[فَصْلٌ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي تَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْعَادَاتِ هَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الْبِدَعُ]
أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ ـ بِحَسَبِ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ فِيهَا ـ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَبُّدَاتِ.
وَالثَّانِي:
أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْعَادَاتِ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ:
فَلَا نَظَرَ فِيهِ هَاهُنَا.
وَأَمَّا الثَّانِي:
وَهُوَ الْعَادِيُّ فَظَاهِرُ النَّقْلِ عَنِ السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَخْتَلِفُ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْشِدُ كَلَامُهُ إِلَى أَنَّ الْعَادِيَّاتِ كَالْعِبَادِيَّاتِ، فَكَمَا أَنَّا مَأْمُورُونَ فِي الْعِبَادَاتِ بِأَنْ لَا نُحْدِثَ فِيهَا، فَكَذَلِكَ الْعَادِيَّاتُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ، حَيْثُ كَرِهَ فِي سُنَّةِ الْعَقِيقَةِ مُخَالَفَةَ مَنْ قَبِلَهُ فِي أَمْرٍ عَادِيٍّ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْمَنَاخِلِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى نَظَرًا مِنْهُ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ الْأَوَّلِينَ عَلَى الْعُمُومِ غَلَبَ عَلَيْهِ جِهَةُ التَّعَبُّدِ، وَيَظْهَرُ أَيْضًا مِنْ كَلَامِ مَنْ قَالَ: أَوَّلُ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنَاخِلُ.
وَيُحْكَى عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ أَنَّهُ قَالَ:
لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ مَنْ كَانَ قَبْلِي لَكَانَتِ الْجَبَّانَةُ مَسْكَنِي إِلَى أَنْ أَمُوتَ.
وَالسُّكْنَى أَمْرٌ عَادِيٌّ بِلَا إِشْكَالٍ.
وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَكُونُ قِسْمُ الْعَادِيَّاتِ دَاخِلًا فِي قِسْمِ الْعِبَادَيَّاتِ، فَدُخُولُ الِابْتِدَاعِ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِ هَذَا.
وَعَلَيْهِ نَبْنِي الْكَلَامَ فَنَقُولُ:
ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ لَابُدَّ فِي كُلِّ عَادِيٍّ مِنْ شَائِبَةِ التَّعَبُّدِ، لِأَنَّ مَا لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ فَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّعَبُّدِيِّ، وَمَا عُقِلَ مَعْنَاهُ وَعُرِفَتْ مَصْلَحَتُهُ أَوْ مَفْسَدَتُهُ فَهُوَ الْمُرَادُ بِالْعَادِيِّ، فَالطَّهَارَاتُ وَالصَّلَوَاتُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ كُلُّهَا تَعَبُّدِيٌّ، وَالْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَالشِّرَاءُ وَالطَّلَاقُ وَالْإِجَارَاتُ وَالْجِنَايَاتُ كُلُّهَا عَادِيٌّ، لِأَنَّ أَحْكَامَهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّعَبُّدِ، إِذْ هِيَ مُقَيَّدَةٌ بِأُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ لَا خِيرَةَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهَا؛ كَانَتِ اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِي التَّعَبُّدَاتِ إِلْزَامٌ، كَمَا أَنَّ الِاقْتِضَاءَ إِلْزَامٌ ـ حَسْبَمَا تَقَرَّرَ بُرْهَانُهُ فِي كِتَابِ " الْمُوَافَقَاتِ " ـ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ - فَقَدْ ظَهَرَ اشْتِرَاكُ الْقِسْمَيْنِ فِي مَعْنَى التَّعَبُّدِ، فَإِنْ جَاءَ الِابْتِدَاعُ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ؛ صَحَّ دُخُولُهُ فِي الْعَادِيَّاتِ كَالْعِبَادِيَّاتِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْبَابِ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالْأَمْثِلَةِ:
فَمِمَّا أَتَى بِهِ الْقَرَافِيُّ وَضْعُ الْمُكُوسِ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ، فَلَا يَخْلُو هَذَا الْوَضْعُ الْمُحَرَّمُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَصْدِ حَجْرِ التَّصَرُّفَاتِ وَقْتًا مَا، أَوْ فِي حَالَةٍ مَا، لِنَيْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا، عَلَى هَيْئَةِ غَصْبِ الْغَاصِبِ، وَسَرِقَةِ السَّارِقِ، وَقَطْعِ الْقَاطِعِ لِلطَّرِيقِ...، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
أَوْ يَكُونَ عَلَى قَصْدِ وَضْعِهِ عَلَى النَّاس؛ كَالدِّينِ الْمَوْضُوعِ وَالْأَمْرِ الْمَحْتُومِ عَلَيْهِمْ دَائِمًا، أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مَحْدُودَةٍ، عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مَضْرُوبَةٍ، بِحَيْثُ تُضَاهِي الْمَشْرُوعَ الدَّائِمَ الَّذِي يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ وَيُؤْخَذُونَ بِهِ وَتُوَجَّهُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْهُ الْعُقُوبَةُ، كَمَا فِي أَخْذِ زَكَاةِ الْمَوَاشِي وَالْحَرْثِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَأَمَّا الثَّانِي فَظَاهِرٌ أَنَّهُ بِدْعَةٌ، إِذْ هُوَ تَشْرِيعُ زَائِدٌ، وَإِلْزَامٌ لِلْمُكَلَّفِينَ يُضَاهِي إِلْزَامَهُمُ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَالدِّيَاتِ الْمَضْرُوبَةَ، وَالْغَرَامَاتِ الْمَحْكُومِ بِهَا فِي أَمْوَالِ الْغُصَّابِ وَالْمُعْتَدِينَ، بَلْ صَارَ فِي حَقِّهِمْ كَالْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَاللَّوَازِمِ الْمَحْتُومَةِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَصِيرُ بِدْعَةً بِلَا شَكٍّ، لِأَنَّهُ شَرْعٌ مُسْتَدْرَكٌ وَسُنَنٌ فِي التَّكْلِيفِ مَهِيعٌ.
فَتَصِيرُ الْمُكُوسُ - عَلَى هَذَا الْفَرْضِ - لَهَا نَظَرَانِ:
نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَى الْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَهَا كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا اخْتِرَاعًا لِتَشْرِيعٍ يُؤْخَذُ بِهِ النَّاسُ إِلَى الْمَوْتِ كَمَا يُؤْخَذُونَ بِسَائِرِ التَّكَالِيفِ.
فَاجْتَمَعَ فِيهَا نَهْيَانِ:
نَهْيٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَنَهْيٌ عَنِ الْبِدْعَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْبِدَعِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ بِهِ النَّهْيُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا تَشْرِيعًا مَوْضُوعًا عَلَى النَّاسِ أَمْرَ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ جِهَةٌ أُخْرَى يَكُونُ بِهَا مَعْصِيَةً، بَلْ نَفْسُ التَّشْرِيعِ هُوَ نَفْسُ الْمَمْنُوعِ.
- وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَتَوْلِيَةُ الْمَنَاصِبِ الشَّرِيفَةِ مَنْ لَا يَصْلُحُ بِطَرِيقِ التَّوْرِيثِ، هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ جَعْلَ الْجَاهِلِ فِي مَوْضِعِ الْعَالِمِ حَتَّى يَصِيرَ مُفْتِيًا فِي الدِّينِ، وَمَعْمُولًا بِقَوْلِهِ فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَغَيْرِهَا، مُحَرَّمٌ فِي الدِّينِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ يُتَّخَذُ دَيْدَنًا حَتَّى يَصِيرَ الِابْنُ مُسْتَحِقًّا لِرُتْبَةِ الْأَبِ ـ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الْأَبِ فِي ذَلِكَ الْمَنْصِبِ ـ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، بِحَيْثُ يَشِيعُ هَذَا الْعَمَلُ وَيَطَّرِدُ وَيَرِدُهُ النَّاسُ؛ كَالشَّرْعِ الَّذِي لَا يُخَالَفُ؛ بِدَعَةً بِلَا إِشْكَالٍ، زِيَادَةً إِلَى الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ غَيْرِ الْجَارِي عَلَى الْعِلْمِ، وَهُوَ بِدْعَةٌ أَوْ سَبَبُ الْبِدْعَةِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ...
وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ:
«حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَإِنَّمَا ضَلُّوا لِأَنَّهُمْ أَفْتَوْا بِالرَّأْيِ إِذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ.
وَأَمَّا إِقَامَةُ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا تُتَصَوَّرُ هُنَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، فَإِنْ تَكَلَّفَ أَحَدٌ فِيهَا ذَلِكَ فَيَبْعُدُ جِدًّا، وَذَلِكَ بِفَرْضِ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ أَنَّهُ مِمَّا يَطْلُبُ بِهِ الْأَئِمَّةُ عَلَى الْخُصُوصِ تَشْرِيعًا خَارِجًا عَنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ مِنَ الدِّينِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمَطْلُوبُونَ بِهِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ خَاصًّا بِالْأَئِمَّةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ: أَنَّ خَاتَمَ الذَّهَبِ جَائِزٌ لِذَوِي السُّلْطَانِ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّ الْحَرِيرَ جَائِزٌ لَهُمْ لُبْسُهُ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ فِي تَصَوُّرِ الْبِدْعَةِ فِي حَقِّ هَذَا الْقِسْمِ.
وَيُشْبِهُهُ عَلَى قُرْبٍ زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ، إِذْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ تَرْفِيعِ بُيُوتِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الثُّرَيَّاتِ الْخَطِيرَةِ الْأَثْمَانِ، حَتَّى يُعَدَّ الْإِنْفَاقُ فِي ذَلِكَ إِنْفَاقًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا اعْتَقَدَ فِي زَخَارِفِ الْمُلُوكِ وَإِقَامَةِ صُوَرِهِمْ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ تَرْفِيعِ الْإِسْلَامِ وَإِظْهَارِ مَعَالِمِهِ وَشَعَائِرِهِ، أَوْ قَصَدَ ذَلِكَ فِي فِعْلِهِ أَوَّلًا بِأَنَّهُ تَرْفِيعٌ لِلْإِسْلَامِ لِمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ، وَلَيْسَ مَا حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ مِنْ قَبِيلِ هَذِهِ الزَّخَارِفِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْتَادِ فِي اللِّبَاسِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي الْحِجَابِ مَخَافَةً مِنِ انْخِرَاقِ خَرْقٍ يَتَّسِعُ فَلَا يُرْفَعُ ـ هَذَا إِنْ صَحَّ مَا قَالَ، وَإِلَّا، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى نَقْلِ الْمُؤَرِّخِينَ وَمَنْ لَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ، وَأَحْرَى أَلَّا يَنْبَنِيَ عَلَيْهِ حُكْمٌ.
- وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَنَاخِلِ فَقَدْ مَرَّ مَا فِيهَا، وَالْمُعْتَادُ فِيهَا أَنَّهُ لَا يُلْحِقُهَا أَحَدٌ بِالدِّينِ، وَلَا بِتَدْبِيرِ الدُّنْيَا بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ كَالتَّشْرِيعِ، فَلَا نَطُولُ بِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ يُنْظَرُ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، فَتَبَيَّنْ مَجَالَ الْبِدْعَةِ فِي الْعَادِيَّاتِ مِنْ مَجَالِ غَيْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا فِيهَا كَلَامٌ فَرَاجِعْهُ إِنِ احْتَجْتَ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا وَجْهُ النَّظَرِ فِي أَمْثِلَةِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ مِنْ أَوْجُهِ دُخُولِ الِابْتِدَاعِ فِي الْعَادَاتِ عَلَى مَا أُرِيدَ تَحْقِيقُهُ، فَنَقُولُ: إِنَّ مَدَارِكَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ عَلَى بِضْعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً، يُمْكِنُ رَدُّهَا إِلَى أُصُولٍ هِيَ كُلُّهَا أَوْ غَالِبُهَا بِدَعٌ، وَهِيَ قِلَّةُ الْعِلْمِ وَظُهُورُ الْجَهْلِ، وَالشُّحُّ وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ، وَتَحْلِيلُ الدِّمَاءِ وَالزِّنَا وَالْحَرِيرُ وَالْغِنَاءُ وَالرِّبَا وَالْخَمْرُ، وَكَوْنُ الْمَغْنَمِ دُوَلًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَتَقْدِيمُ الْأَحْدَاثِ، وَلَعْنُ آخِرِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا، وَخُرُوجُ الدَّجَّالِينَ، وَمُفَارَقَةُ الْجَمَاعَةِ.
- أَمَّا قِلَّةُ الْعِلْمِ وَظُهُورُ الْجَهْلِ فَبِسَبَبِ التَّفَقُّهِ لِلدُّنْيَا، وَهَذَا إِخْبَارٌ بِمُقْدِمَةٍ أَنْتَجَتْهَا الْفُتْيَا بِغَيْرِ عِلْمٍ ـ حَسْبَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ» إِلَى آخِرِهِ ـ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ قَائِدٍ يَقُودُهُمْ فِي الدِّينِ بِجَرَائِمِهِمْ، وَإِلَّا؛ وَقَعَ الْهَرَجُ وَفَسَدَ النِّظَامُ، فَيُضْطَرُّونَ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى مَنِ انْتَصَبَ لَهُمْ مَنْصِبَ الْهِدَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عَالِمًا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى رَأْيِهِ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ جَاهِلٌ، فَيُضِلُّهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ كَمَا أَنَّهُ ضَالٌّ عَنْهُ، وَهَذَا عَيْنُ الِابْتِدَاعِ، لِأَنَّهُ التَّشْرِيعُ بِغَيْرِ أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ.
وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْتَى النَّاسُ قَطُّ مِنْ قِبَلِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا يُؤْتُونَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ عُلَمَاؤُهُمْ أَفْتَى مَنْ لَيْسَ بِعَالَمٍ فَيُؤْتَى النَّاسُ مَنْ قِبَلِهِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى بَسْطٌ أَوْسَعُ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا الشُّحُّ؛ فَإِنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِبِدْعَةِ الِاحْتِيَالِ عَلَى تَحْلِيلِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَشُحُّونَ بِأَمْوَالِهِمْ فَلَا يَسْمَحُونَ بِتَصْرِيفِهَا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ؛ كَالْإِحْسَانِ بِالصَّدَقَاتِ وَالْهِبَاتِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ.
وَيَلِيهِ أَنْوَاعُ الْقَرْضِ الْجَائِزِ، وَيَلِيهِ التَّجَاوُزُ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ، وَبِالْإِسْقَاطِ كَمَا قَالَ:
{وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]، وَهَذَا كَانَ شَأْنَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ.
ثُمَّ نَقَصَ الْإِحْسَانُ بِالْوُجُوهِ الْأُوَلِ.
فَتَسَامَحَ النَّاسُ بِالْقَرْضِ.
ثُمَّ نَقَصَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ الْمُوسِرُ لَا يَسْمَحُ بِمَا فِي يَدَيْهِ فَيُضْطَرُّ الْمُعْسِرُ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ وَبَاطِنُهَا الْمَنْعُ؛ كَالرِّبَا وَالسَّلَفِ الَّذِي يَجُرُّ النَّفْعَ، فَيَجْعَلُ بَيْعًا فِي الظَّاهِرِ، وَيَجْرِي فِي النَّاسِ شَرْعًا شَائِعًا، وَيَدِينُ بِهِ الْعَامَّةُ، وَيَنْصِبُونَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ مَتَاجِرَ، وَأَصْلُهَا الشُّحُّ بِالْأَمْوَالِ وَحَبُّ الزَّخَارِفِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْحَرِيُّ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ ابْتِدَاعًا فِي الدِّينِ، وَأَنْ يُجْعَلَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ.
فَإِنْ قِيلَ:
هَذَا انْتِجَاعٌ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَتَكَلُّفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
فَالْجَوَابُ:
أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنَ الشَّرْعِ لَمَا قِيلَ بِهِ، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلَاءً فَلَا يَرْفَعُهُ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ».
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَقَالَ فِيهِ:
«إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْتَزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ قَرَنَ التَّبَايُعَ بِالْعِينَةِ بِضِنَّةِ النَّاسِ، فَأَشْعَرَ بِأَنَّ التَّبَايُعَ بِالْعِينَةِ يَكُونُ عَنِ الشُّحِّ بِالْأَمْوَالِ، وَهُوَ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَتَبَايَعُ أَبَدًا هَذَا التَّبَايُعَ وَهُوَ يَجِدُ مَنْ يُسْلِفُهُ أَوْ مَنْ يُعِينُهُ فِي حَاجَتِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَفِيهًا لَا عَقْلَ لَهُ.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وَيَنْهدُ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ، أَلَا إِنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّ حَرَامٌ ; الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخُونُهُ، إِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيكَ وَلَا تَزِدْهُ هَلَاكًا إِلَى هَلَاكِهِ.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ ـ وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُهَا لَيْسَتْ هُنَاكَ ـ مِمَّا يُعَضِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهُوَ خَبَرٌ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ يَشْهَدُ لَهُ الْوَاقِعُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ:
عَامَّةُ الْعِينَةِ إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ رَجُلٍ يُضْطَرُّ إِلَى نَفَقَةٍ يَضِنُّ عَلَيْهِ الْمُوسِرِ بِالْقَرْضِ إِلَى أَنْ يُرْبِحَهُ فِي الْمِائَةِ مَا أَحَبَّ، فَيَبِيعُهَا ثَمَنُ الْمِائَةِ بِضَعْفِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَفَسَّرَ بَيْعُ الْمُضْطَرِّ بِبَيْعِ الْعِينَةِ، وَبَيْعُ الْعِينَةِ إِنَّمَا هُوَ الْعَيْنُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا إِلَى أَجَلٍ ـ حَسْبَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْفِقْهِيَّاتِ ـ فَقَدْ صَارَ الشُّحُّ إِذًا سَبَبًا فِي دُخُولِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ فِي الْبُيُوعِ.
فَإِنْ قِيلَ:
كَلَامُنَا فِي الْبِدْعَةِ فِي فَسَادِ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بُيُوعٌ فَاسِدَةٌ فَصَارَتْ مِنْ بَابٍ آخَرَ لَا كَلَامَ لَنَا فِيهِ.
فَالْجَوَابُ:
أَنَّ مَدْخَلَ الْبِدْعَةِ هَاهُنَا مِنْ بَابِ الِاحْتِيَالِ الَّذِي أَجَازَهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَقَدْ عَدَّهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابٍ وُضِعَ فِي الْحِيَلِ: مَنْ وَضَعَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ سَمِعَ بِهِ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ حَمَلَهُ مِنْ كُورَةٍ إِلَى كُورَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ الِاحْتِيَالَاتُ بِأَشْيَاءَ مُنْكَرَةٍ، حَتَّى احْتَالَ عَلَى فِرَاقِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا بِأَنْ تَرْتَدَّ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ:
أَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكَ قَالَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ أَبِي رَوْحٍ حَيْثُ أُمِرَتْ بِالِارْتِدَادِ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ أَبِي غَسَّانَ: فَذَكَرَ شَيْئًا. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهُوَ مُغَضَّبٌ: أَحْدَثُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَانَ أَمَرَ بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ. وَمَنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَهُ أَوْ فِي بَيْتِهِ لِيَأْمُرَ به أَوْ صَوَّبَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ المُبَارَكٍ: مَا أَرَى الشَّيْطَانَ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا، حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ فَأَفَادَهَا مِنْهُمْ فَأَشَاعَهَا حِينَئِذٍ، وَلَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يُمْضِيهَا فِيهِمْ، حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ.
وَإِنَّمَا وُضِعَ هَذَا الْكِتَابُ وَأَمْثَالُهُ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى زَعْمِهِمْ فِي أَنْ يَحْتَالُوا لِلْحَرَامِ حَتَّى يَصِيرَ حَلَالًا، وَلِلْوَاجِبِ حَتَّى يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ.
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ نِظَامِ الدِّينِ، كَمَا أَجَازُوا نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ، وَهُوَ احْتِيَالٌ عَلَى رَدِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِمَنْ طَلَّقَهَا، وَأَجَازُوا إِسْقَاطَ فَرْضِ الزَّكَاةِ بِالْهِبَةِ الْمُسْتَعَارَةِ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ الْإِشَارَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمَذْكُورِ فِيهَا الشُّحُّ، وَأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ ابْتِدَاعًا كَمَا تَتَضَمَّنُ مَعَاصِيَ جَمَّةً.
وَأَمَّا قَبْضُ الْأَمَانَةِ فَعِبَارَةٌ عَنْ شُيُوعِ الْخِيَانَةِ، وَهِيَ مِنْ سِمَاتِ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَلَكِنْ قَدْ صَارَ فِي النَّاسِ بَعْضُ أَنْوَاعِهَا تَشْرِيعًا، وَحُكِيَتْ عَنْ قَوْمٍ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْعِلْمِ كَمَا حُكِيَتْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحِيَلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا بَنَوْا فِي بَيْعِ الْعِينَةِ عَلَى إِخْفَاءِ مَا لَوْ أَظْهَرُوهُ لَكَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، فَأَخْفَوْهُ لِتَظْهَرَ صِحَّتُهُ، فَإِنَّ بَيْعَهُ الثَّوْبَ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ إِلَى أَجَلٍ، لَكِنَّهُمَا أَظْهَرَا وَسَاطَةَ الثَّوْبِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَبِيعُ وَالْمُشْتَرَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ الْوَاقِعِ.
وَكَذَلِكَ يَهَبُ مَالَهُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ قَائِلًا بِلِسَانِ حَالِهِ وَمَقَالِهِ:
أَنَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنِّي، ثُمَّ يَهَبُهُ، فَإِذَا جَاءَ الْحَوْلُ الْآخَرُ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِلْوَاهِبِ مِثْلَ الْمَقَالَةِ الْأُولَى، وَالْجَمِيعُ فِي الْحَالَيْنِ، - بَلْ فِي الْحَوْلَيْنِ - فِي تَصْرِيفِ الْمَالِ سَوَاءٌ، أَلَيْسَ هَذَا خِلَافَ الْأَمَانَةِ؟! وَالتَّكْلِيفُ مَنْ أَصْلِهِ أَمَانَةٌ فِيمَا بَيْنُ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، فَالْعَمَلُ بِخِلَافِهِ خِيَانَةٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ يَحْقِرُ الزِّينَةَ وَيَرُدُّ مِنَ الْكَذِبِ، وَمَعْنَى الزِّينَةِ التَّدْلِيسُ بِالْعُيُوبِ، وَهَذَا خِلَافُ الْأَمَانَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأُمَرَاءِ يَحْتَاجُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ اعْتِقَادًا مِنْهُمْ أَنَّهَا لَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ نَوْعًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَنَائِمِ الْمَأْخُوذَةَ عَنْوَةً مِنَ الْكُفَّارِ، فَيَجْعَلُونَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَيَحْرِمُونَ الْغَانِمِينَ مِنْ حُظُوظِهِمْ مِنْهَا تَأْوِيلًا عَلَى الشَّرِيعَةِ بِالْعُقُولِ.
فَوَجْهُ الْبِدْعَةِ هَا هَنَا ظَاهِرٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي تَمْثِيلِ الْبِدَعِ الدَّاخِلَةِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ فِي الْبَابِ قَبْلَ هَذَا.
وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا النَّمَطِ كَوْنُ الْغَنَائِمِ تَصِيرُ دُوَلًا، وَقَوْلُهُ:
«سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمَرَاءَ تُنْكِرُونَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ».
وَأَمَّا تَحْلِيلُ الدِّمَاءِ وَالرِّبَا وَالْحَرِيرِ وَالْغِنَاءِ وَالْخَمْرِ، فَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيَشَرْبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» ـ زَادَ ابْنُ مَاجَهْ ـ «يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْقَيْنَاتِ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ».
وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ وَأَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ فِيهِ:
«لِيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلِيَنْزِلنَ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، تَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَةٌ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ رَجُلٌ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعِلْمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخِزَّ وَالْحَرِيرَ» ـ وَقَالَ فِي آخِرِهِ ـ «يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَالْخَزُّ هُنَا نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ لَيْسَ الْخَزُّ الْمَأْذُونُ فِيهَا الْمَنْسُوجُ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ:
«وَلِيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ» يَعْنِي ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِلِّينَ، وَالْمَعْنَى إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِلِّينَ يَنْزِلُ مِنْهُمْ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، وَهُوَ الْجَبَلُ، فَيُوَاعِدُهُمْ إِلَى الْغَدِ، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ ـ وَهُوَ أَخْذُ الْعَذَابِ لَيْلًا ـ وَيَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ: «يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ وَيَمْسَخُ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ».
وَكَأَنَّ الْخَسْفَ هَاهُنَا التَّبْيِيتُ الْمَذْكُورَ فِي الْآخَرِ.
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا هَذِهِ الْمَحَارِمَ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ فِيهَا حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الشَّرَابَ الَّذِي شَرِبُوهُ لَيْسَ هُوَ الْخَمْرُ، وَإِنَّمَا لَهُ اسْمٌ آخَرُ، إِمَّا النَّبِيذُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا الْخَمْرُ عَصِيرُ الْعِنَبِ النَّيِّءِ، وَهَذَا رَأْيُ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ.
قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَإِنَّمَا أَتَى عَلَى هَؤُلَاءِ حَيْثُ اسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَاتِ بِمَا ظَنُّوهُ مِنِ انْتِفَاءِ الِاسِمِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمِ وَثُبُوتِهِ. قَالَ: وَهَذِهِ بِعَيْنِهَا شُبْهَةُ الْيَهُودِ فِي اسْتِحْلَالِهِمْ أَخْذَ الْحِيتَانِ يَوْمَ الْأَحَدِ بِمَا أَوْقَعُوهَا بِهِ يَوْمَ السَّبْتِ فِي الشُّبَّاكِ وَالْحَفَائِرِ مِنْ فِعْلِهِمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ حَيْثُ قَالُوا: لَيْسَ هَذَا بِصَيْدٍ وَلَا عَمَلٍ يَوْمَ السَّبْتِ، وَلَيْسَ هَذَا بِاسْتِبَاحَةِ السَّبْتِ.
بَلِ الَّذِي يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ زَاعِمًا (أَنَّهُ) لَيْسَ خَمْرًا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ الْخَمْرَ وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ الْخَمْرُ، أَفْسَدَ تَأْوِيلًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ قِيَاسًا، فَلَئِنْ كَانَ مِنَ الْقِيَاسِ مَا هُوَ حَقٌّ، فَإِنَّ قِيَاسَ الْخَمْرِ الْمَنْبُوذَةِ عَلَى الْخَمْرِ الْعَصِيرَةِ مِنَ الْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ. وَهُوَ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ. إِذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي التَّحْرِيمِ.
فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا شَرِبُوا الْخَمْرَ اسْتِحْلَالًا لَهَا لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ الْمُحَرَّمَ مُجَرَّدُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَظَنُّوا أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ النِّيِّءِ فَشُبْهَتُهُمْ فِي اسْتِحْلَالِ الْحَرِيرِ وَالْمَعَازِفِ أَظْهَرُ بِأَنَّهُ أُبِيحَ الْحَرِيرُ لِلنِّسَاءِ مُطْلَقًا، وَلِلرِّجَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَكَذَلِكَ الْغِنَاءُ وَالدُّفُّ قَدْ أُبِيحُ فِي الْعُرْسِ وَنَحْوِهِ، وَأُبِيحَ مِنْهُ الْحُدَاءُ وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ دَلَائِلِ التَّحْرِيمِ مَا فِي الْخَمْرِ، فَظَهَرَ ذَمُّ الَّذِينَ يُخْسَفُ بِهِمْ وَيُمْسَخُونَ، إِنَّمَا فُعِلَ ذَلِكَ بِهِمْ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الَّذِي اسْتَحَلُّوا بِهِ الْمَحَارِمَ بِطَرِيقِ الْحِيلَةِ وَأَعْرَضُوا عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَحِكْمَتِهِ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ بَطَّةَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ فِيهِ الرِّبَا بِالْبَيْعِ» قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي الْعِينَةَ.