منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Empty
مُساهمةموضوع: الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ   الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Emptyالإثنين 16 أبريل 2018, 8:28 am

[الْبَابُ الْعَاشِرُ بَيَانُ مَعْنَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي انْحَرَفَتْ عَنْهُ سُبُلُ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ]
[التَّعْيِينُ لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ اجْتِهَادِيٌّ لَا يَنْقَطِعُ الْخِلَافُ فِيهِ]
فِي بَيَانِ مَعْنَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي انْحَرَفَتْ عَنْهُ سُبُلُ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ فَضَلَّتْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ الْبَيَانِ
قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ وَكُلَّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَأَنَّ مَا سِوَاهَا مُنْحَرِفٌ عَنِ الْجَادَّةِ وَرَاكِبٌ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ.
فَوَقَعَ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ إِذًا فِي تَعْيِينِهِ وَبَيَانِهِ، حَتَّى أَشْكَلَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ نَظَرَ فِيهَا، حَتَّى قَالَ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ أَوِ النَّقْلِيَّاتِ مُصِيبٌ.

فَعَدَدُ الْأَقْوَالِ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْمَطْلَبِ عَلَى عَدَدِ الْفِرَقِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الِاخْتِلَافِ، إِذْ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِي الشَّرِيعَةِ مَسْأَلَةً يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ قَوْلًا إِلَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَتَحْرِيرُ النَّظَرِ حَتَّى تَتَّضِحَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَغْمَضِ الْمَسَائِلِ.

وَوَجْهٌ ثَانٍ:
أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لَوْ تَعَيَّنَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَقَعِ اخْتِلَافٌ أَصْلًا، لَأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَعَ تَعْيِينِ مَحَلِّهِ مُحَالٌ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ بِقَصْدِ الْعِنَادِ، لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُخْرِجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَكَلَامُنَا فِي الْفِرَقِ.

وَوَجْهٌ ثَالِثٌ:
أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَقَعُ مِنْ رَاسِخٍ فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي أَدِلَّتِهَا.

وَالشَّهَادَةُ بِأَنَّ فُلَانًا رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ وَفُلَانًا غَيْرُ رَاسِخٍ، فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ وَانْحَازَ إِلَى فِرْقَةٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ الرَّاسِخُ، وَغَيْرُ قَاصِرِ النَّظَرِ، فَإِنْ فُرِضَ عَلَى ذَلِكَ الْمَطْلَبِ عَلَامَةٌ وَقَعَ النِّزَاعُ إِمَّا فِي الْعَلَامَةِ، وَإِمَّا فِي مَنَاطِهَا.

وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ عَلَامَةَ الْخُرُوجِ مِنَ الْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةُ الْمُنَبِّهُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105] وَالْفُرْقَةُ -بِشَهَادَةِ الْجَمِيعِ- [حَقِيقِيَّةٌ] وإِضَافِيَّةٌ فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَزْعُمُ أَنَّهَا هِيَ الْجَمَاعَةُ وَمَنْ سِوَاهَا مُفَارِقٌ لِلْجَمَاعَةِ.

وَمِنَ الْعَلَامَاتِ اتِّبَاعُ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَرْمِي صَاحِبَتَهَا بِذَلِكَ وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي اتَّبَعَتْ أُمَّ الْكِتَابِ دُونَ الْأُخْرَى فَتَجْعَلُ دَلِيلَهَا عُمْدَةً وَتَرُدُّ إِلَيْهِ سَائِرَ الْمَوَاضِعِ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى عَكْسِ الْأُخْرَى.

وَمِنْهَا اتِّبَاعُ الْهَوَى الَّذِي تَرْمِي بِهِ كُلُّ فِرْقَةٍ صَاحِبَتَهَا وَتُبَرِّئُ نَفْسَهَا مِنْهُ، فَلَا يُمْكِنُ فِي الظَّاهِرِ مَعَ هَذَا أَنَّ يَتَّفِقُوا عَلَى مَنَاطِ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَيْهَا لَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُمْ بِهَا بِحَيْثُ يُشِيرُ إِلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْعَلَامَاتِ، وَأَنَّهُمْ فِي التَّحْصِيلِ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا، وَبِذَلِكَ صَارَتْ عَلَامَاتٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَنَاطِ الضَّبْطُ بِالْعَلَامَاتِ.

وَوَجْهٌ رَابِعٌ:
وَهُوَ مَا تَقْدَمُ مِنْ فَهْمِنَا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ فِي السَّتْرِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِنْ حَصَلَ التَّعْيِينُ بِالِاجْتِهَادِ، فَالِاجْتِهَادُ لَا يَقْتَضِي الِاتِّفَاقَ عَلَى مَحَلِّهِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ جَزَمُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّظَرَيْنِ لَا يُمْكِنُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِمَا عَادَةً؟ فَلَوْ تَعَيَّنُوا بِالنَّصِّ لَمْ يَبْقَ إِشْكَالٌ.

بَلْ أَمْرُ الْخَوَارِجِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَدْ عَيَّنَهُمْ وَعَيَّنَ عَلَامَتَهُمْ فِي الْمُخْدَجِ حَيْثُ قَالَ: «آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ، إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، وَمِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ» الْحَدِيثَ.

وَهُمُ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، إِذْ لَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَهُوا، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ فِي الْقَتْلِ تَعْيِينٌ؟

وَوَجْهٌ خَامِسٌ:
وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118] الْآيَةَ - يُشْعَرُ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ أَنَّ الْخِلَافَ لَا يَرْتَفِعُ، مَعَ مَا يُعَضِّدُهُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فَرَغْنَا مِنْ بَيَانِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ الْفِرَقِ إِذِ الْآيَةُ لَا تُشْعِرُ بِخُصُوصِ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَبْقَى الْخِلَافُ فِي الْأَدْيَانِ دُونَ دِينِ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ بَيَّنَ أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي الْأُمَّةِ أَيْضًا، فَانْتَظَمَتْهُ الْآيَةُ بِلَا إِشْكَالٍ.

فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ظَهَرَ بِهِ أَنَّ التَّعْيِينَ لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا اجْتِهَادِيٌّ لَا يَنْقَطِعُ الْخِلَافُ فِيهِ، وَإِنِ ادُّعِيَ فِيهِ الْقَطْعُ دُونَ الظَّنِّ فَهُوَ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ، وَلَكُنَّا مَعَ ذَلِكَ نَسْلُكُ فِي الْمَسْأَلَةِ -بِحَوْلِ اللَّهِ- مَسْلَكًا وَسَطًا يُذْعِنُ إِلَى قَبُولِهِ عَقْلُ الْمُوَفَّقِ، وَيُقِرُّ بِصَحْنِهِ الْعَالِمُ بِكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

فَنَقُولُ:
لَابُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَطْلُوبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِحْدَاثَ فِي الشَّرِيعَةِ إِنَّمَا يَقَعُ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِالْعَقْلِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَهَذَا الْحَصْرُ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ مَرَّ فِي ذَلِكَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَوَاهِدُ الْمَسْأَلَةِ، إِلَّا أَنَّ الْجِهَاتِ الثَّلَاثَ قَدْ تَنْفَرِدُ وَقَدْ تَجْتَمِعُ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فَتَارَةً تَجْتَمِعُ مِنْهَا اثْنَتَانِ وَتَارَةً تَجْتَمِعُ الثَّلَاثُ.

فَأَمَّا جِهَةُ الْجَهْلِ فَتَارَةً تَتَعَلَّقُ بِالْأَدَوَاتِ الَّتِي بِهَا تُفْهَمُ الْمَقَاصِدُ، وَتَارَةً تَتَعَلَّقُ بِالْمَقَاصِدِ، وَأَمَّا جِهَةُ تَحْسِينِ الظَّنِّ فَتَارَةً يُشْرَكُ فِي التَّشْرِيعِ مَعَ الشَّرْعِ، وَتَارَةً يُقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَهَذَانَ النَّوْعَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا جِهَةُ اتِّبَاعِ الْهَوَى، فَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْلِبَ الْفَهْمُ حَتَّى يَغْلِبَ صَاحِبُهُ الْأَدِلَّةَ أَوْ يَسْتَنِدَ إِلَى غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهَذَانَ النَّوْعَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَالْجَمِيعُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: وَهِيَ الْجَهْلُ بِأَدَوَاتِ الْفَهْمِ، وَالْجَهْلُ بِالْمَقَاصِدِ، وَتَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْعَقْلِ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى.
فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

[فَصْلٌ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ وَجَاءَ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ]
النَّوْعُ الْأَوَّلُ
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا لَا عُجْمَةَ فِيهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ جَاءَ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3]
وَقَالَ تَعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193] وَكَانَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عَرَبِيًّا أَفْصَحَ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَكَانَ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ عَرَبًا أَيْضًا، فَجَرَى الْخِطَابُ بِهِ عَلَى مُعْتَادِهِمْ فِي لِسَانِهِمْ، فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي إِلَّا وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ، وَلَمْ يُدَاخِلْهُ شَيْءٌ بَلْ نَفَى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ أَعْجَمِيٌّ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].

وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 44].

هَذَا وَإِنْ كَانَ بُعِثَ لِلنَّاسِ كَافَّةً فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ جَمِيعَ الْأُمَمِ وَعَامَّةَ الْأَلْسِنَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ تَبَعًا لِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُفْهَمُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ اعْتِبَارُ أَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا وَأَسَالِيبِهَا.

أَمَّا أَلْفَاظُهَا فَظَاهِرَةٌ لِلْعِيَانِ، وَأَمَّا مَعَانِيهَا وَأَسَالِيبُهَا فَكَانَ مِمَّا يُعْرَفُ مِنْ مَعَانِيهَا اتِّسَاعُ لِسَانِهَا، وَأَنْ تُخَاطِبَ بِالشَّيْءِ مِنْهُ عَامًّا ظَاهِرًا يُرَادُ بِهِ الظَّاهِرُ، وَيُسْتَغْنَى بِأَوَّلِهِ عَنْ آخِرِهِ، وَعَامًّا ظَاهِرًّا يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ وَيَدْخُلُهُ الْخَاصُّ، وَيُسْتَدَلُّ إِلَى هَذَا بِبَعْضِ الْكَلَامِ، وَعَامًّا ظَاهِرًا يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، وَظَاهِرًا يُعْرَفُ فِي سِيَاقِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ الظَّاهِرِ، وَالْعِلْمُ بِهَذَا كُلِّهِ مَوْجُودٌ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ.

وَتَبْتِدِئُ الشَّيْءَ مِنْ كَلَامِهَا بَيْنَ أَوَّلِ اللَّفْظِ فِيهِ عَنْ آخِرِهِ، أَوْ بَيْنَ آخِرِهِ عَنْ أَوَّلِهِ، وَيُتَكَلَّمُ بِالشَّيْءِ تَعْرِفُهُ بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ كَمَا تَعْرِفُ بِالْإِشَارَةِ، وَهَذَا عِنْدَهَا مِنْ أَفْصَحِ كَلَامِهَا، لِانْفِرَادِهَا بِعِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهَا مِمَّنْ يَجْهَلُهُ، وَتُسَمِّي الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِالْأَسْمَاءِ الْكَثِيرَةِ، وَتُوقِعُ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ.

فَهَذِهِ كُلُّهَا مَعْرُوفَةٌ عِنْدَهَا وَتُسْتَنْكَرُ عِنْدَ غَيْرِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَعْرِفُهَا مَنْ زَاوَلَ كَلَامَهُمْ وَكَانَتْ لَهُ بِهِ مَعْرِفَةٌ، وَثَبَتَ رُسُوخُهُ فِي عِلْمِ ذَلِكَ.

فَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءِ وَكِيلٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فَهَذَا مِنَ الْعَامِّ الظَّاهِرِ الَّذِي لَا خُصُوصَ فِيهِ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ وَذِي رُوحٍ وَشَجَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَاللَّهُ خَالِقُهُ، وَكُلُّ دَابَّةٍ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا، {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6].

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120]

فَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ مَنْ أَطَاقَ وَمَنْ لَمْ يُطِقْ فَهُوَ عَامُّ الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120] عَامٌّ فِيمَنْ أَطَاقَ وَمَنْ لَمْ يُطِقْ، فَهُوَ عَامُّ الْمَعْنَى.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77] فَهَذَا مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخَاصُّ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَطْعَمَا جَمِيعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] فَهَذَا عَامٌّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ.

وَقَالَ إِثْرَ هَذَا:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فَهَذَا خَاصٌّ، لِأَنَّ التَّقْوَى إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَنْ عَقَلَهَا مِنَ الْبَالِغِينَ.

وَقَالَ تَعَالَى:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الثَّانِي الْخُصُوصُ لَا الْعُمُومُ، وَإِلَّا فَالْمَجْمُوعُ لَهُمُ النَّاسُ نَاسٌ أَيْضًا وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا، لَكِنَّ لَفْظَ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ، وَعَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَعَلَى مَا بَيْنَ ذَلِكَ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، وَالنَّاسُ الْأُوَلُ الْقَائِلُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ.

وَقَالَ تَعَالَى:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج: 73] فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ إِلَهًا، دُونَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَالْمُؤْمِنِينَ.

وَقَالَ تَعَالَى:
{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 163] فَظَاهِرُ السُّؤَالِ عَنِ الْقَرْيَةِ نَفْسِهَا، وَسِيَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف: 163] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا لِأَنَّ الْقَرْيَةَ لَا تَعْدُو وَلَا تَفْسُقُ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] الْآيَةَ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ كَانَتْ ظَالِمَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا.

وَقَالَ تَعَالَى:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] الْآيَةَ، فَالْمَعْنَى بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَرْيَةَ وَالْعِيرَ لَا يُخْبِرَانِ بِصِدْقِهِمْ.

هَذَا كُلُّهُ مَعْنَى تَقْرِيرِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الثَّابِتَةِ لِلْعَرَبِ وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ مُبِيِّنٌ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُفْهَمُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَتَى الشَّافِعِيُّ بِالنَّوْعِ الْأَغْمَضِ مِنْ طَرَائِقِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الْعَرَبِيَّةِ قَدْ بَسَطَهَا أَهْلُهَا، وَهُمْ أَهْلُ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، وَأَهْلُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَأَهْلُ الِاشْتِقَاقِ وَشَرْحِ مُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ، وَأَهْلُ الْأَخْبَارِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ الْعَرَبِ لِمُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ، فَجَمِيعُهُ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ عِبَارَةَ الْعَرَبِيِّ.

فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَعَلَى النَّاظِرِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْمُتَكَلِّمِ فِيهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا أَمْرَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ عَرَبِيًّا أَوْ كَالْعَرَبِيِّ فِي كَوْنِهِ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، بَالِغًا فِيهِ مَبَالِغَ الْعَرَبِ.

أَوْ مَبَالِغَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ وَدَانَاهُمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا كَحِفْظِهِمْ وَجَامِعًا كَجَمْعِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَصِيرَ فَهْمُهُ عَرَبِيًّا فِي الْجُمْلَةِ.

وَبِذَلِكَ امْتَازَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ. إِذْ بِهَذَا الْمَعْنَى أَخَذُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى صَارُوا أَئِمَّةً، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَحَسْبُهُ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْقُرْآنِ التَّقْلِيدُ، وَلَا يَحْسُنُ ظَنُّهُ بِفَهْمِهِ دُونَ أَنْ يَسْأَلَ فِيهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِهِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمَّا قَرَّرَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ:
فَمَنْ جَهِلَ هَذَا مِنْ لِسَانِهَا يَعْنِي لِسَانَ الْعَرَبِ -وَبِلِسَانِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِهِ- فَتَكَلَّفَ الْقَوْلَ فِي عِلْمِهَا تَكَلُّفَ مَا يَجْهَلُ لَفْظَهُ، وَمَنْ تَكَلَّفَ مَا جَهِلَ وَمَا لَمْ يُثْبِتْهُ مَعْرِفَةٌ، كَانَتْ مُوَافَقَتُهُ لِلصَّوَابِ -إِنْ وَافَقَهُ- مِنْ حَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ غَيْرَ مَحْمُودَةٍ، وَكَانَ فِي تَخْطِئَتِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ، إِذْ نَظَرَ فِيمَا لَا يُحِيطُ عِلْمُهُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَإِ فِيهِ.

وَمَا قَالَهُ حَقٌّ، فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ تَكَلُّفٌ -وَقَدْ نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ- وَدُخُولٌ تَحْتَ مَعْنَى الْحَدِيثِ، حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا» الْحَدِيثَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ رَجَعَ الْأَعْجَمِيُّ إِلَى فَهْمِهِ وَعَقْلِهِ الْمُجَرَّدِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِدَلِيلٍ يَضِلُّ عَنِ الْجَادَّةِ.

وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ:
أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَتَعَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ لِيُقِيمَ بِهَا لِسَانَهُ، وَيُصْلِحَ بِهَا مَنْطِقَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ! فَلْيَتَعَلَّمْهَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقْرَأُ فَيَعِيَا بِوَجْهِهَا فَيَهْلِكُ.

وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
أَهْلَكَتْهُمُ الْعُجْمَةُ، يَتَأَوَّلُونَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ.

وَالْأَمْرُ الثَّانِي:
أَنَّهُ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ لَفْظٌ أَوْ مَعْنًى فَلَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَوْلِ فِيهِ دُونَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَقَدْ يَكُونُ إِمَامًا فِيهَا، وَلَكِنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ.

فَالْأَوْلَى فِي حَقِّهِ الِاحْتِيَاطُ، إِذْ قَدْ يَذْهَبُ عَلَى الْعَرَبِيِّ الْمَحْضِ بَعْضُ الْمَعَانِي الْخَاصَّةِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهَا... وَقَدْ نُقِلَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا... عَنِ الصَّحَابَةِ -وَهُمُ الْعَرَبُ- فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ.

نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا. أَيْ أَنَا ابْتَدَأْتُهَا.

وَفِيمَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَأَلَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ أَنَّ التَّخَوُّفَ عِنْدَهُمْ هُوَ التَّنَقُّصُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ وَخَفَاءِ بَعْضِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى بَعْضِ الْعَرَبِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ:
لِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ مَذْهَبًا، وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا.

قَالَ:
وَلَا نَعْلَمُهُ يُحِيطُ بِجَمِيعِ عِلْمِهِ إِنْسَانٌ غَيْرُ نَبِيٍّ.

وَلَكِنَّهُ لَا يَذْهَبُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى عَامَّتِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهَا مَنْ يَعْرِفُهُ -قَالَ- وَالْعِلْمُ بِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ كَالْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا نَعْلَمُ رَجُلًا جَمَعَ السُّنَنَ فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِذَا جَمَعَ (عِلْمَ) عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا أَتَى عَلَى السُّنَنِ، وَإِذَا فَرَّقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَهَبَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ مِنْهَا، ثُمَّ كَانَ مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ مِنْهَا مَوْجُودًا عِنْدَ غَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ فِي طَبَقَتِهِ وَأَهْلِ عِلْمِهِ قَالَ: وَهَكَذَا لِسَانُ الْعَرَبِ عِنْدَ خَاصَّتِهَا وَعَامَّتِهَا لَا يَذْهَبُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَيْهَا وَلَا يُطْلَبُ عِنْدَ غَيْرِهَا، وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ نَقَلَهُ عَنْهَا، وَلَا يُشْرِكُهَا فِيهِ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهَا فِي تَعَلُّمِهِ مِنْهَا، وَمَنْ قَبِلَهُ مِنْهَا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ لِسَانِهَا، وَإِنَّمَا صَارَ غَيْرُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ لِتَرْكِهِ، فَإِذَا صَارَ إِلَيْهِ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ.

هَذَا مَا قَالَ وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا لَزِمَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْكَلَامَ الَّذِي بِهِ أُدِّيَتْ، وَأَنْ لَا يَحْسُنَ ظَنُّهُ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ لَهُ مِنْ أَهْلِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ، وَأَنْ لَا يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُشْكِلَةِ الَّتِي لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمُهُ دُونَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى هَذِهِ الْوَصَاةِ كَانَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - مُوَافِقًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَصْحَابُهُ الْكِرَامُ.

رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ:
«قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.. مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: ذُو الْقَلْبِ الْمَهْمُومِ، وَاللِّسَانِ الصَّادِقِ، قُلْنَا: قَدْ عَرَفْنَا اللِّسَانَ الصَّادِقَ، فَمَا ذُو الْقَلْبِ الْمَهْمُومِ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا حَسَدَ، قُلْنَا فَمَنْ عَلَى أَثَرِهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَنْسَى الدُّنْيَا وَيُحِبُّ الْآخِرَةَ. قُلْنَا: مَا نَعْرِفُ هَذَا فِينَا إِلَّا رَافِعًا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قُلْنَا: فَمَنْ عَلَى أَثَرِهِ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي خُلُقٍ حَسَنٍ، قُلْنَا: أَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ فِينَا.»

وَيُرْوَى:
«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُدَالِكُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَانَ مُلْفَجًا فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: مَا قُلْتُ وَمَا قَالَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: قَالَ: أَيُمَاطِلُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ إِذَا كَانَ فَقِيرًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا رَأَيْتُ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ مِنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: كَيْفَ لَا وَأَنَا مِنْ قُرَيْشٍ، وَأُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ؟».

فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ تَدَلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ اللُّغَةِ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ بَعْضِ الْعَرَبِ، فَالْوَاجِبُ السُّؤَالُ كَمَا سَأَلُوا فَيَكُونُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَإِلَّا زَلَّ فَقَالَ فِي الشَّرِيعَةِ بِرَأْيِهِ لَا بِلِسَانِهَا.

وَلْنَذْكُرْ لِذَلِكَ سِتَّةَ أَمْثِلَةٍ:
أَحَدُهَا:
قَوْلُ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80] أَنَّ تَأْوِيلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَجِئْ بَعْدُ -وَكَذَبَ- فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَذْهَبَ الرَّافِضَةِ، فَإِنَّهَا تَقُولُ إِنَّ عَلِيًّا فِي السَّحَابِ فَلَا يَخْرُجُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مِنْ وَلَدِهِ حَتَّى يُنَادِيَ عَلِيٌّ مِنَ السَّمَاءِ: اخْرُجُوا مَعَ فُلَانٍ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80] الْآيَةَ، عِنْدَ جَابِرٍ حَسْبَمَا فَسَّرَهُ سُفْيَانُ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ يَجِئْ بَعْدُ.

بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَمَنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ فَلَا يَرْتَابُ فِي أَنَّ سِيَاقَ الْقُرْآنِ دَالٌّ عَلَى مَا قَالَ سُفْيَانُ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ جَابِرٌ لَا يَنْسَاقُ.

وَالثَّانِي:
قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ نِكَاحُ تِسْعٍ مِنَ الْحَلَائِلِ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] لِأَنَّ أَرْبَعًا إِلَى ثَلَاثٍ إِلَى اثْنَتَيْنِ تِسْعٌ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِمَعْنَى فُعَالٍ وَمَفْعَلٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ، فَانْكِحُوا إِنْ شِئْتُمُ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا عَلَى التَّفْصِيلِ لَا عَلَى مَا قَالُوا.

وَالثَّالِثُ:
قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنَ الْخِنْزِيرِ إِنَّمَا هُوَ اللَّحْمُ، وَأَمَّا الشَّحْمُ فَحَلَالٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّحْمَ دُونَ الشَّحْمِ، وَلَوْ عَرَفَ أَنَّ اللَّحْمَ يُطْلَقُ عَلَى الشَّحْمِ أَيْضًا بِخِلَافِ الشَّحْمِ فَإِنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّحْمِ لَمْ يَقُلْ مَا قَالَ.

وَالرَّابِعُ:
قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ شَيْءً فَانٍ حَتَّى ذَاتِ الْبَارِي -تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا- مَا عَدَا الْوَجْهَ، بِدَلِيلِ {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ هُنَا غَيْرُ مَا قَالَ، فَإِنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ تَأْوِيلَاتٌ، وَقَصْدُ هَذَا الْقَائِلِ مَا لَا يَتَّجِهُ لُغَةً وَلَا مَعْنًى.

وَأَقْرَبُ قَوْلٍ لِقَصْدِ هَذَا الْمِسْكِينِ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذُو الْوَجْهِ كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ هَذَا لِوَجْهِ فُلَانٍ: أَيْ لِفُلَانٍ، فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا هُوَ.

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26].

وَالْخَامِسُ:
قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَنْبًا، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] وَهَذَا لَا مَعْنَى لِلْجَنْبِ فِيهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: هَذَا الْأَمْرُ يَصْغُرُ فِي جَنْبِ هَذَا، أَيْ يَصْغُرُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى آخَرَ، فَكَذَلِكَ الْآيَةُ مَعْنَاهَا: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أَيْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ، إِذْ أَضَفْتُ تَفْرِيطِي إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ إِيَّايَ.

وَالسَّادِسُ:
قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» إِنَّ هَذَا الَّذِي فِي الْحَدِيثِ هُوَ مَذْهَبُ الدَّهْرِيَّةِ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ إِذَا أَصَابَتْكُمُ الْمَصَائِبَ، وَلَا تَنْسُبُوهَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَصَابَكُمْ بِذَلِكَ لَا الدَّهْرُ، فَإِنَّكُمْ إِذَا سَبَبْتُمُ الدَّهْرَ وَقَعَ السَّبُّ عَلَى الْفَاعِلِ لَا عَلَى الدَّهْرِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ مِنْ عَادَتِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ تَنْسُبَ الْأَفْعَالَ إِلَى الدَّهْرِ فَتَقُولُ: أَصَابَهُ الدَّهْرُ فِي مَالِهِ، وَنَابَتْهُ قَوَارِعُ الدَّهْرِ وَمَصَائِبِهِ.

فَيَنْسُبُونَ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ تَجْرِي بِهِ أَقْدَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ إِلَى الدَّهْرِ، فَيَقُولُونَ: لَعَنَ اللَّهُ الدَّهْرَ، وَمَحَا اللَّهُ الدَّهْرَ.

وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَسُبُّونَهُ لِأَجْلِ الْفِعَالِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَبُّوا الْفَاعِلَ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ، فَكَأَنَّهُمْ يَسُبُّونَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ كَيْفَ يَقَعُ الْخَطَأُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَالصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بُرَآءٌ مِنْ ذَلِكَ.

لِأَنَّهُمْ عَرَبٌ لَمْ يَحْتَاجُوا فِي فَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى أَدَوَاتٍ وَلَا تَعَلُّمٍ، ثُمَّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِعَرَبِيِّ اللِّسَانِ تَكَلَّفَ ذَلِكَ حَتَّى عَلِمَهُ، وَحِينَئِذٍ دَاخَلَ الْقَوْمَ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ وَتَنْزِيلِهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي فِيهَا كَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَغَيْرِهِ، فَكُلُّ مَنِ اقْتَدَى بِهِمْ فِي تَنْزِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ -إِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ - دَاخِلٌ فِي سَوَادِهِمُ الْأَعْظَمِ، كَائِنٌ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَانْتَظَمَ فِي سِلْكِ النَّاجِيَةِ.


الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 14 يناير 2019, 8:57 am عدل 3 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Empty
مُساهمةموضوع: رد: الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ   الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Emptyالإثنين 16 أبريل 2018, 8:31 am

[فَصْلٌ اللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الشَّرِيعَةَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ]
فَصْلٌ (النَّوْعُ الثَّانِي)
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الشَّرِيعَةَ عَلَى رَسُولِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ فِي تَكَالِيفِهِمُ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا، وَتَعَبُّدَاتِهِمُ الَّتِي طَوَّقُوهَا فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَلَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَتَّى كَمُلَ الدِّينُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ؛ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] فَكُلُّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بَقِيَ فِي الدِّينِ شَيْءٌ لَمْ يَكْمُلْ فَقَدْ كَذَبَ بِقَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].

فَلَا يُقَالُ:
قَدْ وَجَدْنَا مِنَ النَّوَازِلِ وَالْوَقَائِعِ الْمُتَجَدِّدَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ نَصٌّ عَلَيْهِ، وَلَا عُمُومٌ يَنْتَظِمُهُ، وَأَنَّ مَسَائِلَ الْجَدِّ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْحَرَامِ فِي الطَّلَاقِ، وَمَسْأَلَةَ السَّاقِطِ عَلَى جَرِيحٍ مَحْفُوفٍ بِجَرْحَى، وَسَائِرَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَأَيْنَ الْكَلَامُ فِيهَا؟

فَيُقَالُ فِي الْجَوَابِ:
أَوَّلًا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] إِنِ اعْتُبِرَتْ فِيهَا الْجُزْئِيَّاتُ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالنَّوَازِلِ فَهُوَ كَمَا أَوْرَدْتُمْ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ كُلِّيَّاتُهَا، فَلَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ قَاعِدَةٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ أَوِ التَّكْمِيلِيَّاتِ إِلَّا وَقَدْ بُيِّنَتْ غَايَةَ الْبَيَانِ، نَعَمْ يَبْقَى تَنْزِيلُ الْجُزْئِيَّاتِ عَلَى تِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ مَوْكُولًا إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، فَإِنَّ قَاعِدَةَ الِاجْتِهَادِ أَيْضًا ثَابِتَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَابُدَّ مِنْ إِعْمَالِهَا. وَلَا يَسْعُ النَّاسَ تَرَكُهَا، وَإِذَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ أَشْعَرَتْ بِأَنَّ ثَمَّ مَجَالًا لِلِاجْتِهَادِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ.

وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكَمَالَ بِحَسَبِ تَحْصِيلِ الْجُزْئِيَّاتِ بِالْفِعْلِ، فَالْجُزْئِيَّاتُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَلَا تَنْحَصِرُ بِمَرْسُومٍ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْكَمَالُ بِحَسَبِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ النَّوَازِلِ.

ثُمَّ نَقُولُ ثَانِيًا: إِنَّ النَّظَرَ فِي كَمَالِهَا بِحَسَبِ خُصُوصِ الْجُزْئِيَّاتِ يُؤَدِّي إِلَى الْإِشْكَالِ وَالِالْتِبَاسِ، وَإِلَّا فَهُوَ الَّذِي أَدَّى إِلَى إِيرَادِ هَذَا السُّؤَالِ، إِذْ لَوْ نَظَرَ السَّائِلُ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي وُضِعَتْ عَلَيْهَا الشَّرِيعَةُ، وَهِيَ حَالَةُ الْكُلِّيَّةِ لَمْ يُورِدْ سُؤَالَهُ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْأَبَدِيَّةِ، وَإِنْ وُضِعَتِ الدُّنْيَا عَلَى الزَّوَالِ وَالنِّهَايَةِ.

وَأَمَّا الْجُزْئِيَّةُ فَمَوْضُوعَةٌ عَلَى النِّهَايَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْحَصْرِ فِي التَّفْصِيلِ، وَإِذْ ذَاكَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لَمْ تَكْمُلْ فَيَكُونُ خِلَافًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] الْآيَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الصَّادِقُ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ الْمُخَالِفُ.

فَظَاهِرٌ إِذْ ذَاكَ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا وَإِطْلَاقِهَا، وَأَنَّ النَّوَازِلَ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْكَمَالِ لِأَنَّهَا إِمَّا مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا وَإِمَّا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَهِيَ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ الْجَارِيَةُ عَلَى الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فَأَحْكَامُهَا قَدْ تَقَدَّمَتْ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْظَرُ الْمُجْتَهِدِ إِلَى أَيِّ دَلِيلٍ يَسْتَنِدُ خَاصَّةً وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا، فَهِيَ الْبِدَعُ الْمُحْدَثَاتُ، إِذْ لَوْ كَانَتْ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا لَمَا سَكَتَ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ، لَكِنَّهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا بِالْفَرْضِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَيْسَتْ بِمُحْتَاجٍ إِلَيْهَا. فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ قَدْ كَمُلَ الدِّينُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، أَنَّهُمْ لَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ قَطُّ إِيرَادُ ذَلِكَ السُّؤَالِ، وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: لِمَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ؟ وَعَلَى حُكْمِ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلِيَّ حَرَامٌ؟ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَجِدُوا فِيهِ عَنِ الشَّارِعِ نَصًّا، بَلْ قَالُوا فِيهَا وَحَكَمُوا بِالِاجْتِهَادِ، وَاعْتَبَرُوا بِمَعَانٍ شَرْعِيَّةٍ تَرْجِعُ فِي التَّحْصِيلِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالنَّصِّ فَإِنَّهُ بِالْمَعْنَى.. فَقَدْ ظَهَرَ إِذًا وَجْهُ كَمَالِ الدِّينِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ.

وَنَنْتَقِلُ مِنْهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ مُبَرَّأً عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّضَادِّ، لِيَحْصُلَ فِيهِ كَمَالُ التَّدَبُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فَدَلَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَهُوَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُعَضِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا، مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.

فَأَمَّا جِهَةُ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْفَصَاحَةَ فِيهِ مُتَوَاتِرَةٌ مُطَّرِدَةٌ بِخِلَافِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِ.

فَإِنَّكَ تَرَاهُ إِلَى الِاخْتِلَافِ مَا هُوَ فَيَأْتِي بِالْفَصْلِ مِنَ الْكَلَامِ الْجَزْلِ الْفَصِيحِ فَلَا يَكَادُ يَخْتِمُهُ إِلَّا وَقَدْ عَرَضَ لَهُ فِي أَثْنَاءهِ مَا نَقَصَ مِنْ مَنْصِبِ فَصَاحَتِهِ، وَهَكَذَا تَجِدُ الْقَصِيدَةَ الْوَاحِدَةَ، مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَى نَسَقِ الْفَصَاحَةِ اللَّائِقَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ.

وَأَمَّا جِهَةُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ عَلَى كَثْرَتِهَا أَوْ عَلَى تَكْرَارِهَا بِحَسَبِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ عَلَى حِفْظِ وَبُلُوغِ غَايَةٍ فِي إِيصَالِهَا إِلَى غَايَتِهَا، مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا تَضَادٍّ وَلَا تَعَارُضٍ، عَلَى وَجْهٍ لَا سَبِيلَ إِلَى الْبَشَرِ أَنْ يُدَانُوهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سَمِعَتْهُ أَهْلُ الْبَلَاغَةِ الْأُولَى وَالْفَصَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ -وَهُمُ الْعَرَبُ- لَمْ يُعَارِضُوهُ، وَلَمْ يُغَيِّرُوا فِي وَجْهِ إِعْجَازِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَهُمْ أَحْرَصُ مَا كَانُوا عَلَى الِاعْتِرَاضِ فِيهِ وَالْغَضِّ مِنْ جَانِبِهِ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمُوا وَعَايَنُوا مَعَانِيَهُ وَتَفَكَّرُوا فِي غَرَائِبِهِ، لَمْ يَزِدْهُمُ الْبَحْثُ إِلَّا بَصِيرَةً فِي أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَعَارُضَ، وَالَّذِي نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ يَسِيرٌ تَوَقَّفُوا فِيهِ تَوَقُّفَ الْمُسْتَرْشِدِ حَتَّى يُرْشَدُوا إِلَى وَجْهِ الصَّوَابِ، أَوْ تَوَقُّفَ الْمُتَثَبِّتِ فِي الطَّرِيقِ.

وَقَدْ صَحَّ أَنَّ سَهْلَ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ يَوْمَ صِفِّينَ وَحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَمْرَهُ لَرَدَدْنَاهُ، وَايْمُ اللَّهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا مِنْ عَلَى عَوَاتِقِنَا مُنْذُ أَسْلَمْنَا لِأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلَنَّ بِنَا أَمْرٌ نَعْرِفُهُ الْحَدِيثَ.

فَوَجْهُ الشَّاهِدِ مِنْهُ أَمْرَانِ:
قَوْلُهُ اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَإِنَّ مُعَارَضَةُ الظَّوَاهِرِ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ رَأْيٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى أَصْلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ -وَهُوَ النُّكْتَةُ فِي الْبَابِ-:
«وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا» إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ فِي شَرْعِ اللَّهِ مِمَّا يُصَادِمُ الرَّأْيَ فَإِنَّهُ حَقٌّ يَتَبَيَّنُ عَلَى التَّدْرِيجِ حَتَّى يَظْهَرَ فَسَادُ ذَلِكَ الرَّأْيِ، وَأَنَّهُ كَانَ شُبْهَةً عَرَضَتْ وَإِشْكَالًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ، بَلْ يُتَّهَمُ أَوَّلًا وَيُعْتَمَدُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَبَيَّنِ الْيَوْمَ تَبَيَّنَ غَدًا، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ أَبَدًا فَلَا حَرَجَ، فَإِنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ:
«سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَكِدْتُ أَسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَصَبَرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبَتْهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟... فَقَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)... فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ.. فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا... فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): أَرْسِلْهُ... اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ -ثُمَّ قَالَ- اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقَالَ - كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ».

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِنَّمَا هِيَ إِشْكَالٌ وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي نَقْلِ الشَّرْعِ بَيَّنَ لَهُمْ جَوَابَهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي بَعْضِ مَعَانِيهِ أَوْ مَسَائِلِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَفْسُهُ اخْتِلَافٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ فِي النُّبُوَّاتِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّاتِ.

وَاخْتَلَفَتْ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ عُلُومِ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُهُمْ دَلِيلًا عَلَى وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَحَّ مِنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَى هَذَا مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ تَنَزُّهُهُ عَنِ الِاخْتِلَافِ، صَحَّ أَنْ يَكُونَ حَكَمًا بَيْنَ جَمِيعِ الْمُخْتَلِفِينَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَرِّرُ مَعْنًى هُوَ الْحَقُّ، وَالْحَقُّ لَا يَخْتَلِفُ فِي نَفْسِهِ، فَكُلُّ اخْتِلَافٍ صَدَرَ مِنْ مُكَلَّفٍ فَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

فَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا صَرِيحَةٌ فِي الرَّدِّ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ بَيَانُ الْكِتَابِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِيهِ وَاضِحٌ، وَأَنَّ الْبَيَانَ فِيهِ شَافٍ، لَا شَيْءَ بَعْدَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَهَكَذَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ رَدُّوهَا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَضَايَاهُمْ شَاهِدَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، لَا يَجْهَلُهَا مَنْ زَاوَلَ الْفِقْهَ، فَلَا فَائِدَةَ فِي جَلْبِهَا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ لِشُهْرَتِهَا، فَهُوَ إِذًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ.

فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَعَلَى النَّاظِرِ فِي الشَّرِيعَةِ بِحَسَبِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْكَمَالِ لَا بِعَيْنِ النُّقْصَانِ، وَيَعْتَبِرَهَا اعْتِبَارًا كُلِّيًّا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَلَا يَخْرُجَ عَنْهَا الْبَتَّةَ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا تِيهٌ وَضَلَالٌ وَرَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ كَمَالُهَا وَتَمَامُهَا؟ فَالزَّائِدُ وَالنَّاقِصُ فِي جِهَتِهَا هُوَ الْمُبْتَدِعُ بِإِطْلَاقٍ، وَالْمُنْحَرِفُ عَنِ الْجَادَّةِ إِلَى بُنَيَّاتِ الطُّرُقِ.

وَالثَّانِي:
أَنْ يُوقِنَ أَنَّهُ لَا تَضَادَّ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَلَا بَيْنَ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَلَا بَيْنَ أَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ، بَلِ الْجَمِيعُ جَارٍ عَلَى مَهْيَعٍ وَاحِدٍ وَمُنْتَظِمٍ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِذَا أَدَّاهُ بَادِئَ الرَّأْيِ إِلَى ظَاهِرِ اخْتِلَافٍ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ انْتِفَاءَ الِاخْتِلَافِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ شَهِدَ لَهُ أَنْ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ.

 فَلْيَقِفْ وُقُوفَ الْمُضْطَرِّ السَّائِلِ عَنْ وَجْهِ الْجَمْعِ، أَوِ الْمُسَلِّمِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ عَمَلِيٌّ فَلْيَلْتَمِسِ الْمَخْرَجَ حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْحَقِّ الْيَقِينِ، أَوْ لِيَبْقَ بَاحِثًا إِلَى الْمَوْتِ وَلَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا اتَّضَحَ لَهُ الْمَغْزَى وَتَبَيَّنَتْ لَهُ الْوَاضِحَةُ.

فَلَابُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهَا حَاكِمَةً فِي كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا، وَيَضَعَهَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ فِي كُلِّ مَطْلَبٍ دِينِيٍّ، كَمَا فَعَلَ مَنْ تَقَدَّمَنَا مِمَّنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ.

فَأَمَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ:
فَهُوَ الَّذِي أَغْفَلَهُ الْمُبْتَدِعُونَ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاسْتِدْرَاكُ عَلَى الشَّرْعِ، وَإِلَيْهِ مَالَ كُلُّ مَنْ كَانَ يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَيُقَالُ لَهُ ذَلِكَ، وَيَحْذَرُ مَا فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ.

فَيَقُولُ:
لَمْ أَكْذِبْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا كَذَبْتُ لَهُ.

وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَعْرُوفِ بِالْأُرْدُنِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ حَسَنًا لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ أَجْعَلَ لَهُ إِسْنَادًا، فَلِذَلِكَ كَانَ يُحَدِّثُ بِالْمَوْضُوعَاتِ، وَقَدْ قُتِلَ فِي الزَّنْدَقَةِ وَصُلِبَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا الْقِسْمِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي:
فَإِنَّ قَوْمًا أَغْفَلُوهُ أَيْضًا وَلَمْ يُمْعِنُوا النَّظَرَ حَتَّى اخْتَلَفَ عَلَيْهِمُ الْفَهْمُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَأَحَالُوا بِالِاخْتِلَافِ عَلَيْهَا تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَابَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ حَالِ الْخَوَارِجِ حَيْثُ قَالَ: «يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» فَوَصَفَهُمْ بِعَدَمِ الْفَهْمِ لِلْقُرْآنِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَجُوا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، إِذْ قَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، وَقَدْ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ حَبْرُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] عَلَى وَجْهٍ أَذْعَنَ بِسَبَبِهِ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، أَوْ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَتَمَادَى الْبَاقُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، اعْتِقَادًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: لَا تُنَاظِرُوهُ وَلَا تُخَاصِمُوهُ فَإِنَّهُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58].  فَتَأَمَّلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ كَيْفَ كَانَ فَهْمُهُمْ فِي الْقُرْآنِ.

ثُمَّ لَمْ يَزَلْ هَذَا الْإِشْكَالُ يَعْتَرِي أَقْوَامًا حَتَّى اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ، وَتَدَافَعَتْ عَلَى أَفْهَامِهِمْ فَجَعْجَعُوا بِهِ قَبْلَ إِمْعَانِ النَّظَرِ.

عَشَرَةُ أَمْثِلَةٍ لِمَنِ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فَظَنُّوا أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ تَنَاقُضًا أَحَدُهَا تَنَاقُضُ آيَةِ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَعَ آيَةِ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ.

وَلْنَذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَمْثِلَةٍ: أَحَدُهَا:
قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] يَتَنَاقَضُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101].

وَالثَّانِي:
قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39] مُضَادٌّ لِقَوْلِهِ: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 93].

وَالثَّالِثُ:
قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 11] إِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَرْضَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 27] فَصَرَّحَ بِأَنَّ الْأَرْضَ مَخْلُوقَةٌ بَعْدَ السَّمَاءِ.


الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Empty
مُساهمةموضوع: رد: الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ   الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Emptyالإثنين 16 أبريل 2018, 8:35 am

وَمِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ مَا أَوْرَدَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ - أَوْ غَيْرُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-:
فَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْمُعَلَّقَاتِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27]، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] إِلَى قَوْلِهِ {طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا - عَزِيزًا حَكِيمًا - سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 96 - 58] فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى.

فَقَالَ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ:
{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْأُخْرَى أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:
{مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ - وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 23 - 42] فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُولُ: لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ. فَخَتَمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيَهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ، {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} [النساء: 42].

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ - ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 9 - 29] فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ، وَدَحْوُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى.

وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: دَحَاهَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] فَخُلِقَتِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَخُلِقَتِ السَّمَوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ.

{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ (قَوْلُهُ) أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ، فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

وَالرَّابِعُ:
قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» قَالُوا بَلَى الْحَدِيثَ كَمَا وَقَعَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]!

فَالْحَدِيثُ أَنَّهُ أَخَذَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَالْكِتَابُ يُخْبِرُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ، وَهَذَا إِذَا تُؤُمِّلَ لَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، بِأَنْ يَخْرُجُوا مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى وَجْهٍ لَوْ خَرَجُوا عَلَى التَّرْتِيبِ كَمَا أُخْرِجُوا إِلَى الدُّنْيَا، وَلَا مُحَالَ فِي هَذَا بِأَنْ يَتَفَطَّرَ فِي تِلْكَ الْآخِذَةِ الْأَبْنَاءُ عَنِ الْأَبْنَاءِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبِ زَمَانٍ، وَتَكُونُ النِّسْبَتَانِ مَعًا صَحِيحَتَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ.

وَالْخَامِسُ:
قَوْلُ مَنْ قَالَ فِيمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنْ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَشَدْتُكَ اللَّهَ! إِلَّا مَا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ خَصْمُهُ -وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ-: صَدَقَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَائْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ، ثُمَّ أَتَى بِالْحَدِيثِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ هَذَا جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمُ إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. هُوَ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ حَسْبَمَا سَأَلَهُ السَّائِلُ، ثُمَّ قَضَى بِالرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ»، وَلَيْسَ لَهُمَا ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ.

الْجَوَابُ:
إِنَّ الَّذِي أَوْجَبَ الْإِشْكَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَكَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْقُرْآنِ يُطْلَقُ عَلَى مَا كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُ مِمَّا هُوَ حُكْمُهُ وَفَرْضُهُ عَلَى الْعِبَادِ، كَانَ مَسْطُورًا فِي الْقُرْآنِ أَوَّلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] أَيْ حُكْمَ اللَّهِ فَرَضَهُ، وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] فَمَعْنَاهُ فَرَضَهُ وَحَكَمَ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ يُوجَدَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ.

وَالسَّادِسُ:
قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] لَا يُعْقَلُ مَعَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رَجَمَ وَرَجَمَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الرَّجْمَ يَنْتَصِفُ وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ نِصْفُهُ عَلَى الْإِمَاءِ؟ ذَهَابًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ هُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُحْصَنَاتُ هُنَا الْمُرَادُ بِهِنَّ الْحَرَائِرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَوَّلَ الْآيَةِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا إِلَّا الْحَرَائِرَ، لِأَنَّ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ لَا تُنْكَحُ.

وَالسَّابِعُ:
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْحَدِيثَ: «جَاءَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُنْكَحُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ لَمْ يَذْكُرْ مِنَ الرِّضَاعِ إِلَّا الْأُمَّ وَالْأُخْتَ، وَمِنَ الْجَمْعِ إِلَّا الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فَاقْتَضَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُنْكَحُ عَلَى عَمَّتِهَا وَعَلَى خَالَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ رِضَاعَتُهُ سِوَى الْأُمِّ وَالْأُخْتِ حَلَالًا.

وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ لَا تَعَارُضَ فِيهِ عَلَى حَالٍ.

وَالثَّامِنُ:
قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ».

وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ هُنَا التَّأْكِيدُ خَاصَّةً، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ تَرْكًا لِلْفَرْضِ، وَبِهِ يَتَّفِقُ مَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ فَلَا اخْتِلَافَ.

وَالتَّاسِعُ: قَوْلُهُمْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
«صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ الْعُمُرَ» وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] فَكَيْفَ تَزِيدُ صِلَةُ الرَّحِمِ فِي أَجْلٍ لَا يُؤَخَّرُ وَلَا يُقَدَّمُ أَلْبَتَّةَ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ.. (مِنْهَا):
أَنْ يَكُونَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ إِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَإِلَّا عَاشَ ثَمَانِينَ سَنَةً، مَعَ أَنَّ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِلَابُدٍّ، أَوْ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ أَصْلًا.

وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُ لَا يَسْتَأْخِرُ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُ.

قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الْقِرَافِيُّ.

وَالْعَاشِرُ:
قَالَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ»، ثُمَّ فِيهِ: «كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً»، وَهَذَا تَدَافُعٌ وَالْحَدِيثَانِ مَعًا لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.

وَالْجَوَابُ سَهْلٌ:
فَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مُوَسَّعٌ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ، وَفَعَلَ الْآخَرَ أَيْضًا وَأَكْثَرَ مِنْهُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ "كَانَ يَفْعَلُ" حَصَلَ مِنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ وَيَتْرُكُ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُسْتَحَبِّ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا.

فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَمْثِلَةٍ تُبَيِّنُ لَكَ مَوَاقِعَ الْإِشْكَالِ، وَإِنِّي رَتَّبْتُهَا مَعَ ثَلْجِ الْيَقِينِ، فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ كُلُّ مُوقِنٍ بِالشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ فِيهَا وَلَا اخْتِلَافَ.

فَمَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ فِيهَا فَهُوَ لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ وَلَا أَعْطَى وَحْيَ اللَّهِ حَقَّهُ.

وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82] فَحَضَّهُمْ عَلَى التَّدَبُّرِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَعْقَبَهُ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَأَنَّ التَّدَبُّرَ يُعِينُ عَلَى تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ.

[فَصْلُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ]
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا سَبِيلًا إِلَى الْإِدْرَاكِ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ.

وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاسْتَوَتْ مَعَ الْبَارِي تَعَالَى فِي إِدْرَاكِ جَمِيعِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ، إِذْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ، فَمَعْلُومَاتُ اللَّهِ لَا تَتَنَاهَى... وَمَعْلُومَاتُ الْعَبْدِ مُتَنَاهِيَةٌ... وَالْمُتَنَاهِي لَا يُسَاوِي مَا لَا يَتَنَاهَى.

وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ ذَوَاتُ الْأَشْيَاءِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَصِفَاتُهَا وَأَحْوَالُهَا وَأَفْعَالُهَا وَأَحْكَامُهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ يَعْلَمُهُ الْبَارِي تَعَالَى عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، بِحَيْثُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَحْوَالِهِ وَلَا فِي أَحْكَامِهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ قَاصِرٌ نَاقِصٌ، سَوَاءً كَانَ فِي تَعَقُّلِ ذَاتِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَحْوَالِهِ أَوْ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ فِي الْإِنْسَانِ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ عَاقِلٌ تُخْرِجُهُ التَّجْرِبَةُ إِذَا اعْتَبَرَهَا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ.

وَأَيْضًا: فَأَنْتَ تَرَى الْمَعْلُومَاتِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ التَّشْكِيكُ فِيهِ، كَعِلْمِ الْإِنْسَانِ بِوُجُودِهِ، وَعِلْمِهِ بِأَنَو الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ.

وَقِسْمٌ لَا يَعْلَمُهُ أَلْبَتَّةَ، إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ بِهِ أَوْ يُجْعَلَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَذَلِكَ كَعِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْهُ، كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعْتَادُ عَلِمَ الْعَبْدُ بِهِ أَوْ لَا، كَعِلْمِهِ بِمَا تَحْتَ رِجْلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ مُغَيَّبٌ عَنْهُ تَحْتَ الْأَرْضِ بِمِقْدَارِ شِبْرٍ. وَعِلْمِهِ بِالْبَلَدِ الْقَاصِي عَنْهُ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ بِهِ عَهْدٌ. فَضْلًا عَنْ عِلْمِهِ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْبِحَارِ وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ عَلَى التَّفْصِيلِ. فَعِلْمُهُ لِمَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ غَيْرُ مُمْكِنٍ.

وَقَسَمٌ نَظَرِيٌّ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَعْلَمَ بِهِ – وَهِيَ النَّظَرِيَّاتُ - وَذَلِكَ الْقِسْمُ النَّظَرِيُّ هُوَ الْمُمْكِنَاتُ الَّتِي تُعْلَمُ بِوَاسِطَةٍ لَا بِأَنْفُسِهَا.. إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهَا إِخْبَارًا.

وَقَدْ زَعَمَ أَهْلُ الْعُقُولِ أَنَّ النَّظَرِيَّاتِ لَا يُمْكِنُ الِاتِّفَاقُ فِيهَا عَادَةً لِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْأَنْظَارِ... فَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مُخْبِرٍ بِحَقِيقَتِهَا فِي أَنْفُسِهَا إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى الْإِخْبَارِ لَمْ يَصِحَّ الْعِلْمُ بِهَا لَأَنَّ الْمَعْلُومَاتِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَنْظَارِ لِأَنِّهَا حَقَائِقُ فِي أَنْفُسِهَا.

فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبًا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ- وَإِنَّمَا الْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ... وَهُوَ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ.

وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ. فَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ أَحَدَ الدَّلِيلَيْنِ دَلِيلٌ حَقِيقَةً. وَالْآخَرُ شُبْهَةٌ وَلَا يُعَيَّنُ. فَلَابُدَّ مِنْ إِخْبَارٍ بِالتَّعْيِينِ.

وَلَا يُقَالُ:
إِنَّ هَذَا قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ: لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ هُوَ يُلْزِمُ الْجَمِيعَ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالْمَعْصُومِ غَيْرِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الشَّارِعُ نَصًّا يَقْطَعُ الْعُذْرَ.

فَالْقَوْلُ بِإِثْبَاتِهِ نَظَرِيٌّ، فَهُوَ مِمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ... فَكَيْفَ يَخْرُجُ عَنِ الْخِلَافِ بِأَمْرٍ فِيهِ خِلَافٌ؟ هَذَا لَا يُمْكِنُ.

فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا رَجَعْنَا إِلَى مَسْأَلَتِنَا فَنَقُولُ:
الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ حَيْثُ تَقَعُ عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ... وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ فَلْنَتَحَاشَهَا.

وَنَرْجِعُ إِلَى مَا بَقِيَ مِنَ الْأَقْسَامِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا فِي الْجُمْلَةِ -أَعْنِي الْقَائِلِينَ بِالتَّشْرِيعِ الْعَقْلِيِّ- أَنَّ مِنْهُ نَظَرِيًّا، وَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَمُ بِضَرُورَةٍ وَلَا نَظَرٍ، وَهُمَا الْقِسْمَانِ الْبَاقِيَانِ مِمَّا لَا يُعْلَمُ لَهُ أَصْلٌ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْإِخْبَارِ، فَلَابُدَّ فِيهِ مِنِ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ فِيهِ، وَهَذَا إِذَا رَاعَيْنَا قَوْلَهُمْ وَسَاعَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّا إِنْ لَمْ نَلْتَزِمْ ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَعِنْدَنَا أَنْ لَا نُحَكِّمَ الْعَقْلَ أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ قِسْمٌ لَا حُكْمَ لَهُ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ حُكْمٍ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ نَقُولُ: لَابُدَّ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى الْخَبَرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْعَقْلُ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِالتَّفْرِيعِ. فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُوَ مُسْتَقِلٌّ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَقْضِ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا فِيهِ بِالْوَقْفِ - كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِهِمْ - أَوْ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَظْرِ أَوِ الْإِبَاحَةِ - كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ آخَرُونَ.

فَإِنْ قَالُوا:
 بِالثَّانِي فَهُوَ مُسْتَقِلٌّ، وَإِنْ قَالُوا بِالْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ اسْتِقْلَالُهُ بِالْبَعْضِ فَافْتِقَارُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهِ مُطْلَقًا.

قُلْنَا:
بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ اعْتَرَفُوا بِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ فِي الْبَعْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ الِافْتِقَارُ فِي صُورَةٍ، ثَبَتَ مُطْلَقًا، إِذْ مَا وَقَفَ فِيهِ الْعَقْلُ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ ذَلِكَ، وَمَا لَمْ يَقِفْ فِيهِ فَإِنَّهُ نَظَرِيٌّ: فَيُرْجَعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي النَّظَرِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ حُكْمٍ وَلَا يُمْكِنُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْإِخْبَارِ.

وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْوَقْفِ فَرَاجِعَةٌ أَقْوَالُهُمْ أَيْضًا إِلَيْهِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ نَظَرِيَّةٌ فَلَابُدَّ مِنِ الْإِخْبَارِ، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِ الْعَقْلِ لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَدِّقُ لِلْعَقْلِ أَوِ الْمُكَذِّبُ لَهُ.

فَإِنْ قَالُوا:
فَقَدْ ثَبَتَ قِسْمٌ ضَرُورِيٌّ فَيَثْبُتُ الِاسْتِقْلَالُ.

قُلْنَا:
إِنْ سَاعَدْنَاكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّنَا فِي دَعْوَى الِافْتِقَارِ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ قَدْ تَأْتِي بِمَا يُدْرِكُهُ الْإِنْسَانُ بِعَقْلِهِ تَنْبِيهًا لِغَافِلٍ أَوْ إِرْشَادًا لِقَاصِرٍ، أَوْ إِيقَاظًا لِمَغْمُورٍ بِالْعَوَائِدِ يَغْفُلُ عَنْ كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا، فَهُوَ إِذًا مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَلَابُدَّ لِلْعَقْلِ مِنَ التَّنْبِيهِ مِنْ خَارِجٍ.

وَهِيَ فَائِدَةُ بَعْثِ الرُّسُلِ، فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ حُسْنَ الصِّدْقِ النَّافِعِ وَالْإِيمَانِ، وَقُبْحَ الْكَذِبِ أَيْضًا وَالْكُفْرَانِ، مَعْلُومٌ ضَرُورَةً، وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِمَدْحِ هَذَا وَذَمِّ ذَلِكَ... وَأَمَرَ بِهَذَا وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ.

فَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إِلَى التَّنْبِيهِ لَزِمَ الْمُحَالُ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لَكِنَّهُ أَتَى بِذَلِكَ فَدَلَّنَا عَلَى أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَمْرٍ يَفْتَقِرُ الْعَقْلُ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ. هَذَا وَجْهٌ.

وَوَجْهٌ آخَرُ:
وَهُوَ أَنَّ الْعَقْلَ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ قَاصِرُ الْإِدْرَاكِ فِي عِلْمِهِ، فَمَا ادَّعَى عِلْمَهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي زَعَمَ أَنَّهُ أَدْرَكَهَا، لِإِمْكَانِ أَنْ يُدْرِكَهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَعَلَى حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَالْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ أَحْوَالُ أَهْلِ الْفَتَرَاتِ، فَإِنَّهُمْ وَضَعُوا أَحْكَامًا عَلَى الْعِبَادِ بِمُقْتَضَى السِّيَاسَاتِ لَا تَجِدُ فِيهَا أَصْلًا مُنْتَظِمًا وَقَاعِدَةً مُطَّرِدَةً عَلَى الشَّرْعِ بَعْدَ مَا جَاءَ، بَلِ اسْتَحْسَنُوا أُمُورًا تَجِدُ الْعُقُولَ بَعْدَ تَنْوِيرِهَا بِالشَّرْعِ تُنْكِرُهَا، وَتَرْمِيهَا بِالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْبُهْتَانِ وَالْحُمْقِ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا بِعُقُولِهِمْ أَشْيَاءَ قَدْ وَافَقَتْ وَجَاءَ الشَّرْعُ بِإِقْرَارِهَا وَتَصْحِيحِهَا، وَمَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عُقُولٍ بَاهِرَةٍ وَأَنْظَارٍ صَافِيَةٍ وَتَدْبِيرَاتٍ لِدُنْيَاهُمْ غَامِضَةٍ، لَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُصِيبُوا فِيهِ قَلِيلَةٌ، فَلِأَجْلِ هَذَا كُلِّهِ وَقَعَ الْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ، وَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالنِّعْمَةُ السَّابِغَةُ.

فَالْإِنْسَانُ وَإِنْ زَعَمَ فِي الْأَمْرِ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ وَقَتَلَهُ عِلْمًا - لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ إِلَّا وَقَدْ عَقَلَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَقَلَ، وَأَدْرَكَ مِنْ عِلْمِهِ مَا لَمْ يَكُنْ أَدْرَكَ قَبْلَ ذَلِكَ، كُلُّ أَحَدٍ يُشَاهِدُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ عِيَانًا، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَعْلُومٍ دُونَ مَعْلُومٍ، وَلَا بِذَاتٍ دُونَ ذَاتٍ وَلَا بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ، وَلَا فِعْلٍ دُونَ حُكْمٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الِاسْتِقْلَالِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِلْمُ الْعَبْدِ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى دَعْوَى الِاسْتِقْلَالِ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يَسْتَظْهِرَ فِي مَسْأَلَتِهِ بِالشَّرْعِ - إِنَّ كَانَتْ شَرْعِيَّةً - لِأَنَّ أَوْصَافَ الشَّارِعِ لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَلَا قُصُورَ وَلَا نَقْصَ، بَلْ مَبَادِئُهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى وَفْقِ الْغَايَاتِ، وَهِيَ مِنِ الْحِكْمَةِ.

وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ مَا نَدَّعِي عِلْمَهُ فِي الْحَيَاةِ يَنْقَسِمُ - كَمَا تَقَدَّمَ - إِلَى الْبَدِيهِيِّ الضَّرُورِيِّ وَغَيْرِهِ، إِلَّا مِنْ طَرِيقٍ ضَرُورِيٍّ إِمَّا بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، إِذْ قَدِ اعْتَرَفَ الْجَمِيعُ أَنَّ الْعُلُومَ الْمُكْتَسَبَةَ لَابُدَّ فِي تَحْصِيلِهَا مِنْ تَوْسِيطِ مُقَدِّمَتَيْنِ مُعْتَرَفٍ بِهِمَا، فَإِنْ كَانَتَا ضَرُورِيَّتَيْنِ فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْتَسَبَتَيْنِ فَلَابُدَّ فِي اكْتِسَابِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، وَيُنْظَرُ فِيهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً ضَرُورِيَّةً وَأُخْرَى مُكْتَسِبَةً فَلَابُدَّ لِلْمُكْتَسَبَةِ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، فَإِنِ انْتَهَيْنَا إِلَى ضَرُورِيَّتَيْنِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ أَوِ الدَّوْرُ، وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ، فَإِذًا لَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْرِفَ غَيْرَ الضَّرُورِيِّ إِلَّا بِالضَّرُورِيِّ.

وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا بِمُقَدِّمَتَيْنِ، حَصَلَتْ لَنَا كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِمَّا عَقَلْنَاهُ وَعَلِمْنَاهُ مِنْ مَشَاهِدَ بَاطِنَةٍ، كَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ أَوْ بِدِيهِيٍّ لِلْعَقْلِ كَعِلْمِنَا بِوُجُودِنَا وَبِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْوَاحِدِ، وَبِأَنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ لَنَا مُعْتَادٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا عِلْمٌ إِلَّا بِمَا هُوَ مُعْتَادٌ فِي هَذَا الدَّارِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ فَقَبْلَ النُّبُوَّاتِ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا بِهِ مَعْرِفَةٌ، فَلَوْ بَقِينَا عَلَى ذَلِكَ لَمْ نَحُلْ مَا لَمْ نَعْرِفْ إِلَّا عَلَى مَا عَرَفْنَا، وَأَنْكَرْنَا مَنِ ادَّعَى جَوَازَ قَلْبِ الشَّجَرِ حَيَوَانًا وَالْحَيَوَانِ حَجَرًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِي نَعْرِفُهُ مِنَ الْمُعْتَادَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ خِلَافُ هَذِهِ الدَّعْوَى.

فَلِمَا جَاءَتِ النُّبُوَّاتُ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ أَنْكَرَهَا مَنْ أَصَرَّ عَلَى الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَاعْتَقَدَهَا سِحْرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَقَلْبِ الْعَصَا ثُعْبَانًا، وَفَرْقِ الْبَحْرِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَتَكْلِيمِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ تِلْكَ الْعَوَائِدَ اللَّازِمَةَ فِي الْعَادَاتِ لَيْسَتْ بِعَقْلِيَّةٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهَا، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَتَخَلَّفَ، كَمَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْوُجُودِ إِلَى الْعَدَمِ، كَمَا خَرَجَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.

فَمَجَارِي الْعَادَاتِ إِذًا يُمْكِنُ عَقْلًا تَخَلُّفِهَا.

إِذْ لَوْ كَانَ عَدَمُ التَّخَلُّفِ لَهَا عَقْلِيًّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَتَخَلَّفَ لَا لِنَبِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدَّعِ أَحَدُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَلَا تَحَدَّى أَحَدًا بِكَوْنِ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْوَاحِدِ، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ فَعْلُ اللَّهِ تَعَالَى.

وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.. وَإِذَا أَمْكَنَ فِي الْعَصَا وَالْبَحْرِ وَالْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَالْأَصَابِعِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَمْكَنَ فِي جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِلشَّيْءِ وَجَبَ لِمِثْلِهِ.

وَأَيْضًا، فَقَدْ جَاءَنَا الشَّرْعُ بِأَوْصَافٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ خَارِجَةٍ عَنِ الْمُعْتَادِ الَّذِي عِنْدَنَا، فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ فِي الْجَنَّةِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ ثُمَّ لَا يَغُوطُ وَلَا يَبُولُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ عَرَقِهِ كَرَائِحَةِ الْمِسْكِ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ الْأَزْوَاجِ مُطَهَّرَةً مِنَ الْحَيْضِ مَعَ كَوْنِهِنَّ فِي حَالَةِ الصِّبَا وَسِنِّ مَنْ يَحِيضُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ الْإِنْسَانِ فِيهَا لَا يَنَامُ وَلَا يُصِيبُهُ جُوعٌ وَلَا عَطَشٌ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ أَبَدَ الدَّهْرِ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ الثَّمَرِ فِيهَا إِذَا قُطِفَ أُخْلِفَ فِي الْحَالِ وَيَتَدَانَى إِلَى يَدِ الْقَاطِفِ إِذَا اشْتَهَاهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ اللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ فِيهَا أَنْهَارًا مِنْ غَيْرِ حُلَابٍ وَلَا عَصْرٍ وَلَا نَحْلٍ، وَكَوْنَ الْخَمْرِ لَا تُسْكِرُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِحَيْثُ لَوِ اسْتَعْمَلَهُ الْإِنْسَانُ دَائِمًا لَا يَمْتَلِئُ وَلَا يُصِيبُهُ كِظَّةٌ وَلَا تُخَمَةٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ جَسَدِهِ لَا مِنْ أُذُنِهِ وَلَا أَنْفِهِ وَلَا أَرْفَاغِهِ وَلَا سَائِرِ جَسَدِهِ أَوْسَاخٌ وَلَا أَقْذَارٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَهْرَمُ وَلَا يَشِيخُ وَلَا يَمُوتُ وَلَا يَمْرَضُ غَيْرُ مُعْتَادٍ.

وَكَذَلِكَ إِذَا نَظَرْتَ أَهْلَ النَّارِ -عِيَاذًا بِاللَّهِ- وَجَدْتَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، كَكَوْنِ النَّارِ لَا تَأْتِي عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} [طه: 74] وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، كُلُّهَا خَارِقٌ لِلْعَادَةِ.

فَهَذَانَ نَوْعَانِ شَاهِدَانِ لِتِلْكَ الْعَوَائِدِ وَأَشْبَاهِهَا بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَقْلِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ وَضْعِيَّةٌ يُمْكِنُ تَخَلُّفُهَا.

وَإِنَّمَا لَمْ نَحْتَجَّ بِالْكَرَامَاتِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمُعْتَزِلَةِ يُنْكِرُونَهَا رَأْسًا وَقَدْ أَقَرَّ بِهَا بَعْضُهُمْ.

وَإِنْ مِلْنَا إِلَى التَّعْرِيفِ فَلَوِ اعْتَبَرَ النَّاظِرُ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَوَجَدَ لِذَلِكَ نَظَائِرَ جَارِيَةً عَلَى غَيْرِ مُعْتَادٍ.


الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Empty
مُساهمةموضوع: رد: الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ   الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Emptyالإثنين 16 أبريل 2018, 8:38 am

وَاسْمَعْ فِي ذَلِكَ أَثَرًا غَرِيبًا حَكَاهُ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَشِيطٍ:
قَالَ: سَمِعْتُ شُعَيْبَ بْنَ أَبِي سَعِيدٍ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَاهِبًا كَانَ بِالشَّامِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَكَانَ يَنْزِلُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ فَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الرُّهْبَانُ لِيُعَلِّمَهُمْ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ دِينِهِمْ فَأَتَاهُ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِيمَنْ جَاءَهُ.

فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ:
أَمِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنْتَ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي. قَالَ الرَّاهِبُ: أَلَيْسَ تَقُولُونَ: إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ فِي الْجَنَّةِ وَتَشْرَبُونَ ثُمَّ لَا يَخْرُجُ مِنْكُمْ أَذًى؟ قَالَ خَالِدٌ: بَلَى! قَالَ الرَّاهِبُ: أَفَلِهَذَا مَثَلٌ تَعْرِفُونَهُ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: نَعَمْ! الصَّبِيُّ يَأْكُلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ طَعَامِهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ شَرَابِهَا ثُمَّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ أَذًى.

قَالَ الرَّاهِبُ لِخَالِدٍ:
أَلَيْسَ تَقُولُ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي: قَالَ: أَفَلَيْسَ تَقُولُونَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ فَوَاكِهَ تَأْكُلُونَ مِنْهَا لَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ؟ قَالَ خَالِدٌ: بَلَى! أَفَلِهَذَا مَثَلٌ فِي الدُّنْيَا تَعْرِفُونَهُ؟ قَالَ خَالِدٌ: نَعَمْ! الْكِتَابُ يَكْتُبُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ أَحَدٌ ثُمَّ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ.

قَالَ الرَّاهِبُ:
أَلَيْسَ تَقُولُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي. قَالَ خَالِدٌ: فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا مِنْ أُمَّةٍ بُسِطَ لَهَا فِي الْحَسَنَاتِ مَا لَمْ يُبْسَطْ لِأَحَدٍ. انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ.

وَهُوَ يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ لَهُ أَصْلٌ فِي الْمُعْتَادِ، وَهُوَ تَنَزُّلٌ لِلْمُنْكِرِ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلَكِنَّهُ مُقَرِّبٌ لِفَهْمِ مَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ الْوَاضِحَاتِ.

فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ قَضَاءُ الْعَقْلِ فِي عَادِيٍّ بِانْخِرَاقِهِ، مَعَ أَنَّ كَوْنَ الْعَادِيِّ عَادِيًّا مُطَّرِدًا غَيْرَ صَحِيحٍ أَيْضًا، فَكُلُّ عَادِيٍّ يَفْرِضُ الْعَقْلُ فِيهِ خَرْقَ الْعَادَةِ فَلَيْسَ لِلْعَقْلِ فِيهِ إِنْكَارٌ، إِذْ قَدْ ثَبَتَ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي اخْتُصَّ الْبَارِي بِاخْتِرَاعِهَا، وَالْعَقْلُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ خَلْقٍ وَخَلْقٍ، فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا الْحُكْمُ بِذَلِكَ الْإِمْكَانِ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِبَارِ: سُبْحَانَ مَنْ رَبَطَ الْأَسْبَابَ بِمُسَبَّبَاتِهَا وَخَرَقَ الْعَوَائِدَ لِيَتَفَطَّنَ الْعَارِفُونَ تَنْبِيهًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْمُقَرَّرِ.

فَهُوَ أَصْلٌ اقْتَضَى لِلْعَاقِلِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
أَنْ لَا يُجْعَلَ الْعَقْلُ حَاكِمًا بِإِطْلَاقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ وَهُوَ الشَّرْعُ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدَّمَ مَا حَقُّهُ التَّقْدِيمُ -وَهُوَ الشَّرْعُ- وَيُؤَخِّرُ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ -وَهُوَ نَظَرُ الْعَقْلِ- لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ النَّاقِصِ حَاكِمًا عَلَى الْكَامِلِ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، بَلْ ضِدُّ الْقَضِيَّةِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأَدِلَّةِ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: اجْعَلِ الشَّرْعَ فِي يَمِينِكَ وَالْعَقْلَ فِي يَسَارِكَ، تَنْبِيهًا عَلَى تَقَدُّمِ الشَّرْعِ عَلَى الْعَقْلِ.

وَالثَّانِي:
أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا تَقْتَضِي ظَاهِرًا خَرْقَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْإِنْكَارَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لَهُ سَعَةٌ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَ وَيَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ.

وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] يَعْنِي الْوَاضِحَ الْمُحْكَمَ، وَالْمُتَشَابِهَ الْمُجْمَلَ، إِذْ لَا يَلْزَمُهُ الْعِلْمُ بِهِ، وَلَوْ لَزِمَ الْعِلْمُ بِهِ لَجُعِلَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ.

وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ إِنْكَارٌ لِخَرْقِ الْعَادَةِ فِيهِ.

وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يَجْرِي حُكْمُ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ الْبَارِي بِهَا نَفْسَهُ، لِأَنَّ مَنْ نَفَاهَا نَفَى شِبْهَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهَذَا مَنْفِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَبَقِيَ الْخِلَافُ فِي نَفْيِ عَيْنِ الصِّفَةِ أَوْ إِثْبَاتِهَا، فَالْمُثْبِتُ أَثْبَتَهَا عَلَى شَرْطِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ، وَالْمُنْكِرُ لِأَنْ يَكُونَ ثَمَّ صِفَةٌ غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مُنْكِرٌ لِأَنْ يَثْبُتَ أَمْرٌ إِلَّا عَلَى وَفْقِ الْمُعْتَادِ.

فَإِنْ قَالُوا: هَذَا لَازِمٌ فِيمَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ بَدِيهَةً، كَقَوْلِهِ:
«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتَكْرَهُوا عَلَيْهِ»، فَإِنَّ الْجَمِيعَ أَنْكَرُوا ظَاهِرَهُ، إِذِ الْعَقْلُ وَالْحِسُّ يَشْهَدَانِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَرْفُوعَةٍ، وَأَنْتَ تَقُولُ: اعْتَقَدُوا أَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ، وَتَأَوَّلُوا الْكَلَامَ.

قِيلَ:
لَمْ نَعْنِ مَا هُوَ مُنْكَرٌ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ، وَإِنَّمَا عَنَيْنَا مَا لِلنَّظَرِ فِيهِ شَكٌّ وَارْتِيَابٌ، كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الصِّرَاطَ ثَابِتٌ، وَالْجَوَازَ عَلَيْهِ قَدْ أَخْبَرَ الشَّارِعُ بِهِ، فَنَحْنُ نُصَدِّقُ بِهِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ كَحَدِّ السَّيْفِ وَشِبْهِهِ لَا يُمْكِنُ اسْتِقْرَارُ الْإِنْسَانِ فَوْقَهُ عَادَةً فَكَيْفَ يَمْشِي عَلَيْهِ؟

فَالْعَادَةُ قَدْ تُخْرَقُ حَتَّى يُمْكِنَ الْمَشْيُ وَالِاسْتِقْرَارُ، وَالَّذِينَ يُنْكِرُونَهُ يَقِفُونَ مَعَ الْعَوَائِدِ وَيُنْكِرُونَ أَصْلَ الصِّرَاطِ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى إِمْكَانِ انْخِرَاقِ الْعَوَائِدِ، فَإِنْ فَرَّقُوا صَارَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا.

لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ فِي أَحَدِ الْمَثَلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ عَقْلِيٍّ، وَقَدْ صَادَفَهُمُ النَّقْلُ، فَالْحَقُّ الْإِقْرَارُ دُونَ الْإِنْكَارِ.

وَلْنَشْرَحْ هَذَا الْمَطْلَبَ بِأَمْثِلَةٍ عَشْرَةٍ: (أَحَدُهَا)
مَسْأَلَةُ الصِّرَاطِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.

وَالثَّانِي:
مَسْأَلَةُ الْمِيزَانِ، إِذْ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ مِيزَانًا صَحِيحًا عَلَى مَا يَلِيقُ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَتُوزَنُ فِيهِ الْأَعْمَالُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ عَادِيٍّ، نَعَمْ يُقِرُّ الْعَقْلُ بِأَنَّ أَنْفُسَ الْأَعْرَاضِ -وَهِيَ الْأَعْمَالُ- لَا تُوزَنُ وَزْنَ الْمَوْزُونَاتِ عِنْدَنَا فِي الْعَادَاتِ - وَهِيَ الْأَجْسَامُ، وَلَمْ يَأْتِ فِي النَّقْلِ مَا يُعَيِّنَ أَنَّهُ كَمِيزَانِنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الثِّقْلِ أَوْ أَنْفُسُ الْأَعْمَالِ تُوزَنُ بِعَيْنِهَا.

فَالْأَخْلَقُ الْحَمْلُ إِمَّا عَلَى التَّسْلِيمِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، إِذْ لَمْ يَثْبُتُ عَنْهُمْ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ نَفْسِ الْمِيزَانِ أَوْ كَيْفِيَّةِ الْوَزْنِ. كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ فِي الصِّرَاطِ إِلَّا مَا ثَبَتَ عَنْهُمْ فِي الْمِيزَانِ. فَعَلَيْكَ بِهِ فَهُوَ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

فَإِنْ قِيلَ:
فَالتَّأْوِيلُ إِذًا خَارِجٌ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ، فَأَصْحَابُ التَّأْوِيلِ عَلَى هَذَا مِنَ الْفِرَقِ الْخَارِجَةِ.

قِيلَ:
لَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ: التَّسْلِيمُ مَحْضًا، أَوْ مَعَ التَّأْوِيلِ نَظَرٌ لَا يَبْعُدُ: إِذْ قَدْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، بِخِلَافِ مَنْ جَعَلَ أَصْلَهُ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ التَّكْذِيبَ بِهَا؛ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُمْ. سَلَكَ فِي الْأَحَادِيثِ مَسْلَكَ التَّأْوِيلِ أَوَّلًا، فَالتَّأْوِيلُ أَوْ عَدَمُهُ لَا أَثَرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ عَلَى كِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ أَسْلَمُ.

وَالثَّالِثُ:
مَسْأَلَةُ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَهِيَ أَسْهَلُ، وَلَا بُعْدَ وَلَا نَكِيرَ فِي كَوْنِ الْمَيِّتِ يُعَذَّبُ بِرَدِّ الرُّوحِ إِلَيْهِ عَارِيَةً، ثُمَّ تَعْذِيبُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْدِرُ الْبَشَرُ عَلَى رُؤْيَتِهِ كَذَلِكَ وَلَا سَمَاعِهِ، فَنَحْنُ نَرَى الْمَيِّتَ يُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَيُخْبِرُ بِآلَامٍ لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا.

وَلَا نَرَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ أَثَرًا، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْأَمْرَاضِ الْمُؤْلِمَةِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِثْلُهَا، فَلِمَاذَا يُجْعَلُ اسْتِبْعَادُ الْعَقْلِ صَادًّا فِي وَجْهِ التَّصْدِيقِ بِأَقْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)؟

وَالرَّابِعُ:
مَسْأَلَةُ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ لِلْمَيِّتِ وَإِقْعَادِهِ فِي قَبْرِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُشْكِلُ إِذَا حَكَّمْنَا الْمُعْتَادَ فِي الدُّنْيَا.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تَحْكِيمَهُ بِإِطْلَاقٍ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقُصُورِهِ، وَإِمْكَانِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ، إِمَّا بِفَتْحِ الْقَبْرِ حَتَّى يُمْكِنَ إِقْعَادُهُ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُحِيطُ بِمَعْرِفَتِهَا الْعُقُولُ.

وَالْخَامِسُ:
مَسْأَلَةُ تَطَايُرِ الصُّحُفِ وَقِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ قَطُّ، وَقِرَاءَتِهِ إِيَّاهُ وَهُوَ خَلْفَ ظَهْرِهِ، كُلُّ ذَلِكَ يُمْكِنُ فِيهِ خَرْقُ الْعَوَائِدِ، فَيَتَصَوَّرُهُ الْعَقْلُ عَلَى وَجْهٍ مِنْهَا.

وَالسَّادِسُ:
مَسْأَلَةُ إِنْطَاقِ الْجَوَارِحِ شَاهِدَةً عَلَى صَاحِبِهَا لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَحْجَارِ وَالْأَشْجَارِ الَّتِي شَهِدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِالرِّسَالَةِ.

وَالسَّابِعُ:
رُؤْيَةُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ جَائِزَةٌ، إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الْعَقْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا رُؤْيَةَ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ عِنْدَنَا، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ تَصِحَّ الرُّؤْيَةُ عَلَى أَوْجُهٍ صَحِيحَةٍ لَيْسَ فِيهَا اتِّصَالُ أَشِعَّةٍ وَلَا مُقَابَلَةٌ وَلَا تَصَوُّرُ جِهَةٍ وَلَا فَضْلُ جِسْمٍ شَفَّافٍ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْعَقْلُ لَا يَجْزِمُ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ بَدِيهَةً، وَهُوَ إِلَى الْقُصُورِ فِي النَّظَرِ أَمْيَلُ، وَالشَّرْعُ قَدْ جَاءَ بِإِثْبَاتِهَا فَلَا مَعْدِلَ عَنِ التَّصْدِيقِ.

وَالثَّامِنُ:
كَلَامُ الْبَارِي تَعَالَى إِنَّمَا نَفَاهُ مَنْ نَفَاهُ وُقُوفًا مَعَ الْكَلَامِ الْمُلَازِمِ لِلصَّوْتِ وَالْحَرْفِ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْبَارِي مُحَالٌ، وَلَمْ يَقِفْ مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ تَعَالَى خَارِجًا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُعْتَادِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ لَائِقٍ بِالرَّبِّ، إِذْ لَا يَنْحَصِرُ الْكَلَامُ فِيهِ عَقْلًا، وَلَا يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ مُحَالٌ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ الْوُقُوفُ مَعَ ظَاهِرِ الْأَخْبَارِ مُجَرَّدًا.

وَالتَّاسِعُ:
 إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ كَالْكَلَامِ، إِنَّمَا نَفَاهُ مَنْ نَفَاهُ لِلُزُومِ التَّرْكِيبِ عِنْدَهُ فِي ذَاتِ الْبَارِي تَعَالَى - عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا - فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مَعَ إِثْبَاتِهَا.

وَهَذَا قَطْعٌ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي ثَبَتَ قُصُورُ إِدْرَاكِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، فَكَيْفَ لَا يَثْبُتُ قُصُورُهُ فِي إِدْرَاكِهِ إِذَا دُعِيَ مِنَ التَّرْكِيبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَاتِ الْبَارِي؟

فَكَانَ مِنَ الصَّوَابِ فِي حَقِّهِ أَنْ يُثْبِتَ مِنَ الصِّفَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ، وَيُقِرُّ مَعَ ذَلِكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ.

وَالْعَاشِرُ:
تَحْكِيمُ الْعَقْلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِحَيْثُ يَقُولُ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْثَةُ الرُّسُلِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاحُ وَالْأَصْلَحُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ اللُّطْفُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ كَذَا -إِلَى آخِرِ مَا يُنْطَقُ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ- وَهَذَا إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ الِاعْتِيَادُ فِي الْإِيجَابِ عَلَى الْعِبَادِ.

 وَمَنْ أَجَلَّ الْبَارِي وَعَظَّمَهُ لَمْ يَجْتَرِئْ عَلَى إِطْلَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَلَا أَلَمَّ بِمَعْنَاهَا فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُعْتَادَ إِنَّمَا حَسَنٌ فِي الْمَخْلُوقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَبْدٌ مَحْصُورٌ مَمْنُوعٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَا يَمْنَعُهُ شَيْءٌ، وَلَا يُعَارِضُ أَحْكَامَهُ حُكْمٌ، فَالْوَاجِبُ الْوُقُوفُ مَعَ قَوْلِهِ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ - وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ - ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 1 - 15].

فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَقْلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيِ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ مِنَ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَكُونُ مُلَبِّيًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ.

ثُمَّ نَقُولُ:
إِنَّ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ لِلصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَعَلَيْهِ دَأَبُوا، وَإِيَّاهُ اتَّخَذُوا طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ فَوَصَلُوا.

وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ سَيْرِهِمْ أَشْيَاءُ: مِنْهَا:
أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ أَقَرُّوا وَأَذْعَنُوا لِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَلَمْ يُصَادِمُوهُ وَلَا عَارَضُوهُ بِإِشْكَالٍ.

وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَنُقِلَ إِلَيْنَا كَمَا نُقِلَ إِلَيْنَا سَائِرُ سِيَرِهِمْ وَمَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْقَضَايَا وَالْمُنَاظَرَاتِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ وَأَقَرُّوهُ، كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا نَظَرٍ.

كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ:
الْكَلَامُ فِي الدِّينِ أَكْرَهُهُ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ بَلَدِنَا يَكْرَهُونَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، نَحْوَ الْكَلَامِ فِي رَأْيٍ جَهْمٍ وَالْقَدَرِ، وَكُلِّ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَلَا أُحِبُّ الْكَلَامَ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ. فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الدِّينِ وَفِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَالسُّكُوتُ أَحَبُّ إِلَيَّ، لِأَنِّي رَأَيْتُ أَهْلَ بَلَدِنَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الدِّينِ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:
قَدْ بَيَّنَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ هُوَ مُبَاحٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَهْلِ بَلَدِهِ - يَعْنِي الْعُلَمَاءَ مِنْهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الدِّينِ نَحْوَ الْقَوْلِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ، وَضَرَبَ مَثَلًا نَحْوَ رَأْيِ جَهْمٍ وَالْقَدَرِ -قَالَ- وَالَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفَتْوَى، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ - وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَعَلَى مَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ.

إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ أَحَدٌ إِلَى الْكَلَامِ، فَلَا يَسَعُهُ السُّكُوتُ إِذَا طَمِعَ فِي دَرْءِ الْبَاطِلِ وَصَرْفِ صَاحِبِهِ عَنْ مَذْهَبِهِ، وَخَشِيَ ضَلَالَةً عَامَّةً، أَوْ نَحْوَ هَذَا.

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى:
سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَوْمَ نَاظَرَهُ حَفْصٌ الْفَرْدُ قَالَ لِي: يَا أَبَا مُوسَى! لِأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ، لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ حَفْصٍ كَلَامًا لَا أَقْدِرُ أَنْ أَحْكِيَهُ.

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ:
 لَا يُفْلِحُ صَاحِبُ الْكَلَامِ أَبَدًا وَلَا تَكَادُ تَرَى أَحَدًا نَظَرَ فِي الْمَسَائِلِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ دَغَلٌ.

(وَقَالَ) عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُئِيِّ -وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ فِي زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ- أَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَحْمَقَكَ! مَا أَدْرَكْتُ مَشْيَخَتَنَا زُفَرَ وَأَبَا يُوسُفَ وَأَبَا حَنِيفَةَ وَمَنْ جَالَسَنَا وَأَخَذْنَا عَنْهُمْ - هَمَّهُمْ غَيْرُ الْفِقْهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:
أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْآثَارِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ أَهْلُ بِدَعٍ وَزَيْغٍ، وَلَا يُعَدُّونَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ طَبَقَاتِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ أَهْلُ الْأَثَرِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ وَيَتَفَاضَلُونَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ وَالْمَيْزِ وَالْفَهْمِ.

وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّهُ قَالَ:
وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنَّا لَنَلْتَقِطُ السُّنَنَ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالثِّقَةِ، وَنَتَعَلَّمُهَا شَبِيهًا بِتَعَلُّمِنَا آيَ الْقُرْآنِ، وَمَا بَرِحَ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْفَضْلِ مِنْ خِيَارِ أَوَّلِيَّةِ النَّاسِ، يَعِيبُونَ أَهْلَ الْجَدَلِ وَالتَّنْقِيبِ وَالْأَخْذِ بِالرَّأْيِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ لِقَائِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ، وَيُحَذِّرُونَنَا مُقَارَبَتَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَيُخْبِرُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ وَتَحْرِيفٍ لِتَأْوِيلِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَنِ رَسُولِهِ، وَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَتَّى كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَنَاحِيَةَ التَّنْقِيبِ وَالْبَحْثِ وَزَجَرَ عَنْ ذَلِكَ، وَحَذَّرَهُ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ حَتَّى كَانَ مِنْ قَوْلِهِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».


الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Empty
مُساهمةموضوع: رد: الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ   الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Emptyالإثنين 16 أبريل 2018, 8:41 am

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ:
اتَّقُوا اللَّهَ فِي دِينِكُمْ.

قَالَ سَحْنُونٌ:
يَعْنِي الِانْتِهَاءَ عَنِ الْجَدَلِ فِيهِ.

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا:
إِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَاسْتَحْيَوْا حِينَ سُئِلُوا أَنْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ فَعَارَضُوا السُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ.

قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ:
أَهْلُ الرَّأْيِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ.

وَهُوَ الْقَائِلُ فِي قَصِيدَتِهِ فِي السُّنَّةِ:
وَدَعْ عَنْكَ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوْلَهُمْ ... فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ أَزْكَى وَأَشْرَحُ

وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَشَعَّبَتْ بِهِمُ السُّبُلُ، وَحَادُوا عَنِ الطَّرِيقِ، فَتَرَكُوا الْآثَارَ وَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.

وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ:
مَنْ رَغِبَ بِرَأْيِهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ يَضِلُّ.

وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
السُّنَنَ السُّنَنَ، إِنَّ السُّنَنَ قِوَامُ الدِّينِ، وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ مُعْتَدِلًا حَتَّى نَشَأَ فِيهِمْ مُوَلَّدُونَ أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ، فَأَخَذُوا فِيهِمْ بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.

فَهَذِهِ الْآثَارُ وَأَشْبَاهُهَا تُشِيرُ إِلَى ذَمِّ إِيثَارِ نَظَرِ الْعَقْلِ عَلَى آثَارِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّأْيِ الْمَذْمُومِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْبِدَعُ الْمُحْدَثَةُ فِي الِاعْتِقَادِ، كَرَأْيِ جَهْمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ اسْتَعْمَلُوا قِيَاسَهُمْ وَآرَاءَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَى اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ} [الأنعام: 103] الْآيَةَ.

فَرَدُّوا قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22]

وَقَالُوا:
لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] فَرَدُّوا الْأَحَادِيثَ الْمُتَوَاتِرَةَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ، وَرَدُّوا الْأَحَادِيثَ فِي الشَّفَاعَةِ عَلَى تَوَاتُرِهَا، وَقَالُوا: لَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ دَخَلَ فِيهَا: وَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ حَوْضًا وَلَا مِيزَانًا، وَلَا نَعْقِلُ مَا هَذَا.

وَرَدُّوا السُّنَنَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ -بِرَأْيِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ- إِلَى أَشْيَاءَ يَطُولُ ذِكْرُهَا مِنْ كَلَامِهِمْ فِي صِفَةِ الْبَارِي، وَقَالُوا: الْعِلْمُ مُحْدَثٌ فِي حَالِ حُدُوثِ الْمَعْلُومِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عِلْمٌ إِلَّا عَلَى مَعْلُومٍ، فِرَارًا مِنْ قِدَمِ الْعَالَمِ -فِي زَعْمِهِمْ-.

وَقَالَ جَمَاعَةٌ:
الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ الْمُرَادُ بِهِ الرَّأْيُ الْمُبْتَدَعُ وَشِبْهُهُ مِنْ ضُرُوبِ الْبِدَعِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ بِالِاعْتِقَادِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْعَمَلِيَّاتِ وَغَيْرِهَا.

وَقَالَ آخَرُونَ -قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُمُ الْجُمْهُورُ- إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ فِي الشَّرْعِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالِ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ، وَرَدِّ الْفُرُوعِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ دُونِ رَدِّهَا إِلَى أُصُولِهَا، فَاسْتُعْمِلَ فِيهَا الرَّأْيُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ، قَالُوا: وَفِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا تَعْطِيلُ السُّنَنِ وَالتَّذَرُّعُ إِلَى جَهْلِهَا.

وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ خَارِجٍ عَمَّا تَقَدَّمَ.. وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِلذَّرِيعَةِ إِلَى الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ.. وَهُوَ مُعَارَضَةُ الْمَنْصُوصِ.. لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَبْحَثْ عَنِ السُّنَنِ جَهِلَهَا فَاحْتَاجَ إِلَى الرَّأْيِ.

فَلَحِقَ بِالْأَوَّلِينَ الَّذِينَ عَارَضُوا السُّنَنَ حَقِيقَةً.. فَجَمِيعُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ.. وَهُوَ إِعْمَالُ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ مَعَ طَرْحِ السُّنَنِ.. إِمَّا قَصْدًا أَوْ غَلَطًا وَجَهْلًا، وَالرَّأْيُ إِذَا عَارَضَ السُّنَّةَ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ.

فَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يُعَارِضُوا مَا جَاءَ فِي السُّنَنِ بِآرَائِهِمْ، عَلِمُوا مَعْنَاهُ أَوْ جَهِلُوهُ، جَرَى لَهُمْ عَلَى مَعْهُودِهِمْ أَوْ لَا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ نَقْلِهِ، وَلْيَعْتَبِرْ فِيهِ مَنْ قَدَّمَ النَّاقِصَ -وَهُوَ الْعَقْلُ- عَلَى الْكَامِلِ -وَهُوَ الشَّرْعُ- وَرَحِمَ اللَّهُ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ حَيْثُ يَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! مَا عَلَّمَكَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ عِلْمٍ فَاحْمَدِ اللَّهَ، وَمَا اسْتَأْثَرَ عَلَيْكَ بِهِ مِنْ عِلْمٍ فَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ، لَا تَتَكَلَّفْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].

وَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَلِمَ عِلْمًا عَلَّمَهُ الْعِبَادَ، وَعَلِمَ عِلْمًا لَمْ يُعَلِّمْهُ الْعِبَادَ، فَمَنْ تَكَلَّفَ الْعِلْمَ الَّذِي لَمْ يُعَلِّمْهُ الْعِبَادَ لَمْ يَزْدَدْ مِنْهُ إِلَّا بُعْدًا. قَالَ: وَالْقَدَرُ مِنْهُ.

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ:
كَانَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ يَقُولَانِ: أَمِرُّوا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كَمَا جَاءَتْ وَلَا تَتَنَاظَرُوا فِيهَا: وَمِثْلُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، فِي الْأَحَادِيثِ فِي الصِّفَاتِ أَنَّهُمْ أَمَرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ... نَحْوَ حَدِيثِ النُّزُولِ، وَخَلْقِ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، وَشِبْهِهِمَا، وَحَدِيثُ مَالِكٍ فِي السُّؤَالِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ مَشْهُورٌ.

وَجَمِيعُ مَا قَالُوهُ مُسْتَمَدٌّ مِنْ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7] الْآيَةَ.

ثُمَّ قَالَ:
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، فَإِنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَى الْمُعْتَادِ فِي الْفَهْمِ مُتَشَابِهٌ، فَالْوُقُوفُ عَنْهُ هُوَ الْأَحْرَى بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الْمُتَّبِعُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمُ اتِّبَاعُ الرَّأْيِ لَمْ يَذُمُّوهُ وَلَمْ يَنْهَوْا عَنْهُ، لَأَنَّ أَحَدًا لَا يَرْتَضِي طَرِيقًا ثُمَّ يَنْهَى عَنْ سُلُوكِهِ.. كَيْفَ وَهَمَ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ!.

وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ فِي مَجْلِسٍ فَذُكِرَ فِيهِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَتَشَبَّهُوا بِأَخْلَاقِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ، فَإِنَّهُمْ -وَرَبِّ الْكَعْبَةِ- عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
اتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ وَخُذُوا طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَعَمْرِي لَئِنِ اتَّبَعْتُمُوهُ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ تَرَكْتُمُوهُ يِمِينًا أَوْ شِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:
مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، وَأَقْوَمُهَا هَدْيًا، وَأَحْسَنُهَا خِلَالًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ.

وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَالِاتِّبَاعِ لِطَرِيقِهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ طَرِيقُ النَّجَاةِ حَسْبَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْفِرَقِ فِي قَوْلِهِ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي».

[فَصْلٌ اتِّبَاعُ الْهَوَى]
النَّوْعُ الرَّابِعُ:
إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ، حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ تَقَرَّرَ فِي قِسْمِ الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ يَلِيقُ بِالْأُصُولِ، فَمَنْ أَرَادَ الْإِطْلَاعَ عَلَيْهِ فَلْيُطَالِعْهُ مِنْ هُنَالِكَ.

وَلَمَّا كَانَتْ طَرْقُ الْحَقِّ مُتَشَعِّبَةً لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُؤْتَى عَلَيْهَا بِالِاسْتِيفَاءِ.

فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا شُعْبَةً وَاحِدَةً تَكُونُ كَالطَّرِيقِ لِمَعْرِفَةِ مَا سِوَاهَا.
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ كَبِيرِهِمْ وَصَغِيرِهِمْ مُطِيعِهِمْ وَعَاصِيهِمْ. بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ. لَمْ يَخْتَصَّ بِهَا أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشَّرَائِعِ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِتَكُونَ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ الَّتِي تَنْزِلُ فِيهِمْ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ. حَتَّى إِنَّ الْمُرْسَلِينَ بِهَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ أَحْكَامِهَا.

فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مُخَاطَبٌ بِهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَتَقَلُّبَاتِهِ. مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ.

أَوْ كَانَ عَامًّا لَهُ وَلِأُمَّتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 50] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إِلَى سَائِرِ التَّكَالِيفِ الَّتِي وَرَدَتْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَالنَّبِيُّ فِيهِمْ.

فَالشَّرِيعَةُ هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيع الْمُكَلَّفِينَ.. وَهِيَ الطَّرِيقُ الْمُوصِلُ وَالْهَادِي الْأَعْظَمُ.

أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانِ، ثُمَّ مَنِ اتَّبَعَهُ فِيهِ، وَالْكِتَابُ هُوَ الْهَادِي، وَالْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ مُرْشِدٌ وَمُبَيِّنٌ لِذَلِكَ الْهَدْيِ، وَالْخَلْقُ مُهْتَدُونَ بِالْجَمِيعِ.

وَلَمَّا اسْتَنَارَ قَلْبُهُ وَجَوَارِحُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَبَاطِنُهُ وَظَاهِرُهُ بِنُورِ الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلًا، صَارَ هُوَ الْهَادِيَ الْأَوَّلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْمُرْشِدَ الْأَعْظَمَ، حَيْثُ خَصَّهُ اللَّهُ دُونَ الْخَلْقِ بِإِنْزَالِ ذَلِكَ النُّورِ عَلَيْهِ، وَاصْطَفَاهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَانَ مِثْلُهُ فِي الْخِلْقَةِ الْبَشَرِيَّةِ اصْطِفَاءً أَوَّلِيًّا، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بَشَرًا عَاقِلًا -مَثَلًا- لِاشْتِرَاكِهِ مَعَ غَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَلَا لِكَوْنِهِ مِنْ قُرَيْشٍ -مَثَلًا- دُونَ غَيْرِهِمْ، وَإِلَّا لَزِمَ ذَلِكَ فِي كُلِّ قُرَشِيٍّ، وَلَا لِكَوْنِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَا لِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ مِنْ جِهَةِ اخْتِصَاصِهِ بِالْوَحْيِ الَّذِي اسْتَنَارَ بِهِ قَلْبُهُ وَجَوَارِحُهُ فَصَارَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، حَتَّى نَزَلَ فِيهِ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وَإِنَّمَا «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» لِأَنَّهُ حَكَّمَ الْوَحْيَ عَلَى نَفْسِهِ، حَتَّى صَارَ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى وَفْقِهِ.

فَكَانَ الْوَحْيُ حَاكِمًا وَافِقًا قَائِلًا، وَكَانَ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُذْعِنًا مُلَبِّيًا نِدَاءَهُ وَاقِفًا عِنْدَ حُكْمِهِ، وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ، إِذْ قَدْ جَاءَ بِالْأَمْرِ وَهُوَ مُؤْتَمَرٌ، وَبِالنَّهْيِ وَهُوَ مُنْتَهٍ، وَبِالْوَعْظِ وَهُوَ مُتَّعِظٌ وَبِالتَّخْوِيفِ وَهُوَ أَوَّلُ الْخَائِفِينَ، وَبِالتَّرْجِيَةِ وَهُوَ سَائِقٌ دَابَّةَ الرَّاجِينَ.

وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ جَعْلُهُ الشَّرِيعَةَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَيْهِ حُجَّةً حَاكِمَةً عَلَيْهِ وَدَلَالَةً لَهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ صَارَ عَبْدَ اللَّهِ حَقًّا، وَهُوَ أَشْرَفُ اسْمٍ تَسَمَّى بِهِ الْعِبَادُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا -تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ- وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 1 - 23] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي وَقَعَ مَدْحُهُ فِيهَا بِصِحَّةِ عُبُودِيَّتِهِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَسَائِرُ الْخَلْقِ حَرِيُّونَ بِأَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ حُجَّةً حَاكِمَةً عَلَيْهِمْ وَمَنَارًا يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ، وَشَرَفُهُمْ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِحَسَبِ مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ أَحْكَامِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا قَوْلًا وَاعْتِقَادًا وَعَمَلًا، لَا بِحَسَبِ عُقُولِهِمْ فَقَطْ، وَلَا بِحَسَبِ شَرَفِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ فَقَطْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَثْبَتَ الشَّرَفَ لَا غَيْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فَمَنْ كَانَ أَشَدَّ مُحَافَظَةً عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالشَّرَفِ وَالْكَرَمِ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَبْلُغَ فِي الشَّرَفِ مَبْلَغَ الْأَعْلَى فِي اتِّبَاعِهَا، فَالشَّرَفُ إِذًا إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْمُبَالِغَةِ فِي تَحْكِيمِ الشَّرِيعَةِ.

تَفْضِيلُ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ عَلَى سَائِرِ الْعُلُومِ
ثُمَّ نَقُولُ بَعْدَ هَذَا:
إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَّفَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَرَفَعَ أَقْدَارَهُمْ، وَعَظَّمَ مِقْدَارَهُمْ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، بَلْ قَدِ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّهُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ شَرَفَ الْمَنَازِلِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ.

وَاتَّفَقَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى أَنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ أَفْضَلُ الْعُلُومِ وَأَعْظَمُهَا أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا عَلَيْنَا أَسَامَحَنَا بَعْضُ الْفِرَقِ فِي تَعْيِينِ الْعُلُومِ -أَعْنِي الْعُلُومَ الَّتِي نَبَّهَ الشَّارِعُ عَلَى مَزِيَّتِهَا وَفَضِيلَتِهَا- أَمْ لَمْ نُسَامِحْهُمْ، بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ، وَإِثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ؟.

وَأَيْضًا، فَإِنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ مِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَسَائِلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَقَاصِدِ، وَالَّذِي يَجْرِي مِنْهَا مَجْرَى الْمَقَاصِدِ أَعْلَى مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ -بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَيْضًا- كَعِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْفِقْهِ، فَإِنَّهُ كَالْوَسِيلَةِ، فَعِلْمُ الْفِقْهِ أَعْلَى.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَأَهْلُ الْعِلْمِ أَشْرَفُ النَّاسِ وَأَعْظَمُ مَنْزِلَةً بِلَا إِشْكَالٍ وَلَا نِزَاعٍ وَإِنَّمَا وَقَعَ الثَّنَاءُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ اتِّصَافِهِمْ بِالْعِلْمِ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ وُقُوعُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ مُقَيَّدًا بِالِاتِّصَافِ بِهِ، فَهُوَ إِذًا الْعِلَّةُ فِي الثَّنَاءِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ الِاتِّصَافُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ الْعُلَمَاءُ حُكَّامًا عَلَى الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ قَضَاءً أَوْ فُتْيَا أَوْ إِرْشَادًا، لِأَنَّهُمُ اتَّصَفُوا بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ، فَلَيْسُوا بِحُكَّامٍ مِنْ جِهَةِ مَا اتَّصَفُوا بِوَصْفٍ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِمْ كَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِذْ لَا مَزِيَّةَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِيهَا، وَإِنَّمَا صَارُوا حُكَّامًا عَلَى الْخَلْقِ مَرْجُوعًا إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ حَمْلِهِمْ لِلْعِلْمِ الْحَاكِمِ، فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ حُكَّامًا عَلَى الْخَلْقِ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُمْ مَمْدُوحُونَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْضًا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفُوا بِوَصْفِ الْحُكْمِ مَعَ فَرْضِ خُرُوجِهِمْ عَنْ صَوْتِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ، إِذْ لَيْسُوا حُجَّةً إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا خَرَجُوا عَنْ جِهَتِهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونُوا حُكَّامًا؟ هَذَا مُحَالٌ.

وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْعَالِمِ بِالْعَرَبِيَّةِ: مُهَنْدِسٌ، وَلَا فِي الْعَالِمِ بِالْهَنْدَسَةِ: عَرَبِيٌّ، فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي الزَّائِغِ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ: حَاكِمٌ بِالشَّرْعِ، بَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَاكِمٌ بِعَقْلِهِ أَوْ بِرَأْيِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ حُجَّةً فِي الْعِلْمِ الْحَاكِمِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَاكِمَ يُكَذِّبُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي الْجُمْلَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ.

ثُمَّ نَصِيرُ مِنْ هَذَا إِلَى مَعْنًى آخَرَ مُرَتَّبٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّرِيعَةِ إِذَا اتُّبَعَ فِي قَوْلِهِ، وَانْقَادَ إِلَيْهِ النَّاسُ فِي حُكْمِهِ، فَإِنَّمَا اتُّبِعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ وَحَاكِمٌ بِهَا وَحَاكِمٌ بِمُقْتَضَاهَا، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُبَلِّغٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَتَلَقَّى مِنْهُ مَا بَلَّغَ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ بَلَّغَ، أَوْ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ بِأَنَّهُ بَلَّغَ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُنْتَصِبٌ لِلْحُكْمِ مُطْلَقًا، إِذْ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

وَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَثَبَتَ ذَلِكَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحْدَهُ دُونَ الْخَلْقِ مِنْ جِهَةِ دَلِيلِ الْعِصْمَةِ، وَالْبُرْهَانُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَقُولُهُ أَوْ يَفْعَلُهُ حَقٌّ، فَإِنَّ الرِّسَالَةَ الْمُقْتَرِنَةَ بِالْمُعْجِزَةِ عَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ، فَغَيْرُهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عِصْمَةٌ بِالْمُعْجِزَةِ بِحَيْثُ يَحْكُمُ بِمُقْتَضَاهَا حَتَّى يُسَاوِيَ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي الِانْتِصَابِ لِلْحُكْمِ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ إِنَّمَا يَكُونُ مَنْتَصِبًا عَلَى شَرْطِ الْحُكْمِ بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ.

بِحَيْثُ إِذَا وُجِدَ الْحُكْمُ فِي الشَّرْعِ بِخِلَافِ مَا حَكَمَ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا، إِذَ كَانَ -بِالْفَرْضِ- خَارِجًا عَنْ مُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ الْحَاكِمَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَلِكَ إِذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَجَبَ رَدُّهَا إِلَى الشَّرِيعَةِ حَيْثُ يَثْبُتُ الْحَقُّ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الْآيَةَ.


الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Empty
مُساهمةموضوع: رد: الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ   الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Emptyالإثنين 16 أبريل 2018, 9:11 am

فَإِذًا؛ الْمُكَلَّفُ بِأَحْكَامِهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا:
أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِيهَا، فَحُكْمُهُ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فِيهَا، لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ دَلَالَتُهَا وَاضِحَةً إِنَّمَا يَقَعُ مَوْقِعَهُ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ لَهُ هُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى قَصْدِ الشَّارِعِ وَالْأَوْلَى بِأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ؛ دُونَ مَا ظَهَرَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ.

فَيَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا هُوَ الْأَقْرَبُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ فِيمَا اتَّضَحَ فِيهِ الدَّلِيلُ إِلَّا اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ، دُونَ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَيُعَدُّ مَا ظَهَرَ لَهُ لَغْوًا كَالْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ صَوْبِ الشَّرِيعَةِ الْحَاكِمَةِ، فَإِذًا؛ لَيْسَ قَوْلُهُ بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْحُكْمِ.

وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا صِرْفًا خَلِيًّا مِنَ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ جُمْلَةً، فَلَابُدَّ لَهُ مِنْ قَائِدٍ يَقُودُهُ، وَحَاكِمٍ يَحْكُمُ عَلَيْهِ، وَعَالِمٍ يَقْتَدِي بِهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُقْتَدَى بِهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ بِالْعِلْمِ الْحَاكِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ اتِّبَاعُهُ وَلَا الِانْقِيَادُ لِحُكْمِهِ.

بَلْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَخْطُرَ بِخَاطِرِ الْعَامِّيِّ وَلَا غَيْرِهِ تَقْلِيدُ الْغَيْرِ فِي أَمْرٍ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْأَمْرِ.

كَمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَرِيضُ نَفْسَهُ إِلَى أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَبِيبٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَاقِدَ الْعَقْلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا يَنْقَادُ إِلَى الْمُفْتِي مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ عَالِمٌ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَجِبُ الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ فُلَانًا أَيْضًا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَيْضًا لَا يَسْعُ الْخِلَافُ فِيهَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا.

وَالثَّالِثُ:
 أَنْ يَكُونَ غَيْرَ بَالِغٍ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ، لَكِنَّهُ يَفْهَمُ الدَّلِيلَ وَمَوْقِعَهُ، وَيَصْلُحُ فَهْمُهُ لِلتَّرْجِيحِ بِالْمُرَجِّحَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ تَرْجِيحُهُ أَوْ نَظَرُهُ، أَوْ لَا فَإِنِ اعْتَبَرْنَاهُ صَارَ مِثْلَ الْمُجْتَهِدِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَالْمُجْتَهِدُ إِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ الْحَاكِمِ نَاظِرٌ نَحْوَهُ.

مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ: فَالَّذِي يُشْبِهُهُ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْهُ فَلَابُدَّ مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى دَرَجَةِ الْعَامِّيِّ، وَالْعَامِّيُّ إِنَّمَا اتَّبَعَ الْمُجْتَهِدَ مِنْ جِهَةِ تَوَجُّهِهِ إِلَى صَوْبِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ، فَكَذَلِكَ مَنْ نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ.

ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ: أَمَّا النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَاتِّبَاعُهُ لِلْوَحْيِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ.

وَأَمَّا أَصْحَابُهُ فَاتِّبَاعُهُمْ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِمُؤَالِفٍ أَوْ مُخَالِفٍ شَهِيرٍ عَنْهُمْ، فَلَا نُطِيلُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ.

فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَتَّبِعُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ الشَّرِيعَةِ، قَائِمٌ بِحُجَّتِهَا، حَاكِمٌ بِأَحْكَامِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَأَنَّهُ مَنْ وُجِدَ مُتَوَجِّهًا غَيْرَ تِلْكَ الْوُجْهَةِ فِي جُزْئِيَّةٍ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ أَوْ فَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا وَلَا اسْتَقَامَ أَنْ يَكُونَ مُقْتَدًى بِهِ فِيمَا حَادَ فِيهِ عَنْ صَوْبِ الشَّرِيعَةِ أَلْبَتَّةَ.

فَيَجِبُ إِذًا عَلَى النَّاظِرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَمْرَانِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ: أَحَدُهُمَا:
أَنْ لَا يَتَّبِعَ الْعَالِمَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ عَالِمٌ بِالْعِلْمِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ طَرِيقٌ إِلَى اسْتِفَادَةِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، إِذْ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ إِلَّا كَوْنُهُ مُودَعًا لَهُ، وَمَأْخُوذًا بِأَدَاءِ تِلْكَ الْأَمَانَةِ، حَتَّى إِذَا عَلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِيمَا يُلْقِي، أَوْ تَارِكٌ لِإِلْقَاءِ تِلْكَ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، أَوْ مُنْحَرِفٌ عَنْ صَوْبِهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِانْحِرَافِ، تَوَقَّفَ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَى الِاتِّبَاعِ إِلَّا بَعْدَ التَّبْيِينِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يُلْقِيهِ الْعَالِمُ يَكُونُ حَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِإِمْكَانِ الزَّلَلِ وَالْخَطَإِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

أَمَّا إِذَا كَانَ هَذَا الْمُتَّبِعُ نَاظِرًا فِي الْعِلْمِ وَمُتَبَصِّرًا فِيمَا يُلْقِي إِلَيْهِ كَأَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّ تَوَصُّلَهُ إِلَى الْحَقِّ سَهْلٌ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْكُتُبِ إِمَّا تَحْتَ حِفْظِهِ، وَإِمَّا مُعَدَّةٌ لِأَنْ يُحَقِّقَهَا بِالْمُطَالَعَةِ أَوِ الْمُذَاكَرَةِ، اجْتِهَادُ الْعَامِّيِّ فِي اخْتِيَارِ مَنْ يُقَلِّدُ وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَامِّيًّا صِرْفًا فَيَظْهَرُ لَهُ الْإِشْكَالُ عِنْدَمَا يَرَى الِاخْتِلَافَ بَيْنَ النَّاقِلِينَ لِلشَّرِيعَةِ، فَلَابُدَّ لَهُ هَاهُنَا مِنَ الرُّجُوعِ آخِرًا إِلَى تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ، إِذْ لَا يُمْكِنُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ تَقْلِيدُ مُخْتَلِفِينَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ مُحَالٌ وَخَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يُمْكِنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَمَلِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ بِهِمَا كَانَ عَمَلُهُ بِهِمَا مَعًا مُحَالًا، وَإِنْ أَمْكَنَهُ صَارَ عَمَلُهُ لَيْسَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. بَلْ هُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَا قَائِلَ بِهِ.

 وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا نَجِدُ صُورَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ مَعُمُولًا بِهَا فِي الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ إِلَّا وَاحِدًا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ صَاحِبِهِ، وَلِذَلِكَ خَالَفَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُخَالِفْهُ، وَالْعَامِّيُّ جَاهِلٌ بِمَوَاقِعِ الِاجْتِهَادِ، فَلَابُدَّ لَهُ مِمَّنْ يُرْشِدُهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْعَامِّيِّ بِطَرِيقٍ إِجْمَالِيٍّ، وَهُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالْأَعْلَمِيَّةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ.

وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَالطَّالِبُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَعْلَمِيَّةَ تَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّ صَاحِبَهَا أَقْرَبُ إِلَى صَوْبِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِذًا؛ لَا يُقَلِّدُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَاكِمًا بِالْعِلْمِ الْحَاكِمِ.

وَالْأَمْرُ الثَّانِي:
أَنْ لَا يُصَمِّمَ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِي تَقْلِيدِهِ الْخَطَأُ شَرْعًا وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامِّيَّ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُ قَدْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ أَرْجَحَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ عِنْدَ أَهْلِ قُطْرِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَهْلُ قُطْرِهِ فِي التَّفَقُّهِ فِي مَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ غَيْرِهِ.

وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ فِي بَعْضِ مَسَائِلَ مُتَنَوِّعَةٍ الْخَطَأُ وَالْخُرُوجُ عَنْ صَوْبِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ فَلَا يَتَعَصَّبُ لِمَتْبُوعِهِ بِالتَّمَادِي عَلَى اتِّبَاعِهِ فِيمَا ظَهَرَ فِيهِ خَطَؤُهُ، لِأَنَّ تَعَصُّبَهُ يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِلَى مُخَالَفَةِ مَتْبُوعِهِ، أَمَّا خِلَافُهُ لِلشَّرْعِ فَبِالْعَرْضِ، وَأَمَّا خِلَافُهُ لِمَتْبُوعِهِ فَلِخُرُوجِهِ عَنْ شَرْطِ الِاتِّبَاعِ، لِأَنَّ كُلَّ عَالِمٍ يُصَرِّحُ أَوْ يُعَرِّضُ بِأَنَّ اتِّبَاعَهُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ حَاكِمٌ بِالشَّرِيعَةِ لَا بِغَيْرِهَا، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ حَاكِمٌ بِخِلَافِ الشَّرِيعَةِ خَرَجَ عَنْ شَرْطِ مَتْبُوعِهِ بِالتَّصْمِيمِ عَلَى تَقْلِيدِهِ.

وَمِنْ مَعْنَى كَلَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا كَانَ مِنْ كَلَامِي مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ فَاتْرُكُوهُ. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ دُونَ لَفْظِهِ.

وَمِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْحَدِيثُ مَذْهَبِي فَمَا خَالَفَهُ فَاضْرِبُوا بِهِ الْحَائِطَ أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذَا لِسَانُ حَالِ الْجَمِيعِ.

وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ عَلَى تَحَرٍّ أَنَّهُ طَابَقَ الشَّرِيعَةَ الْحَاكِمَةَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَا لَا فَلَيْسَ بِمَنْسُوبٍ إِلَى الشَّرِيعَةِ وَلَا هُمْ أَيْضًا مِمَّنْ يُرْضَى أَنْ تُنْسَبَ إِلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهَا.

لَكِنْ يُتَصَوَّرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَجْهَانِ:
أَنْ يَكُونَ الْمَتْبُوعُ مُجْتَهِدًا، فَالرُّجُوعُ فِي التَّخْطِئَةِ وَالتَّصْوِيبِ إِلَى مَا اجْتَهَدَ فِيهِ، وَهُوَ الشَّرِيعَةُ، وَأَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ، كَالْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمْ تَقْلِيدُ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالنَّقْلِ مِنْ كُتُبِهِمْ وَالتَّفَقُّهِ فِي مَذَاهِبِهِمْ، فَالرُّجُوعُ فِي التَّخْطِئَةِ وَالتَّصْوِيبُ إِلَى صِحَّةِ النَّقْلِ عَمَّنْ نَقَلُوا عَنْهُ وَمُوَافَقَتُهُمْ لِمَنْ قَلَّدُوا، أَوْ خِلَافَ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مُقَلِّدُونَ بِالْعَرْضِ، فَلَا يَسَعُهُمُ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، إِذْ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَتَهُ، فَلَا يَصِحُّ تَعَرُّضُهُمْ لِلِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ قُصُورِهِمْ عَنْ دَرَجَتِهِ.

فَإِنْ فُرِضَ انْتِصَابُهُ لِلِاجْتِهَادِ فَهُوَ مُخْطِئٌ آثِمٌ، أَصَابَ أَمْ لَمْ يُصِبْ؛ لِأَنَّهُ أَتَى الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ، وَانْتَهَكَ حُرْمَةَ الدَّرَجَةِ وَقَفَا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَإِصَابَتُهُ -إِنْ أَصَابَ- مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَخَطَؤُهُ هُوَ الْمُعْتَادُ، فَلَا يَصِحُّ اتِّبَاعُهُ كَسَائِرِ الْعَوَامِّ إِذَا رَامُوا الِاجْتِهَادَ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاجْتِهَادِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَامِّيِّ كَالْعَدَمِ، وَأَنَّهُ فِي مُخَالَفَتِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ آثِمٌ مُخْطِئٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ -مَعَ هَذَا التَّقْرِيرِ- تَقْلِيدُ غَيْرِ مُجْتَهِدٍ فِي مَسْأَلَةٍ أَتَى فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ؟

وَلَقَدْ زَلَّ - بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّلِيلِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الرِّجَالِ - أَقْوَامٌ خَرَجُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ جَادَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.

وَلْنَذْكُرْ عَشَرَةَ أَمْثِلَةً: أَحَدُهَا:
وَهُوَ أَشَدُّهَا، قَوْلُ مَنْ جَعَلَ اتِّبَاعَ الْآبَاءِ فِي أَصْلِ الدِّينِ هُوَ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، حَتَّى رَدُّوا بِذَلِكَ بَرَاهِينَ الرِّسَالَةِ، وَحُجَّةَ الْقُرْآنِ وَدَلِيلَ الْعَقْلِ فَقَالُوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22].

فَحِينَ نُبِّهُوا عَلَى وَجْهِ الْحُجَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24]

لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ إِلَّا الْإِنْكَارُ، اعْتِمَادًا عَلَى اتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَاطِّرَاحًا لِمَا سِوَاهُ، وَلَمْ يَزَلْ مِثْلُ هَذَا مَذْمُومًا فِي الشَّرَائِعِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24] وَعَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 72] إِلَى آخِرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، فَكَانَ الْجَمِيعُ مَذْمُومِينَ حِينَ اعْتَبَرُوا وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْحَقَّ تَابِعٌ لَهُمْ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُقَدَّمُ.

وَالثَّانِي:
رَأْيُ الْإِمَامِيَّةِ فِي اتِّبَاعِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ - فِي زَعْمِهِمْ - وَإِنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْمَعْصُومُ حَقًّا، وَهُوَ مُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَحَكَّمُوا الرِّجَالَ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يُحَكِّمُوا الشَّرِيعَةَ عَلَى الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ لِيَكُونَ حَكَمًا عَلَى الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ.

وَالثَّالِثُ:
لَاحِقٌ بِالثَّانِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفِرْقَةِ الْمَهْدَوِيَّةِ الَّتِي جَعَلَتْ أَفْعَالَ مَهْدِيِّهِمْ حُجَّةً، وَافَقَتْ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ أَوْ خَالَفَتْ، بَلْ جَعَلُوا أَكْثَرَ ذَلِكَ أَنْفِحَةً فِي عَقْدِ إِيمَانِهِمْ مَنْ خَالَفَهَا كَفَّرُوهُ وَجَعَلُوا حُكْمَهُ حُكْمَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ أَمْثِلَةٌ.

وَالرَّابِعُ:
رَأْيُ الْمُقَلِّدَةِ لِمَذْهَبِ إِمَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ إِمَامَهُمْ هُوَ الشَّرِيعَةُ، بِحَيْثُ يَأْنَفُونَ أَنْ تُنْسَبَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَضِيلَةٌ دُونَ إِمَامِهِمْ، حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ مَنْ بَلَغَ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ وَتَكَلَّمَ فِي الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَرْتَبِطْ إِلَى إِمَامِهِمْ رَمَوْهُ بِالنَّكِيرِ، وَفَوَّقُوا إِلَيْهِ سِهَامَ النَّقْدِ، وَعَدُّوهُ مِنَ الْخَارِجِينَ عَنِ الْجَادَّةِ، وَالْمُفَارِقِينَ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ مِنْهُمْ بِدَلِيلٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الِاعْتِيَادِ الْعَامِّيِّ.

وَلَقَدْ لَقِيَ الْإِمَامُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ حِينَ دَخَلَ الْأَنْدَلُسَ آتِيًا مِنَ الْمَشْرِقِ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ الْأَمَرَّيْنِ، حَتَّى أَصَارُوهُ مَهْجُورَ الْفَنَاءِ، مُهْتَضَمَ الْجَانِبِ، لِأَنَّهُ مِنِ الْعِلْمِ بِمَا لَا يَدَيْ لَهُمْ بِهِ، إِذْ لَقِيَ بِالْمَشْرِقِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَأَخَذَ عَنْهُ مُصَنَّفَهُ وَتَفَقَّهَ عَلَيْهِ، وَلَقِيَ أَيْضًا غَيْرُهُ، حَتَّى صَنَّفَ الْمُسْنَدَ الْمُصَنَّفَ الَّذِي لَمْ يُصَنَّفْ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ قَدْ صَمَّمُوا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، بِحَيْثُ أَنْكَرُوا مَا عَدَاهُ، وَهَذَا تَحْكِيمُ الرِّجَالِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْغُلُوُّ فِي مَحَبَّةِ الْمَذْهَبِ، وَعَيْنُ الْإِنْصَافِ تَرَى أَنَّ الْجَمِيعَ أَئِمَّةٌ فُضَلَاءُ، فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِمَذْهَبِ مُجْتَهِدٍ لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَضُرُّهُ مُخَالَفَةُ غَيْرِ إِمَامِهِ لِإِمَامِهِ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ سَالِكٌ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، فَقَدْ يُؤَدِّي التَّغَالِي فِي التَّقْلِيدِ إِلَى إِنْكَارٍ لِمَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ إِنْكَارِهِ.

وَالْخَامِسُ:
رَأْيُ نَابِتَةٍ مُتَأَخِّرَةِ الزَّمَانِ مِمَّنْ يَدَّعِي التَّخَلُّقَ بِخُلُقِ أَهْلِ التَّصَوُّفِ الْمُتَقَدِّمِينَ، أَوْ يَرُومُ الدُّخُولَ فِيهِمْ، يَعْمِدُونَ إِلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي الْكُتُبِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِمْ أَوِ الْأَقْوَالِ الصَّادِرَةِ عَنْهُمْ، فَيَتَّخِذُونَهَا دِينًا وَشَرِيعَةً لِأَهْلِ الطَّرِيقَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ مُخَالِفَةً لِمَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى فُتْيَا مُفْتٍ وَلَا نَظَرِ عَالِمٍ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْكَلَامِ ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ، فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ أَوْ يَقُولُهُ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فَهُوَ أَيْضًا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَالْفِقْهُ لِلْعُمُومِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْخُصُوصِ!

فَتَرَاهُمْ يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِتِلْكَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَلَا يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَهُوَ عَيْنُ اتِّبَاعِ الرِّجَالِ وَتَرْكِ الْحَقِّ، مَعَ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَصَوِّفَةَ الَّذِينَ يُنْقَلُ عَنْهُمْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ كَانَ فِي النِّهَايَةِ دُونَ الْبِدَايَةِ، وَلَا عُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِصِحَّةِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ أَمْ لَا، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَئِمَّةِ التَّصَوُّفِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ زَلَّ زَلَّةً يَجِبُ سَتْرُهَا عَلَيْهِ، فَيَنْقُلُهَا عَنْهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ حَالَهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ بِطَرِيقِ الْقَوْمِ كُلَّ التَّأَدُّبِ.

وَقَدْ حَذَّرَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَجَعَلُوهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَهْدِمُ الدِّينَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا ظَهَرَتْ فَتَطِيرُ فِي النَّاسِ كُلَّ مَطَارٍ، فَيَعُدُّونَهَا دِينًا، وَهِيَ ضِدُّ الدِّينِ، فَتَكُونُ الزَّلَّةُ حُجَّةً فِي الدِّينِ.

فَكَذَلِكَ أَهْلُ التَّصَوُّفِ لَابُدَّ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالصُّوفِيِّ مِنْ عَرْضِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَى حَاكِمٍ يَحْكُمُ عَلَيْهَا: هَلْ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُتَّخَذُ دِينًا أَمْ لَا؟ وَالْحَاكِمُ هُوَ الشَّرْعُ وَأَقْوَالُ الْعَالِمِ تُعْرَضُ عَلَى الشَّرْعِ أَيْضًا، وَأَقَلُّ ذَلِكَ فِي الصُّوفِيِّ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ، كَالْجُنَيْدِ وَغَيْرِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.

وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ النَّابِتَةَ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَصَارُوا مُتَّبِعِينَ الرِّجَالَ مِنْ حَيْثُ هُمْ رِجَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ هُمْ رَاجِحُونَ بِالْحَاكِمِ الْحَقِّ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَمَا عَلَيْهِ الْمُتَصَوِّفَةُ أَيْضًا، إِذْ قَالَ إِمَامُهُمْ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: مَذْهَبُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ: الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ، وَالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ.

وَلَمْ يَثْبُتْ فِي طَرِيقِهِمُ اتِّبَاعُ الرِّجَالِ عَلَى انْحِرَافٍ، وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ اتِّبَاعُ الرِّجَالِ، شَأْنُ أَهْلِ الضَّلَالِ.

وَالسَّادِسُ:
رَأْيُ نَابِتَةٍ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ أَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُمْ أَرَادُوا الْكَلَامَ فِيهِ وَالْعَمَلَ بِحَسْبِهِ. ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى تَقْلِيدِ بَعْضِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُمْ فِي زَمَانِ الصِّبَا الَّذِي هُوَ مَظِنَّةٌ لِعَدَمِ التَّثَبُّتِ مِنَ الْآخِذِ أَوِ التَّغَافُلِ مِنَ الْمَأْخُوذِ عَنْهُ.

ثُمَّ جَعَلُوا أُولَئِكَ الشُّيُوخَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَنَسَبُوا إِلَيْهِمْ مَا نَسَبُوا بِهِ مِنْ خَطَإٍ، أَوْ فَهِمُوا عَنْهُمْ عَلَى غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلَا سُؤَالٍ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَسْأَلَةِ الْمَرْوِيَّةِ، وَرَدُّوا جَمِيعَ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَوَّلِينَ مِمَّا هُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، كَمَسْأَلَةِ "الْبَاءِ" الْوَاقِعَةِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ؛ فَإِنَّ طَائِفَةً مِمَّنْ تَظَاهَرَ بِالِانْتِصَابِ لِلْإِقْرَاءِ زَعَمَ أَنَّهَا الرَّخْوَةُ الَّتِي اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ -وَهُمْ أَهْلُ صِنَاعَةِ الْأَدَاءِ، وَالنَّحْوِيُّونَ أَيْضًا -وَهُمُ النَّاقِلُونَ عَنِ الْعَرَبِ- عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَأْتِ إِلَّا فِي لُغَةٍ مَرْذُولَةٍ لَا يُؤْخَذُ بِهَا وَلَا يُقْرَأُ بِهَا الْقُرْآنُ، وَلَا نُقِلَتِ الْقِرَاءَةُ بِهَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ الشَّأْنِ، وَإِنَّمَا الْبَاءُ الَّتِي يَقْرَأُ بِهَا -وَهِيَ الْمَوْجُودَةُ فِي كُلِّ لُغَةٍ فَصِيحَةٍ- الْبَاءُ الشَّدِيدَةُ، فَأَبَى هَؤُلَاءِ مِنِ الْقِرَاءَةِ وَالْإِقْرَاءِ بِهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الَّتِي قَرَؤُوا بِهَا عَلَى الشُّيُوخِ الَّذِينَ لَقُوهُمْ هِيَ تِلْكَ لَا هَذِهِ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عُلَمَاءَ وَفُضَلَاءَ، فَلَوْ كَانَتْ خَطَأً لَرَدُّوهَا عَلَيْنَا.

وَأَسْقَطُوا النَّظَرَ وَالْبَحْثَ عَنْ أَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا رَأْسًا؛ تَحْسِينَ ظَنٍّ بِالرِّجَالِ، وَتُهَمَةً لِلْعِلْمِ، فَصَارَتْ بِدْعَةً جَارِيَةً -أَعْنِي الْقِرَاءَةَ بِالْبَاءِ الرَّخْوَةِ- مُصَرَّحًا بِأَنَّهَا الْحَقُّ الصَّرِيحُ، فَنُعَوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَلَقَدْ لَجَّ بَعْضُهُمْ حِينَ وُجِّهُوا بِالنَّصِيحَةِ فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَكَانَ الْقُرَشِيُّ الْمُقْرِئُ أَقْرَبَ مَرَامًا مِنْهُمْ.


الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Empty
مُساهمةموضوع: رد: الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ   الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ Emptyالإثنين 16 أبريل 2018, 9:14 am

حُكِيَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغِيثٍ أَنَّهُ قَالَ:
أَدْرَكْتُ بِقُرْطُبَةَ مُقْرِئًا يُعْرَفُ بِالْقُرَشِيِّ، وَكَانَ لَا يُحْسِنُ النَّحْوَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ قَارِئٌ يَوْمًا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقُرَشِيُّ " تَحِيدٌ " بِالتَّنْوِينِ، فَرَاجَعَهُ الْقَارِئُ -وَكَانَ يُحْسِنُ النَّحْوَ- فَلَجَّ عَلَيْهِ الْمُقْرِئُ وَثَبَتَ عَلَى التَّنْوِينِ.

فَانْتَشَرَ الْخَبَرُ إِلَى أَنْ بَلَغَ يَحْيَى بْنَ مُجَاهِدٍ الْأَلْبِيرِيَّ الزَّاهِدَ -وَكَانَ صَدِيقًا لِهَذَا الْمُقْرِئِ- فَنَهَضَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ قَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ بَعُدَ عَهْدِي بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى مُقْرِئٍ فَأَرَدْتُ تَجْدِيدَ ذَلِكَ عَلَيْكَ فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَبْتَدِئَ بِالْمُفَصَّلِ فَهُوَ الَّذِي يَتَرَدَّدُ فِي الصَّلَوَاتِ، فَقَالَ الْمُقْرِئُ: مَا شِئْتَ.

فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ فَلَمَّا بَلَغَ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ رَدَّهَا عَلَيْهِ الْمُقْرِئُ بِالتَّنْوِينِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: لَا تَفْعَلْ، مَا هِيَ إِلَّا غَيْرُ مُنَوَّنَةٍ بِلَا شَكٍّ.

فَلَجَّ الْمُقْرِئُ، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ مُجَاهِدٍ تَصْمِيمَهُ قَالَ لَهُ: يَا أَخِي إِنِّي لَمْ يَحْمِلْنِي عَلَى الْقِرَاءَةِ عَلَيْكَ إِلَّا لِتُرَاجِعَ الْحَقَّ فِي لُطْفٍ، وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ أَوْقَعَكَ فِيهَا قِلَّةُ عِلْمِكَ بِالنَّحْوِ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ لَا يَدْخُلُهَا التَّنْوِينُ، فَتَحَيَّرَ الْمُقْرِئُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْنَعْ بِهَذَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْمُصْحَفُ.

فَأَحْضَرَ مِنْهُ جُمْلَةً فَوَجَدُوهَا مَشْكُولَةً بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَرَجَعَ الْمُقْرِئُ إِلَى الْحَقِّ، انْتَهَتِ الْحِكَايَةُ، وَيَا لَيْتَ مَسْأَلَتَنَا مِثْلُ هَذِهِ، وَلَكِنَّهُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أَبَوُا الِانْقِيَادَ إِلَى الصَّوَابِ.

وَالسَّابِعُ:
رَأْيُ نَابِتَةٍ أَيْضًا يَرَوْنَ أَنَّ عَمَلَ الْجُمْهُورِ الْيَوْمَ -مِنِ الْتِزَامِ الدُّعَاءِ بِهَيْئَةِ الْاجْتِمَاعِ بِإِثْرِ الصَّلَوَاتِ، وَالْتِزَامِ الْمُؤَذِّنِينَ التَّثْوِيبَ بَعْدَ الْآذَانِ- صَحِيحٌ بِإِطْلَاقٍ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ أَوْ مُوَافَقَتِهَا، وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ اجْتِهَادِيٍّ أَوْ تَقْلِيدِيٍّ خَارِجٌ عَنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أُمُورٍ تَخَبَّطُوا فِيهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُعْتَبَرٍ.

فَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الْمَعْمُولَ بِهِ فِي الْجُمْهُورِ ثَابِتٌ عَنْ فُضَلَاءَ وَصَالِحِينَ عُلَمَاءَ.

فَلَوْ كَانَ خَطَأً لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ.

وَهَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ، تُتَّهَمُ الْأَدِلَّةُ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَيُحْسَنُ الظَّنُّ بِمَنْ تَأَخَّرَ، وَرُبَّمَا نُوزِعَ بِأَقْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَ، فَيَرْمِيهَا الرَّامِي بِالظُّنُونِ وَاحْتِمَالِ الْخَطَإِ، وَلَا يَرْمِي بِذَلِكَ الْمُتَأَخِّرِينَ، الَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

وَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَصْلِ هَذَا الْعَمَلِ الْمُتَأَخِّرِ:
هَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ؟ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ أَوْ يَأْتِي بِأَدِلَّةٍ مُحْتَمَلَةٍ لَا عِلْمَ لَهُ بِتَفْصِيلِهَا، كَقَوْلِهِ هَذَا خَيْرٌ أَوْ حَسَنٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] أَوْ يَقُولُ: هَذَا بَرٌّ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] فَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَصْلِ كَوْنِهِ خَيْرًا أَوْ بِرًّا وَقَفَ، وَمَيْلُهُ إِلَى أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بِعَقْلِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ وَبِرٌّ، فَجَعَلَ التَّحْسِينَ عَقْلِيًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الزَّيْغِ، وَثَابِتٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ مِنِ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ طَالَعَ كَلَامَ الْقَرَافِيِّ وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي أَنَّ الْبِدَعَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ.

فَنَقُولُ:
هَذَا مِنَ الْمُحْدَثِ الْمُسْتَحْسَنِ، وَرُبَّمَا رُشِّحَ ذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ عُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ إِذَا نَظَرُوا فِي مَسْأَلَةٍ مُجْتَهَدٍ فِيهَا فَمَا رَأَوْهُ فِيهَا حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ جَارٍ عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الِاتِّفَاقُ.

عَلَى أَنَّ الْعَوَامَّ لَوْ نَظَرُوا فَأَدَّاهُمُ اجْتِهَادُهُمْ إِلَى اسْتِحْسَانِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنًا حَتَّى يُوَافِقَ الشَّرِيعَةَ.

وَالَّذِينَ نَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسُوا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْهُمْ، فَلَا اعْتِبَارَ بِالِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْسَانِ شَيْءٍ وَاسْتِقْبَاحِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.

وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَقَّى فِي الدَّعْوَى حَتَّى يَدَّعِيَ فِيهَا الْإِجْمَاعَ مِنْ أَهْلِ الْأَقْطَارِ، وَهُوَ لَمْ يَبْرَحْ مِنْ قُطْرِهِ، وَلَا بَحَثَ عَنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْأَقْطَارِ، وَلَا عَنْ تِبْيَانِهِمْ فِيمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَلَا عَرَفَ مِنْ أَخْبَارِ الْأَقْطَارِ خَبَرًا، فَهُوَ مِمَّنْ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَهَذَا الِاضْطِرَابُ كُلُّهُ مَنْشَؤُهُ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِأَعْمَالِ الْمُتَأَخِّرِينَ -وَإِنْ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ- وَالْوُقُوفِ مَعَ الرِّجَالِ دُونَ التَّحَرِّي لِلْحَقِّ.

وَالثَّامِنُ:
رَأْيُ قَوْمٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ زَمَانَنَا هَذَا -فَضْلًا عَنْ زَمَانِنَا- اتَّخَذُوا الرِّجَالَ ذَرِيعَةً لِأَهْوَائِهِمْ وَأَهْوَاءِ مَنْ دَانَاهُمْ، وَمَنْ رَغِبَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا عَرَفُوا غَرَضَ بَعْضِ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ حَاكِمٍ أَوْ فُتْيَا تَعَبُّدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَحَثُوا عَنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَسْؤُولِ عَنْهَا حَتَّى يَجِدُوا الْقَوْلَ الْمُوَافِقَ لِلسَّائِلِ فَأَفْتَوْا بِهِ، زَاعِمِينَ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ لَهُمْ قَوْلُ مَنْ قَالَ: اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ.

ثُمَّ مَا زَالَ هَذَا الشَّرُّ يَسْتَطِيرُ فِي الْأَتْبَاعِ وَأَتْبَاعِهِمْ، حَتَّى لَقَدْ حَكَى الْخَطَابِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ ثَبَتَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ -شَذَّ عَنِ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَا- فَالْمَسْأَلَةُ جَائِزَةٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهِهَا فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

وَالتَّاسِعُ:
مَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ قَوْلُهُ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] فَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) - وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ - فَقَالَ: يَا عَدِيُّ، اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 9] قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

وَفِي تَفْسِيرِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ قِيلَ لِحُذَيْفَةَ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مَا أَحَلُّوا لَهُمْ مِنْ حَرَامٍ اسْتَحَلُّوهُ، وَمَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنْ حَلَالٍ حَرَّمُوهُ، فَتِلْكَ رُبُوبِيَّتُهُمْ.

وَحَكَى عَنْهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبِي الْعَالِيَةِ.

فَتَأَمَّلُوا يَا أُولِي الْأَلْبَابِ! كَيْفَ حَالُ الِاعْتِقَادِ فِي الْفَتْوَى عَلَى الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ لِلدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، بَلْ لِمُجَرَّدِ الْعَرَضِ الْعَاجِلِ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ.

وَالْعَاشِرُ: رَأْيُ أَهْلِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ، فَإِنَّ مَحْصُولَ مَذْهَبِهِمْ تَحْكِيمُ عُقُولِ الرِّجَالِ دُونَ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا أَهِلُ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ، بِحَيْثُ إِنَّ الشَّرْعَ إِنْ وَافَقَ آرَاءَهُمْ قَبِلُوهُ، وَإِلَّا رَدُّوهُ.

فَالْحَاصِلُ مِمَّا تَقَدَّمَ:
أَنَّ تَحْكِيمَ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى كَوْنِهِمْ وَسَائِلَ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا ضَلَالٌ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، وَإِنَّ الْحُجَّةَ الْقَاطِعَةَ وَالْحَاكِمَ الْأَعْلَى هُوَ الشَّرْعُ لَا غَيْرُ.

ثُمَّ نَقُولُ:
إِنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَمَنْ رَأَى سَيْرَهُمْ وَالنَّقْلَ عَنْهُمْ وَطَالَعَ أَحْوَالَهُمْ عَلِمَ ذَلِكَ عِلْمًا يَقِينًا.

أَلَا تَرَى أَصْحَابَ السَّقِيفَةِ لَمَّا تَنَازَعُوا فِي الْإِمَارَةِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَأَتَى الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِأَنَّ «الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ» أَذْعَنُوا لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِمَ يَعْبَئوا بِرَأْيِ مَنْ رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى آرَاءِ الرِّجَالِ.

وَلَمَّا أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ بِغَيْرِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِلَّا بِحَقِّهَا فَقَالَ: الزَّكَاةُ حَقُّ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا أَوْ عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ.

فَتَأَمَّلُوا هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ فِيهِ نُكْتَتَيْنِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ: إِحْدَاهُمَا:
أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ سَبِيلًا إِلَى جَرَيَانِ الْأَمْرِ فِي زَمَانِهِ عَلَى غَيْرِ مَا كَانَ يَجْرِي فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرْتَدَّ مِنَ الْمَانِعِينَ إِنَّمَا مَنَعَ تَأْوِيلًا، وَفِي هَذَا الْقِسْمِ وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ لَا فِيمَنِ ارْتَدَّ رَأْسًا، وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَعْذُرْ بِالتَّأْوِيلِ وَالْجَهْلِ، وَنَظَرَ إِلَى حَقِيقَةِ مَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَطَلَبَهُ إِلَى أَقْصَاهُ حَتَّى قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا... إِلَى آخِرِهِ، مَعَ أَنَّ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَرْكِ قِتَالِهِمْ إِنَّمَا أَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَمْرٍ مَصْلَحِيٍّ ظَاهِرٍ تُعَضِّدُهُ مَسَائِلُ شَرْعِيَّةٌ، وَقَوَاعِدُ أُصُولِيَّةٌ، لَكِنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ الصَّرِيحَ كَانَ عِنْدَهُ ظَاهِرًا، فَلَمْ تَقْوَ عِنْدَهُ آرَاءُ الرِّجَالِ أَنْ تُعَارِضَ الدَّلِيلَ الظَّاهِرَ، فَالْتَزَمَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُشِيرُونَ عَلَيْهِ بِالتَّرْكِ إِلَى صِحَّةِ دَلِيلِهِ تَقْدِيمًا لِلْحَاكِمِ الْحَقِّ، وَهُوَ الشَّرْعُ.

وَالثَّانِيَةُ:
أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَا يَلْقَى هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي طَرِيقِ طَلَبِ الزَّكَاةِ مِنْ مَانِعِيهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ إِذْ لَمَّا امْتَنَعُوا صَارَ مَظِنَّةً لِلْقِتَالِ وَهَلَاكَ مَنْ شَاءَ مِنِ الْفِرْقَتَيْنِ، وَدُخُولَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَلَكِنَّهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمْ يَعْتَبِرْ إِلَّا إِقَامَةَ الْمِلَّةِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَتْ قَبْلُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْعَوَارِضُ الطَّارِئَةُ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ وَشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، نَظِيرَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْذُرْهُمْ فِي تَرْكِ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ خَوْفَ الْعَيْلَةِ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَعُدَّ أَبُو بَكْرٍ مَا يَلْقَى الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَشَقَّةِ عُذْرًا يَتْرُكُ بِهِ الْمُطَالَبَةَ بِإِقَامَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ حَسْبَمَا كَانَتْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

وَجَاءَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِرَدِّ الْبَعْثِ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَعَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -وَلَمْ يَكُونُوا بَعْدُ مَضَوْا لِوُجْهَتِهِمْ- لِيَكُونُوا مَعَهُ عَوْنًا عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَأَبَى مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَرُدَّ بَعْثًا أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَوَقَفَ مَعَ شَرْعِ اللَّهِ وَلَمْ يَحْكُمْ غَيْرَهُ.

وَعَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنَّهُ قَالَ:
«إِنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ».

وَإِنَّمَا زَلَّةُ الْعَالِمِ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، فَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يَخْرُجُ عَنْهُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ حُجَّةً عَلَى الشَّرْعِ؟ هَذَا مُضَادٌّ لِذَلِكَ.

وَلَقَدْ كَانَ كَافِيًا مِنْ ذَلِكَ خِطَابُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ وَأَصْحَابِهِ:
 {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الْآيَةَ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
 اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا، وَلَا تَغْدُ إِمَّعَةً فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ.

 قَالَ ابْنُ وَهْبٍ:
فَسَأَلْتُ سُفْيَانَ عَنِ الْإِمَّعَةِ فَقَالَ: الْإِمَّعَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي يُدْعَى إِلَى الطَّعَامِ فَيَذْهَبُ مَعَهُ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ فِيكُمُ الْيَوْمَ الْمُحْقِبُ دِينَهُ الرِّجَالَ.

وَعَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ:
يَا كُمَيْلُ: إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ، وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ... الْحَدِيثَ.

إِلَى أَنْ قَالَ فِيهِ:
أُفٍّ لِحَامِلِ حَقٍّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ لَا يَدْرِي أَيْنَ الْحَقُّ، إِنْ قَالَ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَدْرِ، مَشْغُوفٌ بِمَا لَا يَدْرِي حَقِيقَتَهُ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنْ فُتِنَ بِهِ، وَإِنَّ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَنْ عَرَفَ اللَّهُ دِينَهُ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ لَا يَعْرِفَ دِينَهُ.

وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ، فَيَمُوتُ وَهُوَ مَنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعَمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ، فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ. وَأَشَارَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ يُعْدَمُ فِيهِ الْمُجْتَهِدُونَ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:
أَلَا لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا، إِنْ آمَنَ آمَنَ، وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ.

وَهَذَا الْكَلَامُ مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَيَّنَ مُرَادَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ السَّلَفِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ:
جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ: جَلَسَ إِلَيَّ عُمَرُ فِي مَجْلِسِكَ هَذَا قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ.. قَالَ: لِمَ؟ قُلْتُ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ.. قَالَ: هُمَا الْمَرْءَانِ أَهْتَدِي بِهِمَا.

يَعْنِي النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي حَدِيثِ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ حِينَ اسْتُؤْذِنَ لَهُ عَلَى عُمَرَ، قَالَ فِيهِ: فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: يَا بْنَ الْخَطَّابِ! وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ.

فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَقَالَ الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَ عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ.

وَحَدِيثُ فِتْنَةِ الْقُبُورِ حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ -أَوِ الْمُسْلِمُ- فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ فَأَجَبْنَاهُ وَآمَنَّا، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ مُوقِنٌ.. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ».

وَحَدِيثُ «مُخَاصَمَةِ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ عُمَرَ فِي مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَقَوْلِهِ لِرَهْطِ الْحَاضِرِينَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ -إِلَى أَنْ قَالَ لِعَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ: أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»- إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَرْجَمَةً تَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَ الشَّارِعِ إِذَا وَقَعَ وَظَهَرَ فَلَا خِيَرَةَ لِلرِّجَالِ وَلَا اعْتِبَارَ بِهِمْ، وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ إِنَّمَا تَكُونُ قَبْلَ التَّبْيِينِ.

فَقَالَ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ - وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 38 - 159] وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْعَزْمِ وَالتَّبْيِينِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَشَاوَرَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ، فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لَأْمَتَهُ قَالُوا أَقِمْ، فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَزْمِ، وَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ». وَشَاوَرَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، (فَسَمِعَ مِنْهُمَا) حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَجَلَدَ الرَّامِينَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ، وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ.

وَكَانَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْدُ عُمَرُ. فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَشُورَةٍ، إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ثَابِتًا فِي الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ وَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ.

هَذَا جُمْلَةُ مَا قَالَ فِي جُمْلَةِ تِلْكَ التَّرْجَمَةِ مِمَّا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَأْخُذُوا أَقْوَالَ الرِّجَالِ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُمْ وَسَائِلُ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى شَرْعِ اللَّهِ، لَا مِنْ حَيْثُ هُمْ أَصْحَابُ رُتَبٍ أَوْ كَذَا أَوْ كَذَا أَوْ كَذَا وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ.

وَذَكَرَ ابْنُ مُزَيَّنٍ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ كُلُّ مَا قَالَ رَجُلٌ قَوْلًا - وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ - يُتَّبَعُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18].

[فَصْلٌ خَاتِمَةٌ]
إِذًا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ الرِّجَالِ، فَالْحَقُّ أَيْضًا لَا يُعْرَفُ دُونَ وَسَائِطِهِمْ بَلْ بِهِمْ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ، وَهُمُ الْأَدِلَّاءُ عَلَى طَرِيقِهِ.

انْتَهَى الْقَدْرُ الَّذِي وُجِدَ مِنْ هَذَا التَّأْلِيفِ وَلَمْ يُكْمِلْهُ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا مَا جَاءَ فِي آخِرِ النُّسْخَةِ الْمَخْطُوطَةِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي مَكْتَبَةِ الشِّنْقِيطِيِّ، وَقَدْ تَمَّ نَسْخُهَا فِي 25 الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 1295 مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).


الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الْبَابُ الْعَاشِرُ الصِّرَاطِ
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: فـقـــــــه الــدنــيــــا والديـــــن :: كتــاب لم يسبقه سـابق-
انتقل الى: