قراءة القرآن جماعة وإهداء الأعمال للأموات والمولد النبوي
=====================================
الموضوع:
نلتقي كل يوم أحَدٍ من كل آخر شهر مع مجموعة من الأخوات تصل إلى 30 أخت أو أكثر، وتبدأ كل واحدة على حِدَة تقرأ حزبين أو ثلاثة إلى أن نختم القرآن الكريم في ساعة ونصف أو ساعتين ويُقال لنا: إنها تُحسب -إن شاء الله- ختمة لكل واحدة, هل هذا صحيح؟
بعد ذلك نقوم بالدعاء وندعو الله بإيصال ثواب ما قرأناه إلى سائر المؤمنين الأحياء منهم والأموات فهل الثواب يصل إلى الأموات?
ويستدلون بقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
(إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاث: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ).
كذلك يقومون في عيد المولد النبوي بإقامة رباط يبدأ من العاشرة صباحاً إلى الثالثة زوالاً يبدؤون بالاستغفار والحمد والتسبيح والتكبير والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سرّاً ثم يقرؤون القرآن، وبعض الأخوات يصُمن هذا اليوم.
فهل تخصيص هذا اليوم بكل هذه العبادات يعتبر بدعة؟
كذلك عندنا دعاء طويل جدّاً طُلِبَ منَّا أن ندعو به وقت السَّحر, لِمَنْ استطاع، اسمه: "دُعَاءِ الرَّابطة", ويبدأ بالصلاة والسلام على سيدنا محمد وحزبه وسائر الأنبياء وأمهات المؤمنين والصحابيات والخلفاء الراشدين والتابعين وأولياء الله الصالحين، مع ذكر كل أحد باسمه.
وهل صحيح أن ذكر كل هذه الأسماء سوف تجعل أصحابها يتعرفون علينا وينادوننا في الجنة؟
وهل هذا الدعاء بدعة؟
أنا أشعر أنه كذلك، وأكثر الأخوات يعارضونني، فهل أعَاقَب من الله إن كنت مُخطئة؟
وكيف أقنعهم إن كنت على صواب؟
هذا الموضوع أصابني بأرق شديد وكلما تذكرت حديث رسول الله: أن كل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" ازداد همّي وحُزني.
الإجابة:
الحمد لله
أولاً:
ورد في السنة النبوية الصحيحة فضائل كثيرة للاجتماع على قراءة كتاب الله تعالى، وحتى يُحَصِّلَ المسلم تلك الأجور فإنه ينبغي له أن يكون اجتماعه على القرآن شرعيّاً.
ومن الاجتماع الشرعي في قراءة القرآن أن يقرأه المجتمعون للمُدارسة والتفسير وتعليم التلاوة.
ومن الاجتماع الشرعي أيضاً:
أن يقرأ واحد منهم ويستمع الباقون من أجل التفكُّر والتدبُّر في الآيات، وكلا الأمرين ورد في السنة النبوية.
وأما أن يُعَدَّ ما تقرؤه المجموعة ختمة لكل واحد منهم:
فهذا غير صحيح؛ لأنه لم يختم كل واحد من المجتمعين القرآن كاملاً، بل ولا استمع، بل كلٌّ منهم قرأ شيئاً، فليس له ثواب إلا على ما قرأه من القرآن.
قال علماء اللجنة الدائمة:
"توزيع أجزاء من القرآن على مَنْ حضروا الاجتماع ليقرأ كل منهم لنفسه حزباً من القرآن لا يعتبر ذلك ختماً للقرآن من كل واحد منهم بالضرورة" انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (2 / 480).
ثانياً:
ولا يُشْرَعُ الدُّعاء بعد قراءة القرآن جماعيّاً، ولا يجوز الدُّعاء بإيصال أجر القراءة لأحدٍ من الأموات، ولا الأحياء، ولم يكن نبيُنا صلى الله عليه وسلم يفعله، ولا أحدٌ من أصحابه رضي الله عنهم.
سُئِلَ الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-:
هل يجوز أن أختم القرآن الكريم لوالديَّ، علماً بأنهما أميَّان لا يقرآن ولا يكتبان؟
وهل يجوز أن أختم القرآن لشخص يعرف القراءة والكتابة ولكن أريد إهداءه هذه الختمة؟
وهل يجوز لي أن أختم القرآن لأكثر من شخص؟
فأجاب -رحمه الله-:
لم يرد في الكتاب العزيز، ولا في السنة المُطهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته الكرام رضي الله عنهم ما يدل على شرعية إهداء تلاوة القرآن الكريم للوالدين ولا لغيرهما، وإنما شرع الله قراءة القرآن للانتفاع به، والاستفادة منه، وتدبر معانيه والعمل بذلك.
قال تعالى:
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) ص/29.
وقال تعالى:
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) الإسراء/90.
وقال سبحانه:
(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) فصلت/44.
وقال نبينا عليه الصلاة والسلام:
(اقرءوا القرآن، فإنه يأتي شفيعاً لأصحابه).
ويقول صلى الله عليه وسلم:
(إنه يُؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما).
ومعنى غيايتان:
أي سحابتين.
والمقصود أنه أنزل للعمل به وتدبره والتعبد بتلاوته والإكثار من قراءته لا لإهدائه للأموات أو غيرهم، ولا أعلم في إهدائه للوالدين أو غيرهما أصلاً يُعتمد عليه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم:
(مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رد).
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك وقالوا:
لا مانع من إهداء ثواب القرآن وغيره من الأعمال الصالحات، وقاسوا ذلك على الصدقة والدعاء للأموات وغيرهم.
ولكن الصواب:
هو القول الأول؛ للحديث المذكور، وما جاء في معناه، ولو كان إهداء التلاوة مشروعاً لفعله السَّلف الصَّالح، والعبادة لا يجوز فيها القياس؛ لأنها توقيفية لا تثبت إلا بنص من كلام الله عز وجل، أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، للحديث السابق وما جاء في معناه.
"مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (8 / 360، 361).
وأما استدلالهم بحديث:
(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث...) فهو استدلال غير صحيح، بل الحديث عند التأمُّل يدل على عدم مشروعية إهداء ثواب قراءة القرآن للأموات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدعو له) ولم يقل: (يقرأ القرآن).
ثالثاً:
لا ينبغي اختصار الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بحرف الصاد، ولا بكلمة "صلعم"!
ومَنْ كتب مثل هذا السؤال الطويل لا يُعجزه كتابة الصلاة والسلام عليه كاملة.
رابعاً:
الاحتفال بالمولد النبوي بدعة، وتخصيص عبادات معينة فيه كالتسبيح والتحميد والاعتكاف وقراءة القرآن والصيام بدعة لا يؤجر أصحابها على شيء منها؛ لأنها مردودة.
فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد) رواه البخاري (2550)، ومسلم (1718).
وفي رواية لمسلم (1718):
(مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رد).
قال الفاكهاني رحمه الله:
لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سُنَّة، ولم يُنقل عمله عن أحد من علماء الأمَّة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة، أحدثها البطَّالون، وشهوةُ نفسٍ اغتنى بها الأكّالون.
"المورد في عمل المولد" بواسطة كتاب "رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي" (1 / 8، 9).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-:
ولو كان الاحتفال بيوم المولد النبوي مشروعاً لبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته؛ لأنه أنصح الناس، وليس بعده نبي يُبَيّنْ ما سكت عنه من حقه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وقد أبان للناس ما يجب له من الحق كمحبته واتباع شريعته، والصلاة والسلام عليه وغير ذلك من حقوقه الموضحة في الكتاب والسنة.
ولم يذكر لأمته أن الاحتفال بيوم مولده أمر مشروع حتى يعملوا بذلك ولم يفعله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته، ثم الصحابة رضي الله عنهم أحب الناس له وأعلمهم بحقوقه لم يحتفلوا بهذا اليوم، لا الخلفاء الراشدون ولا غيرهم، ثم التابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة لم يحتفلوا بهذا اليوم.
أفتظن أن هؤلاء كلهم جهلوا حقه أو قصَّروا فيه حتى جاء المتأخرون فأبانوا هذا النقص وكملوا هذا الحق؟! لا والله! ولن يقول هذا عاقل يعرف حال الصحابة وأتباعهم بإحسان.
وإذا علمت أيها القارئ الكريم أن الاحتفال بيوم المولد النبوي لم يكن موجوداً في عهده صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه الكرام ولا في عهد أتباعهم في الصدر الأول، ولا كان معروفا عندهم - علمت أنه بدعة محدثة في الدين، لا يجوز فعلها ولا إقرارها ولا الدعوة إليها، بل يجب إنكارها والتحذير منها.
"مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (6 / 318، 319).
خامساً:
لا يجوز لأحدٍ اختراع دعاء أو ذِكْر ونشره بين الناس، والدعاء المسمى: "دُعاء الرابطة" دُعاء بِدَعي، واستحضار صور المدعو لهم، واعتقاد أنهم سيعرفون الدَّاعي به وينادونه في الجنة: كل ذلك أوهام وخيالات وخرافات صوفية لا أصل لها في دين الله تعالى.
وضوابط الشرع التي يستطيع المسلم تمييز السنَّة من البدعة، والصواب من الخطأ: واضحة وبيِّنة، وهي أن الأصل في العبادات المنع إلا بدليل فلا يتقرب إلى الله تعالى بعبادةٍ إلا إذا دلّ الدليل من الكتاب أو السنة الصحيحة على أنها مشروعة، وأن الأصل في المسلم الاتباع لا الابتداع، وأن البدعة مردودة على صاحبها، وأن الله تعالى أكمل لنا الشريعة وأتم علينا النعمة.
فأي حاجة لمثل هذه البدع أن تكون في حياتنا مع بالغ تقصيرنا في الثابت الصحيح من الشرع؟!
ونرجو أن يكون ما ذُكِر كافياً لأولئك الأخوات للكف عن بدعهن تلك، ونوصيهن بتقوى الله تعالى، وحُسن الاتباع، وليعلمن أن الله تعالى لا يقبل العبادة المبتدعة ولو بلغ صاحبها ما بلغ من بذل الجهد والمال فيها، و"اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة" كما قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ونسأل الله تعالى أن يهدي أولئك الأخوات لما فيه رضاه، ونوصيك بحسن التبليغ، وعدم المشاركة معهن، والصبر على ما قد يصيبك جراء هذا.
والله أعلم.