المبحث الرابع مكانته العلمية وثناء العلماء عليه
للإمام الشاطبي رحمه الله مكانة علمية رفيعة، وتبرز مكانته العلمية من خلال ثناء العلماء عليه وعلى كتبه الرائعة.
فقد أثنى عليه كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين، وسوف أذكر شيئاً من كلامهم على وجه الإجمال.
فمن ذلك ما ذكره أحمد بابا في ترجمته حيث قال:
"... الإمام العلامة المحقق القدوة الحافظ الجليل المجتهد، كان أصولياً، مفسراً، فقيهاً، محدثاً، لغوياً، بيانياً، نظاراً، ثبتاً، ورعاً، صالحاً، زاهداً، سنياً، إماماً مطلقاً، بحاثاً مدققاً، جدلياً، بارعاً في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، له القدم الراسخ والإمامة العظمى في الفنون فقهاً وأصولاً وتفسيراً وحديثاً وعربية وغيرها، مع التحري والتحقيق، له استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة محققة، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع، حريصاً على اتباع السنة، مجانباً للبدع والشبهة، ساعياً في ذلك، مع تثبت تام، منحرف عن كل ما ينحو للبدع وأهلها..." (1).
وقال عنه الإمام الحفيد ابن مرزوق فيما نقل عنه في النيل: "الإمام المحقق العلامة الصالح أبو إسحاق" (2).
__________
(1) "نيل الابتهاج" (ص 47).
(2) نفس المرجع (ص 47).
---------------------------------
وقال عنه تلميذه عبد الله المجاري:
"الإمام العلامة الشهير، نسيج وحده، وفريد عصره، أبو إسحاق..." (1).
وهذا بعض ما أثنى عليه به المتقدمون، وأما ثناء المتأخرين عليه فهو كثير، وأكتفي بذكر شيء من كلام الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في مقدمته على الاعتصام.
حيث قال:
"لولا أن هذا الكتاب ألف في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين، لكان مبدأ نهضة جديدة لإحياء السنة، وإصلاح شؤون الأخلاق والاجتماع، ولكان المصنف بهذا الكتاب وبصنوه كتاب "الموافقات" -الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضاً- من أعظم المجددين في الإسلام، فمثله كمثل الحكيم الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون، كل منهما جاء بما لم يسبق إلى مثله، ولم تنتفع الأمة كما كان يجب بعلمه" (2).
هذا بعضٌ من ثناء العلماء عليه رحمه الله.
ومن أهم الأسباب التي جعلته يحتل هذه المكانة، وينال هذا الذكر الحسن: ما كان يتحلى به من الصدق مع الله تعالى، وتحرِّي الحق، وتطلُّبه ولزومه، والثبات عليه، وإن خالفه أكثر الناس.
وهذا أمر واضح لمن نظر في سيرته، وقرأ كلامه، سيما مقدمته للاعتصام، حيث صدع بالحق، ونهى عن البدع وثبت على موقفه صابراً محتسباً، مع كثرة الاتهامات والافتراءات التي وجهت إليه بسبب ذلك.
وكان من نتيجة ذلك عنايته بموضوع البدع وتصنيفه فيه.
__________
(1) "برنامج المجاري" (ص 116).
(2) "الاعتصام" (1/ 4).
-----------------------------
المبحث الخامس عقيدته (1)
ليس للإمام الشاطبي رحمه الله مؤلف مستقل في أبواب العقيدة حتى يمكن الباحث معرفة رأيه في كل مسألة على وجه الدقة، ولكن كتبه لا تخلو من الكلام على بعض المسائل العقدية التي تأتي عَرَضاً في كلامه.
ومن خلال النظر في هذه المسائل نجد أن للمؤلف ميلاً إلى المذهب الأشعري.
وقبل ذكر أمثلة من المسائل التي مال فيها الإمام الشاطبي إلى مذهب الأشاعرة، تجدر الإشارة إلى بعض الأفكار المنهجية عند المؤلف في مسائل العقيدة.
ومن أهمها:
1 - يرى الإمام الشاطبي أن خبر الآحاد دليل ظني، وأنه لا يؤخذ به في الأمور القطعية، إلا إذا شهد له أصل قطعي كآية قرآنية أو سنة متواترة.
وهذا الرأي للإمام الشاطبي هو مضمون كلامه في عدة مواضع من كتبه، ومن ذلك قوله أثناء رده على المبتدعة الذين يردون أحاديث الآحاد جملة: ".. فعلى كل تقدير خَبَرِ وَاحِدٍ صَحَّ سَنَدُهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِنَادِهِ إِلَى أَصْلٍ فِي الشَّرِيعَةِ قَطْعِيٍّ فَيَجِبُ قبوله، ومن هنا قبلناه مطلقاً..." (2).
__________
(1) استفدت في هذا المبحث من رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بعنوان: "الإمام الشاطبي عقيدته وموقفه من البدع وأهلها"، للطالب عبد الرحمن آدم علي، وقد أشرف على الرسالة الدكتور أحمد سعد حمدان، وتوفي الطالب رحمه الله قبل مناقشتها.
(2) "الاعتصام" للشاطبي (1/ 236).
--------------------------------------------
وقال في معرض رده على المبتدعة الذين يستحسنون بعض البدع، ويحتجون على ذلك بحديث: "مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حسن" (1)، قال: "وَالثَّانِي أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ فلا يسمع" (2).
وقال في موطن آخر:
"كل دليل شرعي إما أن يكون قطعياً أو ظنياً، فإن كان قطعياً، فلا إشكال في اعتباره، وإن كان ظنياً، فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضاً، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله..." (3).
وقد تكلم الإمام الشاطبي في المسألة في مواطن أخرى (4)، إلا أنها تدور حول ما تقدم.
وهذا الرأي للإمام الشاطبي متأثر برأي بعض الأشاعرة في المسألة (5)، وهو رأي مخالف لقول أهل السنة الذين يرون أن خبر الآحاد يفيد العلم إذا احتفَّت به القرائن، وتلقته الأمة بالقبول، وينبني على ذلك الاحتجاج به في المسائل القطعية وغيرها، دون تفريق بين مسائل الاعتقاد أو غيرها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"مذهب أصحابنا أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات" (6).
وقال الإمام ابن القيم نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه، ولم يتواتر لفظه ولا معناه، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملاً به أو تصديقاً له..، فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من الأولين والآخرين" (7).
__________
(1) ذكره الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" وقال: "لا أصل له مرفوعاً، وإنما ورد موقوفاً على ابن مسعود"، وعزاه لأحمد برقم (3600)، والطيالسي في "مسنده" (ص 23)، وأبي سعيد بن الأعرابي في "معجمه" (84/ 2)، ثم حسن الشيخ الألباني إسناده موقوفاً على ابن مسعود. انظر: "السلسلة الضعيفة" برقم (532) (2/ 17).
(2) انظر: "الاعتصام" (2/ 152).
(3) "الموافقات" للشاطبي (3/ 15).
(4) ومن ذلك ما في "الموافقات" (3/ 17، 25، 26).
(5) انظر: "أصول الدين" للبغدادي (ص 18)، "المستصفي" للغزالي (1/ 145).
(6) "المسودة" (ص 248).
(7) "مختصر الصواعق المرسلة" (2/ 481 - 482).
---------------------------------------------------------------
وقال في موضع آخر:
"وأما الجزم بصحته فإنه يحتف به من القرائن ما يوجب العلم، إذ القرائن المجردة قد تفيد العلم بمضمونها، فكيف إذا احتفت بالخبر.." (1).
وقال الإمام ابن أبي العز:
"وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، عملاً به، وتصديقاً له، يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وهو أحد مسمى التواتر، ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع" (2).
2 - جعل الإمام الشاطبي نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، وهذا القول خلاف قول أهل السنة الذين يجعلونها من المحكم (3)، فيؤمنون بما دلت عليه من المعاني التي تليق به سبحانه، ويفوضون كيفيتها إلى الله سبحانه، فإن علم كيفيتها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
ومما يدل على ذلك من كلامه: قوله:
"وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا تَقْتَضِي ظَاهِرًا خَرْقَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْإِنْكَارَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لَهُ سَعَةٌ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَ، وَيَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] يَعْنِي الْوَاضِحَ الْمُحْكَمَ، وَالْمُتَشَابِهَ الْمُجْمَلَ، إِذْ لَا يَلْزَمُهُ الْعِلْمُ بِهِ، وَلَوْ لَزِمَ الْعِلْمُ بِهِ لَجُعِلَ لَهُ طريقٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ إنكارٌ لِخَرْقِ الْعَادَةِ فِيهِ.
وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يَجْرِي حُكْمُ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ الْبَارِي بِهَا نَفْسَهُ، لِأَنَّ مَنْ نَفَاهَا نَفَى شِبْهَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهَذَا مَنْفِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
__________
(1) "مختصر الصواعق المرسلة" (2/ 374).
(2) "شرح الطحاوية" (ص 355).
(3) فصّل شيخ الإسلام الكلام في المسألة في "الفتاوى" (13/ 294 - 313). وكذلك في "التدمرية" (القاعدة الخامسة).
----------------------
فَبَقِيَ الْخِلَافُ فِي نَفْيِ عَيْنِ الصفة أو إثباتها، فالمثبت أثبتها صفة على شرط نفي التَّشْبِيهِ، وَالْمُنْكِرُ لِأَنْ يَكُونَ ثَمَّ صِفَةٌ غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مُنْكِرٌ لِأَنْ يَثْبُتَ أَمْرٌ إلا على وفق المعتاد" (1).
وقال في موضع آخر ضمن كلامه على انحراف المبتدعة واتباعهم للمتشابه:
"ومثاله في ملة الإسلام: مذهب الظَّاهِرِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْجَوَارِحِ لِلرَّبِّ الْمُنَزَّهِ عَنِ النقائص؛ من العين واليد والرجل والوجه المحسوسات، والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات" (2).
3 - يذهب الإمام الشاطبي إلى القول بتأويل بعض الصفات إذا احتيج إلى التأويل، ويرى أن هناك سعة لمن يأخذ به عند الحاجة.
وقد تقدم كلامه في الفقرة السابقة (3)، وهو رأي الأشاعرة في هذه المسألة.
4 - يرى الإمام الشاطبي رحمه الله أن الخلاف الواقع بين أهل السنة وبين أهل البدع في الصفات خلاف في الفروع، لا في الأصول، ولا سيما إذا وقع ذلك منهم بقصد حسن.
قال رحمه الله وهو يتحدَّث عن عدم تكفير المبتدعة، وأن منهم من ليس بمتبع للهوى بإطلاق:
"وَأَيْضًا فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ اتِّحَادُ الْقَصْدِ مَعَ أهل السنة على الجماعة مِنْ مَطْلَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِانْتِسَابُ إِلَى الشَّرِيعَةِ.
وَمِنْ أَشَدِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ -مَثَلًا- مَسْأَلَةُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ؛ حَيْثُ نَفَاهَا مَنْ نَفَاهَا، فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَقَاصِدَ الْفَرِيقَيْنِ وَجَدْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَائِمًا حَوْلَ حِمَى التَّنْزِيهِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ وَسِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَهُوَ مَطْلُوبُ الْأَدِلَّةِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِهَذَا الْقَصْدِ فِي الطَّرَفَيْنِ مَعًا، فَحَصَلَ فِي هَذَا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف والواقع في الفروع" (4).
5 - نص الإمام الشاطبي على أن مذهب السلف هو الصواب وأنه أسلم، إلا أنه ظن أن مذهب السلف في الصفات هو مجرد التصديق والتفويض المطلق.
__________
(1) "الاعتصام" (2/ 327).
(2) نفس المصدر (1/ 240).
(3) وانظر أيضاً ما ذكره في: "الاعتصام" (2/ 328 - 329).
(4) انظر: "الاعتصام" (2/ 187).
-----------------------------------------
والسلف إنما فوضوا الكيفية وأثبتوا المعنى.
يقول الشاطبي:
"وأما مسائل الخلاف وإن كثرت، فليست من المتشابهات بإطلاق، بل فيها ما هو منها وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبة المحجوب أمره عن العباد؛ كمسائل الاستواء والنزول وأشباه ذلك.
وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن" (1).
وقال بعد ذكره لما ذهب إليه بعض المتأخرين من تأويل الصفات:
"وهي مسألة اجتهادية، ولكن الصواب من ذلك ما كان عليه السلف" (2).
ويتضح من آراء الشاطبي المتقدمة أنه متأثر بالأشاعرة في الصفات كما يتضح أنه لم يكن متعصباً لهذا المذهب.
ولا يبدو موقف الشاطبي واضحاً أمام مسائل الصفات، فنجد أنه أثنى على مذهب السلف وعدَّه أصوب، كما نجد أنه عذر من تأولها، وعَدَّ الجميع مجتهدين.
ولعل سبب هذا الموقف للشاطبي ظنه بأن مذهب السلف تفويض معاني هذه الصفات، وأنه لا يفهم منها شيء، وإلا لو أنه ذهب فيها مذهب أهل السنة والجماعة من إثبات معانيها على الوجه الذي يليق به سبحانه، وتفويض كيفيتها إليه سبحانه، لما وسعه إعذار من تأولها وصرفها عن ظاهرها.
وأيضاً هناك سبب آخر لموقف الإمام الشاطبي وهو أنه عَدَّ الخلاف في هذه المسائل شِبْهَ الخلاف الواقع في الفروع، فهو مسألة اجتهادية.
__________
(1) "الموافقات" (3/ 94).
(2) المصدر السابق (3/ 99).
------------------------------------
والصواب أن الخلاف في هذه المسائل العقدية ليس كالخلاف في مسائل الفروع الاجتهادية، فالخلاف في مسائل الفروع مستساغ، ولكنه في مسائل العقيدة مذموم، ولا يعذر أحد في ترك الحق الذي سار عليه أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا معاني هذه الصفات على ما يليق بجلال الله سبحانه، وفوَّضوا كيفيتها إلى الله تعالى، ويجب توضيح الحق لمن خالف منهجهم ورد هذه الصفات أو صرفها عن ظاهرها لتقوم عليه الحجة ويقطع عذره أمام الله تعالى.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن الإمام الشاطبي رغم تأثره بالفكر الأشعري إلا أنا نجده يقدم النقل على العقل، ويعدُّ الدليل حاكماً على العقل بإطلاق (1)، ويذم طريقة الفلاسفة ومنهجهم (2).
وأين هذا الموقف من موقف متعصبي الأشاعرة الذين يرون تقديم العقل على النقل عند التعارض (3).
وسوف أذكر الآن موقف الشاطبي من بعض المسائل العقدية التي تأثر فيها بعقيدة الأشاعرة وذلك من خلال كلامه رحمه الله.
أولاً: مسألة كلام الله تعالى:
قال الشاطبي رحمه الله في معرض رده على المعتزلة (4) الذين كان من شبههم في نفي صفة الكلام عن الله تعالى قولهم: فَالْكَلَامُ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بِأَصْوَاتٍ وَحُرُوفٍ، وَكُلُّ ذلك من صفات المحدثات..، قال: "وَأَمَّا كَوْنُ الْكَلَامِ هُوَ الْأَصْوَاتُ وَالْحُرُوفُ، فَبِنَاءً عَلَى عَدَمِ النَّظَرِ فِي الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، وَهُوَ مذكور في الأصول" (5).
__________
(1) انظر: "الاعتصام" (1/ 318).
(2) انظر كلامه في ذمهم في: "الموافقات" (1/ 55 - 56، 58، 59 - 60)، (2/ 405)، و"النص المحقق" (ص 71).
(3) وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه: "درء تعارض العقل والنقل" في الرد على هذا القول الباطل.
(4) سيأتي التعريف بهم. انظر النص المحقق (ص 30).
(5) انظر: "الاعتصام" (2/ 330).
-----------------------------------------
فالمؤلف يرى أن في قول الأشاعرة بالكلام النفسي مخرجاً من هذا الإشكال الذي أورده المعتزلة.
وقال أيضاً:
"وهل للقرآن مأخذ في النظر على أن جميع سوره كلام واحد بحسب خطاب العباد، لا بحسبه في نفسه؟ فإن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار حسبما تبين في علم الكلام" (1).
وقال أيضاً:
"كتاب الله هو أصل الأصول والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار، ومدارك أهل الاجتهاد، وليس وراءه مرمى، لأنه كلام الله القديم" (2).
وهذا الكلام للشاطبي موافق لقول الأشاعرة في المسألة (3).
ثانياً: مسألة رؤية الله تعالى يوم القيامة:
قال الإمام الشاطبي في معرض رده على الذين أنكروا خوارق العادات.
"وَالسَّابِعُ: رُؤْيَةُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ جَائِزَةٌ، إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الْعَقْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا رُؤْيَةَ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ عِنْدَنَا، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ تَصِحَّ الرُّؤْيَةُ عَلَى أَوْجُهٍ صَحِيحَةٍ لَيْسَ فِيهَا اتِّصَالُ أَشِعَّةٍ، وَلَا مُقَابَلَةٌ وَلَا تَصَوُّرُ جِهَةٍ وَلَا فَضْلُ جِسْمٍ شَفَّافٍ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْعَقْلُ لَا يَجْزِمُ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ بَدِيهَةً، وَهُوَ إِلَى الْقُصُورِ فِي النَّظَرِ أَمْيَلُ، وَالشَّرْعُ قَدْ جَاءَ بِإِثْبَاتِهَا، فَلَا مَعْدِلَ عن التصديق" (4).
__________
(1) "الموافقات" (3/ 224).
(2) المصدر السابق.
(3) انظر كلام الأشاعرة في هذه المسألة في: "كتاب أصول الدين" للبغدادي (ص 106 - 108)، "الإرشاد" للجويني (ص 128 - 137)، "الإنصاف" للباقلاني (ص 96 - 97)، "شرح الباجوري على الجوهرة" (ص 64 - 66، 84).
وانظر في رد أهل السنة عليهم: "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (12/ 579 - 581) (6/ 295 - 296)، "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (2/ 426)، "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص 184 - 188).
(4) انظر: "الاعتصام" (2/ 330).
-----------------------------------------
وهذا النص واضح في إثبات الإمام الشاطبي للرؤية على طريقة الأشاعرة الذين ينفون رؤية الله في جهةٍ، بناءً على نفيهم العلو والفوقية له سبحانه (1).
قال الإمام ابن أبي العز (2):
"ومَنْ قال: يرى لا في جهة فليراجع عقله، فإما أن يكون مكابراً لعقله وفي عقله شيء، وإلا فإذا قال يرى لا أمام الرائي، ولا خلفه، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، ولا فوقه، ولا تحته؛ رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة، ولهذا ألزم المعتزلة من نفي العلو بالذات بنفي الرؤية، وقالوا كيف تعقل رؤية بلا مقابلة بغير جهة...".
ثالثاً: مسألة الاستواء:
قال رحمه الله أثناء حديثه عن المتشابهات: "وأما مسائل الخلاف وإن كثرت، فليست من المتشابهات بإطلاق، بل فيها ما هو منها، وهو نادر، كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح، فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد؛ كمسائل الاستواء وأشباه ذلك، وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم، وترك الخوض في معانيها، دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن، لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل، ولا تكليف يتعلق بمعناها" (3).
وقال في موضع آخر -مبيناً لقوله: لا تكليف يتعلق بمعناها-:
"المراد أن يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى، وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله، وبأن يجتنب فعله إن كان أفعال العباد، ويجتنب النظر فيه إن كان غير أفعال العباد كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] وأشباه ذلك.
__________
(1) انظر قول الأشاعرة في: "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 100)، "الإنصاف" للباقلاني (ص 72 - 74، 252)، "أصول الدين" للبغدادي (ص 97 - 102).
وانظر في رد أهل السنة عليهم: "الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (16/ 84، 87)، "درء تعارض العقل والنقل" له أيضاً (1/ 250)، "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص 195).
(2) "شرح الطحاوية" (ص 195).
(3) "الموافقات" للشاطبي (3/ 94).
-------------------------------------------
هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف، وإلا فالتكليف متعلق بكل موجود، من حيث يعتقد على ما هو عليه، أو يتصرف فيه إن صح تصرف العباد فيه، إلى غير ذلك من وجوه النظر" (1).
وفي هذه العبارات يذكر المؤلف أن السلف لم يخوضوا في معنى هذه الصفة ونحوها من الصفات، بل ينهي عن النظر في معناها كما في النص الأخير.
وهذا الكلام للإمام الشاطبي في هذه الصفة موافق لقول بعض الأشاعرة الذين يفوضون معنى الاستواء إلى الله، ويدعون أنه غير معلوم، ظناً منهم أن ذلك مذهب السلف، ومنهم من ذهب إلى تأويل الاستواء بالاستيلاء (2).
رابعاً: مسألة علو الله تعالى:
قال الإمام الشاطبي متحدثاً عما يلزم مفسر القرآن معرفته: "ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثَمَّ سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة.
ولابد من ذكر أمثلة تعين على فهم المراد، وإن كان مفهوماً:
قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] وأشباه ذلك، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض، وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق.
__________
(1) "الموافقات" للشاطبي (3/ 344).
(2) انظر كلام الأشاعرة في هذه المسألة في: "أصول الدين" للبغدادي (ص 112 - 114)، "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 92)، "تفسير الفخر الرازي" (14/ 106، 121).
وانظر في رد أهل السنة عليهم: "الفتاوى" (4/ 67 - 68)، (5/ 34 - 36)، "درء تعارض العقل والنقل" لابن تيمية (1/ 14 - 16)، "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (1/ 54 - 55)، "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص 280 - 281).
--------------------
فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض، فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة، ولذلك قال تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]، فتأمله، واجر على هذا المجرى في سائر الآيات والأحاديث" (1).
ومن كلامه أيضاً:
قوله عند تقسيمه للبدع إلى مكفرة وغير مكفرة: "لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْبِدَعَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ، كَاتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ لتقربَهم إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بكفر كالقول بالجهة عند جماعة" (2).
ولفظ الجهة وإن كان من الألفاظ المحدثة التي ينبغي أن يُسأل عنها لمعرفة المراد بها، لاحتمالها الحق والباطل، إلا أنا إذا نظرنا إلى النص الأول تبين لنا أن مراد الشاطبي نفي صفة العلو، وهو مذهب الأشاعرة، وهو مخالف لمذاهب أهل السنة الذين يثبتون علو الله تعالى وفوقيته سبحانه بأدلة الكتاب والسنة (3).
خامساً: بقية الصفات السمعية:
(النزول - الضحك - اليد - القدم - الوجه - العين).
ذهب الإمام الشاطبي في هذه الصفات إلى ما ذهب إليه في صفة الاستواء من القول بتفويض معناها، وأن ظاهرها غير مراد، وهو قول بعض الأشاعرة (4).
__________
(1) "الموافقات" للشاطبي (3/ 351).
(2) "الاعتصام" للشاطبي (2/ 197).
(3) انظر المسألة في: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (2/ 297 - 298)، (5/ 122، 126، 227، 231)، "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 100)، "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص 282)، "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (2/ 369 - 375).
(4) انظر قولهم في: "الإرشاد" للجويني (ص 146)، "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 92)، "أصول الدين" للبغدادي (ص 109 - 112)، "أقاويل الثقات" لمرعي بن يوسف الكرمي (ص 136).
--------------------------------
وأوضحُ عبارات الشاطبي في ذلك:
ما ذكره في الاعتصام ذاماً لأهل البدع الذين يتبعون المتشابهات، فقال: "ومثاله في ملة الإسلام مذهب الظَّاهِرِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْجَوَارِحِ لِلرَّبِّ الْمُنَزَّهِ عَنِ النقائص: من العين والرجل والوجه المحسوسات، والجهة وغير ذلك من الثابت للمحدثات" (1).
وقال أيضاً في سياق كلامه على المتشابه الإضافي:
"وأما مسائل الخلاف وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق، بل فيها ما هو منها وهو نادر، كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح، فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له، والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد، كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه وأشباه ذلك، وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن، لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل، ولا تكليف يتعلق بمعناها" (2).
وقال في موضع آخر:
"وإن سُلِّم فالمراد أن لا يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى، وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله، وبأن يجتنب فعله إن كان من أفعال العباد، ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد" (3).
وفي هذه النصوص ما يكفي لبيان موقف الشاطبي من هذه الصفات، وهو خلاف قول أهل السنة فيها، حيث أثبتوا معانيها على الوجه الذي يليق به سبحانه، وفوضوا كيفيتها إلى الله (4).
__________
(1) "الاعتصام" (1/ 240).
(2) "الموافقات" (3/ 94).
(3) "الموافقات" (3/ 344).
(4) انظر في الرد على مذهب الأشاعرة: "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (4/ 67 - 68)، (5/ 34، 35، 36)، و"درء تعارض العقل والنقل" له أيضاً (1/ 14 - 16)، و"مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص 54 - 55).