحيّ هو الذي يكون على صفة تجعله مُدْرِكاً إن وُجِدَ ما يُدْرَكْ.
كأن الفيلسوف الذي قال ذلك: يعني بالحياة حياتنا نحن، وما دوننا كأنه ليس في إدراك.
ونقول لصاحب هذا الرأي: لا، إن أردت الحياة بالمعنى الواسع الدقيق فلابد أن تقول: الحياة هي أن يكون الشيء على الصفة التي تبقى صلاحيته لمهمته، هذا هو ما يجب أن يكون عليه التعريف، فـ "الحيّ": هو الذي يكون على صفة تُبقي له صلاحيته لمهمته، مثال ذلك النبات، ما دمت تجده ينمو، إذن ففيه حياة تُبقى له صلاحية مهمته.
فلو قُطعَ لانتهت الصلاحية.
ومثل الإنسان عندما يموت تنتهي صلاحيته لمهمته، والعناصر الجامدة عندما تأتي مع بعضها تتفاعل، هذا التفاعل فرع وجود الحياة، لكنها حياة مناسبة لها وليست مثل حياتنا.
أنت مثلاً ترى "الزلط" الناعم الأملس، تجده على مقدار واحد؟
لا، إن أشكاله مختلفة، وهذا دليل على أن هناك مراحل للحجر الواحد منها، ولو استمرت تلك الأحجار في بيئتها الطبيعية فلا شك أن هذه الكبيرة تتفتت يوماً وتصير صغيرة ثم تكبر مرة أخرى، لكن الإنسان حين يستخدم هذه الحجارة ليضعها على سبيل المثال بين القضبان التي تسير عليها القطارات فهذه الأحجار تكون قد خرجت من بيئتها.
ومن حكمة الله أنه لا يوجد شيء تنتهي جدواه أبداً، بل هو سبحانه يهيئ لكل شيء مهمة أخرى.
إذن فكل كائن يكون على صفة تُبقي له صلاحيته لمهمة، وتكون له حياة مناسبة لتلك المهمة.
نحن لا نأتي بهذا الكلام من عندنا، ولكننا نأتي بهذا الكلام لأننا نقرأ القرآن بإمعان وتدبر، ونقول: ماذا يقابل الحياة في القرآن؟
إنه الهلاك بدليل أن الله قال: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
إذن فالحياة مقابلة للهلاك.
و"الحيّ" غير هالك.
والهالك لا يكون حياً، ويقولتعالى في الآخرة: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88].
ومعنى ذلك أن كل الأجناس من أعلاها إلى أدناها، سواء الإنسان، أو الملائكة، أو الحيوان أو النبات، كلها ستكون هالكة، وما دام كل شيء سيهلك يوم القيامة فكأنه لم يكن هالكاً قبل ذلك، وله حياة مناسبة له.
أليست الحجارة شيئاً، وستدخل في الهلاك يوم القيامة؟.
إذن فهي قبل ذلك غير هالكة.
لكننا نحن البشر لا نفطن إلى ذلك ونفهم الحياة فقط على أنها الحس والحركة الظاهرة.
مع أن العلماء قد أثبتوا أنه حتى الذرة فيها دوران، ولها حياة.
وأنت عندما تنظر بالمجهر على ورقة من النبات، وترى ما بها من خضر وخلايا، وتشاهد العمليات التي تحدث بها، وتقول: هذه حياة أرقى من حياتنا، وأدق منها.
إذن فكل شيء له حياة، وإياك أن تظن أنك أنت الذي تهلكها، فعندما تأتي بحجر وتدقه أو تضعه في الفرن لتصنع الجير؛ إياك أن تقول: إنك أذهبت من الأحجار الحياة المناسبة لها، أنت فقط قد حولت مهمتها من حجر صلب، وصارت لها مهمة أخرى، فالمسائل تتسلسل إلى أن يصير لكل شيء في الوجود حياة تناسب المهمة التي يصلح لها.
وانظر إلى مهمة الحق، ما شكلها؟
إنها الحياة العليا، وهو الحي الأعلى وحي لا تُسلب منه الحياة، لأن أحدا لم يعطه الحياة، بل حياته سبحانه ذاتية، فهذا هو الحي على إطلاقه.
إذن فالحي على إطلاقه هو الله والحق سبحانه وتعالى قال: {ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ} [البقرة: 255] وأثر صفة هذه موجود في كل الصفات الأخرى فقال: "القيوم”.
والقيوم هو صفة مبالغة في قائم.
ومثلها قولنا: "الله غفور" لكن ألا يوجد غافر؟ يوجد غافر، لكن "غفور" هي صفة مبالغة.
وقد يقول قائل: هل صفات الله فيها صفة قوية وأخرى ضعيفة؟.
نقول: لا، فصفات الله لا يصح أن توصف بالضعف أو بالقوة، صفات الله نظام واحد.
وحتى نفهم ذلك لنضرب هذا المثل -ولله المثل الأعلى- نحن نقول: كلنا نأكل كي نستبقي حياتنا، فكل واحد منا "آكل"، لكن عندما نقول: فلان أكول، فمعنى ذلك أنه أخذ صفة الأكل التي كلنا شركة فيها وزاد فيها فنقول عليه: "أكّال" أو "أكول”.
من أي ناحية تأتي هذه الزيادة؟ قد تأتي الزيادة من أنك تأكل في العادة رغيفاً وهو يأكل رغيفين أو ثلاثة، إذن فالحدث له في الأكل أثر كبير، فنقول عليه: أكول.
وقد يأكل معك رغيفاً في الوجبة الواحدة، لكنه يأكل خمس وجبات بدلاً من ثلاث وجبات؛ فيكون أيضاً أكولاً، إذن فـ"أكول" إما مبالغة في الحدث نفسه وإما بتكرار الحدث.
ونحن ننظر إلى صفات الله ونقول: إنها لا تحتمل القوة والضعف في ذات الحدث، إنما في تكرارها بالنسبة للمخلوقين جميعاً، فالله غافر لهذا، وغافر لذاك، وغافر لكل عاص يتوب، إذن فالحدث يتكرر، فيكون "غفوراً" و"غفَّاراً”.
وهذا ما يحل لنا الإشكال في كثير من الأمور، فعندما يقول سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
فنحن هنا نجد قضية لغوية تقول: إنك إذا جئت بصيغة المبالغة، وأثبتها، تكون الصيغة الأخرى الأقل منها ثابتة بالضرورة، مثال ذلك عندما نقول: فلان "علاَّم" أو "عالم"، فما دمت أثبت له الصفة القوية؛ تكون الصفة الضعيفة موجودة، لكن إذا نفيت الصفة المبالغ فيها قد تكون الصفة الأخرى موجودة، فهو ليس "علامة" لكنه قد يكون "علاماً" أو عالماً"، فإذا قلت: فلان "علامة" فقد أثبت له الأدنى أيضاً، فيكون "علاَّما" أو "عالماً”.لكن إذا نفيت عنه "علامة" انتفى عنه الباقي؟
لا، إذن فنفي الأكثر لا ينفي الأقل.
لكن إذا أثبت الأكثر ثبت الأقل، وإذا نفيت الأكثر فلن ينتفي الأقل، فإذا قلت: الله ليس بظلام للعبيد، نفيت الأكثر.
صحيح أنه غير مبالغ في الظلم، فهل يمكن أن يكون ظالماً؟
على حسب ما قلنا: إذا نفينا الأكثر لا ينتفي الأقل نقول: لا، لأننا هنا يجب أن نأخذ القضية الأولى في أن المبالغة في الحدث والمبالغة في الفعل تأتي مرة في ذات الحدث، ومرة في تكرار الحدث؛ فيكون -معاذ الله- ظلاَّماً، ولذلك لم يقل: بظلاّم للعبد، بل قال: بظلاّم للعبيد.
إذن فهذا العبد يحتاج ظالماً، والعبد الآخر يحتاج ظالماً، وذاك يحتاج ظالماً!
فعندما يظلم كل هؤلاء يكون ظلاماً، ولذلك نفاها سبحانه وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
والحق هنا يقول: "قيوم" وهذه صفة مبالغة من قائم، فالأصل فيها: القائم على أمر بيته، والقائم على أمر رعيته، والقائم على أمر المدرسة، والقائم على أمر هذه الإدارة، ومعنى قائم على أمرها: أنه متولي شئونها، فكأن القيام هو مظهر الإشراف.
فنحن لا نقول: "قاعد على إدارتها”.وعندما نقول" قيوم" فمعناها أنه أوسع في القيام.
كيف جاء هذا الاتساع؟.
لأن القائم قد يكون قائماً بغيره، لكن حين يكون قائماً بذاته، وغيره يستمد قيامه منه، فهو قائم على كل نفس وهو سبحانه القائل: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33].
إن المشركين قد بلغو السفه في جحودهم فجعلوا لله شركاء في العبادة، فهل يستطيع أحد أن يبلغ تلك المرتبة العالية، مرتبة خلق العالم والقيام على كل أمر فيه، صغر أو كبر؟.
إنه الحافظ المراقب لكل نفس، العالم بكل ما خفي وظهر، وهذه الأوثان لا تضر ولا تنفع، فكيف تتوهمون يا مَنْ أشركتم بالله له نداً، إن الحق مُنزه عن ذلك بقيامه على كل نفس وكل الخلق.
لكن أهل الضلال أغواهم ضلالهم فلم يعد لهم هاد بعد الله.
إن الحق سبحانه قائم بذاته، وقائم على غيره.
والغير إن كان قائماً إنما يستمد منه القيام.
فلابد أن يكون "قيوماً"، ومن قيومته أنه{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وقيل في كتب العلم: إن قوم بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام: أينام ربنا؟.
فأوحى الله إليه: أن آت بزجاجتين وضعهما في يد إنسان، ودعه إلى أن ينام، ثم انظر الجواب.
فلما وضع في يده الزجاجتين ونام.
انكسرت الزجاجتان فقال: هو كذلك، هو قائم على أمر السماء والأرض، ولو كانت تأخذه سِنَة أو نوم لتحطمت الدنيا.
وهو سبحانه{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255].
و"السنة" هي أول ما يأتي من النعاس؛ أي النوم الخفيف، فالواحد منا يكون جالساً ثم يغفو، لكن النوم هو "السُباتْ العميق"، فلما قال: "لا تأخذه سنة" قالوا: إنه يتغلب على النوم الخفيف لكن؛ هل يقدر على مقاومة النوم العميق؟.
فقال الحق عن نفسه: "لا تأخذه سنة ولا نوم”.وعرفنا أن السنة هي: النعاس الذي يأتي في أول النوم، ومظهرها يبدو أولاً في العين وفي الجفن، فعندما يذهب إنسان في النوم؛ فإن أثر ذلك يظهر في عينيه، ولذلك يقولون: إن العين هي الجارحة التي يمكن أن تعرف بها أحوال الإنسان، وقد اكتشفوا في عصرنا الحديث أن الشرايين لا يمكن أن يعرفوا حالتها بالضبط إلا من العين.
فالفتور الذي يأتي في العين أولاً هو السنة أو مقدمات النوم ونسميه: النعاس.
{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] أتريدون تطميناً من إله لمألوه، ومن معبود لعابد، ومن خالق لمخلوق أكثر من أنه يقول للعابد المخلوق: "نم أنت ملء جفونك، واسترح؛ لأن ربك لا ينام”.
ماذا تريد أكثر من هذا؟
هو سبحانه يعلم أنه خلقك، وأنك تحتاج إلى النوم، وأثناء نومك فهناك أجهزة في جسمك تعمل.
أإذا نمت وقف قلبك؟
أإذا نمت انقطع نفسك؟
أإذا نمت وقفت معدتك من حركتها الدودية التي تهضم؟
أإذا نمت توقفت أمعاؤك عن امتصاص المادة الغذائية؟
لا، بل كل شيء في دولابك يقوم بعمله.
فمَنْ الذي يُشرف على هذه العمليات لو كان ربك نائما؟
إذن فأنت تنام وهو لا ينام.
وبالله هل هذه عبودية تُذلُّنا أو تُعزُّنا؟
إنها عبودية تُعزنا؛ فالذي نعبده يقول: ناموا أنتم؛ لأنني لا تأخذني سنة ولا نوم.