مسائل مهمة في التحلل:
المسألة الأولى:
اختلف العلماء رحمهم الله:
هل الحلق نسك أم لا؟
وهم في هذا على قولين:
القول الأول:
الحلق والتقصير نسك لا بد من فعله في الحج، والعمرة، فهو واجب من واجبات الحج، وواجب من واجبات العمرة، يثاب على فعله، ويستحق العقاب من تركه [قاله ابن تيميه في شرح العمدة، 2/ 541]، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، 5/ 304: ((والحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة، في ظاهر مذهب أحمد، وقول الخرقي، وهو قول مالكٍ، وأبي حنيفة، والشافعي))، وبيَّن الإمام ابن قدامة أن هذا القول هو الأصح؛ فإن النبي أمر به، فروى ابن عمر أن النبي قال: ((من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحل))، [البخاري، برقم 1623، ومسلم برقم 1211]، وعن جابر أن النبي قال: ((أحلوا من إحرامكم بطوافٍ بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصِّروا)) [البخاري، برقم 1466، ومسلم، برقم 1005] وأمره يقتضي الوجوب؛ ولأن الله تعالى وصفهم به، بقوله سبحانه: مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [سورة الفتح: 27]، ولو لم يكن من المناسك لما وصفهم به، كاللبس، وقتل الصيد؛ ولأن النبي ترحَّم على المحلقين ثلاثاً، وعلى المقصرين مرة، ولو لم يكن من المناسك لما دخله التفضيل، كالمباحات؛ ولأن النبي وأصحابه فعلوه في جميع حججهم وعمرهم، ولم يخلَّوا به، ولو لم يكن نسكاً لما داوموا عليه، بل لم يفعلوه إلا نادراً؛ لأنه لم يكن من عاداتهم فيفعلوه عادة، ولا فيه فضل فيفعلوه لفضله ...)) [المغني لابن قدامه، 5/ 305 – 306 بتصرف].
وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان، 5/ 588: ((التحقيق أن الحلق نسك، وأنه أفضل من التقصير)).
القول الثاني:
الحلق والتقصير ليس بنسك،وإنما هو إطلاق من محظور كان محرَّماً عليه بالإحرام،فأطلق فيه عند الحل،كاللباس والطيب وسائر محظورات الإحرام، وهذا القول رواية عن أحمد،فعلى هذه الرواية لا شيء على تاركه،ويحصل الحلُّ بدونه،ووجه ذلك:أن النبي أمر بالحل من العمرة قبله،فروى أبو موسى قال: قدمتُ على رسول الله ، فقال لي: (بمَ أهللتَ؟) قال: قلت: لبيك بإهلالٍ كإهلال رسول الله ، قال: ((أحسنت))، فأمرني فطفت بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم قال لي: ((أحلّ)) [البخاري، برقم 1609، ومسلم، برقم 1221].
وعن جابر أن النبي لما سعى بين الصفا والمروة، قال: ((من كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة)) [مسلم، برقم 1218]، وعن سراقه: أن النبي قال: ((إذا قدمتم فمن تطوَّف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حلَّ إلا من كان معه هدي)) [أخرجه أحمد، برقم 15419، وأبو داود، برقم 1801، والدارِمِي، برقم 1857، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 1573]؛ ولأن ما كان محرماً في الإحرام إذا أبيح كان إطلاقاً من محظور، كسائر محرّماته [المغني، 5/ 306].
والصواب أن الحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة، وواجب من واجبات الحج، وواجب من واجبات العمرة، وعلى من تركه دمٌ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذا القول:
((واعلم أن هذا القول غلط على المذهب ليس عن أحمد ما يدل على هذا، بل كلامه كله دليل على أن الحلق من المناسك [شرح العمدة، 2/ 541].
وقال العلامة الشنقيطي: ((وأظهر القولين عندي: أن الحلق نسك)) [أضواء البيان، 5/ 288]
وقال العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع: 7/ 366: ((والصواب: أنه نسك، وعبادة وقربة لله، والدليل على هذا: أن النبي ((دعا للمحلقين والمقصرين))، ولا يدعو إلا بشيء مطلوب شرعاً.
ونقل ابن مفلح في الفروع، 6/ 57 اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه نُسُكٌ، ويحلُ قبله، وذكر جماعة على أنه نسك في حلّه قبله روايتين.
المسألة الثانية:
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في مسألة التحلل من الحج على أقوال:
القول الأول:
التحلل الأول يحصل بمجرد رمي جمرة العقبة، فيحل له كل شيء إلا النساء، وبه قال الإمام أحمد في رواية عنه، والإمام مالك، وعطاء، وأبو ثور؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله : ((إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حلَّ له كلُّ شيءٍ إلا النساء)) [أبو داود، برقم 1978، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/554]، وقول ابن عباس رضي الله عنهما، قال:((إذا رميتم الجمرة فقد حلَّ لكم كلُّ شيء إلا النساء))،فقال له رجل:يا ابن عباس والطيب؟ فقال:((أما أنا فقد رأيت رسول الله يُضمِّخُ رأسه بالمسك،أفطيب ذلك أم لا؟))،وهذا لفظ ابن ماجه،وأما لفظ النسائي،فقال:((فعن ابن عباس قال:((إذا رمى الجمرة فقد حلَّ له كلُّ شيء إلا النساء)) قيل:والطيبُ؟قال:((أما أنا فقد رأيتُ رسول الله يتضمَّخ بالمسك،أفطيب هو؟)) [ابن ماجه،كتاب المناسك، باب ما يحل للرجل إذا رمى جمرة العقبة، برقم 3041، والنسائي، كتاب مناسك الحج، باب ما يحل للمحرم بعد رمي الجمار، برقم 3084، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 53، وفي صحيح النسائي، 2/ 364]، وأخرجه أحمد، 5/ 276، برقم: 3204، وقال محققو المسند، 5/ 276: ((صحيح لغيره، رجاله ثقات رجال الشيخين غير الحسن بن عبد العزيز فمن رجال مسلم، وهو ثقة إلا أنه لم يسمع من ابن عباس))، ورواه أحمد أيضاً مرفوعاً4/ 5، برقم 2090، ولكن فيه الحسن العرني كذلك، وله شاهد عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((طيبت رسول الله بيدي بذريرة لحجة الوداع للحلِّ والإحرام: حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت))، [أحمد، 43/190، برقم 26078، وقال محققو المسند، 43/ 190: ((إسناده صحيح على شرط الشيخين))، وقال الإمام النسائي ... عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((طيبت رسول الله ، لحرمه حين أحرم، ولحلِّه بعدما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت)) [النسائي، برقم 2686، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 2/ 256] قال الألباني في إرواء الغليل، 4/ 238، عن إسناد الإمام أحمد، وإسناد النسائي هذا: ((وإسنادهما صحيح على شرط الشيخين)) [وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 239].
وقد رجّح هذا القول الإمام ابن قدامه في المغني، 5/ 310، فقال: ((وعن أحمد أنه إذا رمى جمرة العقبة، فقد حلَّ، وإذا وطئ بعد جمرة العقبة فعليه دم، ولم يذكر الحلق، وهذا يدل على أن الحِلَّ بدون الحلق [يعني التحلل الأول]، وهذا قول عطاء، ومالك، وأبي ثور، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لقوله: [] في حديث أم سلمة رضي الله عنها: ((إن هذا يوم رُخِّص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلُّوا – يعني من كل ما حُرمتم منه - إلا النساء ..)) [أبو داود، برقم 1969، في كتاب المناسك، باب الإفاضة في الحج، وقال الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 560: ((حسن صحيح)).
قال شيخنا ابن باز في مجموع الفتاوى، 17/ 316: (( ...التحلل الأول يحصل برمي جمرة العقبة عند جمع من أهل العلم، وهو قولٌ قويٌ، وإنما الأحوط هو تأخير التحلل الأول حتى يحلق المحرم، أو يقصرّ، أو يطوف الإفاضة، ويسعى إن كان عليه سعي بعد رمي جمرة العقبة، ومتى فعل الثلاثة المذكورة حلّ التحلّل كله، والله ولي التوفيق)).
القول الثاني:
التحلل الأول لا يحصل إلا برمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير، فإذا فعل ذلك حلَّ له كله شيء إلا النساء، وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي، والإمام أحمد في الرواية الأخرى، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، 5/ 307: ((...المحرم إذا رمى جمرة العقبة ثم حلق حلَّ له كلُّ ما كان محظوراً بالإحرام إلا النساء، هذا الصحيح من مذهب أحمد رحمه الله، نصَّ عليه، في رواية جماعة، فيبقى ما كان محرماً عليه من النساء: من الوطء، والقبلة، واللمس، لشهوة، وعقد النكاح، ويحلُّ له ما سواه، هذا قول ابن الزبير، وعائشة، وعلقمة، وسالم، وطاوس، والنخعي، وعبيد بن الحسن، وخارجة بن زيد، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما)).
وعن أحمد أنه يحلُّ له كل شيء إلا الوطء في الفرج، لأنه أغلظ المحرمات، ويُفسدُ النسك بخلاف غيره))، وقال المرداوي في الإنصاف لمعرفة الراجح من الخلاف، 9/ 213: ((وظاهر كلام أبي الخطاب، وابن شهاب، وابن الجوزي... حلُّ العقدِ، وقاله الشيخ تقي الدين، وذكره عن أحمد، وعنه إلا الوطء في الفرج))، وفي الاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص 175: ((يحلُّ للمحرم بعد التحلل الأول كلُّ شيء حتى عقد النكاح، وهذا منصوص أحمد إلا النساء)).
وقال ابن قدامة في المغني، 5/ 309: ((وظاهر كلام الخرقي ها هنا: أن الحلَّ إنما يحصلُ بالرمي والحلق معاً، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول الشافعي، وأصحاب الرأي))، واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء)) [أحمد، 42/40، برقم 2503، قال محققو المسند، 42/40: ((صحيح دون قوله: ((وحلقتم))، وهذا إسناد ضعيف لضعف حجاج بن أرطأة))، وقال الألباني في إرواء الغليل، 4/ 235، برقم 1046: ((وضعيف بزيادة ((وحلقتم))، قال ابن قدامه في المغني، 5/ 310: ((وترتيب الحل عليهما دليل على حصوله بهما؛ ولأنهما نسكان يتعقبهما الحلُّ فكان حاصلاً بهما، كالطواف والسعي في العمرة))، وأما التحلل الثاني فيحصل بالطواف بالبيت والسعي لمن كان عليه سعي.
قال العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع، 7/ 365: ((الذي يظهر لي أنه لا يحل إلا بعد الرمي والحلق، والدليل قول عائشة رضي الله عنها: ((كنت أطيب رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)) [البخاري، برقم 259، ومسلم برقم 1189]، ولو كان يحل بالرمي لقالت: ولحله قبل أن يحلق، فهي رضي الله عنها جعلت الحلَّ ما بين الطواف والذي قبله، والذي قبله هو الرمي، والنحر، والحلق، ولا سيما وأن النبي قال: ((إن معي الهدي فلا أحل حتى أنحر)) [البخاري، برقم 1566، ومسلم، برقم 1229]، فالصواب أنه لا يحل التحلل الأول إلا بعد الرمي والحلق)).
وتقدم أن شيخنا ابن باز بيّن أن الأحوط أن لا يحل التحلل الأول إلا بعد الرمي والحلق، أو فعل اثنين من ثلاثة. [انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 16/ 224، 17/ 131، 327، 354، 355، 358، و 25/ 231، 240].
القول الثالث:
التحلل الأول يحصل بفعل اثنين من ثلاثة:
هي رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة، فإذا فعل اثنين من هذه الثلاثة: تحلّل التحلّل الأول، وحلّ له كلُّ شيء إلا النساء، وإن فعل الثالث تحلل التحلل الثاني، وبهذا يحلُّ له كل شيء حتى النساء، وبهذا قال الإمام الشافعي كما نقله العلامة الشنقيطي في أضواء البيان، 5/ 289، وهو رواية عن الإمام أحمد، كما قاله ابن مفلح في الفروع، 6/ 57، قال: ((وهل يحصل التحلل الأول باثنين من رمي، وحلق، وطواف، واختاره الأكثر، أو بواحد من رمي، وطواف، والثاني بالباقي، فيه روايتان، فعلى الثانية الحلق إطلاق من محظور، وفي ((التعليق)) نسك كالمبيت بمزدلفة، ورمي يوم الثاني والثالث، واختار الشيخ أنه نسك)).
وقال المرداوي في تصحيح الفروع، 6/ 57: (( ... يحصل التحلل الأول باثنين: من رمي، وحلق، وطواف، وهو الصحيح ... والرواية الثانية: يحصل التحلل [أي الأول] بواحد من رمي وطواف))، وهذا على القول بأن الحلق ليس بنسك، والصواب أنه نسك كما تقدم.
وقال الإمام ابن قدامة في الكافي، 2/445: ((يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة: الرمي، والحلق، والطواف، ويحصل التحلل الثاني بالثالث، إن قلنا إن الحلق نسك، وإن قلنا ليس بنسك حصل التحلل الأول بواحد من اثنين، وهما الرمي والطواف، وحصل التحلل الثاني بالثاني))، وتقدم أن الصواب أن الحلق نسك.
وقال شيخنا ابن باز في مجموع الفتاوى، 17/ 354: ((يقصد بالتحلل الأول: إذا فعل اثنين من ثلاثة: إذا رمى، وحلق أو قصر، أو رمى، وطاف وسعى إن كان عليه سعي، أو طاف وسعى، وحلق أو قصر، فهذا هو التحلل الأول، وإذا فعل الثلاثة: الرمي، والطواف، والسعي إن كان عليه سعي، والحلق أو التقصير، فهذا هو التحلل الثاني، فإذا فعل اثنين فقط: لبس المخيط، وتطيب وحلَّ له كل ما حرم عليه بالإحرام ما عدا الجماع، فإذا جاء بالثالث حل له الجماع)). وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا رمى الجمرة يوم العيد يحصل له التحلل الأول، وهو قول جيد، ولو فعله إنسان فلا حرج عليه إن شاء الله، ولكن الأولى والأحوط أن لا يعجل حتى يفعل معه ثانياً بعده: الحلق أو التقصير، أو يضيف إليه الطواف والسعي إن كان عليه سعي..)).
المسألة الثالثة:
القدر الذي يكفي في الحلق أو التقصير في الحج والعمرة:
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
يجب حلق جميع الرأس أو تقصير جميعه للرجال، أما النساء فيقصرن من جميع الرأس قدر الأنملة، وبهذا قال الإمام أحمد، وأصحابه، والإمام مالك وأصحابه، ولا يلزم في التقصير تتبع كل شعرة، بل يكفيه أن يأخذ من جميع الرأس، وبعضهم يقول: يكفيه قدر الأنملة في التقصير من جميع الرأس، والمالكية يقولون: يقصره إلى القرب من أصول الشعر. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان، 5/ 589: ((...أجمع جميع علماء الأمة على أن التقصير مجزئ، ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يكفي في الحلق والتقصير ...)) إلى أن قال: ((وقال مالك، وأحمد، وأصحابهما يجب حلق جميع الرأس أو تقصير جميعه، ولا يلزمه في التقصير تتبع كل شعره...)).
وقال العلامة ابن مفلح في الفروع، 6/ 54: ((وإن قصر فمن جميه نصَّ عليه، قال شيخنا [يعني ابن تيمية] لا من كل شعرة بعينها)).
القول الثاني:
يكفي حلق ربع الرأس أو تقصير ربعه بقدر الأنملة، وبه قال أبو حنيفة [أضواء البيان، 5/ 589].
القول الثالث:
يكفي في الحلق والتقصير ثلاث شعرات فصاعداً؛ لأن ذلك يصدق عليه أنه حلق، أو قصر؛ لأن الثلاث جمع، وبه قال الإمام الشافعي وأصحابه. [أضواء البيان،
5/ 589]. وذكر ابن مفلح في كتابه الفروع عن الإمام أحمد رواية 6/ 54، بقوله بعد أن ذكر وجوب حلق الجميع أو تقصيره قال: ((وعنه أو بعضه، فيجزئ ما نزل عن رأسه)).
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان، 5/ 589: ((وأظهر الأقوال عندي أنه يلزم حلق جميع الرأس، أو تقصير جميعه، ولا يلزم تتبع كل شعره في التقصير؛ لأن فيه مشقة كبيرة، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة، وأنه لا يكفي الربع ولا ثلاث شعرات خلافاً للحنفية، والشافعية؛ لأن الله تعالى يقول: ((مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ))، ولم يقل بعض رؤوسكم ((وَمُقَصِّرِينَ)) أي رؤوسكم؛ لدلالة ما ذكر قبله عليه، وظاهره حلق الجميع أو تقصيره، ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه؛ .. ولأن النبي لما حلق في حجة الوداع حلق جميع رأسه ..)) [مسلم، برقم 1305، من حديث أنس ، وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((حلق رسول الله في حجته)) [البخاري، برقم 1726]، ولا شك أن حلق بعض الرأس دون بعض قد نهى عنه رسول الله ، فإنه قد نهى عن القزع [البخاري، برقم 5920، 5921، ومسلم، برقم 2120]، [انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 7/ 353، وفتح الباري لابن حجر، 11/ 558، و حاشية الروض المربع، 1/ 162]، وقد قال النبي : ((احلقوه كله أو اتركوه كله)) [النسائي، برقم 5063، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 3/ 359].
المسألة الرابعة:
الحلق أفضل من التقصير بالنسبة للرجال، أما النساء فليس عليهن حلق، وإنما عليهن التقصير، فيجب على المرأة في الحج أو العمرة أن تقصِّر من جميع رأسها قدر الأنملة؛ لأنه يصدق عليه أنه تقصير، من غير منافاة لظاهر النصوص؛ ولأن شعر المرأة من جمالها؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال:قال رسول الله :((ليس على النساء حلق،إنما على النساء التقصير))[أبو داود،برقم 1984،1985،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 555].
المسألة الخامسة:
حكم حلق المرأة رأسها:
لا يجوز لخمسة أمور على النحو التالي:
1- الإجماع على عدم حلقهن في الحج، قال ابن المنذر في الإجماع، ص 75: ((وأجمعوا أن ليس على النساء حلق)).
2- أحاديث جاءت بنهي النساء عن الحلق، عن علي، وعثمان، وعائشة، وهي يعضد بعضها بعضاً [أضواء البيان، 5/ 595- 597].
3- أنه ليس من عمل نساء الصحابة ومن بعدهم، وفي الحديث: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [البخاري، برقم 2697، ومسلم، واللفظ لمسلم، برقم 1718].
4- حلق النساء تشبه بالرجال وهو حرام ((لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال)) [البخاري، برقم 5885].
5- حلق النساء مثلة، والمثلة لا تجوز؛ لأن شعر رأس المرأة من أحسن أنواع جمالها، وحلقه تقبيح لها، وتشويه لخلقها [أضواء البيان 5/ 597، قال الشنقيطي في الأضواء، 5/ 598: ((وبهذا تعلم أن العرف الذي صار جارياً في كثير من البلاد بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة إفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين، ونساء العرب قبل الإسلام، ومن جملة الانحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق، والسمت ...)).
وأما ما جاء عن أزواج النبي من ذلك، فأما ميمونة على تقدير صحة حلقها فالحلق لضرورة المرض، لتمكين آلة الحجم من الرأس، وأما حديث مسلم ((وكان أزواج النبي يأخذن من رؤوسهن حتى يكون كالوفرة))، والوفرة ما جاوز شحمة الأذنين على قول ابن سيده، فتقصير أزواج النبي رؤوسهن بعد وفاته ؛ لأنهن كن يتجملن له في حياته، ومن أجمل زينتهن شعرهن، أما بعد وفاته فلهن حكم خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة من نساء جميع أهل الأرض، وهو انقطاع أملهن انقطاعاً كلياً من التزويج، ويأسهن منه اليأس الذي لا يمكن أن يخالطه طمع. انظر التفصيل في [ أضواء البيان، 5/ 599 – 601].