63- اسم الله: "الحَكَـمْ"
==============
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهمَّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنَّك أنت العليم الحكيم، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علماً وأرنا الحقَّ حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين
أيُّها الإخوة المؤمنون...
مع الدرس الثالث والستين من دروس أسماء الله الحُسنى، والاسم اليوم اسم الحكم.
والحَكَم بفتح الحاء والكاف.
والحَكَمُ، والحاكم بمعنىً واحد، إلا أنَّ فقهاء اللغة يقولون:
أيَّة زيادةٌ في المبنى؛ لابدَّ من أن يقابلها زيادةٌ في المعنى.
أصل الحَكَمِ المنعُ.
حكمه أي منعه.
والحكمةُ:
هي الحديدة التي تمنع الفرس من السفاهة.. هكذا جاء في معاجم اللغة.
والحَكَمُ اسمٌ من أسماء الله الحُسنى، ولا تنسوا أنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:
“وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا” (سورة الأعراف).
أسماؤه حُسنى، صفاته فُضلى، كمال الله مُطلق، أيُّ اسمٍ، إن بحثت عن وجوه الكمال فيه فقد أصبت، وإن خطر ببالك غير ذلك فقد أخطأت.
قال بعض العلماء:
" الحَكَم؛ صاحب الفصل بين الحقِّ والباطل ".
أحياناً الباطل له جولةٌ وصولة، ربما سمح الله له أن يعلو، ربما أرخى الله له الحبل لكن إلى أمد، لأنَّه حَكَم؛ لابدَّ من أن يزهق الباطل، لأنَّ الله موجود.
لو أنَّ الباطل استشرى وامتدَّ وطغى وبغى إلى أمدٍ طويل، هذه الفكرة تتناقض مع وجود الله، أن يستشري الباطل، أن يمتدَّ ويمتدّ أن يطغى أن يبغي، أن يضع كلَّ الخطط فتنجح، هذه الحقيقة تتناقض مع وجود الله؛ لا بدَّ من أن يظهر الله آياته، وما أكثر الآيات، والآيات نراها كلَّ يوم.
والله سبحانه وتعالى، ألقى على النبيّ هذا القرآن الكريم، فهو آياته، هي كلامه، وخلق الكون، والكون آياته، وأفعاله كلّها آياته.
أفعاله كلُّها تدلُّ على كمالاته، على عدالته وعلى حلمه، على رحمته، على قدرته، على علمه، فلك أن تعرف الله من آياته الكونيَّة، ولك أن تعرفه من آياته القرآنيّة، ولك أن تعرفه من آياته التكوينيَّة.
صاحب الفصل بين الحقُّ والباطل.. أحياناً زوجان؛ كلٌّ يدَّعي أنَّه مظلوم، وكلُّ طرفٍ معه الحجج والبراهين والقصص، لكنَّ المظلوم فعلاً يوفِّقه الله، والظالم يسحقه الله.. شريكان؛ كلٌّ يدَّعي أنَّه على حق، وأنَّ شريكه الآخر ظلمه.
الإنسان أحياناً يتكلَّم، ويأتي بالحجج الواهية، ويفتري ويخترع أدلَّةُ غير صحيحة، يوهم الناس، ولكنَّ الله هو الحكم.
فالشريكان؛ الظالم يُهلكه الله، والمظلوم يوفِّقه الله، توفيق الله للمظلوم؛ هو حُكْمُ الله فيه، إهلاك الظالم حُكْمُ الله فيه، زوجان افترقا، توفيق أحدهما في زواجٍ آخر، حُكْمُ الله فيه، هلاك الثاني في زواجٍ آخر، حُكْمُ الله فيه.
إنسان يدَّعي أنَّه ورع وأنَّه على حق، علامة حكم الله له أنَّه يوفِّقه، وعلامة حكم الله على الآخر أنَّه يخذله.. فطبعاً الحكم هنا توفيقه نصرٌ، وإهلاكه حكم، هو صاحب الفصل بين الحقِّ والباطل، بين البارِّ والفاجر.
أيام يتوفّى أبٌ ويترك أولاداً، أحد أولاده الأقوياء يأخذ المال كلَّه، ويحرم إخوته، تدور الأيّام هؤلاء المظلومون إخوة هذا الأخ الباغي الظالم، يوفَّقون في أعمالهم، وهذا الذي أخذ المال الحرام، يُتلف الله ماله، وأحياناً يُضطرُّ أن يعمل عند إخوته.. الذي أخذ المال كلَّه وحرم إخوته منه، يخذله الله، ويتلف ماله، فيُضطرَّ أن يعمل عند إخوته الذين حرمهم من إرث أبيهم، فالله هو الحَكَمُ.
فعندنا حكم يوم القيامة، لكن هناك حكم في الدنيا هو نصر الله أو خِذلانه، توفيقه أو عدم توفيقه، تيسيره أو تعسيره، وما أكثر الشواهد، حياتنا زاخرةٌ بهذه الشواهد.. الذي كسب مالاً حلالاً قليلاً، يبارك الله له فيه.
والذي كسب مالاً حراماً كثيراً، يتلِفُ الله ماله.
الذي برَّ والديه يهبه الله أولاداً أبراراً.
والذي عقَّ والديه يهبه الله أولاداً عاقّين؛ هذا حكم الله له.
فالله سبحانه وتعالى هو الحكم، صاحب الفصل بين الحقِّ والباطل، صاحب الفصل بين البارِّ والفاجر، المجازي كلَّ نفسٍ بما عملت، وهناك آيات كثيرةٌ جداً تؤكِّد هذا المعنى..
فقد قال تعالى:
“أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)” (سورة الجاثية).
وقد قال تعالى:
“أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18)” (سورة السجدة).
وقال تعالى:
“أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)” (سورة القلم).
إخواننا الكرام... أرجو الله سبحانه وتعالى أن يّوفِّقني لترسيخ هذه الحقيقة.
يعني شابٌ مؤمنٌ مستقيمٌ، ويخاف الله ويرجو رحمته، ويتحرّى الحلال، ويبحث عن زوجةٍ صالحة، لا يكذب، ضابطاً لجوارحه، ضابط لدخله وإنفاقه، وشابٌ آخر متفلِّتٌ ليس عنده عقيدة، ولا استقامة، ولا عبادة، ولا حلال ولا حرام، يفعل ما يشاء.
فإذا تساوى هذان الشابّان في التوفيق وفي النصر والتأييد، وفي التمتُّع في الحياة الدنيا، إن تساويا ولم يكن هناك فرقٌ بينهما، هذه الفكرة تتناقض مع وجود الله.
“أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ“.
إنسان دخله حلال؛ أيعقل أن يُعامل كما يُعامل صاحب الدخل الحرام؟! إنسان ضبط أهله وأولاده وبناته؛ أيعقل أن يُعامل من قبلهم كما يُعامل إنسان تفلَّت من أوامر الشرع، وأطلق لزوجته ولبناته العنان؟! هذا مستحيل فالحَكَمُ توفيقه حُكْمٌ، تيسيره حكم.
تعسيره حكم إلقاء الأمن في قلب المؤمن حكم.
إلقاء الخوف والفزع في قلب المشرك حكم.
أن يُقدِّر للإنسان حياةَ ضنك؛ معيشةً ضنكاً حكم، أن يقدِّر للإنسان حياةً طيِّبة حكم، أن ينصرك حكم، أن يخذلك حكم، إن دعوته فاستجاب لك فدعاؤك صادق ومخلص، وإن لم يستجب فهناك سببٌ حال دون أن يُستجاب لك حكم.
أيام أذكر لكم مثلاً أوضح.. أب عنده ولدان، ولد بار، والثاني عاق، فإذا دخل البار رحبَّ به وقال له: أهلاً وسهلاً قد اشتقنا لك، وأين أنت وكيف حالك؟ وكيف أولادك؟ وكيف أهلك؟ هل تناولت طعام الغذاء؟ فلاحظ أنت إذا أحبَّ أب ابنه.
وإذا دخل العاق يتمنّى أن لا يدخل عليه، فانكماش الأب من ولده العاق حكم، وترحيبه بولده البار حكم، التوفيق حكم والتعسير حكم، إلقاء الأمن في قلب المؤمن حكم، وإلقاء الفزع في قلب المشرك حكم.
والذي يقصد بينَ مخلوقاته.. أوسع.. ربما لم تصدِّقوا أنَّ شاةً قرناء لو نطحت شاةً أُخرى لاقتص منها أبداً، الحكم بين مخلوقاته لا بين بني البشر فحسب، ولا بين الإنس والجنِّ فحسب بل بين كلِّ مخلوقاته بما شاء، أن يُميِّز بين الشقيِّ والسعيد.
فقد قال تعالى:
“مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ” (سورة آل عمران).
مؤمن مخلص، مؤمن مقصِّر هل هما عند الله سيّان؟ لا.. لابدَّ من أن يُميّز الله بينهما، يضع الأول في ظرف فيتألَّق، يضع الثاني في ظرف فيسقط، امتحنهما وفرَّق بينهما.
المميِّز بين الشقيِّ والسعيد بالعقاب والثواب، ما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيَّته، فتكيده أهل السماوات والأرض، إلاّ جعلت له من بين ذلك مخرجاً.
أن يجعل الله له من بين ذلك مخرجا حكم.
" وما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني أعرف ذلك من نيَّته إلا جعلت الأرض هويّاً تحت قدميه، وقطَّعت أسباب السماء بين يديه "، أن يجعل الأرض هويّاً تحت قدميه حكم.. هو حكم.
قال الغزاليّ:
"الحكم؛ هو الحاكم المحكَّم، والقاضي المسلَّم، لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكم ".
في الدنيا قد يحكم القاضي، ولكنَّ محكمة النقض تنقُض حكمه، وقد يحكم رئيس محكمة النقضِّ، ولا يُصدَّق حكمُه، لكنَّ الله سبحانه وتعالى لا معقِّب لحكمه، وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً فلا مردَّ له لا تعقب لحكمه.
ذكرت البارحة في بعض الدروس..
أنَّه لو التقيت رسولَ الله -صلّى الله عليه وسلَّم- وهو سيِّد الخلق وحبيب الحقّ، وعرضّت عليه مشكلتك، وكانت خصومةً بينك وبين أحد الناس، وانتزعت من فمه الشريف حكماً لصالحك، مَنْ هو الحكم؟ هو الله.. ولم تكن محقّاً لا تنجو من عذاب الله، من هو الحكم؟ هو الله.