الفرق بين استخدام الكلمة وذِكْرِهَا:
أمَّا عن نفسي حين قُلْتُ إن كل شخص لديه اهتماماتٍ معيَّنةٍ وتجربةٍ في الحياة، فإن اهتمامي هو الرياضيات والمنطق.
هناك آية في القرآن تقول:
"كِتَابٌ أحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ" هود: 2.
وهذه الآيةُ تفيدُ أنهُ لا يوجد في القرآن كلماتٍ زائدةٍ، أي أن كُلَّ آيَةٍ قد أحْكِمَتْ ثم فُصِّلَتْ من حيث المعنى، فهي إذن لا يمكن أن تأتي بعبارة أفضل مما هي عليه.
فلو استخدمنا كلمات أقل فإنها لن تُعطي المعنى كاملاً، أمَّا إن استخدمنا كلماتٍ أكثر فإنها ستعطي معلوماتٍ زائدةٍ غيرَ مطلوبةٍ.
لقد جلب هذا الأمر اهتمامي إلى موضوعٍ رياضيٍ مُحَدَّدٍ ذي صِلَةٍ وثيقةٍ بالمنطق، ولهذا فقد عمدتُ إلى تفحُّص القرآن لأكتشف إن كان هناك شيءٌ يَخُصُّ هذا الموضوع.
لقد حدثت خلال المائة سنة الماضية ثورةٌ في المنطق، وكانت على وجه الخُصوص تدور حول استخدام الكلمات وذكرها.
فقد بدا البناء المنطقي موشكاً على الانهيار قبل مائة سنةٍ تقريباً، حيث ظهر للمهتمين بهذا العلم أن البناء المنطقي لم يكن سليماً تماماً.
والقضيةُ كانت تدورُ حول "المرجعية الذاتية" والفرق بين استخدام الكلمات وذِكْرِهَا.
وسأحاول هنا توضيح الأمر:
كان قانون أرسطو "الوَسَطُ المُسْتَثْنَى" ينص على أن كل عبارةٍ مفيدةٍ إمَّا أن تكون صحيحة أو خاطئة.
وقبل حوالي مائةَ سنةٍ تقريباً أشار أحد المُهتَمِّينَ إلى أن قانون "الوسط المستثنى" إنما هو نفسه عبارة مفيدة، وهو ليس في الحقيقة قانوناً، ولهذا فكما أنه يمكن أن يكون صحيحاً فهو أيضاً قد يكون خاطئاً.
لقد كان هذا الأمر عُقْدَةً بالنسبة للمنطقيين فلم يتمكَّنُوا من فَكِّهَا حتى استطاعوا أن يفهموا الفرق بين استخدام الكلمات وذِكْرِهَا.
فعندما نستخدمُ كلمةً فإننا نفكرُ في معناها، ولكن عندما نذكُرُها فإننا نفكر في الكلمة نفسها.
فلو قلت مثلاً:
"تورنتو مدينة كبيرة" فإني أعني "تورنتو"، تلك المدينة الكندية.
ولكن عندما أقول:
"تورنتو تتكوَّنُ من ستة أحرف"، فإني أتحدَّثُ عن الكلمة نفسها وليس عن المدينة.
في الحالة الأولى استخدمت الكلمة وفي الحالة الثانية ذَكَرْتُ الكلمة.
عيسى وآدم:
بربط هذه الأفكار المنطقية حول استخدام الكلمات وذِكْرِهَا، وتلك الآية التي تقول إن آيات القرآن أحْكِمَتْ ثُمَّ فُصِّلَتْ.
تأمل في الآية التالية:
"إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ..." آل عمران: 59.
من الواضح أن لدينا معادلة في هذه الآية.
وهي تستمر في إثبات أنهما متماثلان لأن كلاً منهما أتى تحت ظروفٍ غير طبيعية، ولم يأتيا من أبٍ وأمٍ كما هي الحال في طريقة التكاثر البشري العادية.
ولكن أكثر من هذا يمكننا أن نفكر في الجانبين:
استخدام الكلمات وذِكْرِهَا.
إن الكلمتين تعنيان بوضوح عيسى وآدم، الرَّجُلَين.
ولكن ماذا عن المثلية في ذكر الكلمتين تحديداً؟
فالآية تقول: أن "عيسى" مثل "آدم".
لكن الكلمتين لا تتكونان من نفس الحروف، فكيف تكونان مثل بعضهما في هذا الكتاب؟
كانت الإجابة الوحيدة قد خطرت في بالي سريعاً فذهبت أتصفَّحُ معجم ألفاظ القرآن الكريم.
لم يتم تأليف معجم لألفاظ القرآن الكريم إلا في العام 1945.
وكان ذلك المُعجَم ثمرةَ جُهْدِ أستاذٍ وطلبتهِ لسنواتٍ، وكان يحوي كل كلمة وردت في القرآن وموقعها.
عندما نبحث عن كلمة "عيسى" فإننا نجدها في القرآن خمساً وعشرين مَرَّةً، وعندما نبحث عن كلمة "آدم" فسنجد أيضاً أنها وردت خمساً وعشرين مَرَّةً.
والخُلاصةُ هي:
أنهما مثل بعضهما كثيراً في هذا الكتاب.. إنهما حقاً طرفا معادلة.
وكُلّمَا قال القرآن إن شيئاً مثل الآخر فإن هذه القاعدة تكون صحيحة.
فلديك مثلاً هذه الآيةَ الأخرى:
"وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" الأعراف 176.
إن المثلية هنا هي بين "الْكَلْب" وبين "القوم الذين كَذَّبُوا"، فكلا الطرفين وردا في القرآن خمس مرات.
بعد عِدَّةِ أشهرٍ من عُثُورِي على هذا الأمر في القرآن، عَرَضَ لي أحد أصدقائي أنَّ في القرآن أيضاً ذِكْرَاً لبعض الكلمات التي "ليست كمثل" كلمات أخرى.
فوراً ذهبنا لمراجعة مُعجم ألفاظ القرآن الكريم وبحثنا عن المواقع التي ذكر فيها أن أشياء ليست مثل أشياء أخرى، وأحصينا عدد مرات حُدُوثِهَا، وكانت المفاجأة أنها لا تتساوى في مرات الحدوث.
فمثلاً الآية:
"الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" البقرة 275.
ذُكِرَ أن البيعَ ليس مثلُ الرِّبَا، والبيعُ ذُكِرَ في القرآن سبع مرَّاتٍ، والرِّبَا ست مرَّات.
وهكذا بقية الأمثلة.
فعندما يذكر أن شيئاً ليس كالآخر، فإن الفرق بينهما في العدد دائماً هو واحد.
حُدُوثُ الكَلِمَات:
لقد أخذ بعض النُّقَّادِ على القرآن تَبَنِّيهِ استخدام السَّنَةِ القمريَّةِ بدلاً من السَّنَةِ الشمسيَّةِ.
ويقول أولئك النُّقَّادِ:
أن "كاتب القرآن" لا يعلم عن الاختلاف في طُول السَّنَوَات، فإذا كانت المُدَّةِ عندنا إثني عشر شهراً قمرياً فإننا نفقد أحَدَ عشر يوماً كُلَّ سَنَةٍ.
وبمراجعة النَّصِّ القُرآني نكتشف الدِّلَالَاتِ على الفرق بين طُول السَّنَةِ الشمسيَّة وطُول السَّنَةِ القمريَّة.
يقولُ القرآنُ الكريمُ:
"ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا" الكهف: 25.
ومعلوم أن ثلاثمائة سَنَةً شمسيَّةً تُساوي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية.
دعونا نعُودُ إلى موضوعنا الأصلي وهو حُدُوث الكلمات في النَّصِّ القُرآني.
إنَّ كلمة "شهر" في القرآن وردت 12 مرة، وهناك 12 شهراً في السَنَةِ.
فإذا وجدنا كلمة "شهر" 12 مرة في القرآن فكم نتوقع أن نجد كلمة "يوم"؟
لقد وردت في النص القرآني 365 مرة.
وفي الحقيقة أن ما جلب اهتمامي للنَّظر في حُدُوث كلمة "شهر" وكلمة "يوم" في النَّصِّ القُرآني هو اهتمامي بالسَّنَةِ الشمسيَّة والسَّنَةِ القمريَّةِ.
إن من المعروف منذ ألفين وخمسمائة سَنَةً أن المواقع النسبيَّة للشَّمس والقمر والأرض تتطابق كل تسع عشرة سنة.
وهذه الحقيقة اكتشفها إغريقي اسمه ميتون (Meton) ولهذا فإنها سُمِّيَتْ "الدورة الميتونية".
ولَمَّا كنتُ أعلم ذلك فقد قرَّرْتُ أن أبحثَ عن كلمة "سَنَةٍ" في النَّصِّ القُرآني فوجدتُ أنها قد وردت تسع عشرة مرة.
التوازن الكامل للكلمات:
ما المقصود بالتوازن الكامل للكلمات؟
يمكن لغير المسلم أن يكتشف علم مَنْ نَزَّل القرآن بالفرق بين "استخدام الكلمات" و "ذِكْرِ الكلمات"، وهي لفتةٌ منطقيةٌ لطيفةٌ، لكن الأكثر من ذلك أنها تشير إلى حفظ هذا الكتاب من التغيير.
بعد أن ألقيت محاضرة عن هذا الموضوع حول القرآن، وتطرَّقتُ إلى بعض هذه المفاهيم، سألني أحد الحاضرين قائلاً: "كيف نتحقَّق من أن لدينا النَّص القُرآني الأصلي؟ ربما فُقِدَتْ أجزاءٌ منَتْ أجزاء أخرى".
كانت الإجابة بسيطة:
فقد أشَرْتُ إلى أننا تحدَّثنا عن هذه الموضوع بشكل دقيق، لقد تَمَّ التَّحقُّقِ من هذا التوازن الكامل لألفاظ القرآن في هذا الجيل فقط، ولو حصل أن أحداً فقد أجزاء من القرآن أو أخفى أجزاء أو أضاف أخرى من عنده، فلن يكون على علم بهذه الشفرة المخفية في القرآن، أعني التَّوازن اللفظي، ولكان قد تم إتلاف هذا التوازن تماماً.
من الملاحظات اللطيفة أيضاً:
أنه بالإمكان اليوم عمل نموذج مُشابه، أي أن نجمع قدراً من الكلمات التي نريد استخدامها ونُعيد تنسيقها آلياً بحيث تكون متوازنة العدد ثم نبدأ بصياغة المعاني.
قد يكون هذا ممكن نظرياً، ولكن حتى لو كان للبشر أن يفعلوا مثل هذا الأمر قبل أربعة عشر قرناً، فلماذا يتم بذل الجهد في استخدام هذه الخاصية العجيبة في القرآن وتركها مخفية عن أولئك الذين تلقوا القرآن أول مرة؟
لماذا يتركها "المؤلف" مخفية ليأتي بعد قرون عديدة مَنْ يكتشف هذه الأعجوبة؟
وأحسن تفسيراً:
لقد أخبرنا القرآن أنه لن يأتي أحَدٌ للمسلمين بسؤالٍ إلا ويجد أفضل الإجابات في القرآن.
"وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا" الفرقان: 33.
لقد نظرنا مَرَّةً أخرى في مُعجم ألفاظ القرآن الكريم فوجدنا أن كلمة "قالوا" وردت 332 مَرَّةً في القرآن، والآن ما الذي يمكن أن يُقابل هذه الكلمة في النَّص القُرآني؟ إنها كلمة "قُلْ"، وكما تتوقع فقد وجدنا أن عدد مرات ذكرها في القرآن هو 332 مرة.