فأنشأ يقول
( زعموا بأن الصقر صادف مرة ... عصفور بر ساقه التقدير )
( فتكلم العصفور تحت جناحه ... والصقر منقض عليه يطير )
( إني لمثلك لا أتمم لقمة ... ولئن شويت فإنني لحقير )
( فتهاون الصقر المدل بصيده ... كرما وأفلت ذلك العصفور )
قال فعفا عنه وخلى سبيله.
قال الشاعر
( أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزهم ... عنه فإن جحود الذنب ذنبان )
وقال بعضهم
( العفو الفتى إذا اعترف ... وتاب عما قد جناه واقترف )
( لقوله قل للذين كفروا ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف )
وقال آخر
( إذا ذكرت أياديك التي سلفت ... مع قبح فعلي وذلاني ومجترمي )
( أكاد أقتل نفسي ثم يدركني ... علمي بأنك مجبول على الكرم )
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى سكران فأراد أن يأخذه ليعزره فشتمه السكران فرجع عنه فقيل له يا أمير المؤمنين لما شتمك تركته قال إنما تركته لأنه أغضبني فلو عزرته لكنت قد انتصرت لنفسي فلا أحب أن أضرب مسلما لحمية نفسي وغضب المنصور على رجل من الكتاب فأمر بضرب عنقه...
فأنشأ يقول
( وإنا الكاتبونا وإن أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا )
فعفا عنه وخلى سبيله وأكرمه وقال الرشيد لأعرابي بم بلغ فيكم هشام بن عروة هذه المنزلة قال بحلمه عن سفيهنا وعفوه عن مسيئنا وحمله عن ضعيفنا لا منان إذا وهب ولا حقود إذا غضب رحب الجنان سمح البنان ماضي اللسان قال فأومأ الرشيد إلى كلب صيد كان بين يديه وقال والله لو كانت هذه في هذا الكلب لاستحق بها السؤدد وقيل لمعن بن زائدة المؤاخذة بالذنب من السؤدد قال لا ولكن أحسن ما يكون الصفح عمن عظم جرمه وقل شفعاؤه ولم يجد ناصرا.
وقال محمود الوراق
( سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ... وإن عظمت منه علي الجرائم )
( فما الناس إلا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثل مقاوم )
( فأما الذي فوقي فاعرف قدره ... وأتبع فيه الحق والحق لازم )
( وأما الذي دوني فان قال صنت عن ... إجابته نفسي وإن لام لائم )
( وأما الذي مثلي فان زل أو هفا ... تفضلت إن الحر بالفضل حاكم )
وقال الأحنف بن قيس لابنه يا بنى إذا أردت أن تؤاخي رجلا فاغضبه فإن أنصفك وإلا فاحذره
قال الشاعر
( إذا كنت مختصا لنفسك صاحبا ... فمن قبل أن تلقاه بالود أغضبه )
( فان كان في حال القطيعة منصفا ... وإلا فقد جربته فتجنبه )
ومن أمثال العرب إحلم تسد قال الشاعر
( لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا ... حتى يدلوا وإن عزوا لأقوام )
( ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا صفح ذل ولكن صفح اكرام
وقال آخر
( وجهل رددناه بفضل حلومنا ... ولو أننا شئنا رددناه بالجهل )
وقال الأحنف إياكم ورأي الأوغاد قالوا وما رأي الأوغاد قال الذين يرون الصفح والعفو عارا وقال رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لأسبنك سبا يدخل معك قبرك فقال معك والله يدخل لا معي وقيل إن الأحنف سبه رجل وهو يماشيه في الطريق فلما قرب من المنزل وقف الأحنف وقال له يا هذا إن كان قد بقي معك شيء فهات وقله ههنا فإني أخاف أن يسمعك فتيان الحي فيؤذوك ونحن لا نحب الانتصار لأنفسنا وقال لقمان لابنه يا بني ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة لا يعرف الحليم إلا عند الغضب ولا الشجاع إلا عند الحرب ولا أخوك إلا عند الحاجة إليه
ومن أشعر بيت قيل في الحلم قول كعب بن زهير
( إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل )
وقال آخر
( وإذا بغى باغ عليك بجهله ... فاقتله بالمعروف لا بالمنكر )
وقال آخر
( قل ما بدا لك من صدق ومن كذب حلمي أصم وأذني غير صماء )
ويروى في بعض الأخبار أن ملكا من الملوك أمر أن يصنع له طعام وأحضر قوما من خاصته فلما مد السماط أقبل الخادم وعلى كفه صحن فيه طعام فلما قرب من الملك أدركته الهيبة فعثر فوقع من مرق الصحن شيء يسير على طرف ثوب الملك فأمر بضرب عنقه فلما رأى الخادم العزيمة على ذلك عمد بالصحن فصب جميع ما كان فيه على رأس الملك فقال له ويحك ما هذا فقال أيها الملك إنما صنعت هذا شحا على عرضك لئلا يقول الناس إذا سمعوا ذنبى الذي به تقتلني قتله في ذنب خفيف لم يضره وأخطأ فيه العبد ولم يقصده فتنسب إلى الظلم والجور فصنعت هذا الذنب العظيم لتعذر في قتلي وترفع عنك الملامة قال فأطرق الملك مليا ثم رفع رأسه إليه وقال يا قبيح الفعل يا حسن الاعتذار قد وهبنا قبيح فعلك وعظيم ذنبك لحسن اعتذارك اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى
وحكى عن أمير المؤمنين المأمون وهو المشهود له بالاتفاق على علمه والمشهور في الآفاق بعفوه وحلمه انه لما خرج عمه ابراهيم المهدي عليه وبايعه العباسيون بالخلافة ببغداد وخلعوا المأمون وكان المأمون إذ ذاك بخراسان فلما بلغه الخبر قصد العراق فلما بلغ بغداد اختفى ابراهيم ابن المهدي وعاد العباسيون وغيرهم إلى طاعة المأمون ولم يزل المأمون متطلبا لابراهيم حتى أخذه وهو متنقب مع نسوة فحبس ثم أحضر حتى وقف بين يدي المأمون فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فقال المأمون لاسلم الله عليك ولا قرب دارك استغواك الشيطان حتى حدثتك نفسك بما تنقطع دونه الأوهام فقال له ابراهيم مهلا يا أميرالمؤمنين فان ولي الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى ولك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شرف القرابة وعدل السياسة وقد جعلك الله فوق كل ذي ناب كما جعل كل ذي ذنب دونك فان أخذت فبحقك وان عفوت فبفضلك والفضل أولى بك يا أمير المؤمنين...
ثم قال هذه الأبيات
( ذنبي اليك عظيم ... وأنت أعظم منه )
( فخذ بحقك أو لا ... فاصفح بعفوك عنه )
( إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه )
فلما سمع المأمون كلامه وشعره ظهرت الدموع في عينيه وقال يا إبراهيم الندم توبة وعفو الله تعالى أعظم مما تحاول وأكثر مما تأمل ولقد حبب إلي العفو حتى خفت أن لا أوجر عليه لا تثريب عليك اليوم ثم أمر بفك قيوده وادخاله الحمام وازالة شعثه وخلع عليه ورد أمواله جميعها اليه...
فقال فيه مخاطباً
( رددت مالي ولم تبخل علي به ... وقبل ردك مالي قد حقنت دمي )
( فان جحدتك ما أوليت من كرم ... أني لباللؤم أولى منك بالكرم )
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج يأمره أن يبعث إليه برأس عباد بن أسلم البكري فقال له عباد أيها الأمير أنشدك الله لا تقتلني فوالله اني لأعول أربعا وعشرين امرأة ما لهن كاسب غيري فرق لهن واستحضرهن وإذا واحدة منهن كالبدر فقال لها الحجاج ما أنت منه قالت أنا بنته فاسمع يا حجاج مني ما أقول...