الباب الأوّل: الأزهر خلال التاريخ
--------------------------------
الفصل الأوّل: مصر الإسلاميّة قبل إنشاء الأزهر
- 1 -
فتحت مصر في عهد عمر بن الخطاب عام 18 ه‍ على يد عمرو بن العاص، وبنى بها مسجده الجامع المعروف اليوم باسم «جامع عمرو بن العاص» عام 21 ه‍ 1، واختط الجيزة في هذه السنة أيضاً، كما اختط مدينة الفسطاط حول مسجده الجامع، واتخذها عاصمة مصر، وحفر خليج أمير المؤمنين الموصل للنيل بالبحر الأحمر 2.

ووفد كثير من القبائل العربية على مصر زرافات ووحدانا، وأقاموا بها، وذاعت اللغة العربية بين أهليها، بسبب اتصال العرب بأهل مصر واختلاطهم بهم.

وقد استقر بمصر كثير من الصحابة 3 ومشاهير التابعين 4 وأتباع التابعين 5، ونشأت بها طبقة من المجتهدين كالليث بن سعد المتوفى 6
__________
1) 133 ج‍ 2 حسن المحاضرة.
2) راجع الجزء الأول من حسن المحاضرة للسيوطي.
3) راجع 72 ج‍ 1 حسن المحاضرة وما بعدها
4) راجع 105 ج‍ 1 حسن المحاضرة وما بعدها
5) راجع 112 ج‍ 1 حسن المحاضرة وما بعدها
6) راجع ج‍ 1 120 حسن المحاضرة وما بعدها
---------------------------------------------------------

عام 175 ه‍، وهاجر اليها الإمام الشافعي 1المتوفى عام 204 ه‍، وخلفه البويطي المصري المتوفى عام 231 ه‍ 2.

وقد نمت الحركة العلمية في الفسطاط، وكثرت الحلقات في مسجد عمرو الذي كان مركزا علميا لنشر الدين الإسلامي وتعاليمه السمحة..

وكبرت هذه الحركة العلمية واتسعت، ونمت وازدهرت، وأم هذا المسجد الجامع كثير من العلماء الأعلام، والأئمة المجتهدين، ممن أفادوا العالم الإسلامي، وأدوا له خدمة صادقة في ميادين الدين والشريعة، واللغة والعلوم.

وأشهر هؤلاء:
عبد اللّه بن عمرو بن العاص، وعبد اللّه بن لهيعة، ثم الليث بن سعد.. وقد كان للإمام محمد بن إدريس الشافعي بمسجد عمرو زاوية يدرس فيها مذهبه، ويدون آراءه، وعلى يديه تخرج كثير من العلماء الفضلاء الذين دونوا مذهبه، ونشروا علمه: كالربيع بن سليمان، والمازني، والبويطي، وغيرهم.. وكان أبو تمام يسقي الماء في جامع عمرو، وفيه كانت دراسته الأولى.

وقد انتشر المذهب الشافعي في مصر على يدي الشافعي وتلاميذه، ومن قبل كانت السيادة للمذهب المالكي، الذي كان أول من أدخله إلى مصر عثمان بن الحكم الجذامي 3المتوفى عام 163 ه‍.

كما كان أول محاولة لنشر المذهب الحنفي فيها على يد القاضي إسماعيل بن سميع الكندي 4، الذي ولاه العباسيون قضاء مصر عام 164 ه‍، فعمل على نشر مذهب أبي حنيفة فيها، وكرهه المصريون من أجل ذلك كرهاً شديداً.

ويذكر السيوطي في كتابه حسن المحاضرة كثيراً ممن كانوا بمصر من
__________
1) راجع ج‍ 121 ج‍ 1 حسن المحاضرة وما بعدها، 138 ج‍ 1 ابن خلكان.

2) راجع 123 ج‍ 1 حسن المحاضرة وما بعدها.
3) 190 ج‍ 1 حسن المحاضرة.
4) 196 ج‍ 1 المرجع.
-------------------------------

حفاظ الحديث ونقاده 1، ومن المحدثين الذين لم يبلغوا درجة الحفظ 2، كما يذكر من كان بها من الفقهاء الشافعية 3و المالكية 4 والحنفية 5.. أما الحنابلة فكانوا قليلين فيها، ولم يسمع السيوطي كما يقول بخبرهم إلا في القرن السابع وما بعده 6.. كما يذكر مَنْ كان بها من أئمة القراءات 7، ومن الصُّلحاء والزُّهاد والصُّوفية 8 وأئمة النحو واللغة 9، وأرباب المعقولات وعلوم الأوائل والحكماء والأطباء والمنجمين 10، وقد ظل التدريس في الجامع العتيق عامر الحلقات مدة طويلة.

خضعت مصر -أول ما خضعت للحكم الإسلامي- للخلفاء الراشدين، ثم لدولة بني أمية، ثم لدولة بني العباس، وكان يختار لها ولاة يثق بهم الخلفاء

- 2 -
واستقل بمصر أحمد بن طولون وكان قد ولي الحكم فيها سنة 253 ه‍، ثم أضيفت إليه نيابة الشام والعواصم والثغور وإفريقية، فأقام بها مدة طويلة، وبنى جامعه المشهور، وكان ميلاده في بغداد عام 214 وكان أبوه طولون من الأتراك الذين أهداهم نوح السماني عامل بخاري إلى المأمون.
__________
1) 145 وما بعدها ج‍ 1 حسن المحاضرة

2) 155 وما بعدها ج‍ 1 حسن المحاضرة
3) 167 وما بعدها ج‍ 1 حسن المحاضرة
4) 190 وما بعدها ج‍ 1 حسن المحاضرة
5) 197 وما بعدها ج‍ 1 حسن المحاضرة
6) 205 وما بعدها ج‍ 1 حسن المحاضرة
7) 207 وما بعدها ج‍ 1 حسن المحاضرة
218 وما بعدها ج‍ 1 حسن المحاضرة
9) 228 وما بعدها ج‍ 1 حسن المحاضرة
10) 232 ج‍ 1 حسن المحاضرة وما بعدها
----------------------------------------------------

واستمر ابن طولون أميرا على مصر حتى مات بها عام 270 ه‍ 1، وولي بعده ابنه أبو الجيش خمارويه، وظل أميرا على مصر حتى قتل عام 282 ه‍، وولي بعده ابنه «جيش» فأقام تسعة أشهر قتل بعدها، وخلفه أخوه هارون بن خمارويه الذي ظل أميراً على مصر حتى قتل عام 292 ه‍، وولى عمه أبو المغانم شيبان، فورد من قبل المكتفي بعد اثني عشر يوما من ولايته محمد بن سليمان الواثقي الذي سلم إليه شيبان الأمر، واستصفى أموال آل طولون، وانقضت الدولة الطولونية، وامحت أيامها من تاريخ مصر السياسي.

كان من البدهي أن تكون عاصمة الملك في أيام الدولة الطولونية هي مدينة أحمد بن طولون، وأصبح مسجده المشهور محط الرحال، ومجلس العلماء، ومستقرا للحلقات العلمية الكثيرة التي تدرس فيها علوم الدين واللغة والأدب.. وظهر في مصر وفي حلقات مسجد أحمد بن طولون كثير من العلماء والأئمة والأدباء والشعراء.

ومع ذلك فقد ظل «مسجد عمرو» يؤدي رسالته بجانب المسجد الطولوني الكبير، بل ظل إلى أمد قريب يعج بالحلقات والعلماء، حتى لبروى أنه كان فيه قبل عام 749 ه‍ بضع وأربعون حلقة، لإقراء العلم لا تكاد تبرح منه 2.

أسس جامع ابن طولون 2 عام 263 ه‍، في مدينة أحمد بن طولون التي سماها «القطائع»، وفرغ من بنائه عام 266 ه‍.
وصلى فيه القاضي بكار إماما وخطب فيه أبو يعقوب البلخي، وأملى فيه الحديث الربيع بن سليمان تلميذ الإمام الشافعي 3، وظلت الحلقات العلمية فيه إلى أمد بعيد، فكانت فيه دروس للتفسير والحديث والفقه على
__________
1) راجع 9 و10 ج‍ 2 حسن المحاضرة.

2) 136 ج‍ 2 حسن المحاضرة طبعة القاهرة 1327

3) 137 ج‍ 2 المرجع السابق
---------------------------------------------------------------
المذاهب الأربعة، والقراءات والطب والميقات 1.. وكان أعمر ما يكون في دولة بني طولون.

- 3 -
وفي عام 321 ه‍ ولي على مصر من قبل خلفاء بني العباس محمد ابن طغج الإخشيدي الذي أقام الدولة الإخشيدية في مصر والشام، ومات في ذي الحجة عام 334 ه‍، وخلفه ابنه أبو القاسم أنوجور وكان صغيراً، فأقيم أستاذه كافور الإخشيدي وصياً عليه، وحكم المملكة باسمه، ومات أنوجور عام 349 ه‍، فقام أخوه على مقامه حتى مات عام 355 ه‍، فاستقرت المملكة باسم كافور ودعي له على المنابر في مصر والشام، ومات عام 357 ه‍، فولى المصريون بعده أبا الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيد، فأقام شهورا حتى فتح الفاطميون مصر، وانتزعها جوهر الصقلي منه عام 358 ه‍.

وفي عهد الدولة الإخشيدية ظل المسجد العتيق ومسجد أحمد بن طولون يؤديان رسالتهما العلمية.

كانت الحلقات العلمية في هذين المسجدين حافلة بالعلماء والمتعلمين، وكانت تعقد حلقات خاصة في منازل أكابر العلماء والفقهاء، حيث كانوا يجتمعون بتلامذتهم، يقرأون ويدرسون بعض شروح الفقه الإسلامي، وبعض كتب العبادات والتصوف واللغة والأدب، ومن ذلك حلقة ببيت عبد اللّه بن الحكم الفقيه المالكي وولديه عبد الرحمن ومحمد، وكانوا من أنبغ الفقهاء المحدثين حتى أوائل القرن الثالث... وهذه الأسرة هي التي أكرمت وفادة الإمام الشافعي في مصر..

وفي القرن الرابع كان العلماء في المسجد العتيق والمسجد الطولوني عديدين، وكان من أشهرهم: أبو القاسم بن قديد، وتلميده الكندي صاحب الكتاب المشهور في تاريخ ولاة مصر وقضاتها، وأبو القاسم بن طباطبا الحسني الشاعر..

وكانت مجالس الدراسة والحلقات الأدبية الخاصة من تقاليد الحياة المصرية العالية، وشجع الإخشيدي وخلفاؤه العلوم والآداب ودراسة الشريعة، وكانت حلقة المتنبي الذي وفد إلى مصر عام 346 ه‍- 597 م من أحفل مجالس الأدب والشعر والنقد، ولقد كانت السيدة نفيسة بنت سيدى حسن الأنور تعتكف بمسجد عمرو.
__________
1) 138 ج‍ 2 المرجع السابق.