“إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ “:
أي: قال أحد الخَصْمين لداود: إن هذا أخي له تسع وتسعون شاة أنثى من الضأن، ولي شاة واحدة، لا أملك غيرها، فقال لي أخي: أعطني شاتَكَ وضُمَّها إليَّ لأتملكها وتكمل عدد نعاجي مائة، وظلمني أخي في مخاطبته إيَّاي، وغلبني وقهرني حين رأى مني تمنُّعًا ليأخذ نعجتي من غير طيب نفسٍ مني!
يُنظر: ((الفصل))؛ لابن حزم (4/ 14)، و((تفسير أبي حيان)) (9/ 149)، و((إعلام الموقعين))؛ لابن القيم (3/ 169)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 60)، و((تفسير النيسابوري)) (5/ 588)، و((تفسير ابن عجيبة)) (5/ 17)، و((تفسير القاسمي)) (8/ 247)، و((تفسير المراغي)) (23/ 109)، و((تفسير السعدي)) (ص: 711)، و((تفسير ابن عاشور)) (23/ 235)، و((التفسير المنير))؛ للزحيلي (23/ 186).
قال أبو حيان:
"الظاهر إبقاء لفظ النعجة على حقيقتها من كونها أنثى الضَّأْن، ولا يُكنَّى بها عن المرأة، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك؛ لأن ذلك الإخبار كان صادرًا من الملائكة على سبيل التصوير للمسألة والفرض لها، من غير تلبُّس بشيء منها، فمثَّلُوا بقصة رجل له نعجة، ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمَّة المائة، فطمع في نعجة خليطه، وأراد انتزاعها منه، وحاجَّه في ذلك مُحاجَّة حريصٍ على بلوغ مُراده"؛ ((تفسير أبي حيان)) (9/ 149).
وقد ذهب أكثر المفسرين -ومنهم ابن جرير والواحدي والزمخشري والقرطبي والشوكاني- إلى أن المراد بالنعجة هنا المرأة، والمعنى: ولي امرأة واحدة، فقال لي أخي: انزل عنها لي وضُمَّها إليَّ حتى أكفُلَها، وأصيرُ بَعْلًا لها، وذكروا أن هذا مَثَلٌ ضربَه الخَصْم لداود؛ لأن داود -كما قيل- كان له تسع وتسعون امرأة، فرغب أن يتزوَّج امرأة رجل من قومه.
يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 53، 59)، و((الوسيط)) للواحدي (3/ 547)، و((تفسير الزمخشري)) (4/ 83)، و((تفسير القرطبي)) (15/ 174)، و((تفسير الشوكاني)) (4/ 489).
وقال البغوي:
"قال الحسين بن الفضل: هذا تعريض للتنبيه والتفهيم؛ لأنه لم يكن هناك نِعاجٌ ولا بَغْيٌ، فهو كقولهم: ضرب زيدٌ عَمْرًا، أو اشترى بكرٌ دارًا، ولا ضَرْب هُنالك ولا شِراء"؛ ((تفسير البغوي)) (4/ 60).
وقال ابن القيم:
"تخريج هذا الكلام على المعاريض لا يكاد يتأتَّى؛ وإنما وجهه أنه كلام خرج على ضرب المثال؛ أي: إذا كان كذلك فكيف الحُكْم بيننا؟ ونظير هذا قول الملك للثلاثة الذين أراد الله أن يبتليهم: (مسكين وغريب وعابر سبيل، وقد تقطعت بي الحبال، ولا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأسألك بالذي أعطاك هذا المال بعيرًا أتبلَّغُ به في سفري هذا)، وهذا ليس بتعريض؛ وإنما هو تصريح على وجه ضرب المثال، وإيهام أني أنا صاحب هذه القضية، كما أوهم الملكان داودَ أنهما صاحبا القصة؛ ليتمَّ الامتحان"؛ ((إعلام الموقعين)) (3/ 169).
فائدة:
قال ابن عاشور: "ليس في قول الخَصْمين: “هَذَا أَخِي“ ولا في فرضهما الخصومة التي هي غير واقعة ارتكاب الكذب؛ لأن هذا من الأخبار المخالفة للواقع التي لا يريد المخبِر بها أن يظُنَّ المخْبَر (بالفتح) وقوعَها إلَّا ريثما يحصُل الغرض من العِبْرة بها، ثم ينكشف له باطنُها فيعلم أنها لم تقع، وما يجري في خلالها من الأوصاف والنسب غير الواقعة؛ فإنما هو على سبيل الفرض والتقدير، وعلى نية المشابهة"؛ ((تفسير ابن عاشور)) (23/ 238).
“قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ “:
أي: قال داود للخَصْم المتظلِّم من صاحبه: لقد ظلمك أخوك بسؤاله إيَّاكَ أن تُعطيَه نعجتَكَ الوحيدة ليضُمَّها إلى نِعاجه الكثيرة.
وإن عادة أكثر الشركاء في الأموال أن يتعدَّى بعضُهم على بعض بالظلم، إلا الذين آمنوا بالله وعملوا الطاعات ولم يتجاوزوا أمر الله ونهيه، وقليل الصالحون الذين لا يظلمون أحدًا.
وعلم داود بعد قضائه بين الخَصْمين أنما ابتليناه وامتحنَّاه ليتنبَّه، فطلب من ربِّه أن يغفرَ له ذنبه، وسقط ساجدًا، ورجع إلى الله تائبًا.
يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/ 641)، و((تفسير ابن جرير)) (20/ 62 - 64)، و((تفسير السمعاني)) (4/ 436)، و((تفسير القرطبي)) (15/ 179، 182، 183)، و((مجموع الفتاوى))؛ لابن تيمية (13/ 342)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 60)، و((تفسير النيسابوري)) (5/ 589)، و((تفسير الألوسي)) (12/ 174)، و((تفسير السعدي)) (ص: 711)، و((تفسير ابن عاشور)) (23/ 235، 236).
آية وأحاديث تتعلق بتفسير الآية:
قال تعالى: “اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ“ وعن أبي سعيد الخُدْري -رضي الله عنه- قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ص، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشَزَّنَ الناس للسجود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما هي توبةُ نبيٍّ؛ ولكني رأيتُكم تشزَّنْتُم للسجود))، فنزل فسجد وسجدوا؛ رواه أبو داود (1410)، وصحَّحه البيهقي في السنن الكبرى (3740)، وابن كثير في تفسيره (7/ 62)، وكذا صحَّحه الألباني.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في "ص"، وقال: ((سجَدَها داودُ توبةً، ونسجُدُها شُكْرًا))، رواه النسائي (957)، وصحَّحه الألباني.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال في السجود في "ص": "ليست من عزائم السجود، وقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجُدُ فيها"؛ رواه أحمد (3387)، وصحَّحه الأرناؤوط.
[color=#000000]وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: “وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ “قال: "اختبرناه"؛ رواه ابن جرير في تفسيره (20/ 63).
فائدة:
قال ابن تيمية: "المراد هنا: السجود، بالسنة واتفاق العلماء، فالمراد: خرَّ ساجدًا، وسمَّاه ركوعًا؛ لأن كل ساجد راكع، لا سيَّما إذا كان قائمًا، وسجود التلاوة من قيام أفضل، ولعلَّ داود سجَدَ من قيام، وقيل: خرَّ راكعًا؛ ليُبيِّن أن سجوده كان من قيام، وهو أكمل، ولفظ “خَرَّ “يدل على أنه وصل إلى الأرض، فجمع له معنى السجود والركوع"؛ ((جامع الرسائل)) (1/ 36).
وقال ابن عاشور:
"قال ابن العربي: لا خلاف في أن الركوع ها هنا السجود، قلت: الخلاف موجود، والمعروف أنه ليس لبني إسرائيل سجود بالجبهة على الأرض، ويحتمل أن يكون السجود عبادة الأنبياء كشأن كثير من شرائع الإسلام كانت خاصة بالأنبياء"؛ ((تفسير ابن عاشور)) (23/ 240)،
وينظر: ((أحكام القرآن))؛ لابن العربي (4/ 57)، و((الإجماع في التفسير))؛ للخضيري، (ص 379 -382).
“فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ “:
أي: فسترنا لداود ذلك الذنب، وعفونا عنه ولم نؤاخذه بخطيئته، وإن لداود عندنا قُرْبة منا ومنزلة عالية يوم القيامة، وحُسْن مرجع في الجنة يرجع إليه في الآخرة.
يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 76)، و((تفسير ابن عطية)) (4/ 502)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 60، 62)، و((تفسير السعدي)) (ص: 712).
حديث يتعلق بتفسير الآية:
وعن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا))؛ رواه مسلم (1827).
أقوال المفسرين في ذنب داود عليه الصلاة والسلام:
قال السعدي: "هذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام لم يذكره الله لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرُّض له من باب التكلُّف، وإنما الفائدة ما قصَّه الله علينا من لطفه به، وتوبته وإنابته، وأنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها"؛ ((تفسير السعدي)) (ص: 712).
وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بالفتنة ما جرى لداود من رغبته في تزوُّج امرأة رجل من قوادِه، وذكروا قصة طويلة لا تصحُّ.
يُنظَر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/ 639، 640)، و((تفسير ابن جرير)) (20/ 71، 74، 75)، و((الوسيط))؛ للواحدي (3/ 547، 548)، و((تفسير ابن عطية)) (4/ 498، 499)، و((زاد المسير))؛ لابن الجوزي (3/ 564 -566).
وقد أبطل تلك القصة كثيرٌ من المحقِّقين؛ كابن حزم، والقاضي عياض، وابن كثير، والشنقيطي، ومحمد أبو شهبة، والألباني.
يُنظر: ((الفصل))؛ لابن حزم (4/ 14)، ((الشفا))؛ للقاضي عياض (2/ 371 -373)، و((تفسير ابن كثير)) (7/ 60)، و((أضواء البيان))؛ للشنقيطي (6/ 339)، و((الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير))؛ لمحمد أبو شهبة (ص: 268 -270)، و((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة))؛ للألباني (1/ 484، 485).