فلسطين والأقصَى في قلب كل مسلم
فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب -حفظه الله-
===============================
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب -حفظه الله- خطبة الجمعة بعنوان: "فلسطين والأقصَى في قلب كل مسلم"، والتي تحدَّث فيها عن فلسطين وبيت المَقدِس وما لهما مِن المكانة في قُلوب جميع المُسلمين في مشارِقِ الأرض ومغاربِها، مُبيِّنًا أنَّ قضيَّةَ فلسطين قضيَّةٌ عربيَّةٌ إسلاميَّة، تعنِي كلَّ مُسلمٍ، كما ذَكَرَ بعضَ الدلائِل على فَضْلِ المَسجِدِ الأقصَى والقُدس من الكتاب الحكيم والسُّنَّة الشَّريفة المُطَهَّرَة.
الخطبة الأولى
الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي تعالى في ملَكُوته وتقدَّس، واصطفَى مِن البشر رُسُلًا ومِن البِقاع رِباعًا مُباركةً وقدَّس، وجعلَ القِبلةَ الأُولَى والمحشَرَ في الأُخرى إلى البيتِ المُقدَّس، أشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه شهادةً بها قامَ الإسلامُ وعليها تأسَّس، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك مُحمد، وعلى آله الطيبين الطاهِرين، وصحابتِه الغُرِّ الميامِين، والتابِعِين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
ثم اتَّقُوا اللهَ تعالى -أيها المُؤمنون-، واعلَمُوا أنَّكم مُلاقُوه، وأطيعُوا أمرَه ولا تعصُوه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].
خطَبَ عُمرُ بن الخطَّاب -رضي الله عنه- بالجابِية، وهو في طريقِه لاستِلام مفاتِيح بيتِ المقدِس، فقال: "أيها الناس! أصلِحُوا سرائِرَكم تصلُح علانِيتُكم، واعمَلُوا لآخرتِكم تُكفَوا أمرَ دُنياكُم، فمَنْ أرادَ بَحبُوحةَ الجنَّة فليلزَم الجماعة؛ فإن الشَّيطانَ مع الواحِدِ، وهو مِنَ الاثنَين أبعَد، ومَنْ سرَّتْه حسنَتُه، وسَاءَتْه سَيئتُه فهو مُؤمِنٌ".
أما بعد.. أيها القُدس:
فمِن أين أبدأُ يا عُيونَ فلسطين.. وإن في قلبِ كلِّ مُسلمٍ مِن قضيَّتِكِ جُرُوحًا دامِية، وفي جَفنِ كلِّ مُسلمٍ مِن مآسِيكِ عبَرَاتٍ هامِية، وله بإسلامِه عهدٌ لفلسطين مِن يوم اختارَها البارِي للعُرُوج إلى السماءِ ذاتِ البُرُوج.
يا فلسطين الإباء! إذا كان حُبُّ الأوطان مِن أثَر الهواء والتُّراب، والمآرِبِ التي يُقضِّيها الشباب، فإن هوَى المُسلم لكِ أنَّ فيكِ أُولَى القِبلَتَين، والمسجِد الأقصَى الذي بارَكَ الله حولَه، وأنَّكِ كُنتِ نهايةَ المرحَلَة الأرضِيَّة، وبِداية المرحَلَةِ السماوية، مِن تلك الرحلةِ الواصِلةِ بين السماء والأرض صُعُودًا بعد رحلةِ آدم الواصِلةِ بينهما هُبُوطًا.
وإليكِ إليكِ ترامَتْ هِمَمُ الفاتِحِين، وترامَتْ الأينُقُ الذُّلُلُ بالفاتِحِين تحمِلُ الهُدَى والسلام، وشرائِع الإسلام، وتنقُلُ النبوَّةَ العامَّة إلى أرضِ النبوَّات الخاصَّة، وثِمارَ الوحيِ الجديدِ إلى منابِتِ الوحيِ القديمِ.
عباد الله:
المسجِدُ الأقصَى، والأرضُ المُقدَّسة، وفلسطينُ، وبيتُ المقدِس أرضُ النبوَّات، ومسرَى الرسُول، وإرثُ الأمة الخاتِمة الذي يسكُنُ قلبَ كلِّ مُسلم.
بِقاعٌ بارَكَها الله وبارَكَ ما حولَها، أكثرُ أرضٍ في هذه الدنيا خطَا فيها الأنَّبِياء، مازَجَت نسَمَاتُها أنَّفاسَهم، وأصاخَتْ أفياؤُها لتراتِيلِهم ومُناجاتِهم، وتبلَّلَ ثرَاها بدُمُوعِهم ودمائِهم.
في أودِيتها وعلى وِهادِها درَجَ أكثرُ الأنَّبِياء، واستقبَلَت فِجَاجُها وحيَ الله مِن السماء، لا يكادُ وادٍ مِن أوديتها لم يشهَد مُرورَ نبيٍّ، ولا مَرْجٌ مِن مُرُوجِها لم يسمَع تسبيحةَ رسُول، لو نطَقَت حِجارتُها لرَوَت لنا حِكايةَ بِعثة، ولو تكلَّمَت جِبالُها لقصَّتْ علينا مولِدَ رِسالة، ولو انحسَرَ ظاهِرُها عن باطِنِها لهالَتْك كثرةُ مراقِدِ الأنَّبِياء هنالِك، ووَفرةُ رُفاتِ الصالِحين والأولِياء مِن كل الشرائِع كذلِك.
كانت الأجيالُ التي تتعاقَبُ على ثَرَاها لا تخلُو مِن نبيٍّ أو أنَّبِياء، وكثيرًا ما كان يتوافَرُ عددٌ مِن الأنَّبياء في زمنٍ واحِدٍ، ورُبَّما قريةٍ واحِدةٍ مِن قُرَى فلسطين. فضلًا عن المُتألِّهين والنُّسَّاك المبثُوثين على صُعُداتِها كبَثِّ الربيع أفانِين الزَّهر.
محارِيبُ المُتبتِّلِين تلقَاها في مُنحَنَيات الأودِية، وصوامِعُ المُتعبِّدين وبِيَعُهم نائِيةٌ عن القُرَى والأبنِية، عُبِدَ الله فيها زمنًا أطوَلَ مِن أزمانِ بقيَّة الأرضِ، ولئِن كان الضَّلالُ في كثيرٍ مِن بِقاع الدنيا على هيئةِ وثنِيَّةٍ أو إلحادٍ؛ فإن الضلالَ في الشام وبيتِ المقدِسِ خُصُوصًا إذا وُجِدَ، فقد كان تقصيرًا في القِيام بحقِّ رِسالة، أو تحريفًا لمبادِئِ نبُوَّة، مع بقاءِ جُزءٍ مِن الحقِّ فيما بين أيدِيهم مِن صحائِفَ أو كُتُب.
لذا كانت فلسطين هي ميراثُ النبُوَّات، وعهدُ الرِّسالات، ومِيلادُ الشرائِع، أَولَى بها وبخِلافتِها رُسُلُ الله وأتباعُهُم إلى يوم الدين.
وقد كان مِن أوائِلِهم إبراهيمُ الخليل أبو الأنَّبِياء -عليه وعليهم السلام-، والذي لم يكُن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وكيف يكون ذلك وما أُنزِلَت التوارةُ والإنجيلُ إلا مِن بعدِه: ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 67، 68].
واستمرَّ ساكِنُو الأرض المُقدَّسة تسُوسُهم أنَّبياؤُهم، كلما سلَفَ نبيٌّ خلَفَه نبيٌّ، تطاوَلَت بهم الدُّهُور، وتتابَعَت عليهم الحِقَب، تعاقَبَت على فلسطين أُممٌ، وتغايَرَت ألسُن، حتى أسلَمَ الله مقالِيدَها لهذه الأمة الوارِثَة لوحدانيَّة الرسالات، وخُلاصة النبُوءات، ولرسولِها المُبشَّر به في كل الأُمم السالِفة.
صلَّى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيتِ المقدِسِ بمكَّة ثلاثةَ عشر عامًا، وبعد الهِجرة إلى المدينة أيضًا سبعةَ عشر شهرًا، حتى نزلَ القرآنُ آمِراً بالتَّوجُّه إلى المسجِدِ الحرامِ والذي ارتبَطَ ارتِباطًا أزليًّا بالمسجِدِ الأقصَى، فكان الإسراءُ إليه، والمِعراجُ مِنه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء: 1].
عن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- قال:
قُلتُ: يا رسولَ الله! أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرض أول؟ قال: «المسجِدُ الحرام»، قُلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «المسجِدُ الأقصَى»، قُلتُ: كم بينها؟ قال: «أربعُون سنة..» الحديث؛ متفق عليه.
وعن أبي هُريرة -رضي الله عنه-:
أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجِد: المسجِدِ الحرام، والمسجِدِ الأقصَى، ومسجِدِي هذا..» الحديث؛ أخرجه البخاري ومسلم.
فهو البيتُ الذي عظَّمَتْه المِلَل، وأكرَمَتْه الرُّسُل، وتُلِيَت فيه الكُتُبُ الأربعةُ المُنزَّلةُ مِن الله: الزَّبُورُ، والتوراةُ، والإنجيلُ، والقرآنُ.
أيها المُسلمون:
الأرضُ لله يُورِثُها مَن يشاءُ، فكمَا كانت للمُؤمنين قبل بنِي إسرائيل، فقد كانت للمُؤمنين بعدَهم، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنَّبياء: 105].
حتى أذِنَ الله تعالى ببِعثةِ سيِّد الثَّقَلَين، وخاتم النبيِّين وبِشارتِهم: مُحمدِ بن عبد الله الهاشميِّ القُرشيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وكان فتحُ بيتِ المقدِسِ إحدَى بِشاراتِه -كما في "صحيح البخاري"-، وكان وِراثتُه ووِراثةُ أمَّتِه للأرضِ المُبارَكة هي سُنَّةُ الله المُمتدَّةُ على مرِّ العُصُور ومُنذُ عهدِ إبراهيم -عليه السلام-.
وإن صلاةَ النبيِّ مُحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- بالأنَّبِياء في بيتِ المقدِسِ ليلةَ الإسراء، كانت إعلانًا بأنَّ الإسلام هو كلِمةُ الله الأخيرةُ إلى البشَر، أخذَتْ تمامَها على يدِ مُحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأنَّ آخرَ صِبغةٍ للمسجِدِ الأقصَى هي الصِّبغةُ الإسلاميَّةُ. فالتصَقَ نسَبُ المسجِدِ الأقصَى بهذه الأمةِ الوارِثَة.
عباد الله:
وفي السنةِ الخامِسة عشرة للهِجرة تحقَّقَت النبُوَّة، ودخلَ المُسلِمون فلسطين، وقالَ البطَارِقةُ: لا نُسلِّمُ مفاتِيحَ بيتِ المقدِسِ إلى للخليفةِ عُمر بن الخطَّاب؛ فإنَّا نجِدُ صِفتَه في الكُتُب المُقدَّسة.
وفي لحظةٍ تاريخيَّةٍ جليلةٍ جاء عُمرُ -رضي الله عنه- مِن المدينة المُنوَّرة إلى فلسطين، وتسلَّمَ مفاتِيحَ بيت المقدِس تسلُّمًا شريفًا، في قصةٍ تُكتَبُ تفاصِيلُها بمِدادِ النُّور، وأشرَفَ على مدينةِ القُدسِ مِن جبلِ المُكبِّر؛ حيث كبَّرَ وكبَّرَ معه المُسلِمون، وهناك قال قولَتَه الشهيرةَ: "نحن قومٌ أعزَّنَا اللهُ بالإسلام، فمهمَا ابتغَيتُم العِزَّةَ بغَيرِه أذلَّكُمُ اللهُ".
دخلَ عُمرُ بعِزَّة الإسلام، وفتَحَ القُدسَ بهذه الكلِمة العظيمة، في يومٍ مِن أيامِ الله، وصلَّى في صدرِ المسجِدِ مِمَّا يلِي القِبلَةَ، وسألَ عن الصَّخرةِ، وكانت مدفُونةً تحت القُمامةِ والزَّبَل، فأزالَ عنها القَذَرَ بعباءَتِه، وتبِعَه الناسُ حتى طَهَّرَ المَكانَ.
وكتبَ لأهلِ البلَدِ عهدًا وأمانًا، وحفِظَ لأصحابِ الشرائِعِ كلِّها حقَّهم، فلَم يمنَع أحدًا مِن مُمارسَة منسَكِه، ولم يُضيِّق على صاحِبً صومَعةٍ أو بَيعَةٍ، ولم يهدِم جِدارًا أُسِّسَ على دينٍ، ولم يُهجِّر ساكِنًا ولا مُستوطِنًا، ولم يهدِم بيتًا ولا معبَدًا ولا دارًا.
وبقِيَت الكنائِسُ والمعابِدُ مِن عهدِه إلى يومِنا هذا، وطِيلةَ فترةِ حُكم المُسلمين، مع تتابُع قُرونٍ لم يتعرَّض لها أحدٌ.
كلُّ ذلك تمَّ وعُمرُ أقوَى حاكمٍ على وجهِ الأرضِ، وسُلطانُه أعزُّ سُلطانٍ تحت أدِيمِ السماء، لم تكُن حينَها مُنظَّماتٌ تُلاحِظُ حُقوقَ الإنسان، ولا جمعيَّاتٌ تُطالِبُ بتعايُشِ الأديَان، كان الإسلامُ أسبَقَ مِن ذلك وأولئك، لم يُضَمْ أحدٌ في سُلطان الفتحِ الإسلاميِّ.
ولك أنَّ تُقارِنَ ذلك بما يحدُثُ الآن في ظلِّ المُنظَّمات والجمعيَّات، وبعد إعلانِ المبادِئِ والمواثِيقِ، بعد أنَّ ملَكَ الصهايِنةُ مِقدارًا قليلًا مِن القوَّة؛ ليتبيَّنَ لك الدعوَى مِن الحقِّ، والزَّيفَ مِن الصِّدقِ.
أيها المُسلمون.. عباد الله:
إن فلسطين لم تكُن مُجرَّد أرضٍ دخَلَت تحت سُلطان المُسلمين يومًا مِن الأيام، ويُمكِنُها في يومٍ آخر أنَّ تكون خارِجه.
إن فلسطين تاريخًا وأرضًا ومُقدَّساتٍ ومَعَالِمَ هي إرثٌ واجِبُ القَبُول، مُتحتِّمُ الرِّعاية، لازِمُ الصَّون، إنه ليس خِيارًا يتردَّدُ فيه المُتردِّدُون، أو شأنًا يتحيَّرُ فيه المُتحيِّرُون.
القُدسُ آيةٌ في الكتاب، وستبقَى ما بقِيَ الزمان، ولن يستطيعَ بَشَرٌ أنَّ يُغيِّرَ هذه الحقيقةَ، وإنَّ لهذه الأمَّةِ جُذُورًا أعمقَ مِنْ أنَّ تُستأصَل.
فلسطينُ وبيتُ المقدِس آلَت إلى المُسلمين بأيلُولة الشَّرائِع لشريعةِ الإسلام: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 48].
آلَت تلك المُقدَّسات لأهلِها الذين هم ما زالُوا مُتشبِّثين بها حتى الآن، رغمَ المرارةِ والأوجاع، آلَت بوُعودٍ قُرآنية، وتراتِيب إلهيَّة، وقد صدَقَت تلك الوُعود، وآخرُها لم يتحقَّق بعدُ، وهو: أنَّ الساعةَ ستقُوم وبيتُ المقدِسِ بأيدِي المُسلمين.
لذا فإنَّ الثَّابِتَ مُنذ الفتحِ وحتى المحشَر:
أنَّ بلادَ فلسطين ومدينةَ القُدس بلادٌ إسلاميَّةٌ عربيَّةٌ، والطّارِئُ والاستِثناءُ هو وقوعُها في يدِ غيرِهم، وما مضَى مِن تاريخٍ أكَّدَ هذه النبُوَّة، وصدَّقَ ذلك الوعد.
وإنا لمُؤمنون ومُوقِنُون أنَّ هذا الوعد سيصدُقُ حتى مُنتهاه.
وعليه، فكلُّ إرادةٍ وقوَّةٍ تفرِضُ غيرَ ذلك إنما تعبَثُ في الدِّمَاءِ، وتُؤجِّجُ العُنْفَ والبَغضاء، وتُحدِثُ شَرخًا في الإنسانيَّة، وتشوُّهاتٍ في الحضارَة، ثم تؤُولُ عاقِبةُ أمرِها خُسراً.
ولنا في الحَمَلات الصَّليبيَّة والحُروب التي ترادَفَت على الشام أكثر مِن مائتَي عام، وفتَكَت بنسمةٍ كبيرةٍ مِن سُكان الأرض، لم ينتُج عنها إلا احتِلالُ القُدس تسعين عامًا، ثم زالَ الاحتِلال، وبقِيَ في النفوس الاختِلال.
ولا عِوَضَ عن الجُهُود المهدُورة، والنُّفُوس المزهُوقة، إنه وعدُ الله الذي لا يُضادُّ ولا يُعانَد، ولو تمَّ توفيرُ جُهُود تلك الحَمَلات إلى البناء لا الهَدم، وإلى السِّلم لا الحرب، لكانت الدنيا في يومِها هذا خيرًا مما هي عليه، والعلمُ عند الله.
خُصُوصًا وأنَّ السُّلُطات المُسلمة في كل العُهُود لم تمنَع حُجَّاجًا لمُقدَّسات فلسطين، ولم تُسِئ لمُتعبِّدِين وناسِكِين، ولم يعرِف أهلُ الكتاب التهجِيرَ والتهوينَ في حُكم مُسلمين.
وتأسيسًا على ما سبَق، فإن الخُطوةَ التي تمَّ اتخاذُها مُؤخَّرًا لتكريسِ احتِلالِ القُدس، واعتِبارِها عاصِمةً لاحتِلالٍ ظالِمٍ طارِئٍ خُطوةٌ لن تُنتِجَ إلا مزيدًا مِن الكراهية والعُنف، وستستنزِفُ كثيرًا مِن الجُهود والأموال والأرواح بلا طائِل، ومُضادَّةٌ للقرارات الدوليَّة.
وهو قرارٌ يُثيرُ المُسلمين في كل مكان، ويسلُبُ الآمالَ في التوصُّل إلى حُلُولٍ عادِلة، كما أنَّه انحِيازٌ كبيرٌ ضدَّ حُقوق الشعبِ الفلسطينيِّ التاريخية، وسيزيدُ المُسلمين والعربَ إصرارًا على التحرير، خُصوصًا وأنَّ المقدسيِّين ومَن وراءَهم مِن المُسلمين مُصدِّقين بوُعودِ الله التي تحقَّقَ أكثرُها، وما ملُّوا ولن يملُّوا.
القُدسُ مِفتاحُ السلام، ومَنْ الذي يكرَهُ السلامَ ولا يُريدُ السلامَ؟! بل مَنْ الذي اعترَضَ في الماضِي أنَّ يعيشَ اليهودُ والنصارى مع المُسلمين في أرضِ الشام وفلسطين؟! ومارَسُوا عباداتِهم، وبقِيَت كنائِسُهم ومعابِدُهم، واختلَطُوا فيها بالمُسلمين، وتبادَلُوا المصالِحَ والمنافِعَ، بل وتصاهَرُوا كما كان التاريخُ القريبُ والبعيدُ.
مَنْ الذي يكرَهُ السلامَ ولا يُريدُ السلامَ، وقد قدَّمَ العربُ مُبادراتِهم في ذلك وما زالُوا؟!
ولكن أنَّ تُغتصَبَ أرضٌ، وتُهجَّر أُسَرٌ، ويُنفَى شعبٌ، ويُزوَّر تارِيخٌ، ويُعبَثَ بمُقدَّساتٍ، وتُغيَّر معالِم، ويقَع ظُلمٌ شديدٌ بشَعبٍ ما زالَ يُسقَى المُرَّ مُنذ سبعين عامًا؛ فإن ذلك كلَّه عبَثٌ ببرمِيلِ بارُودٍ لا يُدرَى متى يبلُغُ مدَاه.
إن الذي يُمارَسُ اليوم هو إحداثُ صِراع ثقافةٍ وحضارةٍ ودينٍ، وتصرُّفٌ يُوقِعُ العالَمَ في حرجٍ وخطرٍ، ويُنذِرُ بشرٍّ لا يعلَمُ مداهُ إلا الله.
وعلى المُخلِصين مِن أمَّةِ الإسلام، وعلى العُقلاء مِن قادَة العالَم أنَّ يتدارَكُوا ما يجرِي مِن مُسلسلِ التجاوُزات والاعتِداءات على الأرضِ والإنسان، ومُمتلكاتِه التراثيَّة والدينيَّة، والمعالِم الإسلاميَّة، والحفريَّات الأرضيَّة التي تنخَرُ أساسَ مسجِدٍ عظَّمَه الأنَّبِياء، وقدَّسَه ربُّ السماء: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 114].
بارَك الله لي ولكم في الكتاب والسنَّة، ونفَعَنا بما فِيهما مِن الآياتِ والحِكمة، أقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.