التمهيد
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حال الإنسان عند حلول المصيبة.
المبحث الثاني: فضـــل الصــبر علـــى المصيبة.
المبحث الأول
حال الإنسان عند حلول المصيبة:
====================
إن العبد في هذه الدنيا معرض لصنوف من البلاء، والاختبار، وما ذلك إلا ليعلم الله -تعالى- من العبد صبره ورضاه؛ وحسن قبوله لحكم الله وأمره.
قال الله تعالى:
"الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ” (1).
------------------------------------------
(1) سورة المُلك آية: 2.
والإنسان عندما يصاب بمصيبة، فإن له أحوالاً في تقبل تلك المصيبة، إما بالعجز والجزع، وإما بالصبر وحبس النفس عن الجزع، وإما بالرضا، وإما بالشكر.
قال ابن القيم (ت751هـ) -رحمه الله تعالى-:
(والمصائب التي تحل بالعبد، وليس له حيلة في دفعها، كموت من يعزُّ عليه، وسرقة ماله، ومرضه، ونحو ذلك.
فإن للعبد فيها أربع مقامات:
أحدها:
مقام العجز، وهو مقام الجزع والشكوى والسخط، وهذا ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلاً وديناً ومروءة.
المقام الثاني:
مقام الصبر إما لله، وإما للمروءة الإنسانية.
المقام الثالث:
مقام الرضى وهو أعلى من مقام الصبر، وفي وجوبه نزاع، والصبر متفق على وجوبه.
المقام الرابع:
مقام الشكر، وهو أعلى من مقام الرضى؛ فإنه يشهدُ البليةَ نعمة، فيشكر المُبْتَلي عليها) (1).
وقد علّق على هذه المقامات الأربع الشيخ محمد بن عثيمين (2) -رحمه الله تعالى- فقال:
للإنسان عند حلول المصيبة له أربع حالات:
الحال الأول: أن يتسخَّط.
الحال الثاني: أن يصبر.
الحال الثالث: أن يرضى.
الحال الرابع : أن يشكر.
هذه أربع حالات للإنسان عندما يصاب بالمصيبة:
أما الحال الأول:
أن يتسخَّط إما بقلبه أو بلسانه أو بجوارحه.
------------------------------------------
(1) عدة الصابرين (ص: 81).
(2) شرح رياض الصالحين (1/121-122)، وانظر الشرح الممتع للشيخ أيضاً (5/495).
ـ فتسخُّط القلب أن يكون في قلبه شيء على ربه -عز وجل- من السُّخط والشره على الله -تعالى- والعياذ بالله وما أشبهه، ويشعر وكأن الله قد ظلمه بهذه المصيبة.
ـ وأما باللسان فأن يدعو بالويل والثبور، يا ويلاه! يا ثبوراه! وأن يسب الدهر فيؤذي الله -تعالى- وما أشبهه.
ـ وأما التسخط بالجوارح مثل: أن يلطم خده، أو يصفع رأسه، أو ينتف شعره، أو يشق ثوبه، وما أشبهه ذلك.
هذا حال السخط حال الهلعين الذين حرموا من الثواب، ولم ينجوا من المصيبة بل الذين اكتسبوا الإثم؛ فصار عندهم مصيبتان: مصيبة في الدين بالسخط، ومصيبة في الدنيا لما أتاهم ممَّا يؤلمهم.
أما الحال الثانية:
فالصبر على المصيبة بأن يحبس نفسه؛ هو يكره المصيبة ولا يحبها، ولا يحب إن وقعت، لكن يصبّر نفسه؛ لا يتحدث باللسان بما يسخط الله، ولا يفعل بجوارحه ما يغضب الله تعالى، ولا يكون في قلبه على الله شيءٌ أبداً؛ صابر لكنه كاره لها.
والحال الثالثة:
الرِّضى بأن يكون الإنسان منشرحاً صدره بهذه المصيبة ويرضى بها رضاءً تاماً، وكأنه لم يصب بها.
والحال الرابعة:
الشُكر فيشكر الله -تعالى- عليها، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) إذا رأى ما يكره قال: "الحمد لله على كل حال” (1).
فيشكر الله من أجل أن يُرتب له من الثواب على هذه المصيبة أكثر مما أصابه.
------------------------------------------
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب: باب فضل الحامدين (2/1250 رقم 3803)، قال البوصيري في الزوائد إسناده صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/472 رقم 265).
مسألة: ما ينبغي لمن بلغته المصيبة أن يفعل.
ينبغي لمن بلغته مصيبة، أيَّاً كانت هذه المصيبة أمور:
أ- الصبر:
فيسن الصبر على المصيبة، ويجب منه ما يمنعه عن المحرم (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) -رحمه الله تعالى-:
(والصبر واجب باتفاق العلماء) (2).
قال ابن القيم (ت751هـ) -رحمه الله تعالى-:
(والصبر واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر) (3).
والصبر هو:
حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش (4).
قال تعالى:
"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ” (5).
------------------------------------------
(1) الفروع (2/223).
(2) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص: 265).
(3) مدارج السالكين (2/158) في منزلة الصبر.
(4) مدارج السالكين (2/162).
(5) سورة البقرة آية: 155-157.
وعن أنس بن مالك –رحمه الله- قال:
مَرَّ النبيُ (صلى الله عليه وسلم) بامرأة تبكي عند قبر فقال: “اتقي الله واصبري” قالت: إليك عني فإنك لم تُصب بمصيبتي، ولم تعرفه! فقيل لها: إنه النبي (صلى الله عليه وسلم) فأتت باب النبي (صلى الله عليه وسلم) فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: "إنما الصَّبرُ عند الصَّدمةِ الأولى” (1).
قال الحافظ ابن حجر (2) (ت852هـ) -رحمه الله تعالى- عند قوله (صلى الله عليه وسلم):
"إنّما الصبر عند الصّدمَة الأولى” المعنى إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتَب عليه الأَجر.
------------------------------------------
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز: باب زيارة القبور (الفتح / 492 - 493 برقم 1283)، وباب الصبر عند الصدمة الأولى (الفتح 3/523برقم 1302)، وأخرجه مسلم في كتاب الجنائز: باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى (2/637 برقم 926)، وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز: باب الصبر عند الصدمة الأولى (3/250 -251 برقم 3124)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز: باب ما جاء في الصبر على المصيبة (1/509 برقم 1596)، وأخرجه الترمذي في كتاب الجنائز: باب ما جاء أن الصبر في الصدمة الأولى (3/304 برقم 987)، وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز: باب الأمر بالاحتساب عند نزول المصيبة (4/321 برقم 1868).
(2) أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن حجر الكناني، العسقلاني، المصري، الشافعي، حافظ الدنيا في عصره، ولد بمصر العتيقة سنة (773هـ)، ادخل الكتاب بعد إكمال خمس سنين، وكان سريع الحفظ، حفظ القرآن وهو ابن تسع سنين، وحفظ العمدة، والحاوي الصغير، وألفية العراقي، ومختصر ابن الحاجب، تتلمذ على علماء أجلاء منهم الحافظ البلقيني، وابن الملقن، والزين العراقي، والعز ابن جماعة، والغماري، والفيروزآبادي وغيرهم، وكان له رحلة في طلب العلم، وكان له تلاميذ كثر من أشهرهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، والحافظ السخاوي، وبرهان الدين البقاعي وغيرهم، له مؤلفات كثيرة جداً، توفي في الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة (852هـ) بمصر فرحمه الله-تعالى-رحمة واسعة.
قال الخطابي:
المعنى أن الصبر الذي يُحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأَة المصيبة, بخلاف ما بعد ذلك فإنه مع الأيام يسلو؛ وحكى الخطابي عن غيره أن المرء لا يُؤجر على المصيبة لأنّها ليست من صُنعه, وإنَما يؤجر على حُسن تثبته وجميل صبره؛ وقال ابن بطّال: أراد أن لا يجتمع عليها مصيبة الهلاك وفقد الأَجر) (1).
قال الإمام الموفق ابن قدامة (2) (ت620هـ) -رحمه الله تعالى-:
(وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى، ويتعزى بعزائه، ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة، ويَتَنَجَّز ما وعد الله الصابرين، قال الله -تعالى-: "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ” سورة البقرة آية: 156، ويسترجع) (3).
------------------------------------------
(1) فتح الباري (3/494-495).
(2) هو الشيخ الإمام العلامة المجتهد الزاهد الورع التقي موفق الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، ولد بنابلس في فلسطين سنة (541هـ)، حفظ القرآن الكريم وعمره عشر سنين، ورحل في طلب العلم إلى بغداد، وأقام بها أربع سنين، فأتقن الفقه والحديث، سمع من كثير من علماء عصره، وقد أثنى عليه كثير من علماء عصره، تتلمذ عليه عدد كبير من التلاميذ، وكان حسن الخلق، لا يكاد يراه أحداً إلا مبتسماً، وكان إماماً في التفسير، والحديث، والفقه، وأصول الفقه، والفرائض، والنحو، والحساب، له مؤلفات كثيرة منها: المغني، والكافي، والمقنع، وعمدة الفقه، والتوابين، ولمعة الاعتقاد، وفضائل عاشوراء وغيرها، توفي في عيد الفطر بدمشق، ودفن بسفح جبل قاسيون رحمه الله تعالى.
(3) المغني (3/495).
ب- الرضا بالقضاء والقدر والتسليم التام لله -تعالى-:
وهذه الصفة هي من أعظم صفات المؤمن المتوكل على الله، المصدق بموعود الله، الراضي بحكم الله، وبما قضاه الله -تعالى- وقدره، بل الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، الواردة في حديث أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- الطويل وفيه” قال: فأخبرني عن الإيمان، قال (صلى الله عليه وسلم): أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره” (1).
ج- قول (إنا لله وإنا إليه راجعون)
وذلك لما جاء في قوله تعالى: "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ” (2).
------------------------------------------
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان: باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان (1/39برقم 9)، وأخرجه الترمذي في كتاب الإيمان: باب ما جاء في وصف جبريل للنبي (صلى الله عليه وسلم) الإيمان والإسلام (5/6-7 برقم 2610)، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة: باب في القدر (4/ 293-294 برقم 4695)، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة: باب قي الإيمان (1/24-25 برقم 63-64)، وأخرجه النسائي في كتاب الإيمان وشرائعه: باب صفة الإيمان والإسلام (8 /475-476 برقم 5006).
(2) سورة البقرة آية: 156.
وله أن يزيد:
"اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها"، لما جاء من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها, إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها” قالت: فلما توفي أبو سلمة -رضي الله عنه- قلت: ومن خيرٌ من أبي سلمة؟ صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم), ثم عزم الله علي فقلتها، فما الخلف؟! قالت: فتزوجت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومَنْ خَيْرٌ من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (1).
د- أن تعلم أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان:
لذا فهي مليئة بالمصائب، والأكدار، والأحزان، كما قال ربنا الرحمن:
"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ” سورة البقرة آية: 155-157.
وقال تعالى:
"لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ” سورة البلد آية: 4 (2).
هـ- تذكر أن العبد وأهله وماله لله -تعالى-:
فله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
قال لُبَيْدُ:
وما المال والأهلون إلا ودائع ولابد يوماً أن تُرَدَّ الودائع
و- الاستعانة على المصيبة بالصلاة:
قال الله تعالى: "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ” (3)؛ وقد "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر صلى” (4)، ومعنى حزبه: أي نزل به أمرٌ مهم، أو أصابه غم.
------------------------------------------
(1) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب الجنائز: باب جامع الحسبة في المصيبة (ص: 227 رقم 38-39)، وأخرجه مسلم في كتاب الجنائز: باب ما يقال عند المصيبة (2/632-633 برقم 918)، و أخرجه أبو داود (3/249 برقم 3119) في كتاب الجنائز: باب ما يستحب أن يقال عند الموت من الكلام، وأخرجه الترمذي في كتاب الدعوات: بابرقم 84، (5/533 برقم 3511).
(2) سورة البلد آية: 4.
(3) سورة البقرة آية: 45.
(4) أخرجه الإمام أحمد (1/206)، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة: باب وقت قيام النبي (صلى الله عليه وسلم) للصلاة (2/50 برقم 1319)، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (3/524)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1/361 برقم 1319).
وهذا حال المؤمن الصادق، الذي لا يخطر على قلبه في وقت المحن والشدائد، إلا تذكر الله -تعالى-، لأنه الذي بيده مفاتيح الفرج.
ولما أخبر ابن عباس -رضي الله عنهما- بوفاة أحد إخوانه استرجع وصلى ركعتين أطال فيهما الجلـوس، ثم قام وهـو يقول: "واستعينوا بالصبر والصلاة” (1).
ز- تذكر ثواب المصائب، والصبر عليها، وإليك شيئاً منه:
1-دخول الجنة:
قال الله تعالى: "جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ” (2).
وقال (صلى الله عليه وسلم): (يقول الله -تعالى-: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت (3) صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) (4).
وصفيه هو حبيبه المصافي كالولد، والأخ، وكل من يحبه الإنسان، والمراد بقوله (صلى الله عليه وسلم) (ثم احتسبه): أي صبر على فقده راجياً الأجر من الله -تعالى- على ذلك (5).
------------------------------------------
(1) فتح الباري (3/524)، قال الحافظ ابن حجر أخرجه الطبراني بإسناد حسن؛ وانظر الفروع لابن مفلح (2/223).
(2) سورة الرعد آية: 23-24.
(3) المراد قبض روحه بالموت (فتح الباري 13/20).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق: باب العمل الذي يبتغي به وجه الله -تعالى- (فتح 13/18 برقم 6424).
(5) فتح الباري (13/20).
2- الصابرون يوفون أجورهم بغير حساب.
قال تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” (1)،
قال الأوزاعي:
(ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفاً) (2).
3- معية الله للصابرين:
وهي المعية الخاصة المقتضية للمعونة والنصرة والتوفيق، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” (3).
4- محبة الله للصابرين:
قال تعالى: "وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ” (4).
5- تكفير السيئات لمن صبر على ما يصيبه في حال الدنيا، كبر المصاب أم صغر:
قال (صلى الله عليه وسلم) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: “ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب، ولا همٍ، ولا حزن، ولا أذىً، ولا غم, حتى الشَّوكة يُشاكها إلا كَفَّرَ اللهُ بها خطاياه” (5)، والنصب التعب، والوصب: المرض، وقيل هو المرض اللازم (6).
------------------------------------------
(1) سورة الزمر آية: 10.
(2) تفسير ابن كثير (4/52).
(3) سورة البقرة آية: 153.
(4) سورة آل عمران آية: 146.
(5) أخرجه البخاري في كتاب المرضى باب: ما جاء في كفارة المرض (الفتح 11/239 برقم 5641)، وأخرجه مسلم في كتاب البر واصلة والآداب: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها (4/1990 برقم 2572).
(6) فتح الباري (11/243).
قال الإمام القرافي (ت684هـ) -رحمه الله تعالى-:
(المصائب كفارات جزماً سواءً اقترن بها الرضا أم لا، لكن إنْ اقترن بها الرضا عَظُمَ التكفير وإلا قل) (1).
وقال (صلى الله عليه وسلم):
"ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله, حتى يلقى الله -تعالى- وما عليه خطيئة) (2).
6- حصول الصلوات، والرحمة، والهداية من الله -تعالى- للعبد الصابر:
قال الله -تعالى-: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ” (3).
7- رفع منزلة المصاب:
قال (صلى الله عليه وسلم): "إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى” (4).
------------------------------------------
(1) فتح الباري (11/242).
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد: باب ما جاء في الصبر على البلاء، وقال عنه : حديث حسن صحيح (4/602 برقم 2399 )، وصححه الألباني في الصحيحة (5/349 برقم 2280)، وفي سنن الترمذي أيضاً (ص: 541 برقم 2399 الطبعة الجديدة عناية الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان).
(3) سورة البقرة آية: 155 -157.
(4) أخرجه أحمد (5/273)، وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز: باب الأمراض المكفرة للذنوب (3/238 برقم 3090)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6القسم الأول /189برقم 2599)، وفي صحيح أبي داود (2/271 برقم 3090).
المبحث الثاني
فضلُ الصبر على المصيبة
================
جعل الله -تعالى- الموت حتماً على جميع العباد من الإنس والجان، وجميع الحيوان فلا مفر لأحد ولا أمان, كل من عليها فان, ساوى فيه بين الحر والعبد والصغير والكبير والذكر والأنثى والغني والفقير وكل ذلك بتقدير العزيز العليم: "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ” (1).
فالكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت و الحازم من بادر بالعمل قبل حلول الفوت, والمسلم من استسلم للقضاء والقدر, والمؤمن من تيقن بصبره الثواب على المصيبة والضرر (2).
وأي مصيبة أعظم بعد الدين من مصيبة الموت (3)، ملأ الله ـ-تعالى- قلوبنا صبراً، ورفقاً وتسليماً.
------------------------------------------
(1) سورة فاطر آية: 11
(2) تسلية أهل المصائب (ص: 8).
(3) من الناس من ينكر أن يكون الموت مصيبة؛ بل هو مصيبة كما قال (صلى الله عليه وسلم): سورة المائدة آية: 106.
أخي المسلم:
كرب الزمان وفقد الأحبة خطب مؤلم, وحدث مفجع, وأمر مهول مزعج, بل هو من أثقل الأنكاد التي تمر على الإنسان نار تستعر, وحرقة تضطرم تحترق به الكبد ويُفت به العضد إذ هو الريحانة للفؤاد والزينة بين العباد.
لكن مع هذا نقول:
فلرب أمـر محـزن لك في عواقبه الرضا
ولربمـا اتسع المضيق وربما ضاق الفضـا
كم مسرور بنعمة هي داؤه, ومحروم من دواء حرمانه هو شفاؤه, كم من خير منشور وشر مستور, ورب محبوب في مكروه, ومكروه في محبوب قال تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” سورة البقرة آية: 216 (1).
لو استخبر المنصف العقل والنقل لأخبراه أن الدنيا دار مصائب وشرور, ليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بكدر, فما يُظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب, وعمارتها وإن حسنت صورتها خراب, والعجب كل العجب في من يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللدغ واللسع؟! (2)
------------------------------------------
(1) سورة البقرة آية: 216.
(2) تسلية أهل المصائب (ص: 31).
وأعجب منه من يطلب ممن طُبع على الضر النفع.
طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدارِ
هل رأيت؟ بل هل سمعت بإنسانٍ على وجه هذه الأرض لم يصب بمصيبة دقَّت أو جلَّت؟
الجواب معلوم:
لا وألف لا, ولولا مصائب الدنيا مع الاحتساب لوردنا القيامة مفاليس كما قال أحد السلف.
ثمانية لابد منها على الفتى ولابد أن تجري عليه الثمانية
سرور وهم, واجتماع وفرقة وعسر ويسر, ثم سقم وعافية
أخي إن مما يكشف الكرب عند فقد الأحبة التأمل والتملّي والتدبر والنظر في كتاب الله -تعالى- وسنة نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم), ففيهما ما تقر به الأعين, وتسكن به القلوب وتطمئن له تبعاً لذلك الجوارح مما منحه الله, ويمنحه لمن صبر ورضي واحتسب من الثواب العظيم والأجر الجزيل, فلو قارن المكروب ما أخذ منه بما أعطى لا شك سيجد ما أعطي من الأجر والثواب أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة ولو شاء الله لجعلها أعظم وأكبر وأجل، وكل ذلك عنده بحكمة وكل شيء عنده بمقدار (1).
فلنقف مع آيات من كتاب الله -تعالى-، وفي ثاني سور القرآن الكريم، وكفى بها واعظاً، وكفى بها مسليةً، وكفى بها كاشفةً للكروب، ومذهبة للهموم.
قال الله -تعالى-: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ” (2).
------------------------------------------
(1) كشف الكربة عند فقد الأحبة (ص6-7).
(2) سورة البقرة آية: 155-157.
علاج من الله -تعالى- لكل من أصيب بمصيبة دقيقة أو جليلة, بل إنه أبلغ علاج وأنفعه للعبد في آجله وعاجله، فإذا ما تحقق العبد أن نفسه وماله وأهله وولده ملك لله -تعالى- قد جعلها عنده عارية فإذا أخذها منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير فهل في ذلك ضير؟ لا؛ والذي رفع السماء بلا عمد (1).
ثم إن ما يؤخذ منك أيها العبد المصاب المبتلى محفوف بعدمين, عدم قبله فلم يكن شيئاً في يوم من الأيام, وعدم بعده فكان ثم لم يكن, فملكك له متعة مستودعة في زمن يسير ثم تعود إلى موجدها ومعيرها الحقيقي سبحانه وبحمده: "ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ” (2).
فمصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق, لابد أن يخلِّف الدنيا وراء ظهره يوماً ما, ويأتي ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا عشيرة ولا مال، ولكن بالحسنات والسيئات نسأله حسن المآل، هل علمت هذا أخي المصاب المكروب؟
فمن امتثل أمر الله ـ-تعالى- بالصبر على البلاء كانت مثوبة الله -تعالى- له: "أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ” (3).
------------------------------------------
(1) تسلية أهل المصائب (ص: 19).
(2) سورة الأنعام آية: 62.
(3) سورة البقرة آية: 157.
فعن أم سلمة -رضي الله عنها-ـ قالت سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها, إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها “قالت: فلما توفي أبو سلمة؛ قلت: ومن خيرٌ من أبي سلمة؟ صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم), ثم عزم الله علي فقلتها؛ فما الخلف؟! قالت: فتزوجت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومَنْ خير من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) (1).
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همٍ ولا حزن ولا أذىً ولا غم, حتى الشوكة يُشاكها إلا كفَّر اللهُ بها خطاياه) (2).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “لا يموت لأحدٍ من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم” (3) يشير إلى قوله تعالى: "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا” (4).
------------------------------------------
(1) سبق تخريجه (ص: 24).
(2) سبق تخريجه (ص: 26).
(3) أخرجه البخاري في كتاب العلم: باب هل يجعل للنساء يوماً على حدة في العلم؟ (الفتح 1/264 برقم 101)، وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب: باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه (4/2028 برقم 2632)، واللفظ لمسلم.
(4) سورة مريم آية: 71.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : (أتت امرأة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) بصبيٍ لها فقالت: يا نبي الله! ادعُ الله له، فلقد دفنت ثلاثةً, قال (صلى الله عليه وسلم): "دفنت ثلاثة؟"ـ مستعظماً أمرها? ـ قالت: نعم؛ قال: "لقد احتضرتِ بحضارٍ شديدٍ من النار") (1).
أي لقد احتميتِ بحمىً عظيمٍ من النار، فما أعظم الأجر، وما أكمل الثواب، وما أجدر أن يُستعذب العذاب في طلب هذا الثواب.
وجاء في حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا مات ولد العبد، قال الله -تعالى- لملائكته: "أقبضتم ولد عبدي؟” فيقولون: نعم؛ فيقول وهو أعلم: "أقبضتم ثمرة فؤاده؟” فيقولون: نعم. فيقول: “ماذا قال عبدي؟” فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله -تعالى-: "ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد") (2).
------------------------------------------
(1) أخرجه الإمام مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب: فضل من يموت له ولد فيحتسبه (4/2030 برقم 2636).
(2) أخرجه أحمد في المسند (4/415)، وأخرجه الترمذي في كتاب الجنائز: باب فضل المصيبة إذا احتسب (3/332برقم 1021) وقال هذا حديث حسن غريب، والبغوي في شرح السنة (5/456 برقم 1549)، وقال الحافظ: الحديث حسن، وحسنه الألباني في السلسلة فقال: (فالحديث بمجموع طرقه حسن على أقل الأحوال). (السلسلة الصحيحة 3/398 رقم الحديث 1408).
يا لها من بشارة عند موت الولد مع الإيمان، لأن الله إذا أمر ببناء بيت لأحد من عبيده فلابد لذلك العبد من سكنى هذا البيت في يومٍ من الأيام.
روى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة عن أبيه:
(أنه كان رجل يأتي النبي (صلى الله عليه وسلم) ومعه ابن له, فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): “أتحبه؟” فقال: يا رسول الله, أحبك الله كما أحبه؛ فتفقده النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: "ما فعل ابن فلان؟” فقالوا: يا رسول الله مات, فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) لأبيه: “أما تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عليه ينتظرك؟” فقال رجل: يا رسول الله, أله خاصة أم لكلنا؟ فقال (صلى الله عليه وسلم): "بل لكلكم") (1).
أخي المبارك:
فهم السلف الصالح -رضوان الله عليه- ذلك فهماً عميقاً، فتمنوا أن يقدموا أولادهم وأحبتهم ثم يرضوا بذلك ويحتسبوا لينالوا الأجر العظيم من الرب الكريم.
ها هو أبو مسلم الخولاني (ت62هـ) -رحمه الله تعالى- يقول:
(لأن يولد لي مولود يحسن الله -تعالى- نباته, حتى إذا استوى على شبابه، وكان أعجب ما يكون إليّ قبضه مني؛ أحب إليّ من أن يكون لي الدنيا وما فيها) (2).
------------------------------------------
(1) أخرجه أحمد (5/35برقم 15042)، والنسائي في كتاب الجنائز: باب الأمر بالاحتساب والصبر عند نزول المصيبة (4/321 برقم 1869)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (ص: 205)، وصحيح سنن النسائي (3/403-404 برقم 1764).
(2) صفة الصفوة (4/430 رقم الترجمة 745).
وكان للمحدث إبراهيم بن إسحاق الحربيّ (ت285هـ) -رحمه الله تعالى- ابن له إحدى عشرة سنة حفظ القرآن ولقّنه من الفقه جانبًا كبيرًا, ثم مات الولد, قال محمد بن خلف: جئت أعزيه فقال: الحمد لله، والله لقد كنت على حبي له أشتهي موته؛ قلت له: يا أبا إسحاق, أنت عالم الدنيا تقول ذلك في صبيٍ قد حفظ القرآن ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم, أو يخفى عليك أجر تقديمه؟
ثم قال: وفوق ذلك, فلقد رأيت في منامي وكأن القيامة قامت وكأن صبياناً في أيديهم قلال (1) فيها ماء يستقبلون الناس فيسقونهم وكان اليوم حاراً شديد حرّه.
قال فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، قال: فنظر إلي، وقال: لست أبي، قال قلت: مَنْ أنتم؟ قال: نحن الصبية الذين متنا واحتسبنا آباؤنا، ننتظرهم لنستقبلهم فنسقيهم الماء, قال: فلهذا تمنَّيت موته (2).
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (يقول الله -تعالى-: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) (3).
------------------------------------------
(1) جمع قُلَّة، وهو إناء للعرب كالجرة الكبيرة (لسان اللسان تهذيب لسان العرب 2/413) .
(2) صفة الصفوة (2/ 648 رقم الترجمة 289).
(3) أخرجه الإمام أحمد (2/417)، وأخرجه البخاري في كتاب الرقاق: باب العمل الذي يبتغي به وجه الله-تعالى-(فتح 13/18برقم 6424).
يا له من جزاءٍ فعندك اللهم نحتسب أصفياءنا وأصدقاءنا وأحبابنا وآباءنا وأمهاتنا وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أخي المسلم:
إن مما يسلي المصاب، ويذهب همه، ويصبر نفسه، ويرضي قلبه، ويعينه على مصابه، ويخفف آلامه، هو تذكر موت النبي (صلى الله عليه وسلم)، فما أصيبت الأمة بمصيبة أعظم، ولا أجل من مصيبة فقد النبي (صلى الله عليه وسلم)، وانقطاع نزول الوحي، فإذا علمت هذا هانت عليك كل مصيبة، وسكنت نفسك واطمأنت لكل بلية وخطب.
قال (صلى الله عليه وسلم):
"إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب” (1).
------------------------------------------
(1) أخرجه الدارمي في المقدمة: باب في وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) من حديث مكحول (ص: 55 برقم 85-86)، وقد انفرد به الدارمي، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/97 برقم 1106)، وقال: (وبالجملة فالحديث بهذه الشواهد صحيح). وفي صحيح الجامع الصغير (1/124 برقم 347).
قال أبو العتاهية:
اصـــبر لكـل مصيبــة وتجلـدِ واعلم بأن المـرء غير مخلـــد
أو مـا ترى أن المصــائب جمة وتـرى المنية للعبـاد بمـرصـد
من لم يصب ممـن ترى بمصيبة هـذا سبيل لسـت عنه بأوحـد
فإذا ذكرتَ مـحـمــداً ومصـابه فاجعـل مصابك بالنبي محمــــدِ
واعلم يا أخي الكريم:
أن البلاء يصيب المؤمن على قدر إيمانه، فإن كان في إيمانه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في إيمانه رقة خُفف في بلائه، حتى ما يتجلى عنه البلاء، ويذهب إلا وقد حطت خطاياه كلها، ويمشي على الأرض ليس عليه خطيئة.
فعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال:
سُئِلَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) أي الناس أشد بلاءً؟ قال: “الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل, يُبتلى الناس على قدر دينهم, فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه, ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه, وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس وما عليه خطيئة) (1).
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- (ت751هـ):
(والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرًا سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه، أهَّلَه لأشرف مراتب الدنيا، وهي عبوديتُه، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيته وقربه) (2).
وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله, حتى يلقى الله -تعالى- وما عليه خطيئة) (3).
------------------------------------------
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن: باب الصبر على البلاء (2/1334 برقم 4023)، وأخرجه الترمذي في كتاب الزهد: باب ما في الصبر على البلاء (4 /601-602برقم 2398)، وقال الترمذي حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في الصحيحة (1/225 برقم 143)، وفي صحيح ابن ماجه (3/317-318 برقم 3265) وقال عنه: (حسن صحيح).
(2) زاد المعاد (4/195).
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد: باب ما جاء في الصبر على البلاء، وقال عنه: حديث حسن صحيح (4/602 برقم 2399)، وصححه الألباني في الصحيحة (5/349 برقم 2280)، وفي سنن الترمذي أيضاً (ص: 541 برقم 2399 الطبعة الجديدة عناية الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان).