التحـذيـــر مـــن فـتـنــــة الـدنـيـــــا
الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي
غـفـــر الله له ولوالديه وللمسلمين
===================
مقدمة
مَن ينظر إلى العالم الإسلامي اليوم، يرى أهوالًا ونكباتٍ تتصدَّع لها القلوب، وترجُف لها الأفئدة والكيان؛ بما حلَّ بالمسلمين من انحطاط في جميع المجالات، ويدرك أن هناك خللًا كبيرًا أحلَّ بنا عقابَ الله تعالى.
أترانا استبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ أم أننا أردنا الدنيَّة، وقد أراد الله بنا العليَّة؟ واشترينا الضلالة بالهدى، وآثرنا الحرب على السلام؟ فأيَّةُ صفقة خاسرة هذه التي جلبت هذا الاستبدال العجيب... وأنزلت بنا عقابَ الله حتى صِرنا وبالًا على أمَّتِنا؟ واستدبر أكثر الناس نعمةَ الله الكبرى، الممثَّلة في رسوله الكريم، وفي دعوة التوحيد، وإنقاذ البشرية، وقيادتها إلى الجنة والمغفرة، بعد أن نُنقِذَ نحن أنفسَنا، ونفيءَ إلى رضوان الله، ونتبعَ ما ارتضاه، فهل تركنا هذا كلَّه، وأصبحنا نعيش في ظلمات الشبهات والشهوات، والخرافات والأساطير، والتصورات المنحرفة، والحيرة والقلق، والانقطاع عن الهدى والوحشة، واضطراب القيم والموازين؟
أتظنُّ أن السبب الرئيسَ هو طغيانُ الدنيا على القلوب والاشتغال بها؛ حتى أصبحت همَّنا الأكبر؟ فأرسل الله علينا ذلًّا وضعفًا واستهانة؛ فلا يزيله ويكشفه عنا حتى نرجعَ إلى الاشتغال بأمور دينِنا، كما في الحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا تبايعتم بالعِينةِ، وأخذتم أذنابَ البقر، ورَضيتم بالزرع، وتركتم الجهادَ، سلَّط الله عليكم ذلًّا، لا ينزعُه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
فانظر كيف جعل رسولُ الله عقوبة وإنذارًا لاشتغال المسلمين بالدنيا كعقوبة الخروج عن الدين؛ وذلك زيادةً في التحذير من خطر الدنيا وزينتها.
وعن ثوبان مرفوعًا: ((يوشك الأمم أن تَداعى عليكم، كما تداعى الأَكَلة إلى قَصْعتها))، فقال قائل: ومِن قِلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: ((بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غُثاءٌ كغثاءِ السَّيل، ولينزعَنَّ اللهُ من صدور عدوكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبكم الوَهْن))، فقال قائل: يا رسولَ الله، وما الوَهْنُ؟ قال: ((حبُّ الدنيا، وكراهيةُ الموت))؛ رواه أبو داود وغيره.
وكلُّ إنسان يعرف من نفسه التي بين جنبيه أن الإفراط في الدنيا واتِّباعَ حظوظ النفس -حتى ولو كانت مباحة- يُبعِد عن الله تعالى؛ لما فيه من الانشغال عما أراده الله تعالى منا، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فالقلبُ إذا امتلأ من حبِّ الدنيا، لم يدخله سواها من الحق، والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبَيْنِ في جوفه، فبَقدْر ما يَدخُل القلبَ من همٍّ وإرادة وحب، يخرُج منه همٌّ وإرادة وحبٌّ يقابِلُه، فهو إناء واحد، والأشربة متعددة، فأيُّ شراب ملأه، لم يبقَ فيه موضعٌ لغيره، وإنما يمتلئ الإناءُ بأعلى الأشربةِ إذا صادفه خاليًا، فأما إذا صادفه ممتلئًا من غيره، لم يساكنْه حتى يخرجَ ما فيه، ثم يسكن موضعه.
كما قال بعضهم:
أتاني هواها قبلَ أن أعرفَ الهوى = فصادَف قلبًا خاليًا فتمكَّنَا
فإن قُوى الحب متى انصرفت إلى جهة، لم يبقَ فيها مُتَّسع لغيرها، ومن أمثال الناس: "ليس في القلب حُبَّان، ولا في السماء رَبَّان"، ومتى تقسَّمت قوى الحب بين عدة محالَّ، ضعُفت لا محالةَ، وتأمل قولَه سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 1 - 3].
كيف أمره بتقواه المتضمِّنة لإفراده بامتثال أمره ونهيه، محبةً له وخشية ورجاء؛ فإن التقوى لا تتمُّ إلا بذلك، واتِّباعِ ما أوحي إليه المتضمِّن لتركِه ما سوى ذلك، واتباع المنزَّل خاصة، وبالتوكل عليه، وهو يتضمن اعتماد القلب عليه وحدَه، وثقته به، وسكونه إليه دون غيره، ثم أَتْبع ذلك بقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4].
فأنت تجد تحتَ هذا اللفظ أن القلب ليس له إلا وجهة واحدة؛ إذا مال بها إلى جهة، لم يَمِلْ إلى غيرها، وليس للعبد قلبان؛ يطيعُ الله ويتبع أمرَه ويتوكل عليه بأحدهما، والآخرُ لغيره، بل ليس له إلا قلب واحد، فإن لم يُفرِد بالتوكُّل والمحبة والتقوى ربَّه، وإلا انصرف ذلك إلى غيره.
لا تظنَّ أيها القارئ الكريم أن ما بين يدك هو دعوة للزهد في طيبات الحياة، أو دعوة لتركها دَبْرَ الآذان؛ وإنما هي دعوة إلى الاعتزاز بالقيم الأصيلة الباقية، وبالصلة بالله، والرضا به؛ التي تعصم النفوس من التهاوي أمام زينة الدنيا، أو فقدانِ اعتزازها بالقيم العليا، وتبقى دائمًا تحس حرية الاستعلاء على الزخارف الباطلة التي تَبهر الأنظار.
وهي دعوة لضبط اليَقَظة الدائمة، والتعلُّق بما عند الله، وتحفيز البواعث الفطريَّة الخفية للخير؛ حتى تتطلع النفس إلى آفاق أعلى، وتُعصم من الانحراف، فالإسلام لا يدعو أتباعه لكَبْت الرغبة في الدنيا، وحَرْسِها ورعايتها، ولكن يدعو إلى ضبطِها وتنظيمِها، وتخفيفِ حِدَّتها واندفاعها، وإلى أن يكون الإنسان مالكًا لها، متصرِّفًا فيها، محتفظًا بإنسانيته الرفيعة، لا أن تكون مالكةً له، متصرفة فيه، تستغرقه لذائذُها المحبَّبة للنفوس.
ومَنْ تأمَّل قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]، يُدرِكُ هذا؛ فالله تعالى جمَعَ في آية واحدة أحبَّ شهوات الأرض إلى نفس الإنسان، وخلاصة رغائبه الأرضية، ثم في الآية التي تليها عرَضَ لذائذَ أخرى في الحياة الآخرة، فقال: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15].
ولا نستطيع أن نزعم أن هذه الرؤية التي بين يديك هي كلمةُ الفصل في هذا الموضوع الشائك الكبير، ولكن حسْبُنا أننا حاولنا وبذلنا جهدَنا بموضوعية، كبداية للخروج من هذه الأزمة التي أحاطت بنا، بعدما استفحَلَ خطرُها، ووقع الخطر في المحيط الإسلامي، حتى أصاب العطَبُ الثوابتَ والتصوُّرات، والله المستعان، وهو المسؤول سبحانه أن يرفع عن أمتنا الإسلاميَّة ما ألمَّ بها.
ومن أجل هذا نقدم للقارئ العزيز تلك المحاولة المتواضعة، التي سيعقبها -إن شاء الله تعالى- سلسلة كاملة لعلاج أمراض الأمة؛ كرسالة حبٍّ لأمتنا الإسلامية، وخطوطٍ عامة يصلح الالتفاف حولها؛ لنعود بحق خيرَ أمة أُخرجت للناس.
وكتبه: أبو محمد خالد الرفاعي.
=================
الفصل الأول
=======
ميلُ النفس للشهوات مُركَّب في الإنسان، مُتأصِّلٌ فيه، فِطْري بطبعه، فلا يُتصور من المنهج الإسلامي الفريدِ أن يأتي بما يضادُّ الفطرة؛ وإنما بما يُهذِّبها ويُرقِّيها، ويُوقِظُ جانبًا آخرَ في فطرة الإنسان موازنًا ذلك الميل، فيحرسُ صاحبه من الاستغراق في الشهوات، ويربط قلب الإنسان بالله ورضوانه والدار الآخرة الله، ويُنقِّيه من الشوائب؛ حتى يصبح معتدلًا، لا يطغى فيه جانبُ اللذة على جانب الروح وأشواقها إلى الله.
وهذا ما يمتاز به المنهج الإسلام الربَّاني: أنه يراعي الفطرة ويرتفع بها من خلال تهذيبها، وليس كَبْتها أو قمعها، وهذا هو السرُّ في أن الدينَ الإسلاميَّ هو الأكثر انتشارًا في الكرة الأرضية، وهو أيضا السرُّ في سيطرة بما يعرف بالإسلام فوبيا على عقول الغرب الكافر.
متاع الدنيا وإن كان حرثًا مخصبًا، فإن في الآخرة جناتٍ خالدة تجري من تحتها الأنهار، وإن كان متاع الدنيا نساء، ففي الآخرة أزواج مطهَّرة، بل إن هنالك ما هو أكبر من كل شيء: "رضوان من الله"، فالله تعالى وتقدَّست أسماؤه يقول لأهل الجنة: ((يا أهل الجنة، فيقولون: لبَّيْك ربَّنا وسَعْدَيْك، والخيرُ في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب؛ وقد أعطيتنا ما لم تُعطِ أحدًا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأيُّ شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخطُ عليكم بعده أبدًا))؛ رواه مسلم (4/ 2176) عن أبي سعيد الخدري.
قال الله تعالى: { إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36]، "والحياة الدنيا لعب ولَهْو حين لا يكون وراءها غاية أكرم وأبقى، حين تُعاش لذاتها مقطوعةً عن منهج الله فيها، ذلك المنهج الذي يجعلها مزرعةَ الآخرة، ويجعل إحسان الخلافة فيها هو الذي يستحقُّ وراثة الدار الباقية.
وهذا هو الذي تشير إليه الفقرة التالية في الآية: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} [محمد: 36]؛ فالإيمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يخرجها عن أن تكون لعبًا ولهوًا، ويطبعها بطابع الجدِّ، ويرفعها عن مستوى المتاع الحيواني إلى مستوى الخلافة الراشدة، المتصلة بالملأ الأعلى، ويومئذٍ لن يكون ما يبذلُه المؤمن المتقي من عَرَض هذه الحياة الدنيا ضائعًا ولا مقطوعًا؛ فعنه ينشأ الأجر الأوفى، في الدار الأبقى".
"والقرآن لا يعني بهذا أن يَحضَّ على الزهد في متاع الحياة الدنيا، والفرار منه، وإلقائه بعيدًا؛ إن هذا ليس روح الإسلام ولا اتجاهه؛ إنما يعني: مراعاةَ الآخرة في هذا المتاع، والوقوف فيه عند حدود الله، كما يقصد الاستعلاء عليه؛ فلا تصبح النفسُ أسيرةً له، يكلِّفها ما يكلفها فلا تتأبَّى عليه، والمسألة مسألة قيم يَزنُها بميزانها الصحيح، فهذه قيمة الدنيا، وهذه قيمة الآخرة كما ينبغي أن يستشعرَها المؤمن، ثم يسير في متاع الحياة الدنيا على ضوئها، مالكًا لحريته، معتدلًا في نظرته: الدنيا لهو ولعب، والآخرة حياةٌ مليئة بالحياة".
وهنا مسألة خفية يجب التفطُّنُ إليها؛ وهي: أن أكثر الناس يظنُّ أن التحذير من التماهي مع فتنة الدنيا، إنما هو لأهل المتاع فقط، وهذا ظنٌّ خاطئ نبَّهَنا الله عليه في قوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].
فنهى سبحانه عن تكرُّر النظر بالإعجاب والاستحسان إلى المتمتِّعين بلذات الدنيا من المآكل، والمشارب، والملابس، والمنازل، والنساء، وغيرها من زهرة الحياة الدنيا التي تخطف الأبصارَ، وطيَّب نفوسهم بقوله: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]؛ العاجل والآجل، فيشمل العلمَ والإيمان، والأعمال الصالحة، والنعيم المقيم في جوار رب العالمين، فهذا هو الباقي الذي لا ينقطع.
وقد نبَّه على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال في مَعْرض كلامه على تلك الآية الشريفة:
"يتناول النظر إلى الأموال واللِّباس والصور، وغير ذلك من متاع الدنيا؛ وذلك أن الله يُمتِّع بالصور كما يُمتِّع بالأموال، وكلاهما من زهرة الحياة الدنيا، وكلاهما يفتن أهله وأصحابه، وربما أفضى به إلى الهلاك دنيا وأُخرى، والهَلْكَى رجلان: فمستطيع وعاجز؛ فالعاجز مفتونٌ بالنظر ومد العين إليه، والمستطيع مفتون فيما أوتي منه، غارق قد أحاط به ما لا يستطيع إنقاذ نفسه منه، وهذا المنظور قد يعجب المؤمن، وإن كان المنظور منافقًا أو فاسقًا، كما يعجبه المسموع منهم، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4]، فهذا تحذير من الله تعالى من النظر إليهم، واستماعِ قولهم؛ فلا ينظر إليهم ولا يسمع قولهم؛ فإن الله سبحانه قد أخبر أن رؤياهم تعجبُ الناظرين إليهم، وأن قولهم يعجب السامعين، ثم أخبر عن فساد قلوبهم وأعمالهم بقوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]؛ فهذا مثل قلوبهم وأعمالهم"؛ اهـ.