التحــذير مــن الإضـــرار بالمسلمـين
فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط
غـفــــر الله له ولوالــديه والمسلمــين
=======================
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط -حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التحذير من الإضرار بالمسلمين"، والتي تحدَّث فيها عن ثلاث خِصالٍ جاء ذمُّ مَنْ اقترفَ إثمَ واحدةٍ منها، مُبيِّنًا انتِشارَ هذه الخِصال القبيحَة بين بعضِ المُسلمين، ووجوب الحَذَر من الوقوعِ فيها؛ لِمَا يترتَّبَ عليها من وعيدٍ شديدٍ لمُرتكبِيها.
الخطبة الأولى
الحمدُ لله الذي عَمَّ عبادَه بواسِع رحمتَه، وخَصَّ أولياءَه بالمَعِيَّةِ والتثبيتِ على شِرعَته، وأودعَ في قلوبِهم نُورَ معرفتِه ومحبَّتِه، أحمدُه -سبحانه - ندبَ عبادَه إلى ذكرِه وشُكرِه وحُسنِ عبادتِه، وشَوَّقَهُم إلى لقائِه ورُؤيته، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه الذي ثبَتَ على تبليغِ رسالتِه، وأداءِ أمانتِه، ونُصْح أمَّتِه، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آلهِ وصحبِه حمَلَةِ رايَتِه، وأتباع سُنَّتِه، والتابعين ومَنْ تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتَّقُوا الله -عباد الله -، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281]
عباد الله:
دَيدَنُ اللَّبيبِ الفَطِن، وشأنُ الأريبِ اليقِظ: الثَّباتُ على الحقِّ، ولُزومُ الجادَّة، واتِّباعُ الصراطِ المُستقيم الذي يستعصِمُ به من الزَّلَل، ويصِلُ به إلى الغايَةِ من رِضوانِ الله ومحبَّته، ونزولِ دار كرامتِه، ويحذَرُ من اتِّباع السُّبُل التي تَحِيدُ به عن هذا الصراط.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمامُ أحمد في "مسنده"، والدارميُّ والنسائيُّ في "سننهما"، وابنُ حبَّان في "صحيحه"، والحاكم في "مُستدرَكه" بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد الله بن مسعُودٍ -رضي الله عنه -، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خطَّ خطًّا مُستقيمًا ثم قال: «هذا سبيلُ الله»، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شِمالِه، ثم قال: «هذه السُّبُل على كل سبيلٍ منها شيطانٌ يدعُو إليها»، ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153].
وهي وصيَّةٌ ربَّانيَّةٌ بالتِزامِ دينِ الله، والاستِمساكِ بما جاء فيه من عقائِد وفرائِضَ وكمالاتٍ يسعَدُ بها المُسلمُ في دُنياه وعُقبَاه.
ومن لوازِمِ ذلك وضروراتِه -يا عبادَ الله-: النُّفرةُ من رذائِلَ وخِصالٍ مقبُوحةٍ جاء النهيُ عنها، والذَّمُّ لمُجترحِها؛ لأنها من سُبُل الشيطان التي يضِلُّ سالِكُها، ويشقَى بالتردِّي في وَهدَتها.
وكم للخطيئةِ -يا عباد الله- من دُروبٍ يدأَبُ الشيطانُ على إقامتها، والإغراء بها، والحثِّ عليها؛ لعرقَلَةِ سَير السالِكِ إلى ربِّه، الكادِحِ إليه، المُقبِلِ عليه، يُريدُ بذلك تكثيرَ حزبِه، وتقويَةَ جُندِه، وإهلاكَ عدوِّه ومحسُوده، ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6].
ألا وإن من دُروب الخطيئة، ومن أشدِّها خطرًا على العبد: ثلاثَ خِصال جاءَ الوعيدُ الشديدُ لمن اقترَفَ إثمَ واحدةٍ منها، يجمعُ بينها مقصودٌ واحدٌ، وذلك: هو الإضرارُ بالمسلمين، والضنُّ بالخيرِ عليهم، وابتغاءُ الشرِّ والفتنةِ لهم.
وهو ما جاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال:
قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم الله يومَ القيامة ولا يُزكِّيهم ولهم عذابٌ أليم: رجلٌ على فضلِ ماءٍ بالطريق يمنعُ منه السبيلَ، ورجلٌ بايعَ إمامًا لا يُبايِعُه إلا لدُنياه، إن أعطاه وفَى له، وإلا لم يَفِ له، ورجلٌ بايَعَ رجُلاً بسِلعةٍ بعد العصر، فحلفَ بالله لقد أُعطِي بها كذا وكذا، فصدَّقها فأخذَها ولم يُعطَ بها».
أما الأولى:
فرذيلَةُ البُخل والشُّحِّ والأثَرَة في أبشَع صُورها، والبخلُ ألوانٌ لا تحدُّها الأمثلة، وله دوافعُ نفسية، تختلِفُ طبيعتها وملابساتُها.
فمن ذلك:
أن بعض من ابتُلِيَ بالفقر وضيقِ ذاتِ اليد، حين يُنعِمُ عليه ربُّه بالبسطِ في الرزق، يخشَى أن تعودَ به الأيام إلى مرارةِ الفقر وشدَّة الإملاق، فيكون الإمساكُ ديدنَه، حتى لا يكادُ يُنفِقُ نفقةً إلا ويحسِبُ لها ألفَ حساب، فهو يكنِزُ المالَ ويحبسُه، ويضِنُّ به حتى على نفسِه، وعلى من يعولُ من أهلِه وأولادِه.
وربما كان باعِثَ هذا الشُّحِّ الرغبةُ في جمع الثرَوَاتِ لعقبِه؛ خشيةَ أن يتركَهم عالةً يتكفَّفُون الناس، وقد كان له في انتهاجِ نهجِ القصدِ والاعتدال الذي أوصَى به ربُّنا -سبحانه -في كتابِه بقوله: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29].
قد كان له في انتِهاجِه الظفَر بما يرغَب، والسلامةُ مما يخافُ ويرهَب.
وشرُّ البخل -وهو شرٌ كله-:
البخلُ بالفاضِلِ من الماء عن الحاجة، كمن يملك بئرًا أو عينًا جاريةً في موضعٍ لا ماءَ فيه، فلا يَضِيرهُ أن يستَقيَ منها ابنُ السبيل، أو يرِدَها حيوانٌ أو طير، ولا خشيةَ من تأثير ذلك عليه؛ بل إن له في بذله أجرًا أخبرَ عنه رسولُ الهُدى -صلواتُ الله وسلامه عليه- بقوله: «في كلِّ كبدٍ رطبةٍ أجر»؛ أخرجه البخاري وغيره.
وقد أشاعَ الشارعُ الانتفاعَ بمياه العيون والآبار ونحوها، وجعلَ الناسَ فيها شُركاء، كما جاءَ في الحديث الذي أخرجه أبو داود في "سننه"، والإمامُ أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيحٍ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: «المسلمون شُركاءُ في ثلاثٍ: في الكلأ، والماء، والنار».
إذ لا غُنيَةَ لأحدٍ عنها، ولا يَضيرُ الباذِلَ بذلُها ما دام الماءُ فاضلاً عن الحاجة، مُستقرًّا في موضعه، لم يُنقَل ولم يَجرِ عليه تصرُّفٌ بتصنيعٍ ونحوه.
وأما الخَصلةُ الثانيةُ المقبُوحةُ التي جاء الوعيدُ عليها في الحديث فهي:
غِشُّ إمام المسلمين والغدرُ به بنَكثِ بيعَته، لمجرَّد الهوى والمطامع الدنيوية، من هِباتٍ ومِنحٍ ومناصِب وغيرها، مما يجعلُه الغاشُّ مُنتهى أمله، وغايةَ مقصده، فيكون حالُه كمَن قال الله فيهم: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ [التوبة: 58].
ولذا جاء هذا الوعيدُ لمن غدَرَ بنَكث البَيعَة، والخروجِ على الإمام؛ لما في ذلك -كما قال أهلُ العلم بالحديث-: "لما فيه من تفرُّق الكلمة، ولما في الوفاءِ بالبَيعَة من تحصينِ الفُرُوج والأموال، وحَقن الدماء.
والأصلُ في مُبايَعَة الإمام:
أن يُبايِعَه على أن يعملَ بالحق، ويُقيم الحدودَ، ويأمرَ بالمعروف وينهَى عن المنكر، فمن جعل مُبايعتَه لمالٍ يُعطاه دون مُلاحظةِ المقصودِ في الأصل فقد خسِر خسرانًا مبينًا، ودخلَ في الوعيد المذكور، وحاقَ به إن لم يتجاوَز الله عنه.
وفيه:
أن كلَّ عملٍ لا يُقصَدُ به وجهُ الله وأُريد به عرضُ الدنيا فهو فاسِدٌ، وصاحِبُه آثِم".اهـ.
وكفَى بهذا الغَدرِ والنَّكثِ -يا عباد الله-، كفَى به سوءً وقُبحًا، أن أعداءَ المسلمين ما وجَدُوا عليهم سبيلاً إلا من طريقِ الغادِرِين في مُختلَف ضُروبهم وألوانهم ومسالِكِهم في الغَدر، يتَّخِذُون منهم صنائِعَ وأدوات، تهدمُ ولا تبنِي، وتُفرِّق ولا تجمَع، وتُضِلُّ ولا تهدِي، وتُفسِدُ ولا تُصلِحُ، وتُحرِّض على الإثمِ والعدوان، وتنشُرُ الأراجيفَ والبهتان، وتسعَى على كل ما يعودُ على البلاد والعباد بالضررِ والخللِ والفساد، فهم في الحقِّ سُبَّةٌ على أنفسهم أبدَ الدهر.
وهل يحصُلُ الغادِرُ على غُنمٍ من وراء غَدرِه ونَكثِه؟ هل يحصُلُ على ذلك؟ أو هل يحصُلُ على كَسبٍ ينعمُ به في حياته الدنيا؟ اللهم لا، وكثيرًا ما يجزِي اللهُ الغادِرَ الناكِثَ بنقيض قصده.
وما أكثَرَ ما سُطِّرت العِبَر من مصائِر الغادِرين وما حلَّ بهم من النكَبَات، وما نزل بهم من مثُلاتٍ وانهياراتٍ بعد نَبذهم ممن أغرَاهم وأغوَاهم، واتَّخذَ منهم معاوِلَ هدمٍ وأدواتِ فوضى وتخريبٍ وفساد.
وكفى الغادِرَ الناكِثَ خِزيًا فضيحتُه على رُؤوس الأشهاد يوم القيامة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لكل غادِرٍ لواءٌ يوم القيامة، يُقال: هذه غَدرَةُ فُلان بن فلانٍ».
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [النور: 44]، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37].
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابِه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافَّةِ المسلمين من كلِّ ذنبٍ؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.