أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: 79- اسم الله: "الوالي" الأربعاء 25 أبريل 2018, 10:25 pm | |
| "وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ".
فقد قال تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)" (سورة الرعد).
أما الإنسان فأحياناً يحكم، ثم تأتي ضغوط، وتتلاحق وسائط، وتتوالى عليه رجاءات، وضغطٌ شديد فيجد نفسه مرغماً على التراجع في الحكم، لكنَّ الله سبحانه وتعالى: "يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ"، "وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ".
فقد قال تعالى: "لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)" (سورة الرعد).
الحسن البصري كان عند والي البصرة فجاءه أمرٌ من الخليفة يزيد إذا نفَّذه أغضب الله، وإن لم ينفِّذه أغضب يزيد، فوقع كما يقولون -في حيص بيص- فاستشار الحسن البصري فقال هذا الإمام التابعي الجليل: "إنَّ الله يمنعك من يزيد، ولكنَّ يزيد لا يمنعك من الله"...
والله هذه الكلمة على إيجازها لو عقلناها.. فأيةُ جهةٍ قويةٍ مهما كانت ضاغطة، وتجعلك أمام خيار صعب: إما أن ترضي زيداً وتعصي الله، وإما أن تطيع الله وتغضب زيداً، فما العمل؟...
الجواب: إنَّ الله يمنعك من يزيد، ولكنَّ يزيد لا يمنعك من الله.
فالإنسان إذا استيقظ صباحاً معافىً في جسمه، هذا من فضل الله عليه، ولو أنَّ الله سبحانه وتعالى تخلَّى عنه أيُّ خلل في جسمه يجعل حياته جحيماً لا يُطاق. وقيل الوالي: "هو المنفرد بالتدبير، القائم على كلِّ شيء، ولا دوام ولا بقاء إلا بإذنه".
المنفرد بالتدبير فنحن يهمنا التوحيد.. فالله عزَّ وجلَّ موجود، وواحد، وكامل، أي واحدٌ في ذاته، واحدٌ في صفاته، واحدٌ في أفعاله، واحدٌ في ذاته لا إله إلا الله.. واحدٌ في صفاته إذا قلنا الوالي المتفرد بالولاية، إذا قلنا الرحمن المتفرِّد بالرحمة..
الآن في الأفعال هو وحده الجبَّار، هو وحده القهَّار، فقد قال تعالى: "إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)" (سورة يونس).
"أَتَاهَا أَمْرُنَا".. وليس أمرهم.
وبديهي جداً أن الإنسان يميل للأقوى، فلو عرضوا عليك أن تعمل مع إنسان ضعيف أم مع إنسان قوي؟ فإنك تؤثر الأقوى لأنَّه إذا وعدك ينفِّذ، وإذا أمر ينفِّذ، وإذا منع ينفِّذ، أما الضعيف ولو أنَّه يحبُّك لكنه ضعيف ولا يقدر أن يتصرف..
فإذا تيقَّنت أنَّ الله وحده متفرِّدٌ بالولاية، انتقلت من أن تكون خاضعاً لإنسان يتولّى أمرك لصالحه، وبين أن تخضع للواحد الديَّان يتولى أمرك لصالحك، فرق كبير، فقد يتولى أمرك إنسان ويكلِّفك أعمالاً لا تطيقها، يأخذ من مالك، هو قويٌ عليك، يبتزُّ مالك ليزيد ماله أو يبتز مالك ووقتك وطاقتك، لكنَّ الله سبحانه وتعالى كماله مطلق فقد قال تعالى: "تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)" (سورة الرحمن).
بقدر ما هو عظيم بقدر ما هو كريم، بقدرما ينبغي أن تخافه بقدر ما ينبغي أن تحبَّه، كما تعلمون قد تحبُّ جهةً ولا تقدِّرها، وقد تقدرها ولا تحبها، أما الذات الكاملة، الله جلَّ جلاله تعظمه لأنه قوي، تعظمه لأن الأمر كله بيده، لأنه ولي، لأنه والٍ، لأنه متولي أمرك، وفي الوقت نفسه تحبه لأنه رحيم.
المعنى الثاني.. أنه يتولى أمرك لإصلاح شأنك.
والمعنى الثالث.. أنه يتولى أمرك لينقلك من حالٍ إلى حال، القائم على كل شيء، المنفرد بالتدبير، ولا دوام ولا بقاء إلا بإذنه، وكل شيءٍ يجري بحكمه وبأمره.
وقال بعضهم: "الوالي هو المنعم بالعطاء، الدافع للبلاء، يدفع البلاء وينعم بالعطاء".
إنّ بعض الذين كتبوا عن أسماء الله الحسنى ذكروا اسم الوالي مستقلاً عن بقية الاسماء، ذلك أن هذا الاسم لم يرد كثيراً في القرآن الكريم..
ولعل القارئ الكريم قد علم أن بعض الأسماء الحسنى قد يرد كثيراً، وبعضها قلّلما يرد، وبعضها ترد مادته ولا يرد لفظه، لم يرِد في القرآن الكريم ولكنه مجمعٌ عليه.
وقد ورد في سورة الرعد في قوله تعالى: "لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ".
هناك معقباتٌ أو ملائكة يسجلون عليه كل حركةٍ وسكنة، وكل أقواله وأفعاله، أما هنا معنى آخر يحفظونه من أمر الله، فقد تجد أحياناً طفلاً صغيراً يقع مئات المرات، ومن الممكن أنه في كل مرة يقع، فقد يصاب بمرضٍ عُضال، لكنَّ الذي يحفظه هو الله عزَّ وجلَّ من خلال الملائكة، فقد قال تعالى: "لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ".
المؤمن محفوظ، والنبي معصوم، وبما أن المؤمن محفوظ، فقد تجد أن أخطاراً كثيرة تحدق به، سنتيمتر واحد وكاد أن يموت، مسافة قصيرة كاد أن يدهس، خطأ طفيف كاد يقتل، من الذي يحفظ الإنسان من هذه الأخطار؟ هو الله عزَّ وجلَّ.
"لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ".
من بين يديه من أمامه، من خلفه من ورائه هؤلاء الملائكة الذين يحفظونه هم من أمر الله، يحفظونه بأمر الله. قال الله تعالى: "لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ".
وما دمنا قد قرأنا هذه الآية، فوالله الذي لا إله إلا هو إن هذه الآية وحدها.. لو عقلها المسلمون لكانوا في حالٍ غير هذا الحال، أنت مؤمن هذه الكرة أنت مالكٌ لها، كرةٌ أكبر لا تملكها فيها قِوى مسيطرةٌ تمنعك.
"إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ".
أنت إذا أقمت أمر الله فيما تملك، كفاك ما لا تملك، لا تحلُّ مشكلة المسلمين إلا بهذه الآية، فيما أنت فيه، فيما أنت قادرٌ عليه، فيما أنت مسيطرٌ عليه، فيما وكَّلك الله به، فيما أناطه الله بك..
هذه الدائرة بيتك فيها، عملك فيها، حركتك فيها، سكونك فيها، سفرك فيها إقامتك فيها، كسب المال فيها، إنفاق المال فيها، وقت الفراغ فيها، أفراحك فيها، أتراحك لا سمح الله فيها، الشيء الذي أنت مسيطرٌ عليه، الموكول إليك، المناط بك مملكتك، منطقة نفوذك، إذا أقمت أمر الله في هذه المنطقة، إذا أقمت أمر الله فيما تملك، كفاك ما لا تملك.
والإنسان محاط بقوى لا يملكها.. بقوى ماديَّة ومعنوية، وقوى لا يراها بالعين المجردة.. فالجراثيم، والفيروسات، ومسببات الأمراض هذه لا يراها، لا يملك زمامها وكذلك الزلازل، الفيضانات، الصواعق، البراكين، القذائف، الألغام، الأمراض.
"إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ".
واقع المسلمين اليوم عكس ذلك، أهملوا ما هم مالكون له، تطلَّعوا إلى ما لا يملكون فأصابهم اليأس.. تفلُّت في البيت، تفلُّت في العمل، عدم انضباط شرعي، يقابل ذلك ضعفٌ أمام القوي، يأسٌ أمام المتملِّك، فلماذا أنت فيما تملك مقصِّر، وفيما لا تملك متطفِّل؟
"لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا".
فقد قال تعالى: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)" (سورة البقرة).
وها نحن أمام آيةٍ أخرى: هي قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)" (سورة المائدة).
الأصل أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، الأصل أن تحمل هموم المسلمين، ولكن قبل أن تأمر وقبل أن تنهى وقبل أن تحمل هموم المسلمين عليك أن تعتني بنفسك، عليك أن تهذِّبها، عليك أن تحملها على طاعة الله، عليك أن ترقى بنفسك، عندئذٍ يكفيك الله ما لا تملك، أقم أمر الله فيما تملك، يكفك ما لا تملك..
هذا المعنى ورد في حديث قدسي: ((عبدي.. خلقت السماوات والأرض ولم أعي بخلقهن، أفيُعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَّ حين؟ لي عليك فريضة ولك عليَّ رِزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أُخالفك في رزقك، وعِزَّتي وجلالي إن لم ترض بما قسمته لك فلأُسلِّطنَّ عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحش في البريَّة، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أُبالي وكنت عندي مذموماً.. أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد، خلقت لك السماوات والأرض من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقِّي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضُّه عليك)).
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 29 أبريل 2021, 12:28 am عدل 1 مرات |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: 79- اسم الله: "الوالي" الأربعاء 25 أبريل 2018, 10:26 pm | |
| قديماً كانت في دمشق مدرسةً ثانوية ضخمةً جداً وكانت الأولى في القُطر، وهي مدرسة التجهيز الأولى، وكنت في الخمسينات طالباً فيها، القسم العُلوي يشتمل على أضخم مكتبة في دمشق وقاعات للمطالعة ومهاجع، والقسم الشمالي مطعم..
كانت الدراسة فيها داخليَّة فيأتي الطلاب إليها من كلِّ المحافظات ليكونوا طلاَّباً داخليين، فيجد الطالب سريراً وثيراً والطعام الجيِّد، ويوجد طبيب مقيم، ومسجد وإمام، فتقريباً كأنَّها جامعة..
خطر في ذهني ذات مرة أنَّ هؤلاء الطلاب لهم مواعيد دقيقةً جداً، فيستيقظون في وقت معيَّن، وطعام الإفطار يكون جاهزاً الساعة السابعة والربع، وكل شيءٍ مُعد وجاهز، وينطلقون إلى قاعات التدريس الساعة الثامنة، وينتهي الدوام فيصلّون صلاة الظهر ثم إلى مهاجعهم، وفي تمام الساعة الثانية يكون طعام الغذاء جاهزاً، وبعد الطعام والقيلولة يذهبون إلى قاعات المطالعة ليدرسوا، ويُحضِّروا، ويذاكروا حتى الساعة العاشرة.
لو أنَّ طالباً ترك قاعة المطالعة وقد كُلِّفَ أن يدرس، ترك المذاكرة وقد كُلِّفَ أن يُذاكر، ترك حفظ هذا الدرس وقد كُلِّفَ أن يحفظه، ترك حلَّ هذه المسألة وقد كُلِّفَ أن يحُلُّها، ترك مراجعة دروسه وقد كُلِّفَ أن يراجعها وذهب إلى المطبخ ليتفقَّد أحوال الطبَّاخين.. ماذا فعلتم؟ هل أنجزتم هذا العمل، هل قطَّعتم هذه الخضراوات، هل وضعتم الملح في الطعام؟ ماذا يقال له؟ عُد إلى قاعة المطالعة، واشتغل بما أنت مكلفٌ به وسوف ترى الطعام جاهزاً في الساعة الثانية بعد الظهر.
إذاً فهذا طالب ترك مهمته الأساسيَّة ووضع نفسه في موضوعٍ لا علاقة له به، في حين أن كل شيءٍ مُعَدٌّ وجاهز.
لذلك: لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك، وهذا مرضٌ خطير من أمراض المسلمين، يتشاغلون بما ضمن لهم، ويتغافلون عما طُلب منهم، المضمون يشتغل به، والمطلوب يتساهل فيه.
لذلك فأنت في الدنيا من أجل أن تعرف الله، أنت في الدنيا من أجل أن تعمل صالحاً تتقرَّب إليه، وقد تكفَّل الله لك برزقك، تكفَّل الله لك بأمرك.. يحمل هموم الدنيا وينسى هموم الآخرة، يحمل همَّ العيش وينسى همَّ الإيمان والعمل بمقتضاه.. فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك.
لذلك فالإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى قرأ حديثاً شريفاً، هذا الحديث أحدث في حياته إنعطافاً خطيراً.. ما هذا الحديث؟ قال: ((مَنْ طلب العلم تكفَّل الله له برزقه)).
ليس معنى هذا أن تستيقظ فتجد تحت الوسادة خمسين ألفاً.. لا.. معنى ذلك أنَّك إذا طلبت العلم يَسَّرَ اللهُ لك رزقاً حلالاً بجهدٍ قليل ومردودٍ كثير. ما من إنسان يطلب العلم ويخطب ودَّ الله عزَّ وجلَّ، ويعمل الأعمال الصالحة، ويحرص على التقرُّب إلى الله، إلا يسَّر الله له رزقاً حلالاً طيِّباً بجهدٍ قليل، والله عزَّ وجلَّ قادر على أن يجعل الإنسان يعمل عشرين ساعة ليأكل فقط، وليحصِّل لقمة العيش فقط..
فقد قال تعالى: "كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)" (سورة المدثر).
((وعزَّتي وجلالي.. إن لم ترض بما قسمته لك فلأسلِّطنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البريِّة ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي وكنت عندي مذموماً...)).
الله قادر على أن يُعينك فتبذل جهداً معقولاً وتعيش حياةً مريحة إذا طلبت العلم، لذلك هذا الوقت الذي أنت فيه له زكاة، زكاة الوقت أن تطلب العلم، زكاة الوقت أن تعمل فيه عملاً صالحاً، أن تدعو إلى الله، أن تصل رحمك، أن تُعين الآخرين، أن ترعى الأرملة واليتيم، زكاة الوقت تضمن لك حفظ بقيَّة الوقت من أن يتبدد، كما أنَّ زكاة المال تضمن لك حفظ بقيَّة المال من أن يتلف.. إذا أديت زكاة الوقت فطلبت العلم حفِظ الله لك بقيَّة الوقت. وبالمناسبة فإن الله قادر على أن يصرف الإنسان لتبديد عشرين ساعة بلا طائل.. ففي يوم مثلاً قد ترتفع حرارة أحد أبنائه لأربعين درجة، فيذهب للطبيب الأول ولم يستفد، ثم للطبيب الثاني، ثم للثالث ويطلب منه أن يحلل ويصوِّر، وتصوير طبقي محوري -مرنان- بستة عشر ألف ليرة، وتصوير -بالإيكو- ويقوم بدفع خمسة وعشرين ألفاً ولمدة أربعة أو خمسة أسابيع ولا ينام الليل ثم بعد ذلك يتعافى ابنه من المرض فكم أضاع من الساعات؟ وكم من الساعات قام بانتظار المحلل، والمصور، والطبيب، وكم من الساعات وقف في الدور لحين وقت دخوله على الطبيب، وكم من المبالغ دفع؟
إخواننا الكرام... هذا كلام دقيق، فالله قادر على أن يتلف لك وقتك ومالك، فإن لم تدفع زكاة مالك، وإن لم تدفع زكاة وقتك تلف الوقت والمال معاً، ألا يقولون: فلان مبارك. أي أنَّ الله عزَّ وجلَّ بارك له في ماله، بالمال القليل رأى الخير الكثير، وبالوقت القليل أنجز الفعل الكبير.
كان السلف الصالح أوقاتهم مباركة، فقد عملوا من الأعمال التي تفوق حدَّ الخيال، فإذا عندك فراغ فأقرأ كتب الإمام النووي في الفقه، وفي الحديث، وفي الأذكار، وفي شرح مسلم، متى كتب هذا كلَّه؟ لم يصل عمره إلى الخمسين عاماً.
قال لي أحد الإخوة الكرام: حدثتني نفسي ذات مرةً أن أترك مجلس العلم، فذهب هو وأهله إلى نزهة فوصل إلى مكان فيه نبع، فأراد أن يملأ الوعاء فجاء شاب له مظهر أديب أخذ منه الوعاء وعبَّأه له، أثنى على أخلاقه وأدبه.. فإذا هويَّته ومحفظته وفي داخلها شهادة قيادته وبطاقة السيارة وهويته الأساسيَّة الشخصية، ومبلغ ثمانمائة ليرة أخذها منه هذا الشاب دون أن يدري بعد مغافلته.. فقال لي: بقيت ستَّة أشهر أذهب من دائرة إلى دائرة لأجدّد هذه البطاقات الضائعة.. ثم قال لنفسه: لعله عقاب من الله لأنه ترك الدرس.
وبالطبع ليس كل إنسان يعامل هذه المعاملة.. فقط القريب من الله يعامل، والملتزم الحريص على طاعة الله إذا غلط أو اتخذ قراراً غلطاً، فالله عزَّ وجلَّ يحاسبه حساباً دقيقاً.. "ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوَّضه الله خيراً منه في دينه ودنياه".
هذا الكلام أتأثَّر به كثيراً.. هم في مساجدهم، والله في حوائجهم.
قال لي رجل: لابدَّ من أن أسافر إلى حلب أبحث عن مورِّد لبضاعة معيَّنة ولا أملك عنوانه الدقيق، ولابدَّ من أن أنام ليلةً هناك وتستغرق المهمة يومين.. ركوب ذهاب وإياب، وفندق وطعام وشراب وإنفاق.. فكلِّف بعمل لله فأنجزه عن طيب خاطر، فإذا بهذا الرجل الذي كان ينبغي أن يسافر إليه إذا به أمامه في متجره في الشام.
أنت أنفقت ساعتين في خدمة الخلق فوفَّرت ثلاثين ساعة،.. فهناك وقت يذهب هدراً، بلا طائل، ومع الألم، فمثلاً أنت تقصد شخصاً فتركب السيارات الواحدة تلو الأخرى وتترد على بيته ويقولون لك: الآن خرج من البيت.. فلا حول ولا قوَّة إلا بالله.
أو يعِدُك إنسان لإنجاز عمل ما، وبعد أن تأتيه في الموعد المحدد يقال لك: لم ينتهوا بعد من إنجاز العمل وائتِ غداً.
تتابع قضيَّة في دائرة فيأخذ الموظف المسؤول إجازة ثمانية أيام فتنتظر، أو ترسل لاستيراد قطعة تبديل من الخارج لمعملك فتأتي والقياس خطأ، فتعيدها مرةً أخرى لجلب غيرها، فالله قادر أن يهدر لك الوقت، وقادر أن يتلف لك المال، فأدِ زكاة وقتك بطلب العلم، وأدِ زكاة مالك بالإنفاق يحفظ الله لك وقتك ومالك.
"إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ".
الوالي هو الله وحده ولا والي إلا الله.
وقيل الوالي: "هو المتصرِّف بمشيئته في العوالم، دبَّر شؤون خلقه أزلاً، وأبرزها أبداً بحكمة الكريم الراحم، هو الذي يوالي عباده بالإحسان، ويفيض عليهم ممداً بالحنان، عطاؤه يتكرر بغير انقطاع، ويتكرر دون امتناع".
وقيل الوالي: "هو المتولي أمور خلقه بالتدبير والقدرة والفعل".
وقيل الوالي: "المالك للأشياء المتكفِّل بها، القائم عليها بالإدامة والإبقاء، المنفرد بتدبيرها، المتصرِّف بمشيئته فيها، ينفذ فيها أمره ويجري عليها حكمه فلا والي للأمور سواه".
الإنسان من أجل أن يتأدَّب بهذا الاسم عليه أن يذكر اسم الوالي، وعليه أن يتخلَّق بأخلاق الله، فيعتني بمن دونه، أي أن يكون والياً لأسرته، والياً في محيط عمله أن يدبِّر، وأن يرتِّب، وأن يعطي، وأن يمنع، وأن يذكِّر، وأن يؤنِّب، وأن ينصح، وأن يُكرم، وأن يعاقب..
كما أنَّ الله سبحانه وتعالى تولاَّك فنقلك من الظلمات إلى النور، تولّ أنت عباده فانقلهم من الضياع إلى الهُدى، من الشقاء إلى السعادة، فتخلَّق بأخلاق الله.
وبعد أن ذكرت موضوع الوقت، وتأدية زكاته، والمال وتأدية زكاته، وكيف أن الإنسان إما في تعسير، وإما في تيسير فإني أريد بعدها أن أذكِّر بقوله تعالى: "فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)" (سورة الليل).
"أَعْطَى".
أعطى من وقته لطلب العلم، أعطى من ماله.
"وَاتَّقَى".
أن يعصي الله عزَّ وجلَّ.
"وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى".
آمن، واستقام وأعطى عطاءً مطلقاً.. قال: "فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى".
هذا هو التيسير، فلا تقل لي: فلان محظوظ، فلان يده خضراء، فلان كيف ما تحرَّك أصاب فهذا كلام لا معنى له، ولكن قل لي: هذا أموره ميسَّرة، وهذا أموره معسَّرة، والتيسير له قانون، والتعسير له قانون.
"فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى".
آمن واستقام وأعطى من وقته وماله.
"فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى".
"وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)" (سورة الليل).
"وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ".
لم ينفق لا وقته ولا ماله.
"وَاسْتَغْنَى".
عن أن يطيع الله.
"وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى". للتيسير قانون، وللتعسير قانون. واسم الوالي يصلح لِمَنْ يتولّى أمور العباد، الله يتولّى أمور العباد لصالحهم، والإنسان الشارد أحياناً يتولّى أمرهم لصالحه، وشتَّان بين الولايتين، إذا تولَّيت أمر عشرة فَتَوَلَّ أمرهم لصالحهم، فإذا أمَّرت عليهم من ليس أهلاً لهذه الإمارة فقد خُنت الله ورسوله.
سيدنا عمر كان إذا أراد أن يعيِّن والياً امتحنه وقال له: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٌ أو ناهب؟ قال: أقطع يده. قال: إذاً فإن جاءني من رعيَّتك من هو جائعٌ أو عاطل فسأقطع يدك، إنَّ الله قد استخلفنا على خلقه لنسدَّ جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفِّر لهم حرفتهم، فإن وفَّينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إنَّ هذه الأيدي خُلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية.
فلو عُيَّنَ معلمٌ في الإبتدائي مثلاً عرّيفاً على هؤلاء الطلاب في الصف الأول، وفيهم مَنْ هو خيرٌ منه فقد خان الله ورسوله.
عيَّنهُ لأنه ابن اخته فقد خان الله ورسوله وقِس على هذه الحقيقة ما شئت.
فإذا كنت والياً عليك أن تتخلَّق بأخلاق الله الوالي.
وأخيراً.. اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهنا، آثرنا ولا تُؤثر علينا، أرضنا وارضَ عنَّا، وصلَّى الله على سيِّدنا محمدٍ النبيِّ الأميّ وعلى آلهِ وصحبه وسلَّم. والحمد لله رب العالمين. |
|