الأشهر الحُرم.. الجائز والممنوع
بقلم: رضوان بن أحمد العواضي
غفـر الله له ولوالديه وللمسلـمين
--------------------------------------
يقول الحق جل وعلا في محكم كتابه:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].

وفي الصحيحين:
من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حُرُم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمُحَرَّم، ورجب مُضَر الذي بين جمادى وشعبان) متفق عليه.

وفي الآية بيان مكانة الأشهر الحرم، وحرمتها، وعلى اختصاصها بمضاعفة الثواب والعقاب، كما ذهب الى ذلك جمع من اهل العلم.

قال الإمام القرطبي رحمه الله :
(كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام -إلى أن قال-: وقد أشار الله إلى هذا بقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) الأحزاب:30)أهـ.

وقال الامام ابن كثير:
(كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، فكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام) أهـ.

ونقل رحمه الله عن قتادة قوله:
(العمل الصالح أعظم أجراً في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً) أهـ.

واختلف المفسرون رحمهم الله في المراد بالظلم المنهي عنه هنا، وهل هو عام في سائر الشهور، ام خاص في الحُرُم منها فقط؟ على قولين.

قال الامام ابن العربي:
(قوله تعالى: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} فيه قولان: أحدهما: لا تظلموا أنفسكم في الشهور كلها، وقيل: المراد بذلك الأشهر الحُرُم) أهـ.

واختار البغوي رحمه الله:
ان ذلك ينصرف إلى جميع شهور السنة، ونقل ذلك عن ابن عباس.

ورجح الحافظ ابن كثير رحمه الله ان هذا النهي خاص بالأشهر الحرم ثم علل قوله هذا بقوله: (لأنه -أي الظلم- آكد وأبلغ في الإثم من غيرها) أهـ.

ولعل هذا القول هو الأقرب للصواب، لأن الأشهر الحرم اقرب مذكور يمكن حمل الضمير عليه، كما هو مقرر عند اهل اللغة.

واختلف في المراد بالظلم المنهي عنه فيها، فقيل: سائر المعاصي والسيئات، وقيل: هو استحلال الحرام فيهن وتحريم الحلال.

ولعل الأقرب ان عموم الظلم هو المراد، إذ أن تخصيصه بنوع دون آخر، يفتقر إلى دليل، ولأنه لا دليل لمدع التخصيص، فيكون حمله على العموم هو الأولى، فكل ما عصي الله به يتأكد تحريمه في هذه الأيام المباركة، وأعظم الظلم ما كان ذنبه اشد، ووزره أكبر، كالشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ثم ما يليهما حتى أدنى المعاصي.

واما القتال فيها فاتفق عامة اهلم العلم على جواز دفع العدو وقتاله إذا قاتلنا في الشهر الحرام، واختلفوا رحمهم الله في تحريم الابتداء به.

قال الامام ابن مفلح رحمه الله في الفروع:
(وَيَجُوزُ القتال في الشهر الحرام دفعاً، إجماعاً)أهـ.

واختار الإمام القرطبي رحمه الله وجماعة من أهل العلم أن النهي عن قتال المشركين والكفار فيها منسوخ بقوله تعالى: (َوقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً) التوبة: 36.

فيجوز ابتداء قتالهم في الأشهر الحُرُم كما في سائر الشهور استناداً إلى هذه الآية.

وذهب آخرون من أهل العلم إلى عدم النسخ وأن ابتداء القتال فيها حرام ولا يجوز، لقوله تعالى: (لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ) المائدة: 2، ولقوله تعالى: "ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَـٰتُ قِصَاصٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ" البقرة: 194.

وهذا ما اختاره الإمام الشوكاني رحمه الله، ورجحه، وأجاب على من ذهب الى النسخ بقوله: (الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم، كما في الآية المذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحُرُم، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحُرُم للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه، وأما ما استدلوا به من أنه -صلى الله عليه وسلم- حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، فقد أجيب عنه أنه لم يبتدأ محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوال، والمُحَرَّم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحُرُم لا إتمامه وبهذا يحصل الجمع" انتهى كلامه، ولعل ما ذهب إليه رحمه الله هو الرَّاجح، وهو اختيار الشيخين: ابن باز، وابن عثيمين رحمهما الله.

ولا يَحْرُمُ من الصيد في الأشهر الحُرُم إلا ما كان في المسجد الحرام أو ما كان في حدوده، وهذا في حق المُحرم وغيره، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: "لا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ولا يُعَضَّدْ شَوْكُهَا".

قال ابن عثيمين رحمه الله في الفتاوى:
"وإذا منع من التنفير فالقتل أولى"أهـ.

ويدخل هذا الحكم في المدينة أيضاً، ودليل ذلك قول أبي هريرة رضي الله عنه، كما في الصحيحين: "لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين لابتيها حرام).

ويحرم الصيد في حق المحرم بحج أو عمرة لقوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) المائدة: 95، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام، ونهي عن تعاطيه فيه" أهـ.

ولقوله تعالى: "وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا" المائدة: 96.

واما ما دون ذلك من الصيد الحلال فيحل في سائر العام للخلق جميعاً.

وما ورد في الندب من صيام الأشهر الحرم من الأحاديث، فضعيف أو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية، وبعض الحنابلة إلى استحباب صيام الأشهر الحرم، واستدلوا لذلك ببعض الأحاديث الواردة، منها قوله صلى الله عليه وسلم -حين سُئِلَ عن سبب صومه شهر شعبان-: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ) رواه النسائي (2357)، وهو صحيح.

قالوا:
دَلَّ هذا الحديث على أن شهري رجب ورمضان شهرا عبادة وطاعة لا يغفل الناس عنها.

ولأن العمل الصالح يضاعف فيها، فيشرع الصيام لتحصيل الثواب المضاعف.

واما حديث: (صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ) رواه أبوداود، فضعيف لا يصح، كما بين ذلك العلامة الالباني في تمام المنة.

قال النووي رحمه الله في المجموع:
(قال أصحابنا: ومن الصوم المستحب صوم الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وأفضلها المحرم) أهـ.

وقال الحافظ ابن رجب في لطائفه -رحمه الله-:
(وقد كان بعض السلف يصوم الأشهر الحرم كلّها، منهم ابن عمر، والحسن البصري، وأبو إسحاق السبيعي، وقال الثوري: الأشهر الحرم أحبُّ إليَّ أن أصوم فيها) أهـ.

والأولى لِمَنْ أراد صيامها أن لا يُتِمَّ شهراً منها، لأن ذلك إنما يكون في شهر رمضان، ولحديث عائشة كما في الصحيحين: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ شَهْرًا قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَان"َ.

والذي يظهر ان سائر الطاعات تدخل مع الصيام في الفضل، إذا تقرب العبد بها إلى ربه في هذه الأشهر المباركة.
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.