الفصل السادس
آداب التعزية
إن من نعمة الله علينا أن أكمل لنا الدين، وأتم لنا النعمة، وأرسل إلينا رسولاً رحيماً بأمته، فما من خير إلا ودلّنا عليه، وما من شر إلا وحذَّرنا منه (صلى الله عليه وسلم)، وكان من جملة الخير الذي دلنا عليه آداب شملت كثيراً من أمور الدين والدنيا، فالعبادات لها آداب، والمعاملات لها آداب، فمخالطة الناس، والأهل، والأولاد تحتاج إلى آداب، والآداب منها ما هو مُستحب، ومنها ما هو واجب، ومنها ما هو مُباح.
فمن آداب المعاملات:
آداب التعزية، والمواساة، وما ينبغي للمسلم التَّحلِّي به عند أداء هذه العبادة، وسأذكر هنا بعض هذه الآداب، وستكون هذه الآداب على أضرب ثلاثة:
أ- آدَابُ المُعَزِّي.
ب- آدَابُ المُعَزَّى.
ج- آدَابٌ عَـامَــة.
وإليك بيانها:
أ- آداب المُعَزِّي.
1- المسارعة في مواساة المصاب، وتصبيره.
2- الذهاب للتعزية بسكينة، ووقار.
3- اختيار الألفاظ المناسبة في تعزيه أهل المصاب؛ ولو تقيد بما ورد لكان أحسن.
4- تذكير المصاب بفضيلة الصبر والرضا على ما قضاه الله -تعالى- وقدره، قال الإمام الشوكاني (ت1250هـ): (وثمرة التعزية الحث على الرجوع إلى الله -تعالى- ليحصل الأجر) (1).
5- تعزية جميع أهل المصاب، ويتأكد لِمَنْ لا يقوى على تحمل المصيبة كالصبيان، والنساء، إلا إذا خشيت الفتنة فلا يُعَزِّي النساء إلا محارمهنَّ.
6- صُنع الطعام لأهل المُصاب، لأنه قد أتاهم ما يشغلهم.
7- مشروعية صنع طعام التلبينة للمحزون، لما فيه من مجمة لفؤاد المريض، وإذهابٍ لبعض الحزن.
8- لا بأس أن يجتمع بعض الناس ليذهبوا سوياً لتعزية أهل الميت، بل إنه أفضل للمعزي والمعزى، فإن هذا مما يعين المُعزِّي، ولا يتعب المُعزَّى، ويعين على أداء السنة، وداخل تحت قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” (2).
------------------------------------------
(1) نيل الأوطار (4/116).
(2) سورة المائدة آية: 2.
9- التعزية في مدة العزاء التي تعارف الناس عليها، ولا يعزي بعدها لما يحصل من تجديد الحزن؛ إلا إذا كانت المصيبة باقية في نفس المصاب فلا بأس بتعزيته.
10- اختيار الوقت المناسب لتعزية أهل المصاب (1).
11- استغلال هذا الموقف لتذكير أهل المصاب بالله، ووعظهم، لما لهذا الوقت من رقة القلب، وإقبال النفس.
قال الإمام محمد المنبجي (ت785هـ) -رحمه الله تعالى-:
(إن كان الاجتماع فيه موعظة للمعزي بالصبر والرضا وحصل له من الهيئة الاجتماعية تسلية بتذاكرهم آيات الصبر، وأحاديث الصبر والرضا فلا بأس بالاجتماع على هذه الصفة) (2).
------------------------------------------
(1) وإن مما يؤسف له أن كثيراً من الناس لا يختارون الوقت المناسب للتعزية، فبعضهم يأتي في وقت القيلولة، أو بعد العشاء، أو في الأوقات التي يُعرف أنها أوقات غير مناسبة للزيارة.
(2) تسلية أهل المصائب (ص: 167-168).
ب- آداب المُعَزَّى.
1- وجوب الصبر عند حلول المصاب.
2- يستحب للمعزى أن يرضى بما قضاه الله وقدره.
3- الجلوس للتعزية بسكينة ووقار.
4- اختيار اللفظ المناسب في الرد على المعزين، كأن يقول: (جزاكم الله خيراً)، أو (أعظم الله أجركم)، أو (استجاب الله دعاءكم)، وغيرها مما يشعر أنه تقبل التعازي والمواساة.
5- قَبول التعزية من أهل الكتاب، والرد عليهم بالدعاء لهم بالهداية.
6- للمرأة الإحداد على أحد أقاربها غير الزوج ثلاثة أيام، ولا يجوز لها أن تزيد على ذلك لورود النهي في ذلك.
7- لا يخصص العزاء بلباس معين.
ج- آداب عامة.
1- وجوب الصبر عند البلاء، والرضاء بالقضاء والقدر، والتسليم التام من العبد لله -تعالى-.
2- الحرص على تحقيق الألفة، والمحبة بين المسلمين.
3- تجنب كل ما فيه تهييج للحزن، وإدامته.
4- تسلية المصاب، والدعاء للميت، لأن التعزية مواساة للحي، ودعاء للميت.
5- التعزية في كل من مات من المسلمين، ولو كان من أهل المعاصي، والذنوب.
6- لا بأس من تكرار التعزية، ما دام الإنسان يحتاج إلى ذلك.
7- تعزية المصاب ولو في أي مكان.
8- أن التعزية فيها تذكير للمصاب، ولغيره النهاية الحقيقية لكل الناس ألا وهي الموت، فليكن هذا الموقف تذكيراً للعبد.
9- لا بأس من تعزية أهل المعاصي توافقاً مع أصول هذه الشريعة المباركة.
10- تعزية الكافر إذا كان في تعزيته مصلحة كإسلامه، أو درء لشره عن المسلمين، وغير ذلك.
الخاتمة
فقد توصلت من خلال هذا البحث -بفضل الله تعالى- إلى نتائج من أهمها:
1- التعزية مستحبة بالاتفاق.
2- التعزية لا وقت لها، بل يُعزي كل إنسان حسب علمه، فمتى علم بالمصاب شرع له التعزية لأهل المصاب، إلا أن يطول العهد فلا يُشرع حتى لا يفضي إلى تجديد الحزن، وما دامت المصيبة باقية في نفس المصاب فإنه يُعزى.
3- لم يرد في التعزية لفظٌ محددٌ، بل تحصل بأي لفظ يؤدي المقصود، ولكن لو اقتصر على الوارد لكان ذلك حسناً.
4- تحصل التعزية بأي طريقة مشروعة، وبأي لفظ يحصل به تسلية المصاب ومواساته؛ فتحصل باللقاء، وبالمقابلة، وبالمكالمة الهاتفية، والرسائل البريدية، والإلكترونية، وتحصل أيضاً بالتوكيل.
5- إن تحديد مدة للعزاء لا أصل له من السنة، فالسنة ليس فيها دليل صريح يدل على أن مدة العزاء محددة بمدة معينه، بل مدة العزاء بحسب من يأتي، فإذا كان الناس يأتون في يومٍ واحدٍ فينتهي العزاء بنهايته، وكذلك يومين أو ثلاثة أو أكثر وهكذا، وإذا كان غالب أحوال الناس أنهم في ثلاثة أيام ينتهون فعلى ما انتهوا إليه، ولمن لم يدرك تلك الأيام له أن يعزي ولو بعد ثلاثة أيام، إلا إذا حصل تجديد الحزن فيكره ذلك.
6- ليس للتعزية مكان محدد، فللمعزِّي أن يعزي المصاب، في أي مكان كان.
7- الجلوس للتعزية مباح ليس فيه بأس إذا خلا المجلس من المنكرات والبدع، ومن تجديد الحزن، ومن تكلفة المؤنة، وطول المكث عند أهل العزاء.
8- جواز البكاء على الميت، بشرط ألا يكون في هذا البكاء نواح، ولا جزع، ولا تسخط، ولا رفع صوت، سواء قبل الدفن أو بعده.
9- الصحيح أن الميت لا يعذب ببكاء أهله عليه، إلا إذا كان ذلك وصية منه أن يُناح عليه بعد موته، أما إذا لم يكن منه ذلك فلا يعذب لقوله تعالى: "قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ” (1).
------------------------------------------
(1) سورة الأنعام آية: 164.
10- الأصل في أعمال العباد أن ثوابها لفاعلها...
أمَّا إهداء ثوابها للميت فلا يخلو من ثلاث حالات:
أ- أن يكون مِمَّا لا يصل إلى الميت بالاتفاق، كالإيمان، والتوحيد، والإجلال والتعظيم لله تعالى.
ب- أن يكون مِمَّا يصل إلى الميت إجماعاً، كالعلم النافع، والصدقة الجارية، ودعاء الولد الصالح.
ج- ما كان مختلفاً في وصول ثوابه للميت كإهداء بعض القرب، مثل: قراءة القرآن وغيرها، فالرَّاجح فيها الجواز والله -تعالى- أعلم.
11- حكم النعي الجواز
إلا أن يشابه نعي الجاهلية فإنه لا يجوز، لما فيه من مشابهتهم، وقد نُهينا عن مشابهتهم، وعلى هذا فلا حرج في الإخبار بموت الميت لكل غرض صحيح كما تقدم؛ وأما إعلام القرابة، والإخوان بموت الشخص فليس من النعي المنهي عنه، قال البيهقي: بلغني عن أنس بن مالك -رحمه الله- أنه قال: (لا أحب الصياح لموت الرجل على أبواب المساجد، ولو وقف على حلق المساجد فأعلم الناس بموته لم يكن به بأس) (1).
------------------------------------------
(1) السنن الكبرى: باب من كره النعي والإذان فيه، والقدر الذي لا يكره منه (4/124).
12- أن صُنع الطعام من أهل الميت لِمَنْ يحضر إليهم بدعة ولا يجوز:
لما فيها من مخالفة السُّنَّةِ، ولما فيها من التشبه بأعمال الجاهلية من العقر، والنَّحر عند موت كبارهم، وغير ذلك.
والحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، حمداً يملأ السماوات والأرض وما بينهما، وما شاء ربنا من شيء بعد، بمجامع حمده كلِّها ما علمنا منها وما لم نعلم، على نِعَمِهِ كلها ما علمنا منها وما لم نعلم، عدد ما حمد الحامدون، وغفل عن ذكره الغافلون، وعدد ما جرى به قلمه، وأحصاه كتابه، وأحاط به علمه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.