السورة الأولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (17-18)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا اَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لايُبْصِروُن 17 صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ 18
إعلم! ان أساس اعجاز القرآن الكريم في بلاغة نظمه.
وبلاغة النظم على قسمين: قسم كالحلية وقسم كالحلّة:
فالأول: كاللآلئ المنثورة والزينة المنشورة والنقش المرصع. ومعدنه الذي يتحصل منه هو توخّي المعاني النحوية الحرفية فيما بين الكلم، كإذابة الذهب بين أحجار فضة. وثمرات هذا النوع هي اللطائف التي تعهد بيانها فن المعاني..
والقسم الثاني: هو كلباس عال وحلة فاخرة قدّت من اسلوب على مقدار قامات المعاني، وخيطت من قطعات خيطاً منتظماً فيلبس على قامة المعنى أو القصة أو الغرض دفعة. وصناع هذا القسم والمتكفل به فن البيان.. ومن أهم مسائل هذا القسم التمثيل. ولقد أكثر القرآن الكريم من التمثيلات الى ان بلغت الألف؛ لأن في التمثيل سراً لطيفاً وحكمة عالية؛ اذ به يصير الوهم مغلوباً للعقل، والخيال مجبوراً للانقياد للفكر، وبه يتحول الغائب حاضراً، والمعقول محسوساً، والمعنى مجسماً، وبه يجعل المتفرق مجموعاً، والمختلط ممتزجا، والمختلف متحداً، والمنقطع متصلا، والأعزل مسلّحا. وان شئت التفصيل فاستمع معي لما يترنم به صاحب دلائل الاعجاز في أسرار بلاغته 1؛ حيث قال:
_____________________
1 اسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجانى (المتوفي 471هـ). طبع عدة طبعات منها في مطبعة الاستقامة سنة 1948 بمصر وكتب حواشيه الاستاذ احمد مصطفى المراغي، والفصل المذكور هو في ص128 من الطبعة المذكورة.
_____________________
فصل في مواقع التمثيل وتأثيره
اعلم! ان مما اتفق العقلاء عليه: ان التمثيل اذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية الى صورته،كساها ابهةً، وكسبها منقبةً، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب اليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفاً، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفاً.
فان كان مدحاً كان أبهى وأفخمَ، وأنبلَ في النفوس وأعظمَ، وأهزَّ للعِطْف، وأسرعَ للإلف، وأجلبَ للفرح، وأغلبَ على الممتدح، وأوجَبَ شفاعة للمادح، واقضى له بغرّ المواهب والمنائح، وأسيرَ على الألسن واذكرَ، وأولى بان تعلقه القلوب وأجدرَ.
وإن كان ذماْ كان مَسُّه أوجعَ، ومِيسمه ألذَع، ووقعه أشدَّ، وحدُّه احدَّ.
وإن كان حجاجاً كان برهانه انورَ، وسلطانه اقهرَ، وبيانه ابهَر.
وإن كان افتخاراً كان شأوه ابعدَ، وشرفه اجدَّ، ولسانه ألدَّ.
وإن كان اعتذاراً كان الى القلوب اقربَ، وللقلوب أخلبَ، وللسخائم اسلّ، ولغرب الغضب افلَّ، وفي عُقَد العقود انفثَ، وعلى حسن الرجوع أبعثَ. وإن كان وعظاً كان أشفى للصدر، وادعى الى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر بأن يَجْلي الغياية (1)، ويبصر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي الغليل... وهكذا الحكم اذا استقريت فنون القول وضروبه، وتتبعت أبوابه وشعوبه. (انتهى)..
ثم ان في الآيات الآتية دلائل اعجاز واسرار بلاغة فذكرناها هنا لمناسبتها لمسائل المقدمة الآتية.
فمثال التمثيل في مقام المدح ما ذكره القرآن الكريم في وصف الصحابة من: (1) الغياية: ضوء شعاع الشمس، قعر البئر، وكل ما أظل الإنسان كالسحابة والغبرة.
(وَمَثَلهُمْ فِي الاْنْجِيلِ كَزَرْعٍ اَخْرَجَ شَطْئَهُ فَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) (1) وقس نظائره.. وفي مقام الذم: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ان تَحْمِل عَلَيه يَلْهَثْ أو تَتْركْه يَلْهَثْ) (2) و(مَثَل الذين حُمّلوا التورية ثم لم يحملوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أسفاراً) (3) و(اِنَّا جَعَلْنَا في اَعْنَاقِهِمْ اَغْلاَلاً فَهِيَ اِلَى الاْذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) (4) وقس.
وفي مقام الاحتجاج والاستدلال: (مَثَلهم كمثل الذي استَوقَدَ ناراً) و (او كَصَيِّبٍ مِن السماءِ فيه ظُلُماتٌ الى آخره و ومَثَلُ الذين كفروا كَمَثلِ الذي يَنْعِق بما لا يسمع الاّ دعاءً ونداءً) (5) و (مثل الذين اتخذوا مِن دون الله اولياءَ كمثلِ العنكبوتِ اتخذتْ بيتاً) (6) و (أنزل من السماء ماءً فسالتْ أوديةٌ بقَدَرها فاحتملَ السيلُ زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاءَ حليةٍ أو متاع زَبَدٌ مِثْلُه) (7) و (ضَرَبَ الله مثلاً رجلاً فيه شركاءُ مُتَشاكِسون ورجُلاً سَلَما لِرَجُلٍ هل يستويان مثلا) (8) وقس عليه.
ونظير مثال الافتخار - وان لم يسمّ افتخاراً - بيان عظمته تعالى وكمالاته الإلهية قوله تعالى: (وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِه والأرضُ جَميعاً قَبْضَتُه يومَ القيامةِ والسمواتُ مطويّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وتعالى عما يشركون) (9) وقس عليه. ومثال التمثيل في مقام الاعتذار لايوجد الا حكايات أهل الأعذار الباطلة للاحتجاج عليهم كقوله: (وقالوا قُلُوبُنا في اكنّة مما تدعونا اليه وفي اذانِنا وَقْرٌ ومِنْ بَيننا وبينك حِجَابٌ) (10) وقس...
ومن الشعر:
لاتَحْسَبُوا اَنَّ رَقْصِي بيْنَكُمْ طَرَبٌ فَالطّيْرُ يَرْقُصُ مَذبُوحاً مِنَ الاْلَمِ
_____________________
(1) سورة الفتح: 29.
(2) سورة الاعراف: 176.
(3) سورة الجمعة: 5.
(4) سورة يس: 8.
(5) سورة البقرة: 171.
(6) سورة العنكبوت: 41.
(7) سورة الرعد: 17.
(8) سورة الزمر: 29.
(9) سورة الزمر: 67.
(10) سورة فصلت: 5.
إشارات الإعجاز - ص: 116
ومثاله من الوعظ في وصف نعيم الدنيا ما ذكره القرآن الكريم من:
(كمثل غَيْثٍ أعْجَبَ الكفار نَبَاتُه ثم يَهيجُ فتريه مُصْفرّاً ثم يكون حُطاماً) (1) و (أَلَم تَرَ ان الله انزَل مِن السماءِ ماءً فَسَلكه ينابيعَ في الأرضِ ثم يُخرِجُ بهِ زَرْعا مُختلفاً ألوانُه) (2) و (اِنّا عَرَضْنا الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ فأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشفقنَ مِنها وحَمَلَها الإِنسانُ إِنه كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (3) و (لو أنزلْنا هذا القرآنَ على جَبَلٍ لرأيتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِن خَشْيَةِ الله وتِلكَ الامثالُ نَضْرِبُها للناسِ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ) (4) و (فَمَالَهُمْ عَن التَذْكِرِةِ مُعْرِضِينَ _ كَأنهُم حَمُرٌ مُستَنْفِرةٌ _ فَرَّتْ مِن قَسْوَرة) (5) و (مثل الذين يُنفِقونَ أَموالَهُمْ في سبيل الله كَمَثلِ حَبةٍ اَنْبَتَتْ سَبْعَ سنابلَ في كلِّ سُنْبلة مائةُ حَبَّة) (6) و (كمثل جَنَّة بِرَبْوة اَصابها وابل) (7) ..
وفي احباط العمل الصالح بالايذاء والرياء:
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُم أن تكون له جنةٌ مِن نَخيلٍ وأَعْنابٍ تجري من تحتها الأنهارُ له فيها مِن كلِّ الثَّمَراتِ وأَصابَه الكِبَرُ وله ذُريةٌ ضُعَفاء فأصابَها إعصارٌ فيه نارٌ فاحْتَرَقَتْ) (8) و(مثلُ الذينَ كَفَروا بِرَبِّهِمْ اعمالُهم كَرَمادٍ اشتدتْ به الريحُ في يومٍ عاصفٍ لايَقدِرونَ مِما كَسَبوا عَلى شيءٍ ذلك هو الضلالُ البعيدُ) (9) .
ومثاله من طبقات الكلام في مقام الوصف:
(ثمَّ استوى الى السماءِ وهي دخانٌ فقالَ لها وللأرض ائتيا طَوْعاً أو كرهاً قَالتا أَتَيْنا طائِعين) (10) و (قيلَ يا أرضُ ابلَعي ماءَك ويا سماءُ اقلعي وغيضَ الماء وقُضِيَ الأمر واستوتْ على الجُوديّ وقيلَ بُعداً للقومِ الظالِمين) (11) و (اَلَمْ تَرَ كيفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كلمةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ اصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء _ تُؤتي أُكُلَها كلَّ حِينٍ بإِذنِ رَبِّها) (12) و (ومثلُ كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ اجتُثَّتْ مِن فوقِ الأرضِ مَالَها مِن قَرارٍ) (13)..
_____________________
(1) سورة الحديد: 20.
(2) سورة الزمر: 21.
(3) سورة الاحزاب: 72.
(4) سورة الحشر: 21.
(5) سورة المدثر: 49، 50، 51.
(6) سورة البقرة: 261.
(7) سورة البقرة: 265.
(8) سورة البقرة: 266.
(9) سورة ابراهيم: 18.
(10) سورة فصلت: 11.
(11) سورة هود: 44.
(12) سورة ابراهيم: 24، 25.
(13) سورة ابراهيم: 26.
ومن الشعر:
والليل تجري الدراري في مجرته كالروض تطفو على نهر ازاهيره (1)
اعلم! ان في كل آية من هذه الآيات التمثيلية طبقاتٍ ومراتبَ وصوراً وأساليبَ متنوعة. كلٌ منها - في كلٍ منها - كفيل وضامن لطائفة من الحقائق. وكما انك اذا أخذت قوارير من فضة وزيّنتها بذوب الذهب، ثم نقشتها بجواهرَ، ثم صيّرتها ذوات نور(2) بإدراج "الكتريق"(3) ترى فيها طبقات حسن وانواعَ زينة؛ كذلك في كل من تلك الآيات من المقصد الأصليّ الى الأسلوب التمثيليّ قد شرعت اشارات ومُدّت رموز الى مقامات كأن أصل المقصد تدحرج على المراتب وأخذ من كلٍ لوناً وحصة حتى صارت تلك الكلمات من جوامع الكلمات بل من جمع الجوامع.
فصل ومقدمة
اعلم! ان المتكلم كما يفيد المعنى ثم يُقْنِع العقل بواسطة الدليل؛ كذلك يلقي الى الوجدان حسِّياتٍ بواسطة صور التمثيل فيحرك في القلب الميل أو النفرة ويهيئُه للقبول. فالكلام البليغ ما استفاد منه العقل والوجدان معاً، فكما يتداخل الى العقل يتقطر الى الوجدان أيضا. والمتكفل لهذين الوجهين التمثيلُ؛ اذ هو يتضمن قياساً وينعكس به في مرآة الممثل القانون المندمج في الممثل به. فكأنه دعوى مدلَّل.
كما تقول في رئيس يكابد البلايا لراحة رعيته: (الجبل العالي يتحمّل مشاقّ الثلج والبَرَد، وتخضرّ من تحته الأودية).
ثم ان أساس التمثيل هو التشبيه. ومن شأن التشبيه تحريك حسّ النفرة أو الرغبة أو الميلان أو الكراهية أو الحيرة أو الهيبة؛ فقد يكون للتعظيم أو التحقير أو الترغيب أو التنفير أو التشويه أو التزيين أو التلطيف الى آخره... فبصورة الأسلوب يوقَظ الوجدان وينبَّه الحسُّ بميلٍ أو نفرة.
_____________________
(1) قائله ابن النبيه المصرى في مدح الايوبيين توفي سنة 619هـ.
(2) ذوات انوار (ش).
(3) الكهرباء.
ثم ان مما يحوِّج الى التمثيل عمق المعنى ودقته ليتظاهر بالتمثيل، أو تفرّق المقصد وانتشاره ليرتبط به. ومن الأوّل متشابهات القرآن الكريم؛ اذ هي عند أهل التحقيق نوع من التمثيلات العالية وأساليب لحقائق محضة ومعقولات صرفة؛ ولأن العوام لايتلقون الحقائق في الأغلب الاّ بصورة متخيلة، ولا يفهمون المعقولات الصرفة الاّ بأساليب تمثيلية لم يكن بدّ من المتشابهات كـ (اِسْتوى عَلَى الْعَرْشِ)(1) لتأنيس اذهانهم ومراعاة أفهامهم.
ثم اني استخرجت - فيما مضى من الزمان - من اسّ اَساس البلاغة مقدِّمة لبيان اعجاز القرآن الكريم ثنتي عشرة مسألة.
كل منها خيط لحقائق (2) .
ولما ذكرت هذه الآيات التمثيلية هنا - دفعةً - ناسب تلخيص تلك المسائل فنقول وبالله التوفيق:
المسألة الأولى:
ان منشأ نقوش البلاغة انما هو نظم المعاني دون نظم اللفظ كما جرى عليه اللفظيون المتصلفون، وصار حب اللفظ فيهم مرضاً مزمناً الى ان رد عليهم عبد القاهر الجرجاني (3) في دلائل الاعجاز واسرار البلاغة، وحصر على المناظرة معهم أكثر من مائة صحيفة.
ونظمُ المعاني: عبارة عن توخي المعاني النحوية فيما بين الكلمات. اي اذابة المعاني الحرفية بين الكلم لتحصيل النقوش الغريبة. وان أمعنت النظر لرأيت ان المجرى الطبيعيّ للأفكار والحسيات انما هو نظم المعاني. ونظم المعاني هو الذي يشيّد بقوانين المنطق.. وأسلوب المنطق هو الذي يتسلسل به الفكر الى الحقائق.. والفكر الواصل الى الحقائق هو الذي ينفذ في دقائق الماهيات ونسبها.. ونسب الماهيات هي الروابط للنظام الأكمل.. والنظام الأكمل هو الصَدَف للحُسن المجرد الذي هو منبع كل حسن.. والحسن المجرد هو الروضة لأزاهير البلاغة التي تسمى لطائف ومزايا.. وتلك الجنة المزهرة هي التي يجول ويتنزّه فيها البلابل المسمّاة بالبلغاء وعشاق الفطرة.. واولئك البلابل نغماتهم الحلوة اللطيفة انما تتولد من تقطيع الصدى الروحاني المنتشر من أنابيب نظم المعاني.
_____________________
(1) سورة الاعراف: 54.
(2) المقصود المقالة الثانية من كتاب (محاكمات "عقلية") - الصيقل الاسلامي.
(3) (ت 471هـ / 1078م) اِمام في اللغة والبلاغة، له مصنفات منها: كتاب المغني (30 مجلد) المقتصد (3 مجلدات) اعجاز القرآن، المفتاح، دلائل الاعجاز، اسرار البلاغة.
والحاصل: ان الكائنات في غاية البلاغة قد أنشأها وأنشدها صانعُها فصيحةً بليغة، فكل صورة وكل نوع منها - بالنظام المندمج فيه - معجزة من معجزات القدرة. فالكلام اذا حذا حذو الواقع، وطابق نظمُه نظامَه حاز الجزالة بحذافيرها. والاّ فإن توجَّه الى نظم اللفظ وقعَ في التصنع والرياء كأنه يقع في أرض يابسة وسراب خادع.
والسرّ في الانحراف عن طبيعة البلاغة انه:
لما انجذب واستعرب العجم بجاذبة سلطنة العرب صارت صنعة اللفظ عندهم اهمّ، وفسد بالاختلاط مَلَكة الكلام المُضَريّ التي هي أساس بلاغة القرآن الكريم، وتلون معكس أساليب القرآن الكريم؛ وانما معدنها من حسّيات قوم "مُضَر" ومزاجهم. فاستهوى حب اللفظ كثير من المتأخرين.
تذييل: تزيين اللفظ انما يكون زينة اذا اقتضته طبيعةُ المعاني. وشعشعة صورة المعنى انما تكون حشمةً له اذا أَذِن به المآل. وتنوير الاسلوب انما يكون جزالة اذا ساعده استعدادُ المقصود. ولطافة التشبيه انما تكون بلاغة اذا تأسّست على مناسبة المقصود وارتضى به المطلوب. وعظمةُ الخيال وجولانُه انما تكون من البلاغة اذا لم تؤلم الحقيقةَ ولم تثقل عليها ويكون الخيال مثالا للحقيقة متسنبلا عليها. وان شئت الأمثلة الجامعة لتلك الشرائط فعليك بتلك الآيات التمثيلية المذكورة.
المسألة الثانية:
ان السحر البياني اذا تجلى في الكلام صيّر الأعراض جواهرَ والمعانيَ أجساما والجمادات ذواتِ أرواح والنباتاتِ عقلاءَ، فيوقِع بينها محاورة قد تنجرّ الى المخاصمة، وقد تُوصل الى المطايبة فترقص الجمادات في نظر الخيال. وان شئت مثالا فادخل في هذا البيت.
يُنَاجِيني الإِخْلاَفُ مِنْ تَحْتِ مَطْلِهِ فَتَخْتَصِمُ الآمَالُ وَالْيَأْسُ في صَدْرِي(1)
او استمع معاشقة الارض مع المطر في:
(1)لإبن المعتز (دلائل الاعجاز ص61) وفي ديوان ابن المعتز: تجاذبنى الاطراف بالوصل والقلى... ص226.
تَشَكَّى الاْرْضُ غَيْبَتَهُ اِلَيْهِ وَتَرْشُفُ مَاءَهُ رَشْفَ الرُضاب (1)
فهذه الصورة انما تسنبلت على تصوّت الأرض اليابسة بنزول المطر بعد تأخر. ولابد في كل خيال من نواة من الحقيقة نظير هذا المثال، ولابد في زجاجة كل مجاز من سراج الحقيقة، والاّ كانت بلاغته الخيالية خرافة بلا عرق لا تفيد الاّ حيرة.
المسألة الثالثة:
اعلم! ان كمال الكلام وجماله وحُلته البيانية باسلوبه. واسلوبه صورة الحقائق وقالب المعاني المتخذ من قطعات الاستعارة التمثيلية. وكأن تلك القطعات "سيِمُوطُوغْرَاف" (2) خياليّ؛ كإراءة لفظ "الثمرة" جنتها وحديقتها. ولفظ "بارز" معركة الحرب. ثم ان التمثيلات مؤسسة على سرّ المناسبات بين الأشياء، والانعكاسات في نظام الكائنات، واخطار امور اموراً؛ كإخطار رؤية الهلال في الثريا في ذهن ابناء النخلة غصنَها الأبيض بالقدم المتقوس بتدلي العنقود (3). وفي التنزيل (حَتى عادَ كالعُرجُون القديم ) (4).
ثم ان فائدة اسلوب التمثيل كما في الآيات المذكورة هي: ان المتكلم بواسطة الاستعارة التمثيلية يُظهر العروق العميقة، ويوصل المعاني المتفرقة. واذا وضع بيد السامع طرفاً امكنَ له ان يجرّ الباقي الى نفسه، وينتقل اليه بواسطة الاتصال، فبرؤية بعضٍ يتدرج شيئاً فشيئاً - ولو مع ظلمة - الى تمامه. فمن سمِع من الجوهريِّ ما قال في وصف الكلام البليغ: "الكلام البليغ ما ثقبته الفكرةُ".. ومن الخمّار ما قال فيه: "ما طُبخ في مراجل العلم".. ومن الجمَّال ما قال فيه: "ما اخذتَ بخطامه واَنَخْتَهُ في مَبْرك المعنى" ينتقل الى تمام المقصد بملاحظة الصنعة.
ثم ان الحكمة في تشكل الاسلوب هي: ان المتكلم بارادته ينادي ويوقظ المعانيَ الساكنة في زوايا القلب كأنها حفاة عراة. فيخرجون ويدخلون الخيال، فيلبسون ما يجدون من الصور الحاضرة بسبب الصنعة أو التوغل أو الألفة أو الأحتياج، ولا أقل من لفِّ منديلٍ من تلك الصنعة برأسه، أو الانصباغ بلون مّا. وما تجده في ديباجة الكتب من براعة الاستهلال من اظهر امثلة هذه المسألة.
_____________________
(1) للمتنبي في ديوانه 1/263.
(2) الكتابة المتحركة، اصلها: سينماطوغراف ثم اختصرت الى سينما.
(3) لعل الاستاذ يقصد قول قيس بن خطيم:
وقد لاح في الصبح الثريا لمن رأى كعنقود ملاحيّه حين نوّرا
او قول ابن المعتز:
وارى الثريا في السماء كأنها قدم تبدت من ثياب حداد
(4) سورة يس: 39.
ثم ان اسلوب الكلام قد يكون باعتبار خيال المخاطَب كما في أساليب القرآن الكريم فلا تنسَ. ثم ان مراتب الاسلوب متفاوتة فبعضها ارقّ من النسيم اذا سرى يرمز اليه بهيئات الكلام. وبعضها اخفى من دسائس الحرب لايشمه الاّ ذو دهاء في الحرب؛ كاستشمام الزمخشري (1) من (مَنْ يُحْيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (2) اسلوب "مَن يبرز الى الميدان". وان شئت فتأمل في الآيات المذكورة تر فيها مصداق هذه المسائل بألطف وجه. وان شئت زُرِ الامامَ البوصيريَّ (3) وانظر كيف كتب "رَجَتَتَهُ" (4) باسلوب الحكيم في قوله:
وَاسْتَفْرغِ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قَدِ امْتَلأَتْ مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْزِمْ حِمْيَةَ النَّدَم
ورمز الى الاسلوب بلفظ الحمية. او استمع هدهد سليمان كيف أومأ الى هندسته (5) بقوله: (الاّ يَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِج الْخَبْءَ في السَّموَاتِ والارضِ) (6).
المسألة الرابعة:
اعلم! ان الكلام انما يكون ذا قوّة وقدرة اذا كان اجزاؤه مصداقا لما قيل:
عِبَاراتُنا شَتى وَحسْنُكَ وَاحِدٌ وَكُلٌّ اِلَى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشير بان تتجاوب قيودات الكلام ونظمه وهيئته، ويأخذ كلٌ بيد الآخر ويظاهره، ويمد كلٌ بقَدَرِه الغرضَ الكليِّ مع ثمراته الخصوصية. كأن الغرض المشترك حوض يتشرب من جوانبه الرطبة، فيتولد من هذه المجاوبة المعاونةَ، ومنها الانتظام، ومنه التناسب، ومنه الحسن والجمال الذاتي.
_____________________
(1) هو ابو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشرى جار الله. ولد بزمخشر سنة 467هـ، توفي بعد رجوعه من مكة المكرمة سنة 538هـ. إمام عصره في اللغة والتفسير، له "الكشاف عن حقائق التنزيل " و "الفائق في غريب الحديث " و "المفصل في النحو " و "اساس البلاغة " وغيرها.
(2) سورة يس: 78.
(3) (608 - 698هـ) محمد بن سعيد بن حماد بن عبدالله البوصيري المصري. شاعر، حسن الديباجة، مليح المعاني، له ديوان شعر مطبوع، واشهر شعره البردة المشهورة بـ "بردة المديح " (كشف الظنون 1/288 الاعلام 6/139).
(4) وصفة طبية.
(5) ومعرفته الماء تحت الارض (الكشاف).
(6) سورة النمل: 25.
وهذا السر من البلاغة يتلألأ من مجموع القرآن لا سيما في (الم _ ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين) كما سمعتَه مع التنظير بقوله: (ولئن مسَّتهم نفحةٌ من عذاب ربك) (1) .
المسألة الخامسة:
اعلم! ان غناء الكلام وثروته ووسعته هو انه كما أن أصل الكلام يفيد أصل المقصد؛ كذلك كيفياته وهيئاته ومستتبعاته تشير وترمز وتلوحالى لوازم الغرض وتوابعه وفروعه، فكأنما تتراءى طبقة بعد طبقة ومقاما خلف مقام. وان شئت مثالا تأمل في (واذا قيل لهم لاتفسدوا في الارض) الى آخره. و(واذا لقوا الذين آمنوا) الى آخره، على الوجه المفسَّر سابقا.
المسألة السادسة:
اعلم! ان المعاني المجتناة من خريطة الكلام المأخوذة المنقوشة "بفُوطُغْراف" التلفظ على أنواع مختلفة ومراتب متفاوتة. فبعضها كالهواء يُحسّ به ولايُرى.. وبعضها كالبخار يُرى ولا يُؤْخذ.. وبعضها كالماء يُؤخذ ولاينضبط.. وبعضها كالسبيكة ينضبط ولايتعين.. وبعضها كالدّرّ المنتظم والذهب المضروب يتشخص، ثم بتأثير الغرض والمقام قد يتصلب الهوائي. وقد تعتور على المعنى الواحد الحالات الثلاث. ألا ترى انه اذا أثر أمر خارجي في وجدانك يتهيج قلبُك؟ فيثير الحسيات فيتطاير معانٍ هوائية فيتولد ميولٌ، ثم يتحصل بعضها، ثم يتشكل من ذلك البعض قسم، ثم ينعقد من ذلك القسم بعض. ففي كل من هذه الطبقات يتوضع وينعقد البعض، ويبقى البعض الآخر معلّقا كمعلقية بعض الصوت عند تشكل الحروف، والتبن عند انعقاد الحبوب. فمن شأن البليغ ان يفيد بصريح الكلام ما تعلق به الغرضُ واقتضاه المقام، وطلبه المخاطب. ثم يحيل الطبقات الأُخر - بمقدار نسبة درجة القرب من الغرض - على دلالة القيود، واشارة الفحوى، ورمز الكيفيات، وتلويح مستتبعات التراكيب، وتلميح الأساليب، وإيماء أطوار المتكلم. ثم ان من تلك المعاني المعلقة معاني حرفية هوائية ليس لها ألفاظ مخصوصة، ولا لها وطن معين بل كالسيَّاح السيَّار؛ قد يستتر في كلمة وقد يتشربه كلام وقد يتداخل في قصة، فان عصرتَ تقطَّر.
_____________________
(1) سورة الانبياء: 46.
كالتحسر في (اِنِي وَضَعْتُها اُنْثى) (1) والتأسف في (لَيْتَ الشَّبَابَ.. الخ). والاشتياق والتمدح والخطاب والاشارة والتألم والتحير والتعجب والتفاخر وغير ذلك. ثم ان شرط حسن المعاشرة بين تلك المعاني المتزاحمة تقسيم العناية والاهتمام على نسبة خدمتها للغرض الاساسيّ. وان شئت مثالاً لهذه المسألة فمن رأس السورة الى هنا مثال بيّن على الوجه المشروح سابقاً.
المسألة السابعة:
اعلم! ان الخيال المندمج في اسلوب لابد ان يتسنبل على نواة حقيقة، ويكون كالمرآة في ان ينعكس به - في المعنويات - القوانينُ والعلل المندرجة في سلسلة الخارجيات.
وفلسفة النحو التي هي المناسبات المذكورة في كتبه أيضاً من هذا القبيل؛ كما يقال: الرفع للفاعل لأن القوي يأخذ القوي. وقس عليه..
المسألة الثامنة:
اعلم! ان سيبويه (2) نصّ على ان الحروف التي تعدد معانيها كـ "من" و "الى" و"الباء" وغيرها، أصل المعنى فيها واحد لايزول؛ لكن باعتبار المقام والغرض قد يتشرب معنى معلقاً، ويجذبه الى جوفه، فيصير المعنى الأصلي صورة واسلوباً لمسافره. وكذلك ان العارف بفقه اللغة اذا تأمل عَرف ان اللفظ المشترك في الأغلب معناه واحد، ثم بالمناسبات وقع تشبيهات.. ثم منها مجازات.. ثم منها حقائق عرفية.. ثم يتعدد. حتى ان اسم "العين" التى معناه الواحد البصر أو المنهل، يطلق على الشمس أيضاً (3) بالرمز الى ان العالم العلويَّ ينظر الى العالم السفليِّ بها، او ان ماء الحياة الذي هو الضياء يسيل من ذلك المنبع في الجبل الأبيض المشرف وقس!..
_____________________
(1) سورة آل عمران: 36.
(2) هو عمر بن عثمان، امام نحاة البصرة، ولد بالبيضاء من مدن شيراز نشأ بالبصرة ودرس النحو على الخليل الفراهيدى، ورد بغداد فناظر امام نحاة الكوفة الكسائى فحكم بانتصاره عليه، فأسف وعاد الى موطنه، وألف كتابه الذى يعدّ اصل النحو، توفي سنة 796هـ.
(3) والعين: عين الشمس، وعين الشمس: شعاعها الذى لا تثبت عليه العين. وقيل: العين الشمس نفسها، يقال: طلعت العين، وغابت العين. (لسان العرب لابن منظور).
المسألة التاسعة:
اعلم! ان أعلى مراتب البلاغة الذي يُعجِز الارادةَ الجزئية والفكر الشخصيّ والتصور البسيط: هو ان يحافظ ويراعي وينظر المتكلم دفعةً نسب قيود الكلام وروابط الكلمات وموازنة الجمل التي يُظهِر كلٌ مع الآخر نقشاً متسلسلاً الى النقش الأعظم. حتى كأن المتكلم استخدم عقولا الى عقله كالباني لقصر يضع الأحجار المتلونة بوضعية تحصل بها نقوشٌ غريبة من مناظرة وموازاة الكل مع الكل كـ"العين"(1) في الخط المشترك بين "الخلفاء الراشدين". ومن اظهر مسائل هذه المسألة قوله تعالى: (الم _ ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين) على ما سمعت سابقا..
وأيضاً من أسباب علوّ الكلام أن يكون كشجرة النسب يتسلسل متناسلا الى المقاصد التي تتدلى على المقام والغرض.. وأيضاً من أسباب رفعة طبقة الكلام أن يكون مستعداً لاستنباط كثير من الفروع والوجوه كقصة موسى على نبينا وعليه السلام.
المسألة العاشرة:
اعلم! ان سلاسة الكلام المنتجة للطافته وحُلْوه هو ان تكون المعاني والحسيات المندمجة فيه ممتزجة تتحد أو مختلفة تنتظم؛ لئلا تتشرب الجوانب قوّة الافادة والغرض، بل يجذب المركزُ القوّةَ من الأطراف.. وأيضاً من السلاسة ان يتعين المقصد.. وأيضاً منه ان يتظاهر ملتقى الأغراض.
المسألة الحادية عشرة:
اعلم! ان سلامة الكلام التي هي سبب صحته وقوّته هي: ان يكون الكلام بحيث يشير الى المبادئ والدلائل، ويرمز الى اللوازم والتوابع، وبقيود الموضوع والمحمول وكيفياتهما يومئ الى رد الاوهام ودفع الشبهات؛ كأن كل قيد جواب لسؤال مقدّر. وان شئت مثالا فعليك بفاتحة الكتاب.
_____________________
(1) من المعلوم ان اسماء الخلفاء الراشدين الاربعة تبدأ بحرف "العين" وقد استلهم بعض الخطاطين نقشاً بديعاً استعمل فيه حرف "العين" مشتركاً بين اسمائهم.
المسألة الثانية عشرة:
اعلم! ان الأساليب على ثلاثة أنواع:
أحدها:
الاسلوب المجرد، الذي لونه واحد، وخاصته الاختصار والسليقية والسلامة والاستقامة فهو أملس سوي، ومحل استعماله المعاملات والمحاورات والعلوم الآلية. وان شئت مثالا سلساً منه فعليك بكتب السيّد الجرجاني.
والثاني:
الاسلوب المزين، وخاصته التزيين والتنوير، وتهييج القلب بالتشويق أو التنفير. والمقام المناسب له الخطابيات كالمدح والذم وغيرهما والاقناعيات ونظائرهما. واذا تحرّيت المثال المزيّن فادخل في دلائل الاعجاز واسرار البلاغة ترَ فيهما جناناً مزينة.
والثالث:
الاسلوب العالي، وخاصته الشدة والقوّة والهيبة والعلوية الروحانية. ومقامه المناسب الإلهيات والأصول والحكمة. وإن شئت مثلا بيناً وتمثالاً معجِزاً فعليك بـ "القرآن" فان فيه ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بليغ..
(انتهى الفصل بتلخيص).
يتبع إن شاء الله...