53- اسم الله: "الأول والآخر"
==================
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، مع الاسم الثالث والخمسين من أسماء الله الحُسنى، والاسم هو: الأول والآخر، الأول والآخر اسمان من أسماء الله الحُسنى، كما ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أجاز بعض العلماء ذكرهما معاً الأول والآخر.
وللعلماء في هذا الموضوع، رأي لطيف، هو أن من أسماء الله الحُسنى، ما لا يجوز إلا أن يُذكر الاسم وما يقابله معاً ينبغي أن تقول المعطي المانع، والرافع الخافض، والمُعز المذل، والنافع الضار، والقابض الباسط، لأن القبض للبسط، والضر للنفع، والإذلال للإعزاز، والأخذ للعطاء.
يؤكد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته:
((يا أيها الناس إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ودار ترح لا دار فرح فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لبلاء، ألا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها واحذروا لذيذ عاجلها لكربة آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد منكم اجتنابها فتكونوا لسخطه متعرضين ولعقوبته مستحقين)) (رواه الديلمي عن ابن عمر).
يضر لينفع، يمنع ليعطي، يخفض ليرفع، يذل ليعز.
بعض العلماء أجاز أن يُذكر اسم الأول والآخر معاً، كالنافع والضار وجمع بينهما القشيري مضيفاً إليهما الظاهر والباطن، لنا أن نقول الأول والآخر والظاهر والباطن معاً، أربعة أسماء.
وكما هي العادة دائماً نبدأ بالمعنى اللغوي الدقيق من كلمة الأول:
فالمعنى الأول للأول:
هو الذي يترتب عليه غيره، شيء يُبنى على شيء ونتيجة تؤسس على مقدمة، الشيء الذي يترتب عليه غيره، هذا المعنى الجامع، التفاصيل: الأول المتقدم زمانه، طبعاً، شعبان ثم رمضان رمضان ثم شوال، محرم ثم ذو القعدة، الأول هو الذي يأتي أولاً زماناً يعني التقدم زماناً.
المعنى الثاني:
التقدم رتبةً، فلان الأول على طلاب الصف، فلان الأول في التجارة، فلان الأول في الصناعة، الأول في العلم، هذا التقدم تقدم رتبي ومنه قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) (سورة الرحمن).
لا يُعقل أن يُعلم الإنسان القرآن قبل أن يُخلق، هذا التقديم تقديم رتبي وليس تقديماً زمنياً.
المعنى الثالث:
المتقدم مكاناً، أنت في الطريق إلى حلب، حمص قبل حماة، وحماة قبل حلب، فحمص أولاً وحماة ثانياً وحلب ثالثاً، إذاً هناك تقدم زمني وتقدم مكاني وتقدم رتبي.
المعنى الرابع:
التقدم في الترتيب، وهذا يُستخدم في الصناعة ترتيب المحرك أولاً، ربطه بالعجلات ثانياً، ربطه بالكهرباء ثالثاً، إذاً هناك أولوية في الزمان، أولوية في المكان، أولوية في الترتيب، أولوية في التربية، هذه المعاني الأربع مستفادة من معنى الأول.
أما إذا قلنا؛ الله هو الأول فلهذا معنى آخر، معناه أن الله سبحانه وتعالى لم يسبقه في الوجود شيء، لكن لا ينبغي أن تقول: زماناً، لأن الزمن من خلق الله، لم يسبقه في الوجود شيء هذا هو الذي ينبغي أن نقوله في شرح معنى اسم الله الأول.
هناك معنى آخر متعلّق بالله عز وجل؛ الأول هو الذي لا يحتاج إلى غيره كل شيء يحتاج إلى غيره ليس أولاً، هذه المنضدة تحتاج إلى خشب، إذاً ليست هي الأول، الخشب يحتاج إلى أن ينبت، إذا ليس هو الأول، النبات يحتاج إلى بذر، ليس هو الأول، البذر يحتاج إلى نبات يخرج منه، النبات ليس هو الأول، فكل شيء يحتاج إلى غيره ليس أولاً.
فالمعنى الثاني إذًا:
هو الشيء الذي لا يحتاج إلى غيره، هذا معنى الأول بالنسبة لله عز وجل.
المعنى الثالث:
الشيء المستغني بنفسه في وجوده، لو أن شيئاً يفتقر في استمرار وجوده إلى شيء آخر ليس أولاً، المادة الأولية سبب استمراره، مادام هناك شيء يعين على استمرار الوجود فهذا الشيء ليس أولاً المادة الأولية هي الأول، فثلاث معانٍ مستفادة من اسم الله العظيم الأول هو أنه لم يسبق وجوده شيء، والثاني لا يحتاج إلى غيره، والثالث المستغني بنفسه، فهذه الثلاثة تشكّل معنى الأول.
أعرابي التقى النبي عليه الصلاة والسلام، قال أين كان الله قبل الخلق؟ فأجاب النبي عليه الصلاة والسلام: ((كان الله ولم يكن معه شيء)).
كان هنا فعل ماض تام، كان الجو صاحياً، ناقص، كان الحديد فلزاً، ناقص، كان الجليد ماءً، ناقص، أما كان الله تام، إذاً هذه كان التامة الكاملة التي تحتاج إلى فاعل، وتكون بمعنى وجد، أما كان الناقصة لا تعني حدوث عمل.
بالمناسبة، هذه الورقة، إذا مزقتها، هذا التمزيق حدوث عمل الفعل التام يدل على حدوث عمل، أما الفعل الناقص لا يدل على حدوث عمل يدل على زمن فقط، إذا قلت الجو صاح، هذا تركيب اسمي، إذا قلت كان الجو صاحياً، ماذا أضفت؟ المضي فقط، كان الناقصة لا تفيد حدوث العمل، تفيد مضي الزمن فقط، الجو ممطر، كان الجو ممطراً البارحة، فكأن "كان" شدت هذا التركيب الاسمي إلى الماضي شداً، أما إذا دلت على حدوث عمل أصبحت كان التامة إعرابها فعل ماض تام، تحتاج إلى فاعل مرفوع، كان الله، وجد الله الله لفظ الجلالة نائب فاعل، طبعاً في أدلة كثيرة في كتاب الله.
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) (سورة الأنفال).
اتق الله حيثما كنت، "حيثما وجدت" وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
فأجاب النبي عليه الصلاة والسلام: ((كان الله ولا شيء معه)).
فسأله الأعرابي والآن؟ فرد النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: ((هو الآن على ما كان عليه)).
والحقيقة، هذا الاسم العظيم ورد في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) (سورة الحديد).
من معاني هذا الاسم مهما أوغلت في النهاية تصل إلى الله، الله وراء كل شيء، سبب كل مسبب، هو الأول والآخر، أحياناً يقع حدث ما سببه؟ سبب آخر مادي، فما سبب هذا السبب؟
سبب آخر مادي، من مسبب الأسباب ؟ الله وهو الأول، إذا تحركت نحو الوراء بسلسلة يجب قطعاً أن تنتهي إلى الله، هو الأول.
إنسان حرك يديه، كيف حركها؟ لأنه حي، من أعطاه الحياة؟ الله جل جلاله، إذاً هو الأول.
حصل زلزال، من أحدث هذا الزلزال؟ هذا الزلزال نتيجة اضطراب القشرة الأرضية، من جعلها تضطرب؟ الله هو الأول.
لذلك قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) (سورة الفتح).
بالمناسبة هذا المعنى له تطبيق رائع، الإنسان أحياناً، يُصاب بمصيبة؛ فمن ضعف توحيده، أو لضيق أفقه، يصب جام غضبه على من جاءته هذه المصيبة على يديه، لو تعقّل، لو كان توحيده أقوى لرأى يد الله هي التي عملت في الخفاء، لرأى يد الله فوق أيديهم.
لذلك ربنا عز وجل قال:
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) (سورة لقمان).
أن تصبر على ما أصابك، فإن ذلك من عزم الأمور، هناك آية أخرى: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) (سورة الشورى).
هذه اللام هي لام المزحلقة، وهي لام التوكيد، فهنا في الآية توكيد، معنى ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ﴾.
يعني قضاء وقدر جاء على يد إنسان، الإنسان أحياناً ينقم على هذا الإنسان الذي أجرى الله على يديه هذه المصيبة.
يعني لو فرضنا لا سمح الله ولا قدر، طفل وقع عن الشرفة، نزل ميتاً، الأب يتألم أشد الألم، وقد يتفطر قلبه، لكن يحقد على من؟ يقول هذا قضاء وقدر، أما لو أن سائقاً دهس طفلاً، الأب في ساعة غفلة، في ساعة غضب شديد ولنقص في توحيده يصب كل نقمته على هذا السائق، إذا عرف أن الله هو الأول في كل حادث، هو المسبب، هو مسبب الأسباب، طبعاً يأخذ حقه لكن لا يحقد، لأن الحقد من لوازم الشرك.
هناك رجل يملك محلاً تجارياً، اختلف مع أحد موظفي المحل، هذا الموظف يعرف الدخائل والمخارج، فأبلغ بعض الجهات عن بضاعة غير نظامية، فضبطت المستودعات، وكلف بمبلغ كبير جداً، غرامة لهذه المخالفة الجمركية، فصاحب هذا المحل، بساعة من ساعات الغضب، أخرج مسدساً وأطلق النار على هذا الموظف فأرداه قتيلاً فأودع في السجن ثلاثين عاماً، لو كان موحداً لما رأى هذه المصيبة في هذا الشخص، قد رأى يد الله فوق يديه، وأن الله هو الأول، هو مُسبب الأسباب، ولعلَّ الله عز وجل يعوضه عن خسارته، ولعل الخسارة وقعَت لذنب اقترفه.
الخلاصة أنّك إذا آمنت أن الله بيده كل شيء، هو الأول، لا تحقد على أحد، كما لو أن إنساناً تلقى ضربةً بعصا، فهل يحقد على العصا؟ أم على الذي ضربه؟ العصا لا تقدم ولا تؤخر، وينبغي أن تعلم أن الناس جميعاً، حتى الأقوياء، وحتى الأشرار إنما هم عصي بيد الله عز وجل.
ألم يقل الله عز وجل:
﴿مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) (سورة هود).
وهذه الآية لها معنى دقيق جداً، يعني إذا كانت مجموعة وحوش وحوش كاسرة مربوطة بأزِمّةٍ بيد إنسان عظيم رحيم عادل منصف حكيم فأنت ينبغي أن تخاف من هذه الوحوش أم من الذي يملك ناصيتها؟
المشكلة كلها في هذا المثل، فالكافر المشرك ضعيف الإيمان يخاف من الوحوش، والمؤمن يخاف من الذي يملك أزِمَّتها، فإذا اصطلح معه أبعدها عنه، أما إذا عصاه، أرخى لها أزمتها فوصلت إليه، هو الأول والآخر والظاهر والباطن.
هذه الآية في سورة الحديد:
﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (سورة الحديد رقم 3).
وقد يمكن أن نرد هذه الآية إلى المعنى الأول:
﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) (سورة الواقعة).
يعني لم يسبقنا في الوجود أحد، وما نحن بمسبوقين، كان الله ولم يكن معه شيء، وسيدنا الإمام علي كرم الله وجهه، مرةً سئل: "متى كان الله؟ فأجاب إجابةً رائعة: ومتى لم يكن".
والعلماء يقولون: "لا ينبغي أن تسأل أين الله، لأن الله خالق المكان ولا متى كان الله لأنه هو خالق الزمان، هو خالق المكان والزمان والمكان والزمان من خلقه".
الأول بكل ما سواه، المتقدم على كل ما عداه، كل ما سوى الله يأتي بعد الله، من دون الله، هو الأول، والمتقدم على كل ما عداه هذه الأولوية ليست بالمكان ولا بالزمان، ولا بأي شيء في حدود العقل أو العلم.
يقول بعض العلماء:
"الله سبحانه ظاهر باطن في كونه أولاً، هو الأول أظهر من كل ظاهر، لأن العقول تشهد أن المحدثات لها موجد متقدم عليها وهو سابق الوجود".
فكونه تعالى أولاً واضح جداً من هذه الجهة، أنّ كل شيء حدث، كل شيء محدَث له محدِث كل شيء موجود له موجد، فمن بديهيات العقل، أن الموجد قبل الموجود، وأن المحدث قبل الحادث وأن الخالق قبل الخلق، وأن المدبر قبل المدَبر وأن الرازق قبل الرزق.
وهو الأول أبطن من كل باطن، لأنك إذا توغلت في الشيء وتوغلت فيه وتوغلت فيه إلخ...، تصل إلى الله، هو الأول أظهر من كل شي وهو الأول أبطن من أي شيء.
قال: ك
ل ما أحاط به عقلك وعلمك فهو محدود بعقلك وعلمك فيكون متناهياً فمثلاً ؛ نجمة تبعد عنا أربع سنوات ضوئية، مسافة بعيدة جداً نحتاج لقطعها في مركبة أرضية إلى خمسين مليون عام، هناك نجم أبعد فنجد نجم القطب يبعد عنا أربعة آلاف سنة ضوئية، هناك نجم أبعد بعده أربع وعشرون ألف مليون سنة ضوئية، يا ترى هذه المجرة هي حدود الكون؟ لا.. والشيء اللطيف أن هذه المجرة التي اكتشفت حديثاً، والتي تبعد عنا أربعاً وعشرين ألف مليون سنة ضوئية، كانت في هذا المكان الذي وصل إلينا منه ضوؤها قبل أربع وعشرين ألف مليون سنة ضوئية، أين هي الآن؟ لا يعلم إلا الله.