أقسام البيمارستان:
حيث إن الغاية من تشييد هذا البيمارستان تقديم الخدمات العلاجية للمحتاجين إليها، من الرجال والنساء، والأغنياء والفقراء، على اختلاف أجناسهم وأوصافهم وسائر أمراضهم؛ من أمراض الأجسام قلَّت أو كثرت، اتَّفَقت أو اختلفت، وأمراض الحواس خفَّت أو ظهرت، واختلال العقول، التي حفظها أعظم المقاصد - فإن البيمارستان يحتوي على جميع التخصصات المتوفرة، ويقسم مبناه إلى أقسام حسب هذه التخصصات؛ ليحتوي كل قسم على عدة عنابر لإيواء مرضاه، وبحيث تكون عنابر النساء منفصلة عن عنابر الرجال.
نظام المعالجة في البيمارستان:
تتم المعالجة في البيمارستان والحصول على العلاج بإحدى ثلاث طرق:
1 - العلاج الداخلي:
إذا رأى الطبيب المعالج أن حالة المريض تستدعي التنويم في البيمارستان لتلقي العلاج، تعرض الحالة على رئيس الأطباء، الذي بعد موافقته يتم تحويل المريض إلى القسم المختص لحالته؛ حيث يقيم فيه لتلقي العلاج.
2 - العلاج الخارجي في عيادات البيمارستان:
هنا يتم حضور المريض إلى البيمارستان؛ حيث يقوم الطبيب المعالج بالكشف عليه في الأماكن المخصصة لذلك، ثم يصف له الدواء المناسب، ويقوم المريض بصرفه من صيدلية البيمارستان.
3 - الزيارات المنزلية:
في الحالات التي يصعب فيها نقل المريض إلى البيمارستان يتم تقديم العلاج للمريض في منزله؛ علمًا بأن الأولوية في العلاج للمرضى المقيمين، وقد ورد في وقفية الأمير عبدالرحمن كتخدا: "ومَن كان مريضًا في بيته وهو فقير، كان للناظر أن يصرف ما يحتاج إليه من حاصل هذا البيمارستان، والأشربة والأدوية والمعاجين وغيرها، مع عدم التضييق في الصرف على مَن هو مقيم (بالبيمارستان)".
يتم تسجيل المرضى المنومين (المقيمين) في ملَّفات خاصة بذلك.
قال ابن جبير في وصف البيمارستان النوري بدمشق:
"وله قومة وبأيديهم الأزمة المحتوية على أسماء المرضى".
وعلى جميع أطباء البيمارستان أن يقوموا بعد الكشف على المريض، سواء في العيادات الخارجية أو في عنابر الأقسام، بتدوين نتائج كشفهم، وما يستجد في حالته، وما يصرف له من علاج وغذاء وشراب، في دستور المريض (ملفه الطبي).
البيمارستانات الشهيرة في بلاد الإسلام:
يقول الدكتور "جوزيف جارلند" في كتابه (قصة الطب): "... وقد أسس العرب عددًا من المستشفيات الممتازة جعلوها مراكز لدراسة الطب ولعلاج المرضى، كأحدث المستشفيات، وقد بلغ عدد هذه المستشفيات أربعة وثلاثين، موزَّعة بين أنحاء الإمبراطورية، وإن كان أهمها مستشفيات بغداد ودمشق، وقرطبة والقاهرة".
البيمارستانات في بلاد الإسلام:
أول مستشفى ثابت أقيم في بلاد الشام كان في دمشق، أمر بإقامته الخليفة الأموي (الوليد بن عبدالملك).
بيمارستان أنطاكية:
بناه المختار بن الحسن بن بطلان، الذي توفي عام (455هـ).
البيمارستان الكبير النوري:
بناه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وقد توفي هذا الملك عام (569هـ)، واشترط أن يخصص للفقراء والمساكين، ولكنه إذا وجد فيه دواء ليس موجودًا في البلاد، فلا يمنع عن الأغنياء حالة تعذُّر حصولهم عليه، وقد جاء وصف هذا البيمارستان في كتاب "رحلة ابن جبير"، قال: "دخلت دمشق عام (580هـ) وبها مارستانان: قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما، والأطباء يبكرون إليه في كل يوم، ويتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الدواء والغذاء.
وفي مدينة "حلب":
بنى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بيمارستان داخل باب أنطاكية، ووقف عليه الأموال لنفقات المرضى والأطباء، وقد عمل في هذا البيمارستان الطبيب ابن بطلان، وهاشم بن محمود ناصر السروجي الحسيني.
وفي "القدس":
بنى الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي بيمارستان كبيرًا، وقد عمل فيه من الأطباء: يعقوب بن صقلاب المقدس، ورشيد الدين أبو المنصور بن أبي الفضل بن علي الصوري.
وبيمارستان عكا:
فقد أمر الناصر صلاح الدين الأيوبي أن تكون أسقف عكا (بعض الأماكن التي هجرها الصليبيون) مستشفى لعلاج المواطنين.
وفي شبه الجزيرة العربية:
كان يوجد في مكة بيمارستان يعرف بالبيمارستان المستنصري العباسي، وبيمارستان المدينة، وقد خدم فيه بأمرِ الملك الظاهر بيبرس الطبيبُ محيي الدين أحمد بن الحسين بن تمام.
وفي الريِّ وجد بيمارستان:
وعمل فيه الرازي صاحب كتاب "الحاوي"، وهناك بيمارستان محمد الفاتح الذي أنشأه الفاتح بالقسطنطينية.
وفي بلاد العراق:
بيمارستان بغداد الذي أمر ببنائه هارون الرشيد، وسماه بيمارستان الرشيد، وقد تولى إدارته: ماسويه الخوزي، انتدبه الرشيد لذلك من جنديسابور، وتولَّى مراقبته جبرائيل بن بختيشوع، وبيمارستان أبي الحسن علي بن عيسى الجراح، وبيمارستان بدر، غلام المعتضد بالله تعالى، أنشأه من ماله الخاص، وكذلك علي بن عيسى أنشأه من ماله الخاص.
وبيمارستان السيدة أم المقتدر:
التي توفيت عام (321هـ)، وقد تولى رعايته الطبيبُ سعيد بن سنان بن ثابت.
والبيمارستان المقتدري:
وذلك أن سنان بن ثابت بن قرة أشار على الخليفة المقتدر بالله أن يبني مستشفى للمرضى وتسمى باسمه، ومن الأطباء الذين علموا فيه: جبرائيل بن بختيشوع، ويوسف الواسطي.
وبيمارستان ابن الفرات وزير المقتدر:
وبيمارستان أبي الحسن بجكم؛ الذي توفي عام (329هـ).
والبيمارستان العضدي:
أنشأه عضد الدولة البُوَيهي عام (732ه)، وعين فيه الأطباء والخدم للعناية بالمرضى، ومن الأطباء الذين عملوا فيه: جبرائيل بن عبدالله بن بختيشوع ونظيف الرومي، وأبو الحسن علي بن بكس، وأبو يعقوب الأهوازي، وأبو الحسن بن كشكرايا، وأمين الدولة بن التلميذ، وجمال الدين أبو الغنايم سعيد بن هبة الله بن أثردي، وأبو الفرج بن الطيب.
ومن البيمارستانات بالعراق:
البيمارستان الفاروقي، وبيمارستان الموصل الذي بناه الأمير مجاهد قايماز، نائب قلعة الموصل عام (572هـ).
وفي بلاد المغرب والأندلس:
كان لوصولِ التراث العلمي الطبي عند الأمم القديمة إلى الأمة العربيةِ عن طريق الفتوحات الإسلامية - أثرٌ كبير في تطوير الطب في الدولة الإسلامية، فنبغ عدد كبير من الأطباء في مختلف العصور والبلدان.
ففي "قرطبة" ولد رائد علم الجراحة الطبية أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي عام (936م)، وكان مِن أعظم الأطباء الذين ساهموا بعلمهم في النهضة الطبية، واعتبره علماء الشرق والغرب أستاذَ علم الجراحة، فهو أول مَن جعل الجراحة علمًا حقيقيًّا، وكان له الفضل في تلخيص جميع المعارف الجراحية في عصره.
وفي مدينة "إشبيلية" من بلاد الأندلس برز أبو العلاء زهر بن عبدالملك بن محمد بن مروان بن زهر، المتوفى عام (525ه).
وفي مراكش نبغ أبو بكر محمد بن مروان بن زهر الحفيد، المتوفى عام (596ه).
وفي القيروان ولد أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد الجزار، أحد مفاخر بلاد تونس والمغرب العربي والعالم الإسلامي.
وفي هذه البلدان تتابع إنشاء المستشفيات، وكانت تُعرف "بالبيمارستانات"، وكثر عددُها، ويذكر أن قرطبة وحدَها كان فيها خمسون مستشفى.
وبالمغرب الأقصى بيمارستان مراكش، الذي بناه المنصور أبو يوسف، وكان كل يوم جمعة بعد الصلاة يخرج ويذهب إلى المرضى، ويسألهم عن أحوالهم، وما زال مستمرًّا على هذا حتى توفي عام (595ه).
وفي تونس:
بيمارستان "تونس": ومن الأطباء الذين عمِلوا فيه الطبيب محمد الشريف الحسني الزكراوي، المتوفى عام (874 ه).
ومن بيمارستانات بلاد الأندلس أيضًا:
بيمارستان "غرناطة" الذي بدأ السلطان محمد الخامس في بنائه عام (767 ه).
وفي مصر:
بيمارستان زُقاق القناديل، من أزقَّة فسطاط مصر، وبيمارستان المعافر في حي المعافر بالفسطاط قرب القرافية، بناه الفتح بن خان في أيام الخليفة المتوكل على الله.
والبيمارستان العتيق:
أنشأه أحمد بن طولون عام (259هـ) في مدينة الفسطاط، وسمي أيضًا "المارستان الأعلى"، واعتبره بعض المؤرخين أولَ بيمارستان أنشئ في مصر، وأوقف عليه ابن طولون دخل بعض الأبنية، منها دُوره في الأساكفة، والقيسارية، وسوق الرقيق، وشرط ألا يعالج فيه "جندي ولا مملوك"، وجعل له حمَّامينِ: أحدهما للرجال والآخر للنساء، وأدخل ابن طولون في هذا البيمارستان ضروبًا من النظام، جعلته في مستوى أرقى المستشفيات في الوقت الحاضر.
فكان إذا دخله مريض تنزع ثيابه، ويودع ما معه من المال عند أمين البيمارستان، وتقدم له ثياب خاصة من البيمارستان، وكان المرضى يتناولون الأدوية والأغذية مجانًا، ويظل المريض في البيمارستان حتى يتم شفاؤه، فيقدم له فرُّوج ورغيف، فإذا أكلهما أذن له بمغادرة البيمارستان، بعد أن تُرَد إليه ثيابه ونقوده.
وبلغ من عناية أحمد بن طولون بهذا البيمارستان أنه كان يتفقَّده بنفسه يومًا في كل أسبوع، كان في الغالب يوم الجمعة، فيطوف على خزائن الأدوية، ويتفقَّد أعمال الأطباء، ويشرف على سائر المرضى، ويعمل على مواساتهم وإدخال السرور عليهم، بما في ذلك المحبوسين من المجانين، حتى غافله في يوم أحدهم ورماه برمانة كادت تقضي على ابن طولون، فلم يعاود البيمارستان بعد ذلك.
ولعلَّ أشهر البيمارستانات في العصرين الأيوبي والمملوكي، تلك التي أُنشئت في عهد كل من صلاح الدين الأيوبي، والمنصور قلاوون.
فقد افتتح السلطان صلاح الدين الأيوبي ثلاثة بيمارستانات:
الأول في إحدى قاعات القصر الفاطمي الكبير، وهو البيمارستان العتيق.
كما أمر بإعادة فتح مارستان الفسطاط القديم.
وفي أثناء زيارته للإسكندرية عام (577 هـ/ 1182م) أمر بإقامة مدرسة، وألحق بها بيمارستانًا.
وتولَّى الإنفاق على هذه البيمارستانات ديوانُ الأحباس (الأوقاف)، على اعتبار أن الرعاية الصحية في ذلك العهد كانت من أعمال البر والخير، أكثر منها من مهامِّ الدولة الحاكمة.
أما في العصر المملوكي، فمِن أشهر البيمارستانات التي أُنشِئت في ذلك العهد، وذاع صِيتها في أنحاء مصر وخارجها، وحَظِيت برعاية سلاطين المماليك، وأمرائهم، البيمارستان المنصوري الذي أنشأه الملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي، وذلك في موضع قاعة ست الملك ابنة الملك العزيز بالله الخليفة الفاطمي، والتي عُرِفت فيما بعد باسم دار الأمير فخر الدين جهاركس، ثم دار موسك، ثم عُرفت بالدار القطبية، نسبة إلى الملك المفضل قطب الدين أحمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فقد ظلت في ورثته حتى أخذها السلطان قلاوون من ابنة الملك العادل مؤنسة خاتون، وعوَّضها عن ذلك بقصر الزمرد برحبة باب العيد، في 18 ربيع الأول (682 هـ/ 1283م)، ورسم السلطان بعمارتها مارستان وقُبَّة ومدرسة، وتولَّى الإشراف على هذه العمارة الأمير علم الدين سنجر بن عبدالله الشجاعي، فأبقى القاعة على حالها، وجعلها مارستان [4].
وتجدر الإشارة إلى أن الأطباء المسلمين قاموا بوضع مؤلَّفات خاصة بتشييد البيمارستانات، وبيان نظام العمل بها، وطرق إدارتها، ولعلَّ أشهر هذه المؤلفات: كتاب "صفات البيمارستان" لأبي بكر الرازي الطبيب البغدادي (ت 320هـ/ 932م)، وقد سجَّل فيه ما كان يلاحظه من أحوال المرضى الذين كانوا يُعالَجون تحت يدَيْه في البيمارستان الذي كان يشرف عليه ببغداد في عهد الخليفة المعتضد (279/ 289 هـ - 892/ 901م).
ثانيًا في مجال الصيدلة:
أ- بالإضافة ما تقدَّمت الإشارة إليه من اهتمام الصيادلة والأطباء المسلمين بتحضير الأدوية المفرَدة والمركبة، وأنهم قد عرَّفوا الأدوية المفردة بالعقاقير الأصلية، أما الأدوية المركبة فسموها الأقرباذين.
وقد أشاروا في مؤلفاتهم إلى وسائل تحضير هذه الأدوية؛ مثل: (الطبخ، والنقع، والسحق، والدق، والإحراق "التحميص"، والتبريد، والغربلة)، وغير ذلك.
ب - ابتكار المعالجة المعتمدة على الكيمياء الطبية؛ حيث لجأ الأطباء والصيادلة إلى إثارة تفاعل كيميائي في جسم المريض يحدثه دواء معين، ويعد الرازي رائد هذا الاتجاه.
ج - إجراء البحوث والاختبارات على الأدوية قبل استخدامها؛ لمعرفة خصائصها، ومدى صلاحيتها وتأثيرها، وآثارها الجانبية، وقوتها الشفائية.
ويعني هذا أن الأطباء والصيادلة المسلِمين قد اعتمدوا على التجرِبة أساسًا لاختبار الأدوية ومعرفة خصائصها، بل كانت التجرِبة هي الطريقة الوحيدة لتحضير الأدوية المركبة.
د - إنشاء الصيدليات العامة والخاصة؛ ففي بغداد أُنشئتْ أول صيدلية سنة (149ه - 766م) في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور، وهناك كذلك الصيدليات المتنقلة التي ألحقت بالبيمارستانات المتنقلة المصاحبة للجيوش أثناء المعارك الحربية، أو تلك التي كانت تَجُوب المناطق النائية والسجون أثناء انتشار الأمراض والأوبئة.
ه - إخضاع مهنة الصيدلة لرقابة الدولة وتفتيش حوانيتها بشكل دَوْري، كما اقتضت المصلحة العامة فرض امتحان، ومنح ترخيص بمزاولة مهنة الصيدلة لكل مَن يريد الاشتغال بها، كما كان الحال مع الأطباء [5].
________________________________________
[1] د/ طه عبدالمقصود: الحضارة الإسلامية، ص (216، 217).
[2] المرجع السابق، ص (218، 219).
[3] د/ أحمد عوف عبدالرحمن: الأوقاف والحضارة الطبية الإسلامية، ص (69، 70).
[4] د/ أحمد عوف عبدالرحمن: الأوقاف والحضارة الطبية الإسلامية، ص (80 - 88).
[5] د/ طه عبدالمقصود: الحضارة الإسلامية، ص (234، 235).
المصدر:
http://www.alukah.net/web/aweys/11392/125445/