أثر العلم الشـرعي في مواجهة العنف والعدوان 55af8758781f71444443666
أثــــر العلــــم الشـــــرعي
في مواجهة العنف والعدوان

إعـداد
د: عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان
عضــو هيئــة التدريس في كليــة الشريعــة
جامعــة الإمــام محمــد بن سعود الإسلامية
========================
 مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب لنا غيره، ولا معبود بحق سواه.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخليله ومصطفاه. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه.

أما بعد:
فإن الأمن حاجة إنسانية ملحة، ومطلب فطري لا تستقيم الحياة بدونه، ولا يستغني عنه فرد أو مجتمع، والحياة بلا أمن حياة قاحلة مجدبة، شديدة قاسية، لا يمكن أن تقبل أو تطاق.

فالأمن من أهم مقومات السعادة والاستقرار، وأهم أسباب التقدم والتحضر والرقي، وهو مطلب تتفق على أهميته جميع الأمم والشعوب، والأفراد والمجتمعات، في كل زمان ومكان.

وإذا فقد الأمن اضطربت النفوس، وسيطر عليها الخوف والقلق، وتعطلت مصالح الناس، وانقبضوا عن السعي والكسب، وانحصرت هممهم بتأمين أنفسهم ومن تحت أيديهم، ودفع الظلم والعدوان الواقع أو المتوقع عليهم.

وإذا كان الأمن حاجة إنسانية ملحة، لا يستغني عنها فرد أو مجتمع، فإن ذلك يعني بالضرورة وجوب مواجهة ما يخل به من العنف، ومعالجة آثاره، وقطع الأسباب الداعية إليه.

وللإسلام منهجه المتفرد في تحقيق الأمن ومكافحة العنف، فهو يهتم بالجوانب التربوية والوقائية التي تمنع وقوع العنف أصلًا، كما يهتم بالجوانب الزجرية والعقابية، التي تمحو آثاره، وتمنع من معاودته وتكراره.

وهذا بخلاف ما عليه المناهج البشرية الجاهلية، والقوانين الوضعية التي تهتم بمعالجة العنف بعد وقوعه، أكثر من اهتمامها بمنع حدوثه ابتداءً.

ولو قدر لها أن تهتم بالجوانب الوقائية والتربوية، لم يتوفر لها من وسائل ذلك، ومن الالتزام بها والاستجابة لها واحترامها ما يتوفر للتشريع الإلهي، الذي هو من وضع الخالق الحكيم، الذي خلق الإنسان، ويعلم ما يصلحه ويسعده في عاجل أمره وآجله، تشريعٌ بريء من جهل الإنسان، وهوى الإنسان، وضعف الإنسان، وتقلبات الإنسان، لا محاباة فيه لفرد، ولا لطبقة، ولا لجنس؛ لأن الله هو رب العالمين، والناس كلهم عباده، وقد أنزل عليهم شريعته لتحقيق أمنهم وحفظ مصالحهم، وهدايتهم لما فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.

وسوف أركّز في هذا البحث على بيان أثر العلم الشرعي في مواجهة العنف، فإن العلم الشرعي المؤسس على الكتاب والسنة هو الذي يهذب النفوس، ويطهر القلوب، ويقيد صاحبه عن العنف والإجرام، ويمنعه من الظلم والعدوان، ويحمله على تعظيم حقوق العباد وحفظ مصالحهم، ويحجزه عن الإقدام على هتك الحرمات، وارتكاب المظالم والموبقات.

وهو يمنع من العنف ابتداءً، وهو أيضًا من أعظم الأسباب المعينة على علاج هذه الظاهرة الخطيرة، وحمل من تلبس بشيء منها على التوبة والإنابة، وعدم التكرار والمعاودة.

وقد انتظم هذا البحث في مقدمة وتمهيد وخاتمة ومبحثين على النحو الآتي:
المبحث الأول:
تحريم الاعتداء على النفس.

المبحث الثاني:
تحريم إنكار المنكر إذا كان يستلزم ما هو أنكر منه.

واللهَ أسأل أن يرزقنا الفقه في الدين، والاستقامة على منهج سيد المرسلين، وأن يعيذنا من مضلات الفتن ومناهج المفتونين، وأن يهدي ضال المسلمين، ويحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين من غوائل الأعداء والمتربصين، وتهوكات الجهلة والمتهورين.

تـمـهـيــــــــــد:
========
ضلال الخلق على كثرة صوره وأنواعه، وتعدد مظاهره وأشكاله، سواء كان في الأفكار والتصورات، أو الأخلاق والسلوكيات، أو الأعمال والممارسات، يعود في حقيقته إلى سببين رئيسين:
الأول:
الجهل أو العمى.
والثاني:
الظلم أو الهوى.

قال الله عز وجل: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)) [الأحزاب].

فبين أن الأصل في الإنسان هو الظلم والجهل، إلا من زكاه الله بالعدل الذي يمنعه من الظلم، والعلم النافع الذي يرفع عنه الجهل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"والجهل والظلم هما أصل كل شر، كما قال سبحانه: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)) [الأحزاب]".

ويدل على ذلك أيضًا:
أن الله تعالى أمرنا بقراءة أم القرآن في كل ركعة من ركعات الصلاة، سواء كانت مفروضة أو مستحبة، ومن بين آياتها قوله سبحانه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)) [الفاتحة].

فأرشدنا إلى سؤاله الهداية إلى الصراط المستقيم، وذلك يتضمن معرفة الحق والتوفيق للعمل به، وهما ينافيان الجهل والهوى، ثم بين أن هذا هو طريق الذين أنعم عليهم من النبيين وأتباعهم بإحسان، حيث دلهم على الحق، وأعانهم على امتثاله والعمل به، بخلاف المغضوب عليهم والضالين، الذين تنكبوا الصراط المستقيم، فوقعوا في الشرك والضلالات، والبدع والخرافات، وارتكبوا الكبائر والمنكرات، إما اتباعًا للهوى مع علمهم بالحق، وهؤلاء هم المغضوب عليهم، كاليهود، الذين أضلهم الله على علم، فتركوا الحق مع علمهم به، وإما جهلًا منهم بالحق، فعبدوا الله على جهل، وهؤلاء هم الضالون، كالنصارى، الذين يتقربون إليه بالشركيات، ويتعبدون له بالبدع والضلالات.

وإذا كان المسلم مأمورًا بأن يتفهم هذه المعاني العظيمة، ويدعو بهذا الدعاء الجامع في كل ركعة من ركعات الصلاة، فإن هذا دليل على خطورة الجهل واتباع الهوى، ووجوب مجاهدة النفس على طلب العلم والهدى، واتباع الحق والاستقامة عليه، وأن الجهل والهوى هما سبب ضلال الخلق، وبعدهم عن الهدى ودين الحق.

ولو تأملت في أحوال العاصين المفرطين، والمبتدعة الضالين، والغلاة الجافين، لوجدتهم إنما أتوا من قبل هذين الأمرين أو أحدهما.

والجهل أصل الضلالين، وأخطر الشرين، وما من أحد يتبع الهوى، ويعرض عن الحق والهدى إلا بسبب جهله بالله وسطوته، وغفلته عن شؤم الذنب وسوء عاقبته.

وفي ظنّي أن أكثر هؤلاء المذكورين إنما تنكَّبوا الصراط المستقيم بسبب الجهل وقلة الفقه، وضعف البصيرة في الدين.

فكثير مِمَّنْ يرتكبون الكبائر، ويسرفون على أنفسهم بالمعاصي، أو يتساهلون بظلم العباد وبخسهم حقوقهم، لا يعلمون أن فعلهم هذا من المحرمات الكبائر، وإن عرفوا تحريمه من حيث الجملة، فإنهم لا يدركون شناعته وشدة تحريمه، وما يترتب عليه من الإثم والشؤم، والعواقب السيئة في الدنيا وفي الآخرة، فيتساهلون في فعله، ويستهينون بشأنه، ولو علموا ما ورد في هذا المنكر من الوعيد والعذاب الشديد، لما ارتكبوه، أو أصروا عليه واستمرءوه.

فَمَنْ يشرب الخمر مثلًا أو يفعل الزنا، أو يمارس الغيبة أو النميمة، لو علم بأضرار هذه المعاصي على القلب والبدن، والدين والدنيا، وما يترتب عليها من العذاب والنكال الأليم، والعقوبات العاجلة والآجلة، لكان ذلك أعظم زاجر له عن اقترافها، أو استمرائها والتهاون بشأنها.

وقد يُؤتى الإنسان من قِبَلِ جهله من وجه آخر، حيث يظن أن فعله هذا مبارك مشروع، وصاحبه مأجور مشكور، وليس الأمر على ظنّه وحسبانه في الواقع، كمن يظلم كافرًا أو فاسقًا، ويتعمَّد الإساءة إليه بالقول والفعل، وهو يظن أن عمله هذا قربة يرفعه الله بها درجات، ويجهل أن الظلم حرام في حق كل أحد، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، برًّا أو فاجرًا، وأن فعله هذا من الصَّد عن سبيل الله، والظلم لعباد الله، وكلاهما حرام بنصوص كثيرة في الكتاب والسنة.

وبهذا نعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يحرمان إذا تضمنا تفويت مصلحة أكبر، أو جلب فتنة ومفسدة أعظم.

ومما سبق يتبين لنا أمران مهمان:
الأول:
حاجتنا بل اضطرارنا إلى معرفة الحق وطلب العلم الشرعي؛ ولهذا جعل الله تعالى طلب العلم الشرعي فريضة على كل مسلم ومسلمة، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {طَلَبُ العِلْم فَريضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمْ}.

وهذا يشمل كل علم يتوقف عليه القيام بالواجب أو ترك المحرم، فتعلمه فرض عين على كل مسلم مكلف، أما ما زاد على ذلك من العلوم الشرعية أو الدنيوية التي تحتاجها الأمة، فهذه تعلمها فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي من سائر أمة الإسلام، وسدت بهم حاجة الأمة، فقد حصل المقصود، وأدي الواجب، وسقط الإثم عن الباقين، وإن أطبقت الأمة كلها على تركه، أو تصَّدى له من لا تحصل بهم الكفاية، أثمت الأمة كلها، الرجال والنساء، القادرون وغير القادرين، أما القادر فيأثم لعدم قيامه به ومباشرته له مع قدرته عليه.

وأما غير القادر فواجبه أن يحض القادرين على القيام بما أوجبه الله -تعالى- وإن كان إثم القادر أعظم من إثم غيره، لكنهم جميعًا آثمون، وهذا هو الشأن في جميع فروض الكفايات.

ولأجل هذا حث الله -تعالى- على طلب العلم النافع والاستكثار منه، وأثنى على العلماء، وبين عظيم فضلهم ورفعة مكانتهم، وأنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ووردت كذلك أحاديث كثيرة تبين فضل العلم والعلماء، وأنهم ورثة الأنبياء في معرفة الحق والعمل به، وفي حمل هذا الدين وتبليغه للعالمين، وهي آيات وأحاديث معلومة فلا نطيل بذكرها.