منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

soon after IZHAR UL-HAQ (Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48824
العمر : 71

الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية Empty
مُساهمةموضوع: الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية   الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية Emptyالأحد 10 نوفمبر 2013, 9:58 pm

الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية

الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية

ثمة رأي يذهب إلى أن التشـكيل الإمبريالي الغربي يشكل انحرافاً عن الحضارة الغربية الحديثة وعن رؤيتها للكون، وأن تَبنِّي الحضارة الغربية للحل الإمبريالي (أي تصدير مشاكلها للخارج والهيمنة على شعوب الأرض وعلى مصادرها الطبيعية) هو حالة من غياب الاتسـاق مع الذات في حضارة ليبرالية إنسـانية مستنيرة ارتضت الديموقراطية فلسفة للحكم، وارتضـت التنافس الحر نسقاً اقتصادياً، كما تبنت العقلانية والإنسانية فلسفة للكون.

وقد دأبت العلوم الإنسانية الغربية على تَناوُل بعض الظواهر باعتبارها ظواهر مستقلة مع أنها، في واقع الأمر، مترابطة بل تكاد تكون واحدة. فيتم مثلاً الفصل بين الاشتراكية والرأسمالية مع أن كلتيهما مبنية على فكرة ترشيد الاقتصاد وتصفيته من أية مضامين أخلاقية، إنسانية كانت أم دينية، فكل منهما اقتصاد يدور في إطار المرجعية المادية الكامنة (الطبيعة/المادة) وحول السوق/المصنع.

وقد تم الفصل بين الظواهر المترابطة لأسباب عديدة (أشرنا إليها في الباب المعنون «إشكالية تعريف العلمانية» وفي الباب المعنون «نحو نموذج تفسيري شامل ومركب للعلمانية») ويمكن أن نضيف لها هنا أن الخطاب التحليلي الغربي قد استبعد إلى حدٍّ كبير البُعد المعرفي فلم يركز على الأسئلة والمرجعية النهائية وركز على البُعد الاقتصادي وحسب. ولذا، فقد تم تصنيف البشر إلى مستغلين ومستغَلين، وتم تصنيف النظم الاقتصادية على أساس علاقات الإنتاج (أي أن المرجعية الحاكمة والنهائية هي القيمة الاقتصادية).

وأصبحت القضية هي: 

مَنْ الذي يحصل على نصيب أكبر من فائض القيمة، الأثرياء أم الفقراء؟ الشمال أم الجنوب؟ واستناداً إلى هذا المعيار الاقتصادي اليتيم، تمت التفرقة بين الرأسمالية والاشتراكية وتم الربط بين الإمبريالية والرأسمالية من حيث إن النظم الاشتراكية تقوم بتوزيع ثمرة العملية الإنتاجية بالعدل وتعيد استثمار ما تراكم من فوائض من خلال جهاز الدولة لصالح الجميع (وهي مقولات ثَبت كذبها فيما بعد) ولا تقوم بنهب الشعوب الأخرى (نظرياً على الأقل). فالإطار التحليلي ونقطة الانطلاق هي العنصر الاقتصادي وحسب، فهو المصدر وإليه المآل.

ولكن العنصر الاقتصادي يستند إلى مرجعية مادية كامنة إذ يتم النظر للإنسان باعتباره مجرد عنصر مادي خاضع للحركيات الاقتصادية، أي أن الإطار التحليلي الاقتصادي ليس اقتصادياً وحسب، وإنما هو بالضرورة مادي أيضاً وواحدي وكمي، ولذا فهو إما يتجاهل الأسئلة النهائية تماماً أو يعطي إجابات مادية عليها. 

ولعلنا لو غيَّرنا المقولات التحليلية نفسها لاختلف الأمر كثيراً فعندئذ سنسأل الأسئلة المعرفية الكلية النهائية عن الإنسان: 

هل هو كائن مستقل عن الطبيعة، يتكون من مادة وشيء آخر (أي يدور في إطار مرجعية مادية ومرجعية متجاوزة) أم أنه مجرد مادة وحسب (يدور في إطار مرجعية كامنة مادية وحسب)؟ هل الإنسان كائن مركب قادر على تَجاوُز واقعه الطبيعي وتَجاوز ذاته الطبيعية، أم أنه كائن طبيعي مادي بسيط، أحادي البُعد، يُذعن تماماً للطبيعة/المادة ويتكيف معها؟ هل النظام الاقتصادي الذي ندرسه يحقق الإنسانية المركبة للإنسان أم يمحوها؟.

إن فعلنا ذلك، فإن طريقة تصنيفنا للواقع ستختلف كثيراً إذ سنكتشف أن الاختلاف على المستوى الاقتصادي في طريقة توزيع الثروة في المجتمع الاشتراكي عنه في المجتمع الرأسمالي، لا تؤدي على المستوى المعرفي النهائي إلى اختلافات جوهرية، فكثير من الظواهر التي تهز كيان الإنسان كإنسان (تزايد ترشيد المجتمع وتنميطه ـ تزايد تطبيق المعايير الكمية ـ تَزايُد تَحكُّم البيروقراطيات ـ تزايد هيمنة الأجهزة الإعلامية ـ أزمة المعنى ـ أزمة القيمة ـ الاغتراب ـ التَسلُّع ـ أزمة الأسـرة) تُوجَد في كلٍّ من المجـتمعات الرأسمالية والاشتراكية رغم اختلاف طريقة توزيع الثروة . وليس من قبيل الصدفة أن نجد أن الأدب الحداثي في الدول الاشتراكية والرأسمالية يتناول نفس المشاكل والقضايا والموضوعات، الأمر الذي يشير إلى أن الاختلاف بين الرأسمالية والاشتراكية قد لا يكون جوهرياً من منظور الأثر المُتعيِّن لهذه النظم على الإنسان كإنسان. ولذا، قد يكون من الأجدى التركيز على البُعد النهائي الإنساني وعلى المرجعية النهائية للمجتمع.

ونحن نذهب إلى أن العلمانية (وحدة الوجود المادية والمرجعية المادية الكامنة) هي الإطار المعرفي النهائي للحضارة الغربية الحديثة. ولكننا نذهب أيضاً إلى أن الرؤية العلمانية هي في واقع الأمر رؤية حلولية كمونية مادية لا تفصل الدين عن الدولة وحسب وإنما تعزل القيم المطلقة (المعرفية والأخلاقية والإنسانية والدينية) عن الدنيا، بحيث يصبح مركز الكون كامناً فيه ويُردُّ الواقع بأسره (الإنسان والطبيعة) إلى مستوى واحد، ويصبح كله مجرد مادة محضة نافعة نسبية لا قداسة لها تُوظَّف وتُسخَّر. 

والهدف من وجود الإنسان في الأرض هو زيادة معرفة قوانين الحركة والطبيعة البشرية والهيمنة عليها من خلال التقدم المستمر الذي لا ينتهي، ومن خلال تَراكُم المعرفة وسد كل الثغرات وقمع الآخر إلى أن يخضع كل شيء (الإنسان والطبيعة) لحكم العقل وقانون الأرقام (وهو قانون يستمد مشروعيته من المعارف العلمية المادية)، بحيث تَحوَّل الواقع بأسره (طبيعة وبشراً) إلى جزء متكامل عضوي تنتظمه شبكة المصالح الاقتصادية والعلاقات المادية، فيخضع الواقع للواحدية المادية ويصبح أشبه ما يكون بالسوق والمصنع. 

وقد تم ترشيد كل شيء على هدي المعايير العلمية الواحدية المادية والنماذج التي تستند إلى مفهوم الطبيعة/المادة بحيث أصبح كل شيء فيه محسوباً ومضبوطاً بعد استبعاد كل الاعتبارات غير المادية، مثل الغيبيات والمطلقات والخصوصيات، ذلك لأن ما بداخله غيب أو أسرار، وكل ما هو فردي فريد لا يمكن قياسه أو التحكم فيه أو غزوه أو توظيفه أو حوسلته. وقد تم تهميش الإله أو إلغاؤه باسم الإنسان وصالح الجنس البشري. وبعد إلغاء أية مرجعية متجاوزة، تظهر المرجعية الكامنة فيصبح مركز الكون كامناً فيه، ويصبح الإنسان مركز الكون (دون أي استخلاف من الإله) وتظهر الحركة الإنسانية (الهيومانية). 

ولكن في إطار المرجعية الكامنة يُختَزل الإنسان ويُردُّ في كليته إلى الطبيعة/المادة، ويصبح إنساناً طبيعياً (مادياً) غير قادر على تجاوز ذاته الطبيعية المادية ولا يتجاوز الطبيعة/المادة بحيث يسري عليه ما يسري على الظواهر الطبيعية من قوانين وحتميات، وهذا ما يعني أن الإنسان يفقد إنسانيته المركبة وتُنزَع عنه القداسة تماماً. والإنسان الطبيعي إنسان لا حدود ولا قيود عليه، يقف وراء الخير والشر، متمركز حول منفعته ولذته، لا راد لقضائه أو لرغبته في البقاء. 

وهو لا يلتزم بأية قيم معرفية أو أخلاقية أو أبعاد نهائية، فهو يتبع القانون الطبيعي ولا يلتزم بسواه بل لا يمكنه تجاوزه. لكل هذا أصبح الإنسان كائناً غير قادر إلا على التمركز حول مصلحته ومنفعته ولذته المادية وبقائه المادي، فمفهوم «الإنسانية جمعاء» مفهوم أخلاقي مطلق ميتافيزيقي متجاوز لقوانين المادة، وليس هناك ما يُلزم الإنسان الطبيعي (مرجعية ذاته المتمركز حولها) بأن يؤمن بمثل هذه المطلقات وهذه المُثُل العليا غير المادية، فماذا في قوانين الطبيعة وقوانين الحركة وقوانين الضرورة يُلزمه بأن يتجاوز مصلحته الخاصة الضيقة وألا يُحوِّل الآخر إلى مادة تُوظَّف لصالحه؟

لكل هذا فإنه بدلاً من مركزية الإنسان في الكون تظهر مركزية الإنسان الأبيض في الكون، وبدلاً من الدفاع عن مصالح الجنس البشري بأسره يتم الدفاع عن مصالح الجنس الأبيض، وبدلاً من ثنائية الإنسان والطبيعة وأسبقية الأول على الثاني تظهر ثنائية الإنسان الأبيض من جهة، مقابل الطبيعة/المادة وبقية البشر الآخرين من جهة. ويصبح هم هذا الإنسان الأبيض هو غزو الطبيعة المادية والبشرية وحوسلتها وتوظيفها لحسابه واستغلالها بكل ما أوتي من إرادة وقوة، وهكذا تحوَّلت الإنسانية الهيومانية الغربية إلى إمبريالية.

وهكذا، فقد حوَّلت هذه الرؤية الإنسان الغربي إلى مُستغل يلتهم الكون، وحولت الطبيعة وبقية الشعوب إلى مجرد مادة استعمالية تُوظَّف وتُسخَّر. وقد قام الإنسان الغربي بالفعل بذلك وحقق لنفسه مستويات معيشية مادية ورخاء مادياً لم ير مثله البشر من قبل (وربما لا يرون من بعد). وعادةً ما يقف التحليل الاقتصادي عند هذه النقطة وينظر للعالم من منظور معدلات الاستغلال الاقتصادي ويُقسَّم البشر إلى مستغلين ومستغَلين بالمعنى الاقتصادي وحسب. ولكن التحليل المعرفي يستمر متجاوزاً هذا المستوى. 

وكما أسلفنا، تم تعريف هذا الإنسان الغربي نفسه في إطار مادي واحدي، والرؤية المادية لا تفرق بين أحد ولا تعطي لأحد مكانة أو منزلة خاصة، فالإنسان الغربي هو أيضاً مادة استعمالية، وهو أيضاً لابد أن يدخل الدائرة والآلة الشيطانية الواحدية المادية التي تحـوِّله إلى مادة إنتاجـية اسـتهلاكية، ولذا تم اسـتغلاله بطـريقة شرسة قد لا تكون اقتصادية ولكنها شاملة.

وإذا كانت معدلات استهلاك الإنسان الغربي أعلى من المعدلات التي يتمتع بها الإنسان الشرقي فإن هذا لا يشكل فارقاً جوهرياً، فالجميع خاضع لعملية الترشيد والحوسلة والتنميط التي تمحو ما هو إنساني، فقد تم ترشيده هو الآخر من الداخل والخارج في بنيته الاجتماعية والإنسانية حتى تم التحكم فيه تماماً وأصبح مُحاصَراً تماماً بأجهزة إعلام تدمر البنية الاجتماعية، وبصناعات تدمر البيئة الطبيعيـة، وبصناعات عسـكرية تُنفَق عليها الملايين من الدولارات وتهدِّد بتدمير العالم، وبمشـروعات فضـاء لا يعرف أحد جدواها، وبإيقاع حياة آلي سريع رتيب يقضي على كل ما هو نبيل في حياة الإنسان، وبمؤسسات عامة تضبط حياته وحياة أسـرته (أو ما تبقَّى من الأسـرة) وبصـناعات اللذة التي تصوغ أحلامه وتُصعِّد توقعاته وتقتحم حياته الخاصة تماماً. 

فهو مُستوعَب تماماً في آليات الحياة الحديثة إذ يزداد ترشيده وإعادة صياغته وغزوه وتسخيره يوماً بعد يوم بهدف زيادة هيمنة الواحدية المادية عليه، تلك الهيمنة التي تعني زيادة التحكم في ساعات عمله ولهوه، وفي احتياجاته وأحلامه، وفي علاقته بنفسه وأسرته، وفي البيئة الطبيعية التي يعيش في كنفها حتى يصبح إنساناً رشيداً، منتجاً ومستهلكاً، جزءاً لا يتجزأ من عالم الأشياء والسلع والطبيعة/المادة (التمركز حول الموضوع). ولو استخدمنا هذا المعيار لوجدنا أن الإنسان في العالم الغربي قد طُحن هو الآخر تماماً وتم تسليعه، إذ أن النظام الذي يكفل له الحياة المادية الهانئة من ناحية اقتصادية هو أيضاً النظام الآلي الذي يتحكم فيه وفي حياته والذي أخرج الأشياء من عالم الإنسان إلى عالم الأشياء، ثم أخرج الإنسان نفسه من عالم الإنسان ووضعه في عالم الأشياء. 

بل على مستوى من المستويات، يمكن القول بأن الإنسان الغربي الذي تم ضبط حياته وترشيدها تماماً (من خلال آليات الدولة الحديثة المتقدمة) هو في حالة أسوأ من الإنسان الشرقي الذي لا يزال يتمتع بقسط من الحرية والخصوصية بسبب طبيعة المجتمعات التقليدية أو الانتقالية الفضفاضة. ولعل الإنسان النازي الذي تَحوَّل تماماً إلى آلة مَثل جيد على ذلك، ولعل الإنسان الأمريكي الذي لا يملك من أمره شيئاً، والذي تُرتَّب له حياته من الداخل والخارج، هو أيضاً مَثل آخر على ما نقول.

وقد ظهرت هذه الرؤية الإمبريالية قبل أن تصبح الإمبريالية حقيقة تاريخية. ونشأت لدى الإنسان الغربي الرغبة في ضبط حياته وترشيد مجتمعه وذاته والتهام العالم قبل ميلاد رجل أوربا النهم. كانت جيوش أوربا الغازية تسير في عقل الإنسان الغربي وأحلامه قبل أن تطأ أقدام جنودها الثقيلة غابات أفريقيا الخضراء وجبال آسيا الشامخة وقبل أن يُباد الملايين من الأطفال والنساء والرجال من الشعوب الأصلية التي كانت تشغل الحيز الحيوي الذي كان يود أن يستولي عليه هذا الرجل النهم.

وبسـبب هـذا الترادف أو التَوحُّد أو الترابط أو الـتلازم بين الرؤية المعرفية العـلمانية والرؤية المعــرفية الإمبريالية، فإننا نشير إليهما باعتبارهما «الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية». ولعل الاختلاف بين العلمانية والإمبريالية هو اختلاف في مجال التطبيق وليس في الرؤية نفسها، فالرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية تُعبِّر عن نفسها من خلال عمليتين تاريخيتين متزامنتين متعاقبتين متشابهتين، وهما عمليتان متكاملتان لا يمكن أن نراهما كسبب ونتيجة (إلا لفترة مبدئية وجيزة) فالأسباب نتائج والنتائج أسباب. هاتان الظاهرتان هما الدولة (القومية) المطلقة والتشكيل الاستعماري الإمبريالي الغربي. فقد تبدت الرؤية المعرفية الإمبريالية على هيئة الدولة المطلقة في الداخـل الأوربي وعلى هيئة التشـكيل الاسـتعماري الغربي في الخارج العالمي. ورغم اختلاف المجال والآليات، ظلت الأهداف النهائية واحدة: ترشيد البشر وتسخيرهم وفرض الواحدية المادية على العالم وتحويله إلى مادة متجانسة متحوسلة.

ويمكن أن نرسم الصورة على النحو التالي:
هدف الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية:

فرض الواحدية المادية وحوسلة الطبيعة والإنسان في كلٍّ من الداخل الأوربي وفي الخارج العالمي

آلية التنفيذ ومجالها:

مؤسسات الدولة المطلقة في الداخل الأوربي وجيوش الدولة المطلقة في الخارج العالمي

فثمة اتفاق في الرؤية وفي الأهداف النهائية، واختلاف في آليات التنفيذ ومجاله، أي أن الظاهرتين هما ظاهرة واحدة على المستوى المعرفي:
1 ـ على مستوى العلمنة في الداخل (من خلال الدولة القومية المطلقة): 

قامت الحكومات العلمانية المطلقة في الغرب بترشيد البنية المادية والاجتماعية للمجتمعات الغربية من أجل تعظيم توظيف الموارد البشرية والمادية. فتم ترشيد البنية الطبيعية (المادية) والعنصر الإنساني، وهي عملية تتضمن ترشيد السوق الداخلي واستخدام الموارد الطبيعية التي تقع داخل حدودها، كما تتضمن تحويل الإنسان إلى طاقة مادية تُوظَّف وإزالة كل الجيوب الوسيطة (الترشيد من الخارج). وقد اسـتبطن الإنسـان الغـربي هذه الرؤية (الترشــيد من الداخل) فارتفعت كفاءته في الأداء، أي أن الداخل الغربي تم غزوه وحوسلته تماماً.

2 ـ على مستوى العلمنة في الخارج (من خلال الإمبريالية العالمية): 

بعد ترشيد الإنسان الغربي من الداخل والخارج، ومع تَزايُد الترشيد في عمليات النهب والقرصنة في الخارج وتَزايُد التراكم الإمبريالي واتساع نطاق السوق حتى تَجاوَز حدود الدولة القومية المطلقة، بدأت مرحلة إمبريالية الخارج، فقامت الحكومات القومية العلمانية (المطلقة) بتكثيف طاقتها المادية والبشرية وتسخيرها في تجييش الجيوش، ثم قامت بإرسالها إلى كل أرجاء العالم لإخضاعه والهيمنة عليه وترشيده (من الخارج) وتوظيف موارده البشرية والمادية لصالح الحكومات والشعوب الغربية (وفيما بعد، لصالح قطاعات من النخب السياسية والثقافية في العالم الثالث، باعتبار أنها شريكة للإمبريالية والعلمانية)، وذلك حتى تمت لها السيطرة على العالم بأسره وإحكام قبضتها عليه. 

وقد تصاعدت معدلات الهيمنة على أسواق العالم وشعوبه وأُخضع العالم بأسره لقوانين الواحدية المادية، أي تم ترشيده في إطار المرجعية المادية الواحدية حتى يتم تنميط المؤسسات والبشر ويُستوعَب الجميع في سوق عالمية وشبكة اتصالات ضخمة. وقد بدأت بالفعل قطاعات كبيرة من الناس في العالم بأسره (وخصوصاً بعض أعضاء النخب السياسية والاقتصادية والثقافية) يستبطنون الرؤية العلمانية الإمبريالية (الترشيد من الداخل) وتزايد استبطانهم لها على مر الأيام. وكما حاولت الدولة القومية القضاء على الجيوب الإثنية والدينية في الداخل، وعلى كل المطلقات الإنسانية والأخلاقية (غير المادية) وعلى كل الخصوصيات، تحاول الإمبريالية القيام بهذا الدور على مستوى العالم.

وهذه العملية ليست عملية تعاقبية بمعنى أن تؤدي (أ) إلى (ب)، أو أن (أ) تحدث ثم تحدث بعدها (ب)، فالأمر أكثر تركيباً من ذلك. فعمليات الهيمنة في الخارج زادت من نجاح الدولة المطلقة أمام مواطنيها (وهم مستفيدون من عملية التراكم الرأسمالي الإمبريالي)، فزادت الدولة من هيمنتها على هم، أي أن نجاح الهيمنة في الخارج مرتبط بتَزايُد الهيمنة في الداخل، لأن تَزايُد هيمنتها في الداخل يعني أيضاً تَزايُد مقدرتها على تجنيد جماهيرها للزج بها في الحروب الاستعمارية وتمويل هذه الحروب.

ولعله من المفيد، من منظور هذه الموسوعة، أن نشير إلى الاستعمار الاستيطاني باعتباره جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الاستعماري الغربي مع أن له خصوصيته المستقلة. لقد بدأ الإنسان الغربي ينزح عن قارته الأوربية في عصر نهضته وفي بداية مشروعه التحديثي العلماني، فاستعمر الأمريكتين حيث أسَّس مجتمعات استيطانية ضمت فيما بعد جنوب أفريقيا، فأستراليا ونيوزيلندا والجيب الاستيطاني في الجزائر، وأخيراً فلسطين. 

وقد قامت هذه المجتمعات الاستيطانية على أساس المنفعة واللذة بالدرجة الأولى، فالعناصر البشرية التي كوَّنت هذه المجتمعات كانت أكثر العناصر نشـاطاً وحركية في المجتمعات التقليدية، وأشدها طموحاً وقلقاً وبحثاً عن الحراك الاجتماعي وعن المنفعة واللذة، وأقلها تَجذُّراً ورضاً وقناعة، وأكثرها استعداداً لأن تنبذ تاريخها وهويتها. وليس للمجتمعات الاستيطانية تراث حضاري أو قومي مستقل وممتد، كما أنها لا تتمتع بأية خصوصية أو شخصية تاريخية. 

والمؤسسات الدينية في مثل هذه المجتمعات هزيلة لأنها دون تاريخ أو جذور، ولأنها مُستورَدة على يد المستوطنين وبالتالي خاضعة لهم ولنزواتهم ولرؤيتهم للواقع. ولهذا، ظهر في هذه المجتمعات الاستيطانية إنسان بلا تاريخ ولا قيم ولا تراث ولا هوية، فهو يقترب إلى حدٍّ كبير من الإنسان الطبيعي/المادي ذي البُعد الواحد الذي يدور تماماً في إطار المرجعية المادية. ولذا، فقد كان من الممكن إدارة هذه المجتمعات على أسـس اقتصـادية رشيدة إلى أقـصى حد، لا تعـوقها عــوائق تاريخية دينية أو تراثية أو أي شكل من أشكال المطلقات. ومن هنا، فقد جاءت هذه المجتمعات مجتمعات علمانية نماذجية.

ويتبدَّى هذا بكل جلاء في الاستعمار الاستيطاني البروتستانتي (الأنجلو ساكسوني) حيث تمت إبادة السكان الأصليين إذ كان من المحال تحويلهم إلى مادة استعمالية عامة بسبب تراثهم الحضاري، واستُجلب العبيد إلى المزارع في الجنوب الأمريكي وإلى جزر الهند الشرقية، وحُطِّمت شخصيتهم الحضارية وعُزلوا عن كل المؤسسات الدينية وضمن ذلك المسيحية (في بادئ الأمر) حيث كانوا يُعامَلون بشكل محايد ويُنظَر إليهم من منظور الوظيفة وحسب دون أي اعتبار للجوانب الروحية أو الأخلاقية، أما الاستعمار الاستيطاني الكاثوليكي فلم يكن بهذا الرشاد. فقد بذلت الكنيسة جهداً غير عادي في مقاومة المستوطنين، ناظرة إلى السكان الأصليين باعتبارهم مادةً إنسانية ذات روح وقداسة وبالتالي لابد من هدايتهم. 

ولهذا نجد أن معدلات العلمنة في المجتمعات الاستيطانية ذات الأصول البروتستانتية، مثل أمريكا الشمالية، أعلى بمراحل كثيرة منها في المجتمعات الاستيطانية ذات الأصول الكاثوليكية مثل أمريكا اللاتينية. وأكثر المجتمعات علمنة على وجه الأرض هو المجتمع الأمريكي الذي أباد السكان الأصليين تماماً ومحا آثارهم الحضارية ورفض تقاليد الحضارة الأوربية الثقافية والدينية وشيَّد مؤسسات رشيدة تماماً، والأمركة هي العلمنة الشاملة الحقيقية.

ونحن نقترح اسـترجاع الإمبريالية كمقولة تحليلية باعتبارهـا جزءاً لا يتجزأ من الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية، ومن ثم لا يمكن استبعادها من دراسة أية ظاهرة في الحضارة الغربية الحديثة. ولنأخذ الديموقراطية على سبيل المثال. يُلاحَظ أن الدول الغربية الديموقراطية، وفي طليعتها إنجلترا وفرنسا، هي بلاد لها مشروعها الاستعماري الضخم حيث التهمت معظم أنحاء العالم وقمعت السكان الأصليين وسلبتهم حريتهم وحطمت مؤسساتهم الاجتماعية والثقافية. وقُل نفس الشيء عن هولندا وبلجيكا، وبدرجة أقل عن إيطاليا. 

وبعد أن استعمر الإنسان الغربي الولايات المتحدة وأقام فيها نظاماً سياسياً مستقراً، قام بعملية إبادة للسكان الأصليين، ثم دخلت الولايات المتحدة في تجربتها الاستعمارية فاحتلت بورتوريكو وهاواي والفلبين، ووضعت أمريكا اللاتينية تحت مظلتها بمقتضى مبدأ مونرو. وقد ترسخت الديموقراطيات الغربية عن طريق الإمبريالية إذ نجحت في تسريع التراكم الرأسمالي (الإمبريالي) من خلال نهب المستعمرات، الأمر الذي ساهم في تأسيس بنيتها التحتية المادية الضخمة المستقرة وتحقيق الرفاه الاجتماعي للمواطنين عن طريق تجريد بقية شعوب العالم من مصادرها الطبيعية والبشرية. 

وقد نجحت الحكومات الغربية في تصدير مشاكلها الاجتماعية حيث قامت بإرسال المجرمين والعناصر غير المستقرة اجتماعياً والفائض السكاني إلى الشرق، بل قامت بالتخلص من الجماعات والأقليات غير المرغوب فيها (مثل اليهود) عن طريق نقلهم إما إلى الشرق (في فلسطين) أو إلى الغرب (في أفران الغاز)، كما حلت مشكلة سوء توزيع الثروة من خلال نهب المستعمرات. ويكفي أن نعرف أن ما نهبته إنجلترا من الهند يزيد كثيراً عما أنتجته خلال الثورة الصناعية عامة، أي أن نجاح المجتمع الإنجليزي ومشروعه التحديثي لا يمكن رؤيته بمعزل عن التراكم الاستعماري، فالسلام الاجتماعي الداخلي الذي حققه المجتمع الإنجليزي قد تحقق من خلال تصدير مشاكل إنجلترا إلى خارجها ومن خلال تحقيق التراكم الرأسمالي (الإمبريالي) بما نهبه من الآخرين.

وهنا يمكن أن نثير قضية المجتمع المدني، فمن المُلاحَظ أن البلاد التي ظهر فيها المجتمع المدني هي أساساً البلاد صاحبة المشروع الاستعماري. ولم تنجح ألمانيا في تأسيس مجتمع مدني ربما بسبب إجهاض تجربتها الاستعمارية على يد الدول الاستعمارية الأخرى. ويلاحَظ أن معظم بلاد شرق أوربا واتحاد دول الكومنولث المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقاً) دول لا يوجد فيها مجتمع مدني ولا مشروع استعماري (أو لم يظهر إلا متأخراً فلم تتم عملية النهب في روسيا القيصرية بشكل منهجي كفء، وهو ما جعل المشروع الاستعماري مكلفاً بالنسبة لهم. ثم قامت الثورة الاشتراكية وأخذ الاستعمار الروسي شكلاً مختلفاً تماماً).

ولننظر إلى ظاهرتين تبدوان كما لو كانتا بعيدتين كل البعد وهما قيام الاستعمار الاستيطاني في أمريكا الشمالية في القرن السابع عشر بإبادة السكان الأصليين وقيام الدولة النازية بإبادة يهود أوربا في القرن العشرين. لو طبقنا نفس المنظور المعرفي الذي يُبيِّن أن الرؤية العلمانية الإمبريالية هي الرؤية الكامنة وراء معظم الظواهر الغربية، فإننا سنرى الوحدة الكامنة وراء تلك الظاهرتين. وكما أسلفنا، فإن جوهر الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية هو تحويل البشر والعالم إلى مادة نافعة. 

وانطلاقاً من هذه الرؤية، قام التشكيل الاستعماري الاستيطاني في الغرب بنقل ملايين البشر باعتبارهم مادة محضة تُوظَّف وتُسخَّر وتُنقَل وتُغزَى. فتم نقل الملايين من البشر من أوربا إلى أمريكا لتوطينهم هناك، لزيادة نفعهم وتعظيم إنتاجيتهم، ولتسهيل عملية توظيفهم ولحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لأوربا. ولنفس السبب، تم استجلاب مادة بشرية يمكن تحويلها إلى طاقة عضلية رخيصة. وماذا لو حدث أن ظهرت عوائق تقف في طريق عملية زيادة المنفعة وتعظيم الإنتاج؟ ماذا لو كانت العـوائق مادة بشـرية أخرى؟ الإجابة سهلة ومباشرة: مثل هذه المادة البشرية ستكون غير نافعة ولذا لابد من إزالتها. 

وهذا ما حدث للهنود الحمر في الولايات المتحدة، حيث كان الإنسان الأبيض يبيد الهنود في أمريكا ويقوم في نفس الوقت باصطياد السود في أفريقيا ونقلهم إلى الأرض التي أبيد سكانها. ولا يمكن فهم هذا إلا في إطار التوظيف وتعظيم الإنتاج والتعريفات البيولوجية العِرقية الصارمة. فالسود يمكن استخدامهم بسبب عدم تماسكهم الحضاري وبسبب قوتهم العضلية ولأنهم بلا حقوق، أما الهنود فكانوا يُشكِّلون كتلة حضارية متماسكة ذات حقوق تاريخية (كما أن نظام المناعة الخاص بهم كان ضعيفاً جداً أمام الميكروبات التي حملها الإنسان الأبيض، ومن ثم كان من العسير استيعابهم في النظام الجديد).

والإبادة النازية لبعض القطاعات البشرية في أوربا ليست سوى تطبيق متبلور لتلك الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية، ولكن في الغرب نفسه بدلاً من آسيا أو أفريقيا أو الأمريكتين.

ولا تزال الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية هي المسيطرة على الإنسان الغربي ذاته حتى في علاقته مع نفسه ومع أعضاء المجتمع الغربي، ذلك لأن كل شيء يخضع للواحدية المادية. فهو حينما يبني بيتاً، يُخضعه تماماً لعملية الترشيد الواحدية حيث يبنيه بهدف الاتجار فيه وتحقيق الربح ثم يتركه بعد بضع سنين وكأن المنزل والسلعة لا فرق بينهما. وهو حين يدخل علاقة مع أنثى، لا يبحث عادةً عن الطمأنينة وإنما يحاول تعظيم اللذة، وتتحول العلاقة العاطفية إلى علاقة غزو (وهو ما عبرنا عنه بأن الحضارة الغربية حضارة يتراجع فيها الخطاب الجـواني للمحـبين، خطـاب التآلف والتراحم، ليحـل محله الخطاب الإمبريالي البراني، خطاب الغزو والتناحر). 

وهو إنسان بسيط ذو بُعد واحد دائم التنقل والترحال لتحقيق الربح وتحسين المعيشة، فهو مادة اسـتعمالية جيدة مرنة مطـاطة، شيء بين الأشــياء. وحينما يصل هذا الإنسان الغربي إلى سن يصبح فيه غير منتج، فإنه يقبل أن يُنقَل طواعية إلى بيت المسنين غير المنتجين لينتظر (كمادة بشرية مرنة) الموت في بيوت مكيفة الهواء بعيداً عن المجتمع المُنتج وبعيداً عن الحياة. بل إن ما يُسمَّى «حضارة الفوارغ» (ديسبوزابل disposable) هي حضارة إمبريالية توظيفية تستهلك كل شيء وتوظف كل شيء وتبدد كل شيء (الطاقة ـ المواد الخام ـ الأغاني ـ جسد الأنثى ـ طبقة الأوزون). كما أن الاتجاه التدريجي نحو فرض النموذج الآلي على سائر أشكال الحياة في الغرب، وهو مصدر شكوى كل المفكرين الغربيين، إن هو إلا تعبير عن إبستمولوجيا الغزو والتحكم والترشيد العلماني الإمبريالي وتَزايُد رقعتها في مجالات الحياة.

ولا تزال حضارة الترشيد العلمانية الإمبريالية هذه تُخضع الإنسان الغربي ذاته لأسوأ أنواع الإمبريالية التي يمكن أن نسميها «الإمبريالية النفسية»، وهي أن تَحوِّل الذات البشرية نفسها إلى سوق تتسع حدوده بشكل دائم وتحل محل الأسواق الخارجية البرانية التي تم غزوها جميعاً (وهكذا يتحول الجواني إلى براني دائماً)، ويتم ذلك عن طريق ثورة التطلعات والتوقعات التي لا تنتهي، وعن طريق صناعة الأحلام: من إعلانات (يلعب الجنس دوراً أساسياً فيها) إلى روايات (تصوغ للإنسان أحلامه وتطلعاته) إلى أفلام (تحدد رؤاه وقواعد سلوكه) وهي نشاطات يسيطر عليها ما نسميه «قطاع صناعات اللذة» في المجتمعات الحديثة التي تنظر للإنسان باعتباره مجموعة من الدوافع والحاجات الجسدية المحضة التي يمكن سدها. 

ومن ثم، فإن بوسع هذه الصناعات أن تَعد الإنسان دائماً بالفردوس الأرضي الذي سيريحه تماماً من عبء التاريخ وسيعود به إلى الحالة الجنينية. بل إن بناء المدن الغربية يُجسِّد هذه الرؤية الإمبريالية الرشيدة من طرقات تهدف إلى تعظيم السرعة لحركة يومية تُبَدد فيها الطاقة الإنسانية والطبيعية ويُلوَث فيها الجو ويدور فيها كل شيء حول السوق والسلع. ورغم أن عِلم الاجتماع الغربي لم يكتشف العلاقة بين العلمانية كنظرية والإمبريالية كتطبيق يأخذ شكلين مختلفين (ترشيد في الداخل الأوربي وغزو في الخارج العالمي)، فإن ثمة محاولات متعثرة للتعبير عن ذلك. فماركس على سبيل المثال يتحدث عن أن الشعب الذي يستعبد شعباً آخر لا يمكن أن يكون هو نفسه حراً، ويتحدث فيبر عن أن عملية الترشيد ستؤدي إلى القفص الحديدي ويتحدث زيميل عن السجن الحديدي، أما هابرماس فقد ذكر أن ما يحدث في المجتمع الغربي الحديث هـو «استعمار عالم الحياة». والحـديث عن غـياب العقل النقدي وفشل الاستنارة، أو أن الاستنارة أدَّت إلى الإبادة، هو محاولة للتعبير عن وجود هذه العلاقة بين العلمانية والإمبريالية دون الإفصاح عنها.

ومع هذا، يمكن القول بأن الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية هي رؤية مرتبطة بعصر التحديث والحداثة والثنائية الصلبة والمرجعية الكامنة حيث جعل الإنسان الغربي من نفسه الأنا المقدَّسة ومركز الكمون والكون الذي يحق له إبادة الآخرين واستغلال العالم. ومع الستينيات، ومع فقدان الإنسان الغربي مقدراته العسكرية وظهور مراكز أخرى في العالم واختفاء المركزية الغربية، بدأت الرؤية العلمانية الإمبريالية تأخذ شكلاً جديداً في عصر ما بعد الحداثة والسيولة الشاملة وهي إنكار المركز تماماً وإعلان انتهاء التاريخ وانتهاء الإنسان واختفاء أية مرجعية، ومن ثم ظهر فكر ما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد.

النظام العالمى الجديد

«النظام العالمي الجديد» مصطلح استخدمه الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطاب وجهه إلى الأمة الأمريكية بمناسبة إرسال القوات الأمريكية إلى الخليج (بعد أسبوع واحد من نشوب الأزمة في أغسطس1990). وفي معرض حديثه عن هذا القرار، تحدث عن فكرة «عصر جديد»، و«حقبة للحرية»، و«زمن للسلام لكل الشعوب». وبعد ذلك بأقل من شهر (في 11 سبتمبر 1990)، أشار إلى إقامة «نظام عالمي جديد» يكون "متحرراً من الإرهاب، فعالاً في البحث عن العدل، وأكثر أمناً في طلب السلام؛ عصر تستطيع فيه كل أمم العالم، غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، أن تنعم بالرخاء وتعيش في تناغم".

وكلمة «نظام» هى ترجمة لكلمة «أوردر order» الإنجليزية المشتقة من الكلمة اللاتينية «أوردو ordo» بمعنى «خط مستقيم ونظام». والكلمة مبهمة للغاية، فهي تعني مثلاً «الترتيب المنظم والمتواتر»، و«هرم السلطة والقوة الذي يتم بمقتضاه تطبيق وفرض أحكام بعينها»، و«الالتزام بالقانون»، و«الدرجة أو الطبقة أو المرتبة»، و«الطلب»، و«ضرب أو نوع أو طراز». 

ولكن الكلمة أيضاً مرادفة لكلمة «مثود method» و«سيستيم system» (كما في عبارة «ذي أوردر أوف نيتشر the order of nature» أو «ذي أوردر أوف ثنجز the order of things» بمعنى «نظام الطبيعة» (أو «سنن الطبيعة» في المصطلح الإسلامي)، فالكلمة تشير من ثم إلى مجموعة من القوانين والمفاهيم (والسنن) التي تتسم بقدر معقول من الثبات عبر مرحلة زمنية طويلة نسبياً، يتحرك الواقع بمقتضاها ولا يمكن فهمها بدونه، فهي مصدر هوية النظام (جوهره) وتعبير عنها في آن واحد. ولذا، فإن جوهر النظام العالمي هو مجموعة القوانين والقيم الكامنة التي تفسر حركة هذا النظام وسلوك القائمين عليه وأولوياتهم واختياراتهم وتوقعاتهم.

يقول دعاة النظام العالمي الجديد إن ما يدعو إليه النظام هو شكل من أشكال تبسيط العلاقات وتجاوز العُقد التاريخية والنفسية والنظر للعالم باعتباره وحدة متجانسة واحدة. والنظام العالمي الجديد، حسب رؤيتهم، هو نظام رشيد يضم العالم بأسره، فلم يَعُد هناك انفصال أو انقطاع بين المصلحة الوطنية والمصالح الدولية وبين الداخل والخارج. وهو يحاول أن يضمن الاستقرار والعدل للجميع (بما فى ذلك المجتمعات الصغيرة)، ويضمن حقوق الإنسان للأفراد، وهو سينجز ذلك من خلال مؤسسات دولية (رشيدة) مثل هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية والبنك الدولي وقوات الطوارئ الدولية. وبإمكان كل الدول أن تستفيد من الخبرة الدولية في إدارة شئون الداخل وتكييفه مع النظام العالمي الجديد. 

وسيتم كل هذا فى إطار ما يُقال له «الشرعية الدولية» التي تستند إلى هذه الرؤية، وإلى المقدرة على تحويلها إلى إجراءات، تماماً كما حدث فى حرب الخليج حينما تم صد العدوان العراقى على الكويت. والنظام العالمي الجديد لا يخلو من التناقضات، ولكنها تناقضات (حسب رأيهم) يمكن حسمها دون حاجة إلى الصراعات العسكرية إذ أن ثمة إجراءات رشيدة يمكن من خلالها حل كل التناقضات. وهو نظام يدعو إلى تطبيق المُثُل الديموقراطية حيث يخضع كل شيء لما يُسمَّى «أخلاقيات الإجراءات»، أي الاتفاق على قوانين اللعبة وإجراءاتها دون الانشغال بالماهية أو بالأهداف. وعلى كل يرى دعاة النظام العالمي الجديد أن اللواء قد انعقد أخيراً لأخلاقيات الديموقراطية الليبرالية، بتأكيدها على دور المؤسسات وحقوق الإنسان وسيادة القانون داخل الدول وفي النظام العالمي ككل.

والعالم من منظور دعاة النظام العالمي الجديد في حالة حركة دائمة (وكما قال أحد دعاة النظام "الإنسان لا ينزل النهر نفسه مرتين"، وقد نسب هذا القول لأفلاطون المسكين صاحب الفكر المثالي لا لهيراقليطس صاحب الفكر المادي) ثم استطرد قائلاً: "المرحلة الحالية في النظام العالمي لا تتشكل من منظور أيديولوجي مسبق لأنها تمثل تطوراً لم يتوقعه علماء السياسة الدولية، حتى أن القواعد الثابتة في التسابق الدولي ـ مثل الاستحواذ على عنصر التفوق أو المحافظة على ميزان القوى ـ قد تغيَّر مضمونها ومحتواها". 

و"المسرح الدولي يتغيَّر في أولويات اهتمامه وفي القيم التي يطرحها وفي أسلوب التعامل الدولي وفي دور القواعد السياسية ووسائل الاتصال في اتخاذ القرارات". و"بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تزامن ذلك مع انتخابها لإدارة جديدة وقيادة جديدة تعبِّر عن الوعي الذي تبلور جماهيرياً و[تحاول] بلورة ردود على التساؤلات الجديدة التي طرحت واقعياً وفعلياً في مشاكل مستجدة على المسرح العالمي"، أي أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تغيَّرت وتغيَّرت رؤيتها. وهكذا تغيَّر النظام الإمبريالي القديم، المبني على توازن القوى والرعب الذي يصدر عن المنظومة الداروينية، أصبح دون مقدمات نظاماً عادلاً يدعو إلى الديموقراطية (رغم أنه كان يدك القرى في فيتنام منذ عدة سنوات، ولا يزال ينظر للجرافات الإسرائيلية بإعجاب شديد).

ثم يتوجه كاتبنا إلى العرب معلقاً على هذا العالم المتحرك الخالي من المثاليات بقوله: "وعلى العرب أن يعلموا أنهم لا يعيشون أبداً في العصر نفسه، ولا يخضعون دوماً للثوابت نفسها. ولا يمكن أن يظلوا دون خلق الله جميعاً ينكرون ما يجري ويدور في عالمنا، متجاهلين التاريخ والجغرافيا وما يحدث فيهما من تغيير"، وهكذا أصبح النظام العالمي الجديد من سنن الحياة أو جزءاً من النظام الطبيعي.

ويرى دعاة هذا النظام أن بوسعه أن يحقق قدراً معقولاً من النجاح بسبب وسائل الإعلام الغربية (العالمية على حد قولهم) التى حوَّلت العالم (كما يظنون) إلى قرية صغيرة. فتدفُّق المعلومات يجعل المعلومات متاحة للجميع، الأمر الذي يحقق قدراً كبيراً من الانفتاح فى العالم وقدراً كبيراًمن ديموقراطية القرار. وقد أدَّى انهيار المنظومة الاشتراكية والتلاقي (كونفيرجنس convergence) بين المجتمعات الغربية الصناعية، واختفاء الخلاف الأيديولوجي الأساسي فى العالم الغربي، إلى تقوية الإحساس بأن ثمة نظاماً عالمياً جديداً وإلى أنه لم تعد هناك خلافات أيديولوجية تستعصي على الحل.

ويرى المدافعون عن هذا النظام أن الخطر الذى يتهدد الأمن لا يأتي من الخارج وإنما من الداخل، من قوى تقف ضد الديموقراطية وضد تأسيس المجتمع على أسس اقتصادية وعلى أسس التكيف مع النظام العالمي. هذه القوى هى التى تجر الداخل القومي إلى صراع مع الخارج الدولي بدعوى الدفاع عن الكرامة أو الاستقلالية أو الشخصية القومية أو الرغبة فى التنمية المستقلة. وهى تكلف الداخل ثمناً فادحاً. ومن المنطقي أن يتصوَّر المبشرون بهذا النظام أن القيادة فيه لابد أن تكون للقوة الاقتصادية العظمى، أى للمجتمع الصناعى الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي، فإن الدول كلها يجب أن تنضوي تحت هذه القيادة. وثمة افتراض كامن بأن المجتمع الأمريكي (الذى يفترض أن الدافع الأساسي فى سلوك البشر هو الدافع الاقتصادي) لابد أن يصبح القدوة والمثل الأعلى.

هذا الكلام البسيط الجميل لابد أن تكون وراءه رؤية معرفية كاملة، فهذه هي طبيعة الخطاب الإنساني. وهنا قد يتعلل دعاة النظام العالمي الجديد بأنهم «عصريون نسبيون» لا يميلون إلى إطلاق التعميمات، ولا يؤمنون بأىة قيم ثابة أو مطلقات، ولا يتوجهون إلى الأسئلة المعرفية الكلية ولا يعترفون بوجود كليات، فكيف يمكن أن تُحدَّد أبعاده المعرفية النهائية إذن؟. وقد يقولون: "إننا دخلنا عصر ما بعد الأيديولوجيا وما بعد الحداثة وما بعد التاريخ بل ما بعد الإنسان؛ عصر الما بعديات السائلة التى تحل محل الماقبليات الجامدة المطلقة، فثمة سيولة فكرية في الفكر الحديث تتناقض بطبيعتها مع فكرة النسق الفكري المتكامل والقيم الكلية".

وهذا إلى حدٍّ كبير صحيح، فثمة سيولة لا يمكن إنكارها. ومع هذا، تظل عبارة «النظام العالمي الجديد» دالاً يشير إلى مدلول. إذ أننا، رغم سيولته، نراه من الخارج ونسمع صوته ونرصد حركته (التى تترك أثرها علينا وعلى عالمنا) ونرى أن ثمة منظومة معرفية قيمية متكاملة كامنة وراء هذا النظام الشامل السائل، شأنه فى هذا شأن أي نظام آخر، منظومة تتجاوز ادعاءاته وديباجاته واعتذارياته. بل قد تكون حالة السيولة هذه وادعاء أن الدال ليس له علاقة قوية بأية مدلولات أو كليات هي أيديولوجيا هذا النظام، أي من الممكن أن يكون إنكار كل القيم هو قيمته الكبرى والنهائية، وتأكيد النسبية المعرفية والأخلاقية هي قيمته المعرفية والأخلاقية الكبرى والنهائية، وتأكيد أن العالم في حركة دائمة هو قانونه الثابت.

وفي محاولة معرفة هوية هذا النظام لابد أن نقرر ابتداءً أن هذا النظام (شأنه شأن أي نظام إنساني) لم يولد من العدم اللاتاريخي وإنما داخل التشكيل الحضاري والسياسي الغربي، ويحمل معالم هذا التشكيل، وهو نظام يدور في إطار العلمانية الشاملة (والحلولية الكمونية المادية) في إطار مرحلتيها الصلبة والسائلة.

وقد لاحظنا أن الواحدية الإنسانية،في غياب المرجعيات المتجاوزة، تنحدر لتصبح واحدية إمبريالية عنصرية إذ يصبح أحد الشعوب هو الأنا المقدَّسة (السوبرمان) التي ترى بقية البشر (السبمان) والطبيعة/المادة باعتبارهما مادة محضة يمكن هزيمتها وتوظيفها وحوسلتها. وقد أعلن الإنسان الغربي في عصر نهضته أنه هو الأنا المقدَّسة وأن العالم قد انقسم ببساطة إلى الأنا والآخر، والقوي والضعيف، الغازي والمغزو، المسلح والأعزل، الغرب وبقية العالم (بالإنجليزية: ذا وست آند ذا رست the west and the rest).

في هذا الإطار المعرفي وُلد ما يُسمَّى «النظام العالمي»، فالعالم لم يعرف نظماً دولية أو عالمية إلا بعد الثورة الصناعية وظهور التشـكيل الإمبريالي الغربي بشـقيه الاستعماري الاستيطاني والاستعماري العسكري. فقبل ذلك التاريخ، كان من الممكن أن تنشأ إمبراطورية فى الصين وأخرى في الهند ثم تختفي دون أن تترك أثراً يذكر على سكان أوربا، على سبيل المثال، إلا بشكل غير مباشر وغير محسوس لمن يقع عليه التأثير. وكانت أجزاء من الكرة الأرضية، مثل الأمريكتين وأستراليا ونيوزلندا، غير معروفة للعالم القديم. 

يتبع إن شاء الله...


الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48824
العمر : 71

الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية   الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية Emptyالأحد 10 نوفمبر 2013, 10:05 pm

ولذا، كانت تظهر في الأمريكتين إمبراطوريات على درجة كبيرة من التركيب ولكنها مع هذا لا علاقة لها ببقية العالم. وكان يمكن أن يحدث اشتباك بين حضارتين أو أكثر (حروب الغرب مع الشرق الإسلامي المعروفة بحروب الفرنجة ـ الاجتياح التتري للعالم الغربي ولشرق أوربا)، ولكنه كان يظل اشتباكاً ثنائياً أو تلاقياً غير عالمي. أما فى عصر النهضة الغربية، فقد بدأ الإنسان الغربي يتسلل تدريجياً إلى أرجاء المعمورة ويستولي عليها، وبدأ يؤسس جيوباً استيطانية في بعض الأماكن. وقد استمرت هذه العملية إلى أن تحوَّل العالم بأسره إلى ساحة لنشاطه، خاضعة لهيمنته، تتبع قوانينـه. 

ولذا، يمكن القول بقدرٍ كبير من اليقين أن النظام العالمي الجديد يضرب بجذوره فى التشكيل الإمبريالى الغربي، وأن معالمه بدأت تتحدَّد مع منتصف القرن التاسع عشر حينما بدأ هذا التشكيل يعى ذاته كحركة مسرحها العالم بأسره، وحينما أدرك ضرورة أن يقسم العالم وأن يتحوَّل إلى مادة استعمالية: مصدر للموارد الطبيعية ـ مصدر للطاقة العضلية الرخيصة ـ سوق تباع فيه السلع ـ حيز يمكن أن تُصدَّر له المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسكانية الخاصة بأوربا. 

هذا يعني أن النظام الإمبريالي نظام عالمي (بمعنى أن مسرحه العالم) ولكنه نظام مغلق تم إغلاقه حتى يتسنَّى لصاحب النظام ومؤسسه أن يعظِّم من اسـتغلاله للعـالم باعتباره مادة واحدة. وتظهر العـالمية المنغلقة لهذا النظام فى المواجهة التي تمت مع محمد علي، أول من حاول تحديه حين حاول أن يدخل مصر والعالم العربي إلى العصر الحديث حسب شروطه، مع الاحتفاظ بمنظومة معرفية وقيمية مستقلة. بل حاول أن يبعث العافية فى أوصال رجل أوربا المريض أو الرجل العثماني المسلم الذى كانت أوربا تراقب مرضه باهتمام شديد حتى يمكنها تقطيع أوصاله واقتسامه ضمن ما اقتسمت فى العالم. وبالفعل، ضُـرب محمد علي وبشراسة من قبل أعدائه وأصدقائه الغربيين وتم تقطيع أوصال الدولة العثمانية (وهى عملية لا تزال مستمرة فى البوسنة والهرسك وكوسوفو)، وتم اقتسام العالم مع الحرب العالمية الأولى، وتحقق النظام المغلق وأصبح واقعاً عالمياً فى عصرنا الحديث.

ومنذ أن قام هذا النظام العالمي باقتسام العالم، بدأ يصول ويجول، وبدلاً من أن ينشر الاستنارة والعدل، انغمس فى عمليات إبادة منهجية رشيدة لم يعرفها تاريخ البشر من قبل (إبادة سكان الأمريكتين)، وفي عمليات ترانسفير (نقل السود من أفريقيا إلى الأمريكتين، ونقل العناصر البشرية غير المرغوب فيها مثل المجرمين واليهود والفائـض البشـري والثوريين والفاسدين اجتماعياً إلى جيوب استيطانية). وقد خاض هذا النظام العالمي في الصين، حرب الأفيون الأولى ثم حرب الأفيون الثانية حتى يحقق أرباحاً اقتصادية ضخمة. 

وقام بنهب ثروات الشعوب بشكل منظَّم لم يعرف له التاريخ مثيلاً. ومع ظهور حركات التحرر الوطني فى المستعمرات، ابتداءً من الأربعينيات، قام النظام الإمبريالي العالمي بضربها بعنف شديد، ثم حاول فى الخمسينيات الالتفاف حولها بأن منح المستعمرات استقلالاً اسمياً وأسس نظماً سياسية عميلة مستعدة لأن تعطيه امتيازات يفوق عائدها ما كان يحصل عليه من الاستعمار العسكري المباشر. إن تاريخ النظام العالمي هو تاريخ النظام الصناعي العسكري الإمبريالي الغربي الذي حول العالم إلى مصدر للطاقة الطبيعية والبشرية الرخيصة وإلى سوق لبضائعه، ورغم تغير الأشكال (الاستعمار الاستيطاني الإحلالي ـ الاستعمار الاستيطاني المبني على التفرقة اللونية - الكولونيالية ـ الإمبريالية ـ الاستعمار الجديد) فإنه نظام عالمي واحد يحاول أن يفرض بالقوة حالة التفاوت بين الشعوب والأمم.

قام هذا النظام الإمبريالي العالمي بغرس كل أنواع الاستعمار فى عالمنا العربي (الاستعمار العسكري فى مصر والسودان وليبيا والمغرب وتونس والصومال والعراق وجيبوتي وسوريا ولبنان وإريتريا ـ الاستعمار الاستيطاني فى الجزائر ـ الاستعمار الاستيطاني الإحلالي فى فلسطين)، وقام بنهب هذه المنطقة إما مباشرة إبان فترة الاستعمار العسكري المباشر أو من خلال التحكم فى أسعار المواد الخام (وخصوصاً البترول) وعن طريق بيع أسلحة ببلايين الدولارات لنظم يضمن هو بقاءها فى الحكم ويعلم جيداً أنها غير قادرة على استخدام هذا السلاح، كما أثبتت الخبرة التاريخية (التي يريدنا أن ننساها).

وتتضح هوية هذا النظام العالمي الإمبريالي المغلق فى ظهور الفلسفات العنصرية والداروينية والنيتشوية التي تقسـم العـالم وبحدة إلى الأنا والآخـر، وتجعل الذات القومية هي المعيار الوحيد للحكم، وتجعل الغرب هو المركز، وتجعل الإنسـان الأبيـض هو صاحب المشـروع الحضاري الوحيد الجدير بالاحترام والبقاء، ومن هنا عبء الرجل الأبيض الشهير، فهو وحده القادر على اختيار الطريق الصحيح، أما الآخر فهو عاجز ضال. وفي هذا الإطار، ظهرت الفاشية والنازية ثم الصهيونية ـ وهي دعوة لحل مشاكل أوربا (المسألة اليهودية) عن طريق تصديرها للشرق. فحينما كان هرتزل يتحدث عن إنشاء دولة يهودية يضمنها "القانون الدولى العام" فإنه كان يعني "القانون الغربي الاستعماري" الذى يتحكم فى العالم ويقسمه حسب رؤيته ومشيئته. 

ثم صدر وعد بلفور في هذا الإطار، إذ أعطت بريطانيا الحق لنفسها في أن تمنح أرض فلسطين للفائض البشري اليهودي فى الغرب وأن تنقـل من فلسـطين سكانها الأصـليين (تمت الإشارة إليهم باعتبارهم العناصر «غير اليهودية»، أي «غير الغربية»، ومن ثم فهم يقعون خارج نطاق الحقوق والمسئوليات). ثم قام النظام العالمي من خلال عصبة الأمم بوضع فلسطين تحت الانتداب لضمان تنفيذ هذا المشروع الاستيطاني الإحلالي، ثم قام النظام العالمي مرة أخرى من خلال هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين ومنح الوجود الصهيوني شرعية مسـتمدة من شرعيته الدوليـة هذه. 

ثم اسـتمر النظام العالمي، متمثلاً فى شقيه الرأسمالي والاشتراكي، بالاعتراف بالدولة الصهيونية ودعمها إما بشرياً (عن طريق نقل المادة البشرية من شرق أوربا) أو مالياً وعسكرياً (عن طريق الدعم المالي والعسكري من غرب أوربا والولايات المتحدة) وهو دعم ظل يتزايد فى حجمه ونوعه يوماً بعد يوم حتى وصل إلى التحالف الإستراتيجي المعلن بين إسرائيل والولايات المتحدة، مؤكداً بذلك أن الغرب صاحب النظام العالمي هو المهيمن على العالم، وأن العالم هو المسرح، وأن الجنس البشري هو المادة التى وظَّفها لصالحه.

هذه رؤية ثنائية حادة تنكر تاريخ الآخر وإنسانيته ولا تقبله إلا كمادة استعمالية. وقد تكررت ممارسات النظام الإمبريالي الدولي القـديم بأشـكال تتراوح بين درجات مختلفة من الحدة والتبلور في أنحاء آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

ولكن النظام الإمبريالي، شأنه شأن أي نظام حلولي كموني مادي، ينتقل من الصلابة إلى السيولة. وفي هذا الإطار لا يمكن أن تظهر أنا مقدَّسة أو غير مقدَّسة، فكل شيء نسبي لا يعرف الثنائية أو التجاوز.

وقد تبدت المرحلة السائلة في تحولات النظام العالمي القديم إذ حدثت تطورات تاريخية عميقة لا تشكل لحظة إفاقة أخلاقية تاريخية (وكيف يمكن أن نتوقع هذا من حضارة مؤسسة على أساس القانون الطبيعي والفلسفة النيتشوية والداروينية؟) وإنما تشكل لحظة إدراك ذكية من جانب الغرب لموازين القوى.

ونحن نلخص أسباب ظهور النظام العالمي الجديد فيما يلي:

1 ـ أدرك الغرب عمق أزمته العسكرية والثقافية والاقتصادية، وأحـس بالتفكك الداخلي وبعجزه عن فرض سياساته بالقوة.

2 ـ أدرك الغرب استحالة المواجهة العسكرية والثقافية والاقتصادية مع دول العالم الثالث التي أصبحت جماهيرها أكثر صحواً ونُخَبها أكثر حركية وصقلاً وفهماً لقواعد اللعبة الدولية.

3 ـ أدرك الغرب أنه على الرغم من هذه الصحوة، فإن ثمة عوامل تفكك بدأت تظهر في دول العالم الثالث، حيث ظهرت نخب محلية مستوعبة تماماً في المنظومة القيمية والمعرفية والاستهلاكية الغربية يمكنه أن يتعاون معها ويجندها، وهي نُخَب يمكن أن تحقق له من خلال السلام والاستسلام ما فشل في تحقيقه من خلال الغزو العسكري.

لكل هذا قرَّر الغرب أن يلجأ للالتفاف بدلاً من المواجهة، وبذا يستطيع حل إشكالية عجزه عن المواجهة ويتخلى عن مركزيته الواضحة وهيمنته المعلنة ليحل محلها هيمنة بنيوية تغطيها ديباجات العدل والسلام والديموقراطية التي ينقلها البعض بببغائية مذهلة.

ويمكن أن نتعامل بشيء من التفصيل مع التغيرات العالمية التي تشكل إطاراً لظهور النظام العالمي الجديد:
1 ـ على المستوى العسكري:

أدَّت مرحلة الحرب الباردة بين الدولتين العظمـيين إلى إرهـاق متبادل لهـما نتيجة الدخول في سباق للتسلح لا نهاية له، وخصوصاً أن تطوير تكنولوجيا السلاح أصبحت مسألة مكلفة للطرفين بشكل لا يطيقه أيٌّ منهما. وعلى الرغم من "انتصار" الولايات المتحدة، فإن النزيف قد أثَّر فيها. وقد أصبحت الحروب الحديثة أمراً مكلفاً للغاية يتطلب تمويلاً ضخماً يصعب على أي دولة (بما في ذلك الولايات المتحدة) أن تقوم به، وخصوصاً أن ثمة أزمة اقتصادية عالمية تجعل من الصعب على الشعوب الغربية القبول بتخصيص اعتمادات عسكرية كبيرة في وقت تقوم به كثير من الدول الغربية بتصفية مؤسسات الرفاه الاجتماعي.

تراجعت القدرات العسكرية للاستعمار الغربي بسبب تصاعد معدلات العلمنة والتوجه الحاد للإنسان الغربي نحو المنفعة الشخصية واللذة المباشرة التي لا يمكن إرضاؤها إلا بالإشباع الفوري، وقد أدَّى هذا إلى انخفاض الروح النضالية لدى الإنسان الغربي وإلى ارتفاع تكاليف الحملات العسكرية. وقد صرح المتحدثون باسم المؤسسة العسكرية الأمريكية بأن إمكـانياتها قد أجهـدت تماماً أثناء العـمليتين المتزامنتين لإنزال الجنود الأمريكيين في كلٍّ من جرانادا ولبنان، رغم صغر حجم العمليتين، بسبب تضخم قطاع الخدمات في القوات المسلحة (تماماً كما يحدث في المجتمعات الاستهلاكية الحديثة)، إذ يتطلب إنزال جندي أمريكي واحد خدمات عدة جنود يصل عددهم أحياناً إلى عشرة، وهو ما يعني أن إنزال عشرة آلاف جندي يشغل ما بين 50 و100 ألف جندي آخر (وقد كانت حرب الخليج خليطاً من المأساة والملهاة في هذا المضمار بسبب معدل الرفاهية العالي).

جـ) تراجعت الهيمنة العسكرية الغربية بسبب ظهور دول لها قوة عسكرية ضاربة وقوة نووية غير خاضعة للهيمنة الغربية مثل كوريا الشمالية والصين (وربما باكستان).

د) أدرك الغرب في الوقت نفسه عبث المواجهة العسكرية مع القوى المجاهدة غير الرسمية، وخصوصاً بعد تجربته المريرة في فيتنام (وتجربة الانتفاضة المستمرة وتجربة أفغانستان الناجحة).

هـ) ظهور أسـلحة دمار رخيصة مثل الصـواريخ ذات الرؤوس الميكروبية (قنبلة الفقراء النووية على حد قول أحد المعلقين). بل أثبتت حرب أفغانستان مقدرة الجماعات الفدائية على الحصول على أسلحة ذات مقدرة تدميرية عالية لا يحتاج استخدامها إلى متخصصين ولا دورات تدريبية.

2 ـ على المستوى الثقافي:

تراجعت المركزية الغربية على المستوى الثقافي بسبب ظهور كتلة العالم الثالث، وظهور حركات بعث قومي فيها بسبب تزايد الوعي بالذات الثقافية، وبسبب أزمة الغرب الذي لم يعد نموذجاً جذاباً ناجحاً كما كان في الستينيات. ومما ساعد على ذلك ظهور أقليات ثقافية إثنية داخل العالم الغربي ذاته لا تقبل الهيمنة الثقافية الغربية أو مركزيته الثقافية.

وقد حدث هذا في وقت تمر فيه الحضارة الغربية بمرحلة أزمة عميقة، فلم يعد الغرب واثقاً تماماً من نفسه كما كان الأمر من قبل، وذلك مع تفشي النسبية الثقافية وظهور مراكز اقتصادية عسكرية وثقافية أخرى في العالم، ومع تفاقم الأزمة الاجتماعية في الداخل (الجريمة ـ تفكك الأسرة ـ الأيدز ـ المخدرات ـ الإباحية). ولذا، لم يَعُد قادة العالم الغربي قادرين على الحديث عن تفوق الجنس الأبيض (كما كان عهدهم في الماضي القريب).

جـ) مع هذا، لاحظ الغرب أن ثورة المعلومات والنظام الإعلامي الجديد، بأفلامه وكتبه ومرئياته ومراكز بحوثه، يتيحان مقدرة هائلة على الاختراق تساعد على نقل المنظومة القيمية الغربية إلى كل أرجاء العالم بعد أن كانت محصورة إلى حدٍّ كبير في الغرب.

د) أدرك الغرب أنه ظهر في العالم الثالث نخب محلية تنتمي اسماً إلى شعوبها ولكنها تنتمي فعلاً من ناحية الرؤية والتطلعات والأحلام وأسلوب الحياة إلى العالم الغربي. ومن المُلاحَظ أن تصاعد الوعي القومي صاحبه أيضاً تصاعد في معدلات العلمنة والترشيد والأمركة في كل أنحاء العالم، وتم اختراق كثير من أعضاء النخب الثقافية، كما تم الاستيلاء على أبنائهم وبدأ الحلم الأمريكي يتسرب إلى قطاع لا بأس به من الجماهير. وهذا ما يشير إليه البعض بظاهرة الكوكلة (نسبة إلى الكوكاكولا) أو الكوكاكولانية بدلاً من الكولونيالية ـ والكوكاكولانية هي اختراق المنظومة القيمية الغربية لأحلام الناس وعقولهم من خلال برامج التليفزيون (على سبيل المثال) دون اللجوء إلى القوات العسكرية. وقد ساهمت ثورة المعلومات في هذه العملية.

3 ـ على المستوى الاقتصادي:

تواجه الولايات المتحدة (قائدة العالم الغربي) مشاكل المديونية وعجز الميزان التجاري. فالدين الأمريكي يزيد على 3 تريليون دولار، وانخفضت حصة الناتج القومي الإجمالي الأمريكي من الناتج العالمي إلى الثلث. ويتنبأ بعض الاقتصاديين بأن الولايات المتحدة، التي أضعفها عقدان من الركود، ستصبح بحلول عام 2000 ثالث قوة اقتصادية بعد أوربا واليابان اللتين سوف تتفوقان على أمريكا من حيث الناتج القومي الإجمالي وحجم الاستثمارات في الخارج وحجم الصادرات.

حدث هذا في وقت بدأت تظهر فيه مراكز اقتصادية غير غربية تطور نفسها خارج شبكة الهيمنة الغربية مثل اليابان والصين وماليزيا وغيرها.

جـ) لاحظ الغرب أن كثيراً من دول العالم الثالث أصبحت واعية بمصالحها الاقتصادية وبآليات السوق المحلية وكيفية السيطرة عليها وبآليات إدارة الحكومة والاستثمار في الداخل والخارج، وأصبح لدى كثير من حكومات العالم الثالث خبرات محلية ومستوردة تجعل عملية النهب الاستعماري القديمة (التي بدأت باستبدال المرايات بالأراضي) صعبة بل مستحيلة.

د) أدَّى تطور الاقتصاد الغربي وتمدد السوق الغربية إلى ظهور ما يشبه الاقتصاد الدولي (وهو اقتصاد غربي ساحته كل الدول) وظهرت الشركات عابرة القارات التي تحمل رأس المال الغربي في كل مكان وأي مكان، بحيث يتبعها أعداد هائلة من الموظفين والمستفيدين، وهي تحمل معها أنماط الاستهلاك الغربية والسوق باعتبارها كياناً آلياً يتطلب تنميط الآخر.

هـ) لاحظ الإنسان الغربي أن ثمة قضايا جديدة لا يمكن مواجهتها إلا في إطار عالمي، وهو ما يتطلب التعامل مع حكومات العالم الثالث. فثمن التقدم لم يعد مجرد تلويث نهر أو إصابة مجموعة من الناس بداء الكبد (مثلاً)، حيث بدأنا نسـمع الآن عن ظواهـر ذات طـابع كوني مثل ثقوب الأوزون وسخونة الغلاف الجوي. وفي عصر الإمبريالية الغربية، كان الإنسان الغربي يُصدِّر للشرق فواتير التقدم وينساها، أما الآن فإن ثقوب الأوزون لا تعرف الفرق بين الشرق والغرب وتذكره بالدمار الذي يحيط بالجنس البشري.

و)_ وإذا أخذنا انتشار المخدرات باعتباره إحدى النتائج السلبية للتقدم، فإن هذا يعني أنها هي الأخرى تساهم في عملية تدويل العالم. وفي القرن الماضي، كان الاستعمار الإنجليزي يدخل حرب الأفيون الأولى والثانية ليفرض على سكان الصين تناول الأفيون بقوة السلاح ويحقق الربح لنفسه. ومع هذا، كان المجتمع الإنجليزي يستمر في الحفاظ على أخلاقياته الفكتورية المحافظة. وحتى في الستينيات، كانت الشرطة الأمريكية لا تمانع كثيراً في وجود المخدرات في حي هارلم الأسود في نيويورك، وكان هذا يُعَد شكلاً من أشكال الضبط الاجتماعي. أما الآن، فإن كارتل إسكوبار في كولومبيا، وكذلك المثلث الذهبي، تمتد أياديهم لتصل إلى أولاد الطبقة المتوسطة البيضاء في نيويورك ولندن وضواحيهما! والمخدرات التي تزرع في منطقة الإشعاع النووي في تشرنوبيل (ولذا فهي تنمو بسرعة سرطانية) تجد طريقها إلى كل أرجاء المعمورة!

إن ما حدث ليس اختفاء العالم ذي القطبين والتلاقي الأيديولوجي بين القوى العظمى المتصارعة (روسيا ـ اليابان ـ العالم الغربي) وإنما هو أيضاً تراجع المركزية الغربية وظهور مراكز عديدة تتفاوت قوةً وضعفاً وإدراك الغرب لذلك، وإدراكه أيضاً لمواطن الضعف في القوى المقاومة له. كل هذا أدَّى إلى أن يتبنَّى الغرب إستراتيجية جديدة: الاستعمار العالمي الجديد الذي يلجأ للإغواء بدلاً من القمع. فالآلية الأساسية للقسر، أي سحق إرادة الشعوب، أصبحت مكلفة للغاية إن لم تكن مستحيلة تماماً.

وآليات الإغواء عديدة من بينها إيهام الآخر، أي أعضاء النخب المحلية الحاكمة التي تم تغريبها، بأنه شريك مع الاستعمار الغربي في عمليات الاستثمار، بل شريك (صغير) في عمليات نهب الشعوب ويستفيد منها. ويواكب هذا عملية إفساد ورشوة لأعضاء هذه النخب. بل إن الشعب نفسه يتم إغواؤه إما عن طريق وسائل الإعلام "العالمية" وبيع أحلام الاستهلاك الوردية الفردوسية، أو عن طريق النخب المحلية. وتُصعَّد في الوقت نفسه عمليات فتح الحدود وتفكيك الدولة القومية (باعتبارها إطاراً لتجميع القوى الشعبية المختلفة ضد الإمبريالية أو ضد الهيمنة الغربية) وذلك عن طريق المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية وإثارة الأقليات وإثارة مشاكل الحدود... إلخ، وتفكيك الأسرة باعتبارها الملجأ الأساسي والأخير للإنسان والحيز الذي يحقق المجتمع داخله استمرارية الهوية والمنظومة القيمية (وتتكفل جماعات التمركز حول الأنثى «فيمينزم Feminism» وجماعات الدفاع عن الإباحية باعتبارها شكلاً من أشكال "الإبداع"، بهذا الجانب من عملية التفكيك).

ويذهب أحد الكُتَّاب العرب إلى تحديد ملامح العالم في إطار النظام العالمي الجديد على النحو التالي:

1 ـ سيعتمد هذا النظام في أساسه على قيام تكتلات إقليمية متنافسة ولكن غير متصارعة تحاول أن تفرض على العالم وضعاً يتفق ومصالحها.

2 ـ سيستمر التباين في مستويات الحياة بين الدول الغنية المسـيطرة من جـهة والدول الفـقيرة المستغَلة من جهة أخرى. ويلاحَظ الآن أن نحو 20% من سكان هذا العالم يسيطرون وينعمون بنحو 80% من مصادر الثروة فيه.

3 ـ النمط الاقتصادي السائد يقوم في أساسه على السوق العالمية، وهو ما يجعل تراكم الثروات منسلخاً عن العمل والإنتاج مرتبطاً بالمضاربات المالية التي تتحكم فيها الشركات الكبرى بحماية دولية.

4 ـ ستُصدِّر الصناعات الملوثة للبيئة للدول الفقيرة وتظل تحت السيطرة الغربية، مع اهتمام دول الغرب بإدارة الجانب الزراعي في بلادها.

5 ـ ستحاول أمريكا والغرب، ومن خلال المؤسسات الدولية، فرض وضع اقتصادي سياسي من خلال الهيمنة العسكرية وإنشاء الشرعية الدولية والتستر بها لغرض الهيمنة على الآخرين بالقوة وتبرير التدخل في الشئون الداخلية للأمم الأخرى.

تناولنا، حتى الآن، رؤية النظام العالمي للتاريخ وتاريخه وأسباب تحوُّله وآلياته الجديدة، وهي رؤية تضمر عدم اكتراث بالإنسان. ويمكننا الآن أن نركز على هذا الجانب، أي رؤية النظام العالمي الجديد للإنسان. فالنظام العالمي الجديد، كما أسلفنا، هو امتداد للنظام العالمي القديم، ومن ثم فهو تعبير جديد عن الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي تذهب إلى أن العالم مادة والإنسان أيضاً مادة لا يختلف عن بقية العالم، وهذه المادة مادة استعمالية بالدرجة الأولى، فالإنسان حيوان اقتصادي تماماً وما يحركه هو الدوافع الاقتصادية، وهي أيضاً المحرك الأكبر للمجتمعات البشرية. 

ولذا، فإن المصالح الاقتصادية (الحديثة، العلمانية الشاملة، التي لا تتجاوز عالم المادة ولا تصل أبداً إلى عالم التطلعات والأشواق والإنسان المركب التاريخي) هي المحرك الأول والأخير والمرجعية النهائية. والتحالفات السياسية في الوقت الحاضر لا تستند إلى الأيديولوجيا وإنما إلى المصالح الاقتصادية، والصراع لا يتم بشأن المبادئ وإنما يتم بشأن المصالح. وثمة تلاق بين الأمن القومي والمصلحة الاقتصادية، وبالتالي يمكن حصر الخلافات بين الدول وتحديدها والتعامل معها بشكل رشيد، فالمصالح (على عكس المبادئ) يمكن حسابها، ويمكن إخضاعها لعمليات رياضية دقيقة. ونفس الشيء يُقال عن الخلافات داخل المجتمع الواحد، فمن الممكن حسمها من خلال العملية الديموقراطية.

وقد كانت المنظومة القيمية الغربية تسري على كل البشر، فالجميع مادة استعمالية. ومع هذا، فإن هناك ثنائية الأنا والآخر الصلبة. وفي داخل هذه المنظومة التي تدور في إطار المرجعية الواحدية المادية، يمكن القول بأن الإنسان الغربي مادة مستعملة (بكسر الميم) أكثر منها مادة استعمالية، أما سكان آسيا وأفريقيا فهم العكس؛ مادة استعمالية أولاً وأخيراً. ولذا، عبَّرت هذه الرؤية عن نفسها في النظام الدولي القديم على هيئة خطاب عنصري يؤكد على التفاوت بين الأجناس كما يؤكد رسالة الرجل الأبيض. ولكن، نظراً للأسباب التي أدرجناها فيما سبق، بدأت منظومة التفاوت في التراجع وظهر بدلاً منها منظومة واحدية مادية سائلة تساوي بين الناس وتسوي بينهم، وأصبح كل البشر مادة متساوية (معرفياً على الأقل) وظهرت الاستهلاكية العالمية بديلاً عن الرأسمالية الرشيدة والاشتراكية العلمية.

وانطلاقاً من ثنائية الأنا والآخر العنصرية الصلبة، كان النظام الإمبريالى القديم يحاول أن يوقف عمليات التحديث فى أى مكان فى العالم حتى يصبح العالم الغربي متقدماً، منتجاً ومستهلكاً، ويصبح العالم الثالث متخلفاً بدائىاً مصدِّراً للمواد الخام والعمالة الرخيصة ومستهلكاً ضعيفاً لبعض بضائع أوربا. أما النظام الإمبريالي الجديد في عصر السيولة (في عصر الاستهلاكية العالمية)، فيرى أنه من الضروري ترشيد العالم بأسره وتحويله كله إلى حالة المصنع والسوبر ماركت، ولذا لابد أن تتقدَّم شعوب الأرض بالقدر الكافي لتصبح شبه منتجة شبه مستهلكة. 

فالبدوي فى صحراء نجد والهندي الأحمر فى براري أمريكا والقروي فى الصـعيد يشكِّلون عائقاً يقـف أمام النظام الإمبريالي الجـديد (الاسـتهلاكية العالمية)، فهم ليسوا فى حاجة إلى الهامبورجر أو السيارة أو الفيديو، ومن ثم لا يمكن تجويعهم أو حرمانهم أو الضغط عليهم، وبالتالي فهم يشكلون ثغرة فى نظام يشبه الآلة لا يتحمل ثغرات، ويجب أن تكون أجزاؤه جزءاً من الكل الآلي. فمثل هؤلاء الفقراء مستقلون قادرون على الحفاظ على أبنيتهم الثقافية وقيمهم المطلقة وعلى اتزانهم مع الذات ومع الطبيعة، وهذا أمر يهدد النظام العالمي. ولذا، لابد أن "يتقدم" الجميع، حتى يدخل الجميع النظام العالمي، ويتم هذا من خلال بيع الأحلام الوردية عن الرخاء الاقتصادي وتعظيم اللذة (أو الوعد باللذة) والتصعيد المستمر للرغبات الاستهلاكية والجنسية. 

وهو تصعيد يتم من خلال البث التليفزيوني ووسائل إعلام الداخل والخارج. ولكن يجب أن يتم التقدم، تحت مظلة البنك الدولي وصندوق النقـد، داخـل إطار النظام العالمي الجديد الذى تحكمه بنية التفاوت والمنظومة القيمية الاستهلاكية. ومن ثم يجب ألا يُسمَح بإدخال التنمية المستقلة، لأنها تحدث ثغرة فى النظام الدولي أيضاً، فقد توقف توسع الشركات متعددة الجنسيات، وقد تعوق التنمية تحت مظلة البنك الدولي. وأما التنمية فى إطار النظام العالمي الجديد، فإنها ستضمن أن تكون شعوب العالم الثالث نصف منتجة ونصف مستهلكة حتى يستمر اعتمادها المذل على الغرب. ولا شك في أن عمليات تصعيد التوقعات الاستهلاكية، وعملية التسخين (الاستهلاكية الجنسية) التي تتعرض لها شعوب العالم الثالث، ستجعل من المستحيل تحقيق أي تراكم رأسمالي وستبدد الطاقة الثورية أولاً بأول وتختفي الرغبة في السمو وفي الجهاد.

وقد وجدت الاستهلاكية العالمية التي ستحوِّل العالم إلى سوق كبيرة لا يسودها إلا قوانين العرض والطلب، وتعظيم المنفعة (المادية) واللذة (الحسية)، والتي ستؤدي إلى سيادة حالة المصنع في العالم بأسره، أن من صالحها أن تفتح الحدود، وأن تختفي القيم والمرجعيات تماماً حتى يفقد الجميع أى خصوصية ويصبح بالإمكان تحويلهم إلى آلة إنتاجية استهلاكية وقطع غيار فى الوقت نفسه.

في هذا الإطار تُطرَح سنغافورة باعتبارها المثل الأعلى الذي يُحتذى في السيولة والتراخي، وسنغافورة بلد معقم من التاريخ والذاكرة، فهي شـوارع أسفلتية عرضـية وأبراج أسـمنتية أفقية تشـكل مجموعة هائلة من المصانع والمتاجر والملاهي. ولنتخيل بلداً مثل مصر يحاول أن يصبح مثل سنغافورة.

وهكذا تغيَّر النظام الإمبريالي القديم، المبني على توازن القوى والرعب الذي يَصدُر عن المنظومة الداروينية، وأصبح دون مقدمات نظاماً عادلاً يدعو إلى الديموقراطية ولكنه يدعو لأشياء أخرى كذلك مثل السوق الشرق أوسطية التي تنكر تاريخ المنطقة تماماً، ويتحدث عن الشعوب العربية وعن المنطقة. كل هذا يجعلنا ندرك تماماً أن دعوة النظام العالمي الاستهلاكي الجديد للديموقراطية لا تهدف إلى تمكين الجماهير من التحكم في مصيرها، وإنما هي أداته في فتح الحدود وإضعاف الدول القومية المركزية الصغيرة حتى يتسنى له ترشيد البشر وإزالة أية عوائق إنسانية أو أخلاقية، وحتى تصبح كل الأمور متساوية ونسبية ويسود تساو معرفي كامل هو في واقع الأمر عملية تسوية، وتُمحَى كل الثنائيات، فالأجساد مادة والعقول آليات والعالم عقارات والأوطان فنادق، وأما ما ينفع الإنسان الطبيعي فهو الانخراط الرحمي (نسبة إلى الرحم) فى المنظومة الآلية بحيث يصبح الجميع سواسية مثل أسنان المشط الأمريكي البلاستيك فيتخففون من عبء الهوية والضمير والاختيارات الأخلاقية المركبة.

لكن رغم كل هذا الحديث العــذب عن الديموقراطية والمسـاواة والسيولة يكتسب الغرب صلابة خاصة من ثقته من أنه الممثل الحقيقي لحالة الطبيعـة، وأن طريقـه (الغربي ـ الحديث ـ العلماني ـ الطبيعي/المادي) هو الطريق الصحيح، بل الوحيد، أي أنه بعد أن يؤكد غياب المرجعيات بشكل علني ويقوم بتسييل العالم، يتحرك في إطار مرجعيته الخفية الصلبة التي تمنحه مركزية في العالم. ولذا، فهو يقوم بفتح حدود الآخرين وتدعيم حدوده هو ويقوم بفك مدافع الآخرين (كما فعل مع محمد علي) وينصب مدافعه هو، فالمدفع هو مركز العالم الذي لا مركز له، هو الصلابة في عالم السيولة، وهو الركيزة في عالم لا ركائز له؛ مدفع يحمله إنسان أوربا الطبيعي والاقتصادي (المادي)، إنسان هوبز وداروين ونيتشه. هو مدفع ضخم صلب لا ريب فيه، ولكنه مع هذا يظل مختبئاً وراء آليات الإغواء وخطاب السيولة والنسبية والتعددية.

الترانسفير: رؤية معرفية

«ترانسفير transfer» كلمة إنجليزية تعني حرفياً «النقل»، وتُستخدَم عادةً للإشارة إلى طرد عنصر سكاني من محل إقامته وإعادة توطينه في مكان آخر. وهي تُستخدَم في الخطاب السياسي العربي للإشارة إلى محاولة الصهاينة طرد العرب ونَقْلهم (ترانسفير) من فلسطين، إلى أي مكان خارجها، ونقل (ترانسفير) اليهود إليها. ولكننا نذهـب إلى أن الترانسـفير يُعبِّر عن شـيء جوهري وبنيوي في الحضارة الغربية الحديثة يتجاوز المستوى السياسي. إنها حضارة يهيمن عليها النموذج العلماني الشامل تدور في إطار المرجعية المادية (وإنكار التجاوز ونزع القداسة) ولذا، فإن ملامح هذه الحضارة كافة تتبدَّى في مفهوم الترانسفير، سواء من ناحية الرؤية أو من ناحية الممارسة. 
فهذه الحضارة ترى العالم مادة استعمالية لا قداسة لها يمكن تحريكها وتوظيفها، وذلك لعدم وجود قيمة مطلقة لأي شيء، فالطبيعة قد وُجدت ليهزمها الإنسان ويسخرها، والإنسان نفسه لابد أن يخضع للمرجعية المادية، ولذا فهو الآخر كيان مادي حركي لا يختلف عن الكيانات الأخرى، ويمكن نقله وتوظيفه وهزيمته وتسخيره باعتباره مادة استعمالية نافعة. ولذا، فإن الترانسفير نفسه ليس مجرد فعل سياسي أو رغبة أيديولوجية وإنما هو مؤشر على نموذج حركي مادي يصيب الإنسان في الصميم ويعيد تعريفه تعريفاً يودي به تماماً. ويمكن أن نعيد النظر في تاريخ الحضارة الغربية الحديثة باعتبارها حضارة الترانسفير. 
يتبع إن شاء الله...


الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48824
العمر : 71

الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية   الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية Emptyالأحد 10 نوفمبر 2013, 10:11 pm

أي أننا، هنا، سنقوم بعملية تفكيك وتركيب لكثير من ظواهر هذه الحضارة، ومن خلال هذه العملية نوضح إجابة النموذج العلماني على الأسئلة الكلية ونُوضِّح المرجعية النهائية المادية لهذه الحضارة:

1 ـ بدأت هذه الحضارة بترانسفير أوَّلي هو حركة الاكتشافات حيث انتقل الإنسان الغربي من عالم العصور الوسطى في الغرب إلى أماكن أخرى في العالم، وفي هذا علمنة كاملة للمكان والحيز حيث يصبح المكان مجرد حيِّز يُستخدَم ويُوظَّف. كما واكب هذا ما نسميه بالثورة التجريدية، وهي ثورة جعلت الإنسان قادراً على التعامل مع الأشياء من منظور مجرد عام حيث يهتم الإنسان بالقيمة التبادلية للأشياء لا بالقيمة المُتعيِّنة لها. 

ومن أهم مظاهر الثورة التجريدية ظهور قطع الغيار التي يتحتم أن تكون متشابهة تماماً وقياسية حتى يمكن إحلال (ترانسفير) قطعة غيار محل الجزء التالف في أي زمان ومكان. ولعل من المهم أن نشير إلى أن حركة الاكتشافات (الترانسفير من مكان إلى آخر)، والثورة التجريدية (الترانسفير من الخاص إلى العام)، وقطع الغيار (الترانسفير من قطعة إلى أخرى)، كلها مرتبطة بشكل أو آخر بالتطور العسكري لأوربا. فقطع الغيار، على سبيل المثال، تم تطويرها في أتون الحرب حيث كان من الضروري أن يقوم الجندي بتغيير التالف من بندقيته بسرعة حتى يمكنه استئناف القتال.

2 ـ بعد هذا الترانسفير الوجداني أو الفكري أو الإبستمولوجي (المعرفي) الأوَّلي، بدأت عملية الترانسفير الحقيقية. وقد تبدت عقلية الترانسفير في الحل الإمبريالي لمشاكل أوربا، أي تصدير هذه المشاكل من أوربا إلى الشرق ومن بينها المشاكل الاجتماعية. وكانت أولى هذه العمليات هي نقل الساخطين سياسياً ودينياً (البيوريتان) إلى أمريكا، والمجرمين والفاشلين في تحقيق الحراك الاجتماعي في أوطانهم إلى أمريكا وأستراليا. 

وتبعتها عمليات ترانسفير أخرى:

ـ نَقْل سكان أفريقيا إلى الأمريكتين لتحويلهم إلى مادة استعمالية رخيصة.

ـ نَقْل الهنود الحمر من مواطن سكناهم إلى مواقع أخرى أو إلى العالم الآخر (وعمليتا النَقْل مرتبطتان تماماً، إذ كان نَقْلهم إلى العالم الآخر يتم أحياناً عن طريق نَقْلهم من موقع إلى آخر).

ـ نَقْل جيوش أوربا إلى كل أنحاء العالم، وذلك للهيمنة عليها وتحويلها إلى مادة بشرية وطبيعية تُوظَّف لصالح الغرب.

ـ نَقْل الفائض البشري من أوربا إلى جيوب استيطانية غربية في كل أنحاء العالم، لتكون ركائز للجيوش الغربية والحضارة الغربية (فيما يُعَد أكبر حركة هجرة في التاريخ).

ـ نَقْل كثير من أعضاء الأقليات إلى بلاد أخرى (الصينيين إلى ماليزيا ـ الهنود إلى عدة أماكن ـ اليهود إلى الأرجنتين) كشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني، إذ أن هذه الأقليات تشكل جيوباً استيطانية داخل البلاد التي تستقر فيها.

ـ نَقْل كثير من العناصر المقاتلة من آسيا وأفريقيا وتحويلهم إلى جنود مرتزقة في الجيوش الغربية الاستعمارية، مثل الهنود (وخصوصاً السيخ) في الجيوش البريطانية. وفي الحرب العالمية الأولى، تم تهجير 132 ألفاً من مختلف أقطار المغرب لسد الفراغ الناجم عن تجنيد الفرنسيين، بالإضافة إلى تجنيد بعضهم مباشرةً للقتال (وهذه هي أول "هجرة" لسكان المغرب العربي، وقد استمرت بعد ذلك تلقائياً).

ـ في هذا الإطار المعرفي الترانسفيري، تمت عملية الاستيطان الصهيونية التي هي في جوهرها تصدير لإحدى مشاكل أوربا الاجتماعية (المسألة اليهودية) إلى الشرق، فيهود أوربا هم مجرد مادة (فائض بشري لا نفع له داخل أوربا يمكن توظيفه في خدمتها في فلسطين)، والعرب أيضاً مادة (كتلة بشرية تقف ضد هذه المصالح الغربية)، وفلسطين كذلك مادة فهي ليست وطناً وإنما هي جزء لا يتجزأ من الطبيعة/ المادة يُطلَق عليه كلمة «الأرض». فتم نقل العرب من فلسطين ونقل اليهود إليها، وتمت إعادة صياغة كل شيء بما يتلاءم مع مصالح الإنسان الغربي.

3 ـ تَبدَّت عقلية الترانسفير في تصدير المشاكل الاقتصادية لأوربا، فكان يتم تصدير البضائع الفائضة والبضائع الكاسدة والبضائع الرديئة (مثلما تم تصدير المجرمين واليهود والساقطين سياسياً) إلى الشرق. وقد استمر النمط، فأخذ أشكالاً مختلفة لعل أهمها في الوقت الحاضر الشركات المتعددة الجنسيات التي تُشيِّد الصناعات التي تُسبِّب نسبة عالية من التلوث في العالم الثالث. كما أن الغرب يقوم بدفن العوادم الصناعية الملوثة في العالم الثالث (أي أنه يقوم بعملية ترانسفير لها).

4 ـ من الأشكال المهمة للترانسفير ما تم في عصر الإصلاح الديني وهو ترانسفير معرفي/لغوي، إذ قام المصلحون الدينيون البروتستانت بنقل المفاهيم الدينية من المستوى المجازي الذي يفترض وجود مسافة أو ثغرة بين الدال والمدلول (فالدال كلمة محددة، أما المدلول فإنه يضم المعلوم والمجهول، والمحدود واللامحدود، والمقدَّس والمدنَّس) إلى المستوى الحرفي المادي. ومن ثم تحوَّلت " صهيون " إلى رقعة جغرافية اسمها فلسطين، وتحول التطلع الديني لها (حب صهيون) إلى حركة نحو استيطانها، وتحولت " أورشليم " السماوية (مدينة الإله) إلى القدس الأرضية (عاصمة فلسطين) التي يجب الاستيلاء عليها. وهذا الترانسفير اللفظي هو المقدمة للترانسفير الفعلي (الحركة الصهيونية ـ الأصولية البروتستانتية المتطرفة).

5 ـ تَبلور الترانسفير، كنمط إدراكي، مع هيمنة عقيدة التقدم على الإنسان الغربي. فالتقدم هو حركة دائمة، انتقال من مكان إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، وأصبح الهدف من الحياة هو التقدم/الترانسفير الدائم. ويُلاحَظ أن لفظ التقدم هو دال بلا مدلول تقريباً، إذ إن الإنسان الغربي لم يُعرِّف على وجه الدقة الهدف النهائي من التقدم وكل ما هناك أهداف مرحلية لا متناهية. وعلى هذا، فإن الترانسفير، مثل التقدم، كلمة تشير إلى حركة بلا مضمون.

6 ـ يُلاحَظ أن فكرة الترانسفير قد تَجذَّرت تماماً في الوجدان الغربي الحديث بحيث لا يستطيع الإنسان الغربي رؤية الطبيعة البشرية نفسها إلا في إطار الترانسفير. ولعل قمة العقلية الترانسفيرية تظهر في تعريف البروفسور ماكس لرنر (وآخرين) للإنسان الحديث بأنه إنسان قادر على تغيير منظومته القيمية بعد إشعار قصير، أي أن الإنسان كائن حركي يمكنه أن ينجز الترانسفير من منظومة قيمية إلى أخرى بسرعة، ولا يمارس أي ولاء عميق لأي شيء، ولا يشعر بأي ألم أو وخز ضمير إن غيَّر ولاءاته وهويته وشخصيته وأهواءه (ومن المعروف أن المغنية مادونا، قمة ما بعد الحداثة، تقوم بتغيير شخصيتها مرة كل ثلاث سنوات). 

وفي هذه الموسوعة، نعرِّف التحديث بأنه رفض كل العلاقات الكونية والثابتة (مثل علاقات القرابة) والقضاء عليها، ورفض المطلقات والثوابت كافة، وإخضاع كل العلاقات للتفاوض وكل القيم للتداول (الترانسفير)، الأمر الذي يحقق للإنسـان الحديث حركية عالية وكفـاءة منقطعة النظير في أداء أية مهمة توكل إليه.

7 ـ بل يمكن القول بأن الترانسفير قد انتقل كذلك إلى المنظومة المعرفية فيما يُسمَّى «النسبية المعرفية»، حيث يرفض الإنسان أي يقين معرفي ويرضى بالجزئيات، فينقل إيمانه من حقيقة إلى أخرى. وهنا، فإن ما يشكل المعرفة بالنسبة له ليس الحقيقة الكلية وإنما حقائق جزئية متغيرة متلاحقة.

8 ـ ويُعبِّر الترانسـفير عن نفسه في المنظومة الجمالية، إذ تظهر أزياء كل سنة بحيث لا تكون لها علاقة بأزيـاء الماضي، ولذا فإن الإنسان يتعيَّن علىه تغيير ملابسه باستمرار، وتظهر كل أسبوع أغنية جديدة يسمعها الإنسان الغربي (والآن الشرقي) ثم ينساها. ويظهر موديل سيارة جديدة كل عام، فيغير الإنسان (في المجتمعات التي يُقال لها متقدمة) سيارته مرة كل ثلاثة أعوام. ولعل انتشار الجراحات التجميلية هو تعبير عن نفس الظاهرة، حيث يُغيِّر الإنسان وجهه ويختار وجهاً جديداً (يُعرَض له أحياناً مسبقاً على شاشة الكمبيوتر) ويقوم بتعديله مع أحد الخبراء ثم يتم تنفيذه. ويمكن رؤية قطاع كامل من الطب (عدسات لاصقة ملونة ـ نهود صناعية... إلخ) كتعبير عن الظـاهرة نفسـها. والإيمان الأعمى بالتجريب في الفن هو أيضاً نوع من أنواع الترانسفير، حيث لا يقنع الفنان بشكل فني واحد مستقر وإنما يجب أن يبحث عن شكل جديد.

9 ـ أصبح الشكل الحضاري الأساسي هو الترانسفير، فحضارة الفوارغ والنفايات (بالإنجليزية: ديسبوسابل disposable) والتآكل المُخطَط (بالإنجليزية: بلاند أوبسولسنس planned obsolescence) هي في جوهرها حضارة ترانسفير. يشرب الإنسان زجاجة عصير أو مياه غازية ويلقي الزجاجة الفارغة، ويأكل الساندويتش ويلقي بكمية هائلة من الأوراق التي تغلفه. ويشتري سيارة لتصبح بالية بعد سنتين أو ثلاث فيضطر لشراء سيارة جديدة، وهو يفعل ذلك حتى تزداد حركيته وتزداد مقدرته على الانتقال (الترانسفير) من مكان إلى آخر بكفاءة بالغة. وهي أيضاً حضارة التغليف (بالإنجليزية: باكيجنج packaging)، حضارة الظـاهر اللامـع دون باطن، ولكنه ظـاهر لامـع يتم تلميعه بدرجات مختلفـة.

10ـ انتقل الترانسفير إلى رؤية الذات، فالإنسان الغربي داخل إطار المرجعية المادية قادر على رؤية ذاته باعتبارها مادة استعمالية لا قداسة لها يمكن توظيفها دون أي احتجاج من جانبه. فهو، مثلاً، يشتري المنزل (الذي يشكل نقطة الثبات في حياة كثير من البشر والمأوى الدائم لهم) ويراه استثماراً، وقد أصبح المنزل هو أهم استثمار بالنسبة للأمريكيين، والاستثمار الوحيد لغالبيتهم. وبدلاً من أن يعيش في منزله ويستقر فيه ويعيد صياغته بشكل يتفق مع احتياجاته وهويته فإنه يبيعه ليحقق ربحاً بعد فترة وجيزة (في الولايات المتحدة مثلاً يغير كل مواطن منزله مرة كل خمسة أعوام). لهذا السبب أصبح معمار المنازل محايداً (أربعة جدران محايدة وسقف أكثر حياداً)، وفقد أية خصوصية، وذلك حتى يمكن لصاحبه أن يتركه وينتقل منه (ترانسفير) ويبيعه لشخص آخر بسهولة ويسر ويحقق ربحاً عالياً (أليست هذه هي حضارة الفوارغ؟).

11 ـ ولا يعود تغيير المنزل إلى الرؤية الاستثمارية وحسب بل إلى أن الكثيرين يغيرون محل عملهم حتى يحققوا ما يطمحون إليه من حراك اجتماعي. وتُعَد الحركة الدائمة أحد مظاهر التحديث، ولعل الحركة اليومية للملايين من مكان إلى مكان، وحركة ملايين السياح من بلد لآخر، تعبير آخر عن هذا. وفي أحيان كثيرة، يكون مجرد المل والرغبة في التغيير هو مصدر الأوتو ترانسفير أو الترانسفير الذاتي. 

ويمكن القول بأن السائح شخصية علمانية نماذجية، فهو إنسان حركي لا يؤمن بالثوابت أو المطلقات، يجمع في شخصيته ثنائية الإنسان الاقتصادي (الذي يراكم المال) والإنسان الجسماني (الذي يندفع لإنفاقه بشراهة). وهو حينما ينتقل إلى بلد (ترانسفير)، فإن كل همه هو الاستهلاك وتحقيق المتعة لنفسه (اللذة) دون أية اعتبارات إنسانية. أما المجتمع الذي يستقبله، فلا ينظر إليه إلا باعتباره مصدر مال (المنفعة)، أي أنه ينزع القداسة عن المجتمع المضيف ويقوم المجتمع المضيف بنزع القداسة عنه.

12 ـ يُطبَّق الترانسفير على الذات حينما يتحرك المسنون في المجتمعات الغربية في إطار المرجعية المادية ويقبلون أن يُنقَلوا إلى بيوت المسنين، أو إلى مدن تشكل جيتوات خاصة بهم، حين يبلغون السن القانونية ويستنفدون عمرهم الإنتاجي الافتراضي، يمكثون فيها حتى تحين ساعتهم. وهم يفعلون ذلك عن طيب خاطر ويسعون إليه ويسعدون به مادامت المنازل التي سيُودَعون فيها مكيفة الهواء وتحتوي على وسائل الراحة المادية كافة.

13 ـ وبحسب رأينا، فإن الترانسفير الذي يُطبَّق على العجائز في الغرب يَصدُر تقريباً عن المقولات الترانسفيرية نفسها التي تَصدُر عنها الإبادة النازية لليهود والعجزة والغجر والسلاف وغيرهم. فالنازية كانت تنظر للبشر في إطار المرجعية المادية وفي ضوء مدى «نفعهم» فمن كان نافعاً منتجاً أصبح من حقه البقاء وغير قابل للترحيل، أما غير النافعين فهؤلاء «أفواه تستهلك ولا تنتج» ومن ثم فلا فائدة ترجى من إطعامها (بالإنجليزية: يوسليس إيترز useless eaters)، وكان يتم تدريب بعضهم ليصبح نافعاً مُنتجاً. 

أما هؤلاء الذين لا أمل في تحويلهم لمنتجين، فكانوا يُصنَّفون باعتبارهم يهوداً قابلين للترحيل (بالإنجليزية: ترانفسيرابل tranferable) ويمكن التخلص منهم (بالإنجليزية: ديسبوزابل disposable). وقد سُوِّيت حالة هؤلاء عن طريق الترحيل إلى معسكرات السخرة والإبادة (حيث يتم القضاء عليهم عن طريق العمل المُجهد المتواصل أو عن طريق التسخين السريع في أفران الغاز) وهذا لا يختلف كثيراً عن ترحيل العجائز إلى بيوت المسنين عند انتهاء عمرهم الافتراضي الإنتاجي، حيث يُترَكون في أمان ليموتوا عن طريق التبريد البطيء المريح.
14 ـ ويمكن اعتبار الجنس العَرَضي (أي أن يعاشر الذكر الأنثى دون وجود علاقة عاطفية تتسم بقدر من الثبات بينهما) شكلاً من أشكال التنقل (الترانسفير) من أنثى إلى أخرى، وذلك لأن الأنثى مادة استعمالية لا قداسة لها تُوظَّف لتحقيق اللذة. ولكن يجب أن نسارع ونقول (حتى لا نُتَهم بالتقليل من شأن المرأة) أن الذكر الذي يدخل في مثل هذه العلاقة هو الآخر مادة استعمالية تُوظِّفها الأنثى لتحقيق اللذة لنفسها، فثمة مساواة كاملة تؤدي إلى التسوية الكاملة وإلى سيادة المرجعية المادية الصارمة على الجميع.

15 ـ يتحدثون في الغرب الآن عن «التفضيل أو الميل الجنسي» (بالإنجليزية: سكشوال بريفيرنس sexual preference) بدلاً من الطبيعة الجنسـية الثابتة للإنسـان، بمعنى أن الإنسـان يختار الممارسـات أو الهوية الجنسية التي يميل لها. فإذا كان المرء ذكراً، فيمكنه أن يمارس الجنس مع ذكر مثله، فهو جنسمثلي أو شاذ جنسياً (بالإنجليزية: هوموسكشوال homosexual) مثل فوكوه الفيلسوف الفرنسي. 

وإذا كان المرء أنثى، فهي تمارسه مع أنثى مثلها، فهي مساحقة (بالإنجليزية: لزبيان lesbian) مثل كثير من زعيمات حركة التمركز حول الأنثى. وهناك من يفضل الآن ممارسة الجنس مع الحيوانات (بالإنجليزية: زوفيليا zoophilia)، ويُقال إن فيلسوف النفعية جريمي بنتام كان يحب ملاعبة القرود بطريقة جنسية، كما أن هناك من يفضل ممارسة الجنس مع الأطفال (بالإنجليزية: بيدوفيليا pedophilia) كما يُقال عن مايكل جاكسون. 

ويمكن إضافة أذواق غير معروفة في البلاد المتخلفة، مثل «ترانسفستايت transvestite» وهو الميال إلى ارتداء أزياء الجنس الآخر والتشبه بسلوكه، و«أندروجيناس androgynous» وهو الخنثى الذي لا يمكن تصنيفه ذكراً أو أنثى (ويؤكد مايكل جاكسون هذا المظهر في هويته). 

وهناك «ترانس سكشوال transsexual» وهو شكل طريف جداً بدأ يظهر مؤخراً في الغرب، فهو مثلاً رجل يصر على أن يكون امرأة، بل يحاول أن تُجرَى له عملية جراحية ليصبح من الجنس الآخر (والعكس بالعكس). وكل من شاهد فيلم "صمت الحملان" رأى عيِّنة من ذلك، فالمجرم الذي اختطف الفتاة يحاول أن يخيط لنفسه بدلة من جلدها (وجلد غيرها من الإناث) حتى يصبح له ثديان مثل الإناث تماماً (ويُلاحَظ ظهور السابقة «ترانس» في بعض الكلمات). 

ونضيف إلى هذه القائمة الترانسفيرية «أسكشوال asexual» وهو المحايد جنسياً تماماً. وهناك أخيراً (حتى لا ننسى الأصل) «هيتروسكشوال heterosexuel» وهم البشر التقليديون العاديون الذين يختارون أن يشتهوا أعضاء من الجنس الآخر (وإذا أردنا أن نتوخى الدقة تماماً ، فإن علينا أن نُسقط كلمة «الأصل» لأن المساواة تحت رايات ما بعد الحداثة تصل إلى درجة إنكار الأصل والمركز تماماً).

16 - وإذا كان الترانسفير قد انطبق على أمور لا يزال بعضنا يظنها جوهرية وطبيعية وفطرية مثل الجنس، فإنه ينطـبق من باب أولى على التنظـيم الاجـتماعي. ويُلاحَظ أن الأسـرة قد اختلفت أشكالها (تماماً مثل الميول الجنسية)، ففي الماضي كان هناك الأسرة الممتدة التي تضم ثلاثة أجيال ثم انكمشت إلى الأسرة النووية التي تضم رجلاً وزوجته وطفليهما (ويستحسن أن يكون الطفلان ذكراً وأنثى حتى يتمكن المجتمع من إعادة إنتاج نفسه). أما الآن، فقد أصبحوا (في الولايات المتحدة) يسمون الأسرة النووية «الأسرة الأساسية» (بالإنجليزية: كور فاميليcore family ) ويشيرون إلى أنماط أخرى من الأسر. 

ويُلاحَظ أن هذه الأسرة الأساسية أصبحت أقلية إذ توجد أنواع أخرى، مثل: أب مع أطفاله ـ أم بمفردها مع أطفالها ـ أب وعشيقته مع أطفاله/أو أطفالها أو أطفالهما ـ أم وعشيقها مع أطفالها/أو أطفاله أو أطفالهما ـ أم وصديقتها مع أطفالها أو أطفالهما ـ أب وصديقه مع أطفاله أو أطفالهما. وقد قرأنا منذ عدة شهور عن أسرة من نوع الكور فاميلي الثابت الراسخ، إلا أن تعديلاً طفيفاً دخل عليه إذ انضم للأسرة عشيق الأب ووافقت الأم على ذلك (فمن الواضح أنها تتمتع بعقلية ترانسفيرية منفتحة) وأصبح تركيب الأسرة على النحو التالي: أم وأب وصديقه وأطفالهم (أي سقط المثنى وسقطت الثنائية والمركزية والمرجعية).

17 ـ ويصل الترانسفير إلى قمته ويتم تكريسه تماماً عندما يختفي مفهوم الطبيعة البشرية في العلوم الإنسانية الغربية (كيف يمكن أن يقوم مثل هذا المفهوم في مثل هذا المجتمع؟) ويصبح من الرجعية بمكان الاهتمام بأية مطلقات أو ثوابت إنسانية أو مرجعية. فالإنسان هو مجموعة من العلاقات المادية المتغيرة التي يمكن تعريفها إجرائياً وحسب.

18 ـ كما يصل الترانسفير إلى قمته، على مستوى الممارسة، فيما يُسمَّى بتنميط المجتمع (بالإنجليزية: ستاندردايزيشن standardization)، وهو أن يتم تنميط السلع في المجتمع وإخضاعها للنموذج الميكانيكي. وبعد أن يتم تنميط الحياة المادية (البرانية)، يبدأ تنميط الحياة النفسية (الجوانية). ويظهر هذا فيما نسميه «صناعة اللذة» التي تقوم بتنميط أحلام الإنسان ورغباته وتطلعاته وشهواته من خلال الأفلام والإعلانات والمجلات الإباحية وغير الإباحية. وعملية التنميط تعبير منطقي عن عمليات الترشيد في إطار المرجعية المادية. 

ومع تنميط حياة الإنسان البرانية والجوانية، نكون قد وصلنا إلى الترانسفير الكامل للإنسان، ليصبح كزجاجة الكوكاكولا أو قطعة الغيار، فيمكن نقله من مكان إلى آخر، ويمكن التخلص منه دون أي إحساس بالمأساة أو الملهاة، وهذه هي اليوتوبيا التكنولوجية الكاملة أو الفردوس الأرضي أو نهاية التاريخ.

19 ـ والنظام العالمي الجديد هو تعبير عن تَصوُّر العالم الغربي أن إبستمولوجيا الترانسفير والمرجعية المادية قد هيمنت تماماً على العالم بأسره، وأنها قد غزت البلاد والشعوب والعقول كافة (أو على الأقل عقول النخب الحاكمة) وأن الجميع على استعداد لأن يغير قيمه بعد إشعار قصير، وعلى استعداد لاستبعاد القيم الأخلاقية مثل الكرامة والتمسك بأرض الأجداد والدفاع عن المطلقات. 

فمثل هذه القيم تجعل نقل الأنماط الاستهلاكية، وانتقال رأس المال (في شكل الشركات متعددة الجنسيات)، وتنفيذ توصيات البنك الدولي، أمراً صعباً. ويتوهم الغرب أننا قد وصلنا لهذه المرحلة التي تُستبعد فيها القيم الثابتة بسهولة ليتبنى المرء أية قيم أخرى. وقد جاء شمعون بيريس، حينما كان يشغل منصب وزير خارجية إسرائيل، إلى القاهرة وجلس مع بعض المثقفين المصريين وأخبرهم بأن المسألة كلها تجارة في تجارة، فالجميع يدورفي إطار المرجعية المادية. فالديموقراطية تجارة، والأوطان بوتيكات وفنادق، والإنسان وحدة اقتصادية يمكن نقلها (ترانسفير). وكما قال أحد المثقفين المصريين "كل الدول تود أن تكون سنغافورة"، وهي بلد لا تشتهر بهويتها أو قيمها أو إسهاماتها الحضارية، وإنما بالسوبرماركتات والمقدرة المذهلة على البيع والشراء، أي أنه بلد يدور تماماً في إطار المرجعية المادية.

20 ـ يمكن أن نتوجه لقضية علاقة الدال بالمدلول لندرك مدى تغلغل مفهوم الترانسفير في أكثر الأشياء ثباتاً، أي اللغة الإنسانية. فمنذ عصر النهضة في الغرب، كان ثمة إيمان عميق بأن كل شيء خاضع للتغير، ولا يوجد ثابت سوى قانون الحركة. ولابد من الإيمان المطلق والثابت بضرورة التغيير (فهذه هي حضارة التقدم). ويُعبِّر هذا عن نفسه في فلسفة مثل الداروينية والنيتشوية حيث يصبح العالم كياناً متطوراً متغيراً ولا يوجد فيه ثبات إلا للقوة، فمن خلال القوة يستطيع الإنسان أن يفرض المعنى الذي يريده. وقد بيَّن هوبز أن الدولة هي المعرِّف الأكبر (بالإنجليزية: جريت ديفاينر great definer)، فمن خلال سـطوتها يمكنها أن تمنـح الدلالة للكلمات، فكأن الدال لا عـلاقة له بالمدلول إلا من خـلال القوة. 

وهناك الجـانب الآخر من نفس القضـية وهو البرجـماتية (نيتشوية الضعفاء)، وهي فلسفة تدعو للتكيف الدائم مع الأمر الواقع. كما أن هذه المرونة الترانسفيرية تعني تَقبُّل تعريف الأقوياء للكلمات، بل إعادة تسميتها حتى تكتسب شرعية جديدة، ومن ثم تصبح «فلسطين» «إسرائيل» وتصبح «الضفة الغربية» «يهودا والسامرة». وينطبق نفس الشيء على كثير من الظواهر التي يتكيف معها المهزومون ممن لا حول لهم ولاقوة. 

فالأطفال غير الشرعيين كانوا يُسمَون بهذا الاسـم. ولكنهم، من خلال التكيف، أصبحوا يـسمون «أطفال أم غير متزوجة» (بالإنجليزية: أنويد مذر unwed mother)، ثم أصبح يُطلَق عليهـم «أبناء أسـرة ربها إما أب أو أم» (بالإنجليزية: سنجل بيرنت فاميلي single parent family)، ثم اكتسبوا أخيراً اسماً حتمياً لطيفا هو «أطفال طبيعيون» (بالإنجليزية: ناتشورال بيبيز natural babies)، وهو أمر يعني أن الحادث تم قيده ضد مجهول أو أنه ثمرة الطبيعة / المادة. وأخيراً أصبحوا يسمون «لاف بيبيز love babies» وهي عبارة إنجليزية مبهمة. 

فكلمة «love» الإنجليزية تعني «حب» كما تعني «جنس» (كما في عبارة «تو ميك لاف to make love» الإنجليزية، والتي يترجمها بعض البلهاء بعبارة «يتعاطى الحب» مع أنها تعني في واقع الأمر أموراً لا علاقة لها بالحب أو الكره)، ومن ثم فهم «أبناء الحب / الجنس». ومهما كان المعنى المقصود، فإن العبارة الجديدة تُخفي الأصول وتجعل ظاهرة الأطفال غير الشرعيين ظاهرة طبيعية تماماً، أي أن الانتقال (الترانسفير) تم من الحرام والحلال إلى الحياد، تماماً مثلما أصبحت البغيّ «عاملة جنس» (بالإنجليزية: سكس وركر sex worker). وأثناء هذه العملية، تنحل علاقة الدال بالمدلول تماماً.

21 ـ ومادمنا نتحدث عن الترانسفير المعرفي الإبستمولوجي، فيمكن أن نُعرِّف الترانسفير بأنه أولاً هيمنة المرجعية المادية (في عصر الثنائية الصلبة) ثم اختفاء المرجعية والمركز، أية مرجعية وأي مركز، بحيث لا يكون هناك هامش أو مركز، ولا قمة ولا قاع، ولا داخل ولا خارج، ولا فارق بين إنسان وحيوان، ولا علاقة ضرورية بين دال ومدلول (يتحدث أنصار ما بعد الحداثة عن رقص الدوال). وهذا وصف دقيق لعالم ما بعد الحداثة حيث لا يمكن لكائن أن يشغل مكاناً متميِّزاً، وحيث كل الأمور متساوية وكل الظواهر نسبية، وحيث الأصل والصورة هما شيء واحد، وحيث يمكن أن يحل شيء محل شيء آخر وتحل كلمة محل كلمة أخرى. وبهذا المعنى، يمكن القول بأن ما بعد الحداثة هي أيديولوجيا النظام العالمي الجديد حيث ينزلق الجميع من السوق إلى المصنع، ومن المصنع إلى السوق، تماماً كما بشَّر بذلك وزير خارجية إسرائيل.

نهاية التاريخ

«نهاية التاريخ» (بالإنجليزية: إند أوف هستوري end of history) عبارة تعـني أن التاريخ، بكل ما يحويه من تركـيب وبسـاطة، وصيرورة وثبـات، وشوق وإحباط، ونبل خساسة، سيصل إلى نهايته في لحظة ما، فيصبح سكونياً تماماً، خالياً من التدافع والصراعات والثنائيات والخصوصيات، إذ إن كل شيء سيُردُّ إلى مبدأ عام واحد يُفسِّر كل شيء (لا فرق في هذا بين الطبيعي والإنساني). وسيُسيطر الإنسان سيطرة كاملة على بيئته وعلى نفسه، وسيجد حلولاً نهائية حاسمة لكل مشاكله وآلامه.

ونحن نرى أن هذا المصطلح ينتمي إلى عائلة كاملة من المصطلحات الأخرى التي تصف بعض جوانب منظـومة الحداثة الغـربية والتي تعني انتهاء شيء ما والقضاء عليه، وهذا الشيء في غالب الأمر هو الجوهر الإنساني، كما نعرفـه، وكما ظهر مُتعيِّناً في التـاريخ. وقد أشـرنا لبعضـها في المداخل السابقة، ولكن أهمها هو مصطلح «دي كونستراكت deconstruct» بمعنى «يفكك» أو «يقوِّض». كما يمكن أن نضع مصطلح «نهاية التاريخ» مع المصطلحات التي تبدأ بالكاسحة «post» والتي تعني حرفياً «بعد» ولكنها تعني في واقع الأمر «نهاية أو تَحوُّل جوهري كامل» مثل: «بوست مودرن post-modern» بمعنى «ما بعد الحداثة»، و«بوست إندستريال post-industrial» بمعنى «ما بعد الصناعي»، و«بوست كابيتاليست post-capitalist» بمعنى «ما بعد الرأسمالي» وأخيراً «بوست هيستوريكال post-historical» بمعنى «ما بعد التاريخ» التي تعني في واقع الأمر «نهاية التاريخ».

ويُلاحَظ ـ ابتداءً ـ أن ثمة اختلافاً عميقاً بين مفهوم نهاية التاريخ (الحلولي الدنيوي) ومفهوم يوم القيامة (التوحيدي). فيوم القيامة نقطة تقع خارج الزمان، في الآخرة، يتجه نحوها الزمان ويتم فيها الحساب. وهو ما يعني أن الزمان التاريخي لن يصبح في يوم من الأيام خالياً من الصراع والتدافع، أي أن ثمة ثنائية لا تُمحى ولا تُردُّ إلى غيرها وأن التاريخ رغم فوضاه له هدف وغاية. أما نهاية التاريخ، فتتحقَّق داخل الزمان الإنساني وعلى الأرض، حين يؤسِّس الإنسان الفردوس (صهيون ـ مملكة المسـيح ـ المهـدي المنتظر ـ اليوتوبيا التكنولوجية) داخل الزمان، فهو فردوس مادي أرضي. ولذا يمكن القول بأن نهاية التاريخ تعني في واقع الأمر نهاية التاريخ الإنساني المركب، بكل ما فيه من تعاريف وتدافع، كي يبدأ تاريخ بسيط أحادي يتسم بالانتظام الشديد (تشبه بنيته بنية التاريخ الطبيعي).

والنظم الحلولية (الروحية والمادية) نظم مغلقة، تُفضي إلى نهاية التاريخ، ففي وحدة الوجود الروحية يحل الإله في الطبيعة وفي الإنسان فيستوعبهما في ذاته ويصبح كل شيء تعبيراً عن الإله وتجسيداً له (ولا موجود إلا هو)، فينتهي التاريخ ويُلغى الزمان ويتحول إلى دورات متـكررة؛ بداياته تشـبه نهاياته، وتشبه كل دورة كونية الدورات الأخرى (فهو عود أبدي رتيب). أما في إطار وحدة الوجود المادية، فإن الإله يحل في الإنسان والطبيعة ويُستوعَب فيهما، ويصبح لا وجود له إلا من خلالهما. ثم تُعاد تسميته ليصبح «قانون الحركة» أو «قانون الضرورة» أو «قوانين الطبيعة/المادة»، التي يُردُّ لها كل شيء، ومن ذلك الظواهر الإنسانية، (ولا موجود إلا هي). ومن يعرف هذه القوانين يصل إلى المعرفة التي تمكِّنه من التحكم في العالم وفي إنهاء التاريخ الإنساني والزمان وفي بدء التاريخ الطبيعي وتأسيس الفردوس الأرضي. فكأن وحدة الوجود الروحية تتحول، من خلال إعادة التسمية، إلى وحدة وجود مادية، معادية للإنسان ولاستقلاله عن عالم الطبيعة/المادة من حوله، ومعادية للتاريخ، مجال حرية الإنسان وساحة نجاحه وفشله.

وتتضـح وحدة الوجود الروحية في العقائـد المشـيحانية (المهدوية) الدينية، فالعقيدة المشيحانية ـ على سبيل المثال ـ تضع اليهود في مركز التاريخ، ويدور التاريخ البشـري بأسره (تاريخ اليهود وتاريخ الأغيار) حولهم. ويتركز الغرض الإلهي في اليهود (شعب الله المختار) الذين سيُعانون كل الآلام إلى أن يأتي الماشيَّح ويقضي على أعدائهم ويضع حداً لآلامهم فيجمعهم من شتات الأرض ويعود بهم إلى صهيون ليؤسس مملكته هناك حيث يتحقق السلام الكامل والفردوس الأرضي. إلا أن التاريخ، كما يقول المفكر الصهيوني موسى هس، سيصبح مثل الطبيعة في العصر المشيحاني (سبت التاريخ أو نهايته)، ويصبح الإنساني والتاريخي في بساطة الطبيعي. وبالفعل لن يشهد العصر المشيحاني الألفي إصلاح المجتمع الإنساني وحسب وإنما سيشهد أيضاً تَحوُّل قوانين الطبيعة ليتم التوافق الكامل بين الطبيعة والإنسان.

وتضع النظم التي تدور حول وحدة الوجود المادية، هي الأخرى، نهاية للتاريخ، فمن البداية يُفسَّر التاريخي والاجتماعي والإنساني في إطار الطبيعي/المادي ويُردُّ كل شيء إلى الطبيعة/المادة. وإذا كان هناك مشيحانية (مهدوية) تدور في إطار وحدة الوجود الروحية فهناك أيضاً مشيحانية دنيوية، علمية أو علموية، تدور في إطار وحدة الوجود المادية. فهناك من يرى أن المعرفة العلمية هي المعرفة التي ستمكِّننا من السيطرة على قانون الضرورة وتأسيس صهيون العلمية، أي اليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية. 

ويَصدُر هؤلاء من رؤية علمية (أو علموية) ضيقة تدور في إطار السببية الصلبة، ويتصورون أن العلم سيؤدي إلى معرفة يقينية شاملة كاملة. (ومن المفارقات أن كل هذه التصورات فقدت مصداقيتها في الأوساط العلمية التي أصبحت تدرك لاتَحدُّد العلوم الطبيعية واحتماليتها. ومع هذا، لا تزال مثل هذه التصورات سائدة في بعض الأوساط بين دارسي العلوم الإنسانية التي لا تزال تتبنَّى منظوراً علمياً سببياً صلباً عفى عليه الزمان)

إن إشكالية نهاية التاريخ إشكالية كامنة في الفكر الديني والفلسفي الغربي، ولكنها تحولت إلى موضوع أساسي في الحضارة الغربية منذ عصر النهضة. واتضحت بشكل متبلور مع ظهور فكرة اليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية، التي تنسلخ عن التاريخ الإنساني لأنها تُدار وفق العقل الذي يُدرك القانون أو العلم الطبيعي الذي لا علاقة له بالقوانين الاجتماعية والتاريخية والإنسانية (لأن قوانين العقل تماثل قوانين الطبيعة)، فاليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية، من ثم، تعبير عن رغبة حقيقية وصادقة في وضع الحلول النهائية لكل المشاكل وتأسيس الفردوس الأرضي وإنهاء التاريخ.

ويوتوبيا عصر النهضة في الغرب هي إرهاصات لهذا الفكر التكنوقراطي الحديث والرغبة في التحكم الكامل النابعة من الرؤية الواحدية المادية. ومن أهم هذه اليوتوبيات يوتوبيا سير توماس مور (1478 ـ 1535) الذي وصف نظاماً تسوده الملكية العامة وعلاقات المساواة والتسوية وتُلغَى فيه مؤسسة الأسرة. ومن اليوتوبيات الأخرى، يوتوبيا توما كمبانيلا (1568 ـ 1639) الذي صوَّر مجتمعاً طوباوياً اشتراكياً في كتابيه دولة المسيح ومدينة الشمس تسقط فيه الملكية الخاصة وتنتهي الأسرة وتقوم الحياة الجماعية وتنتهي الفردية تماماً. 

إذ يتم تخطيط كل شيء ومراقبة كل الأفراد والوفاء بحاجاتهم المادية والروحية، وهو ما يريح الإنسان من عبء المسـئولية والاختيار ويحل المشكلات والتناقضـات الاجتماعية والتاريخـية كافة. ومدينة الشـمس انعكاس لعالم الطبيعة، التي لا يحكمها سوى القوانين الطبيعية، وأعظم الرجال هو من يفهم هذه القوانين ويوظفها. ويحكم كل هذا الساحر/الكاهن (العالم والتكنوقراط) الذي يوجِّه حياة المدينة لتكون على وفاق تام مع الكون والطبيعة. 

ولذا، كان من الهموم الأساسية للمدينة تحديد اللحظة المناسبة (من الناحية الفلكية) التي يعاشر فيها الذكر الأنثى حتى تضمن أن يولد طفل صحيح (من الناحية البدنية) متوازن (من الناحية النفسية)، أي أن مدينة الشمس يوتوبيا علمية كاملة، رحم اجتماعي جمعي، يتم فيه التحكم في ظاهر الإنسان وباطنه (ومن المثير أن كامبانيلا كان يؤمن بمقدراته المشيحانية، فكان يعتقد أن النتوءات السبعة على وجهه تمثل السماوات السبع، أي أن له علاقة بالقوى الكونية. 

كل هذا يجعله رائداً للشخصيات الكاريزمية النيتشوية الحديثة مثل روبسبيير وهتلر وستالين المرتبطين باليوتوبيا التكنولوجية والتكنوقراطية). أما يوتوبيا سير فرانسيس بيكون (1561 ـ 1626) أطلانطيس الجديدة ، فهي يوتوبيا علمية نماذجية إذ يحكمها العلماء وأصحاب الخبرة (من بيت سليمان) حيث توجه الدولة كل شيء ولا يوجد مجال للتناقضات والاختلافات.

ورغم أن كل هذه اليوتوبيات متفائلة فإنها وثيقة الصلة بكتاب هوبز التنين ، حيث قـدَّم هو الآخـر رؤية للـدولة التي يمكنها أن تتحكم في كل شيء، وتُوجِّه كل شيء، وتضع حلولاً نهائية لسائر المشاكل، ولذا فهي تحل محل الضمير الشخصي. والفارق أن هوبز كان يرى أن إمكانية الإنسان للشر ضخمة، أما اليوتوبيون فلم تكن عندهم نظرية في الشر. وتتبدَّى الرغبة نفسها في إنهاء التاريخ في الفكر المادي الرياضي الآلي الذي يرفض تنوُّع التاريخ وجدليته ويُحل محله عالماً بسيطاً آلياً يتحرك كالآلة أو الساعة الدقيقة (صورة نيوتون المجازية)، وتتحرك فيه الأجسام الإنسانية كالأحجار المندفعة (صورة إسبينوزا المجازية)، ويصبح عقل الإنسان صفحة مادية بيضاء (صورة لوك المجازية)، ويصبح الإنسان في نسق الآلة وبساطتها (صورة جوليان دي لامتري المجازية)

ويظهر رفض التاريخ الإنساني بطريقة أكثر صقلاً في فكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من تأكيد أن التاريخ نشاط إنساني، فهو ثمرة جهد عقل الإنسان ومستودع حكمته. ولذا فهناك نزعة في فكر الاستنارة لتمجيد التاريخ وتقديسه. ولكن العكس صحيح أيضاً فقوانين العقل هي نفسها قوانين الطبيعة والمادة والحركة، والعقل المستنير لا يستمد معياريته من التاريخ أو الحضارة أو المجتمع وإنما من خلال الدراسة العلمية الصارمة لقوانين الطبيعة والمادة والحركة. 
يتبع إن شاء الله...


الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48824
العمر : 71

الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية   الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية Emptyالأحد 10 نوفمبر 2013, 10:15 pm

ولذا بدلاً من الغائية التقليدية التي ترى أن التاريخ يسير بتوجيه إلهي، طُرحت فكرة جديدة تماماً على الفكر البشري وهي أن التاريخ يتحرك إما دون غائية، فهو حركة دون هدف (تماماً مثل الطبيعة/المادة)، أو أن غائيته مثل معياريته مستمدة من الطبيعة/المادة. وغني عن القول أن الرؤية الأولى تنسف فكرة التاريخ تماماً.

أما الرؤية الثانية فقد ترجمت نفسها إلى رؤية للتاريخ باعتباره عملية تَقدُّم دائمة، ولكنه تَقدُّم مرجعيته النهائية الطبيعة/المادة، وهدفه النهائي تَحقُّق قوانينها في التاريخ، ومن ثم يصبح التقدم تزايد تطبيق القوانين الطبيعية إلى أن تسود هـذه القـوانين تماماً (ويصبح المجتمع الإنساني في بساطة عالم الطبيعة ويحل التاريخ الطبيعي محل التاريخ الإنساني).

وقد عبَّرت هذه الرؤية الاستنارية عن نفسها في كل من الهيجلية والفلسفات التي ثارت على الهيجلية. ولنبدأ بالفلسفات المعادية للهيجلية فرفضها للتاريخ أمر واضح، فهي فلسفات تنكر فكرة الجوهر والكل والمركز والسببية وأي شكل من أشكال اليقينية أو الثبات، بل تنكر الغائية نفسها، فيصبح العالم في حالة حركة دائمة خالية من المعنى والهدف والغاية، ومن ثم لا يمكن أن تقوم للتاريخ قائمة.

وإذا كان عداء الفلسفات المعادية للهيجلية للتاريخ أمراً واضحاً، فالأمر مختلف بعض الشيء بالنسبة للهيجلية التي تتحدث كثيراً عن التاريخ وحتمياته وقوانينه ومراحله وأنماطه. ولكنها مع هذا، في تصوُّرنا، لا تقل في عدائها للتاريخ عن المدارس المعادية للهيجلية. فالفلسفة الهيجلية تفترض أن ثمة فكرة ليس لها وجود مادي أو نسبي، هي التي تحرك التاريخ والمجتمع والإنسان والطبيعة. ويُطلَق على هذه الفكرة عدة أسماء: الفكرة المطلقة ـ العقل المطلق ـ الروح بشكل عام (جايست) ـ الروح اللامتناهي. ولكن المطلق ليس سكونياً، فهو لن يُدرك نفسـه إدراكاً كاملاً ولـن يتحقـق تحققاً كاملاً إلا في الطبيعة والزمان والتاريخ، وذلك عبر عملية جدلية تتداخل فيها المتناقضات وتتحدد من خلالها الأضداد، إلى أن يصبح الفكر طبيعة، وتصبح الطبيعة فكراً. 

وهذه الوحدة الكونية النهائية ممكنة لأن قـوانين الفـكر هي في واقـع الأمـر قوانين المادة، وقوانين المنطق (العقل) هي في واقع الأمر قوانين الطبيعة. كل هذا يعني أن الفلسفة الهيجلية، رغم كل حديثها عن التاريخ والجدل والتناقض، فلسفة واحدية تسد الثغرة التي تفصل بين الإنساني والطبيعي وتلغى ثنائية الفكر والمادة والحضارة والطبيعة، ومن ثم تمحو الإنسان كظاهرة متفردة مستقلة عن الطبيعة. 

ولهذا قيل عن حق إن الهيجلية فلسفة لا تعرف الثنائيات ولا تفصل بين المادي والمثالي، أو بين الطبيعي والإنساني، أو بين المقدَّس والزمني، إذ سيُردُّ كل شيء إلى عنصر واحد، مادي فعلاً روحي اسماً. والفكر الهيجلي لا ينظر إلى الواقع إلا من منظور نهاية التاريخ حين يتجسد العقل الكلي ويتحقق القانون العام في التاريخ، في لحظة ينتهي فيها الجدل والمعاناة الإنسانية، إذ يصل الإنسان إلى الحل النهائي لكل مشاكله، ويُحكم السيطرة على كل شيء. ولكن من المفارقات أن لحظة السيطرة الكاملة هذه هي أيضاً لحظة انتصار البسيط على المركب والطبيعي على الإنساني.

وقد استخدَمتُ مصطلح «نهاية التاريخ» لأول مرة عام 1965 حينما كنت أكتب رسالتي للدكتوراه عن الشاعر الأمريكي وولت ويتمان الذي وصفته بأنه شاعر حلولي صوفي مادي يعادل بين الروح والمادة ويقرن بينهما (على طريقة هـيجل). وهو يتغنى بالمـادة والجـنس والكهرباء والجاذبية الأرضية التي يرى أنها تشبه الجاذبية الجنسية. فالإنسان ما هو إلا جزء لا يتجزأ من الكون ووعيه لا يتجاوز الطبيعة، بل عليه أن يتكيف معها ويذعن لها. 

كما أن إيمان ويتمان المطلق بالطبيعة (وعداءه للإنسان المركب التاريخي) يترجم نفسه إلى عداء للتاريخ يتضح في محاولته الوصول إلى نهاية التاريخ وإلى اليوتوبيا التكنولوجية. كان ويتمان يرى أن أمريكا هي هذا الفردوس الأرضي الذي يبدأ فيه التاريخ الطبيعي وتسود فيه قوانين الطبيعة/المادة، قمة كل التطور التاريخي السابق، فهي دولة العلم والتكنولوجيا التي ستهدم التاريخ وتعلن نهايته (وذلك قبل أن يتحـدث فوكوياما في نهاية الثمانينيات عن التلاقي الكامل أو عن انتصـار الليبرالية التي تؤدي إلى نهاية التاريخ). 

وكما يقول ويتمان "جوهر المثالية [الأمريكية] هو علموة to scientize الروح والشرائع اليونانية"، أي صبغها بالصبغة العلمية أو فرض قوانين علمية (تم استخلاصها من عالم الطبيعة) عليها حتى يدير الإنسان حياته من خلالها بطريقة علمية (وهذا هو أساس فكرة وحدة العلوم واليوتوبيا التكنولوجية). ويظهر التاريخ كجثة هامدة في شعر ويتمان الذي تسـود فيه رؤية واحـدية يُردُّ فيـها التاريخ بأسـره إلى مبـدأ واحد هـو الطبيعة/المادة ـ "القـانون الذي لا يتـغيَّر"؛ "الحتمي مثل قوانين الشتاء والصيف، والنور والظلام!".

وشعر ويتمان مفعم بهذه "الرغبة في العودة"، الحرفية والمادية والدائمة، إلى الطبيعة. وكثير من قصائد ويتمان تبدأ بالابتعاد التدريجي عن الحضارة والاقتراب المتزايد من الطبيعة إلى أن يلتحم بها تماماً، ويصل إلى اللحظة النماذجية، لحظة ذوبان الذات الإنسانية في الطبيعة المادية، وهي عادة ما تكون لحظة قذف جنسية (مع محب من جنسه) يُعلن فيها تحرُّره من عبء التاريخ ومن التدافع ومن الحضارة والهوية، فهي لحظة نهاية التاريخ وتحقُّق الفردوس الأرضي.

ثم استخدَمتُ مصطلح «نهاية التاريخ» بشكل أكثر شمولاً في كتابي نهاية التاريخ (عام 1972)، لوصف النماذج الحلولية الواحدية المادية الشاملة التي تترجم نفسها في عالم السياسة إلى نظم طوباوية شمولية فاشية. وبيَّنت أن مثل هذه النماذج تحوي داخلها دائماً " قابلية لإعلان نهاية التاريخ، فما هو مجهول ليس بغيب وإنما هو أمر غير معروف بشكل مؤقت. إذ من المتوقع أن يكتشف الإنسان بالتدريج قوانين الحركة خلال عشرات السنين من المحاولة والخطأ، وستنكمش رقعة المجهول تدريجياً وتتسع رقعة المعلوم.

وسينحسر الجهل بالتدريج مع تزايد الترشيد والاستنارة إلى أن نصل في التحليل الأخير وفي نهاية الأمر والتاريخ " إلى نقطة التوهج الأخيرة والرشد الكامل بحيث يصبح كل شيء واضحاً، وتوضع الحلول النهائية لجميع المشاكل ويتم التحكم في كل شيء، ويتم تفسير كل شيء في ضوء القانون العام فتُمحَى الثنائيات والمطلقات ويختفي الإنسان. ومن ثم، فإن نقطة التوهج هي في الواقع نقطة الاحتراق، وهي أيضاً نقطة نهاية التاريخ ونهاية الإنسان باعتبـاره كائناً مركباً متعدد الأبعاد لا يمكن رده إلى الطبيعة/المادة، وهي أيضاً النقطة التي سيظهر فيها إنسان جديد رشيد يعيش حسب قوانين الطبيعة المادية العلمية، ومن ثم فهو خاضع للتحكم العلمي.

وقد تناولتُ الموضوع مرة أخرى في مقدمة كتاب الفردوس الأرضي (1979)، حيث تحدثت عن الإنسان الطبيعي والإنسان التاريخي، وبيَّنت أن الإنسان الطبيعي إنسان لا حدود له، يرفض الحدود التاريخية، هو إنسان روسو الحر الفرح الآمن الذي يتحول إلى إنسان داروين المتجهم الذي تأكله الذئاب من الحيوانات الطبيعية أو من البشر الطبيعيين (وقد تحوَّل أخيراً إلى كلب بافلوف المسكين، القابع في المعمل، لا باطن له، لا يتحرك إلا بعد تلقِّي الإشارات البرانية). 

وقد أشرت إلى أن الإنسان التاريخي يتسم بالثنائية "فالإنسان يعيش في التاريخ، يفصل بين المطلق والنسبي ويبحث عن المطلق خارج التاريخ، إذ أن التاريخ لا نهاية له، ولن نصل بتاتاً إلى لحظة السكون التي يتحقق فيها الفردوس الأرضي وينتفي فيها الجدل ويتداخل فيها المطلق والنسبي ويصبح التاريخ دائرياً مثل الطبيعة". وقد ربطت هذه النزعة الفردوسية اللاتاريخية بما سميته حينذاك «الغيبية العلمية» التي تدَّعي لنفسـها احتكار الحـقيقة المطـلقة وتنسب لنفـسها القـدرة على تحقـيق الفردوس "الآن وهنا" بإشباع كل رغبات البشر، ذلك إن استسلم الناس لها "وأسلموا لها القياد، متبعين آخر الأساليب العلمية التي لا يعرفها بطبيعة الحال إلا العلماء".

وهذه الرؤية الفردوسية العلمية رؤية "ميكانيكية بسيطة تفترض أن الإنسان كمٌ محض لا يختلف عن الكائنات الطبيعية الأخرى" يعكس بيئته بشكل مباشر وبسيط. وقد وجدت أن هذا التيار ليس مقصوراً على العالم الرأسمالي بل يوجد أيضاً في العالم الاشتراكي. حيث عبَّرت كل هذه المفاهيم "عن نفسها في فكرة «التقدم» السريع والدائم نحو الفردوس العلمي المنظم (اليوتوبيا التكنولوجية) الذي يعيش فيه الإنسان كالأطفال في تناسق تام مع الطبيعة وكأنه آدم قبل السـقوط وقبل أن يكتـسب معرفة الخـير والشـر".

ويرى بعض المؤرخين أن العصر الحديث هو عن حق عصر نهاية التاريخ، فالحضارة الحديثة المرتبطة بآليات السوق، وبالعرض والطلب، هي حضارة مرتبطة بآليات بسيطة لا تعرف تركيبية الإنسان وتنكر مقدرته على التجاوز، فهو إنسان ذو بُعد واحد (يعيش في مجتمعات أحادية الخط)، وعقله عقل أداتي (يغرق في التفاصيل والإجراءات، ولا يمكنه إدراك الأنماط التاريخية ولا تطوير وعيه التاريخي). فالسوق (والمصنع) بآلياتهما البسيطة يتطلبان إنساناً طبيعياً مادياً بسيطاً، لا علاقة له بالإنسان الإنسان، الإنسان المركب. والمجتمعات الاستهلاكية التي لا تحكمها إلا آليات العرض والطلب والاستهلاك والإنتاج تزعم أنها قادرة على إشباع جميع رغبات الإنسان المادية والروحية من خلال مؤسساتها الإنتاجية والتسويقية والترفيهية.

ويُلاحَظ في العصر الحديث تَزايُد هيمنة البيروقراطية والتكنوقراطية والتحكم في البشر من خلال الهندسة الوراثية والبيولوجيا الاجتماعية وعمليات الترشيد المتحررة من القيمة، وهذه علامة على شيوع فكرة نهاية التاريخ. وكما قال ألدوس هكسلي متهكماً، واصفاً إمكانيات تكنولوجيا اليوتوبيا والفردوس الأرضي: "في عام 5200 سيحكم الأرض عالم جديد شجاع، مبادئه المساواة والتماثل والاستقرار. وسيكون علم البيولوجيا العلم الأساسي في هذا العالم، سيُمكِّن الإنسان من الحصول (من الحاضنة) على كائنات بشرية متشابهة وفق معايير موحدة. 

وسيعمل آلاف من التوائم على الآلات نفسها، ويقومون بالأعمال نفسها...". ويُعلق علي عزت بيجوفيتش (المفكر المسلم رئيـس جمهورية البوسـنة) على ذلك بقولـه: "في هذا العالم الرائع لن يوجد أناس خاطئون، قد يوجد بعض الأفراد المعاقين، ولكنهم لا يكونون مسئولين عن إعاقتهم، ولا يُعاقَبون عليها [ولذا] سيتم فكهم من الآلة ببساطة. في عالم كهذا، لن يكون هناك خير ولا شر... ولن يكون هناك إلهام ولا مشكلات ولا شكوك ولا عصيان. هنا يتم القضاء على الدراما وعلى الإنسان وتاريخه، ويرتفع صرح اليوتوبيا".

بل إن نهاية التاريخ أصبحت لأول مرة في تاريخ البشرية إمكانية قائمة بالمعنى الحرفي، فالتلوث الكوني يتزايد إلى درجة تهـدد الحياة على وجـه الأرض، وقد تراكم لدى البشر كمٌ من الأسلحة يكفي لتدمير العالم أكثر من عشرين مرة. وهذه آلية تكنولوجية رائعة لإنهاء كل من التاريخ والجغرافيا بطريقة رشيدة بسيطة شاملة حديثة لا تسبب ألماً كبيراً ولا تستغرق سوى لحظات، وهي من ثم تحقق حلم الإنسـان العلماني الشـامل بالتأله الكامل والتحكم الشامل في كل شيء، وضمن ذلك يوم القيامة!

ورغم مركزية فكرة نهاية التاريخ (والحلول النهائية والفردوس الأرضي واليوتوبيا التكنولوجية) في الفكر الغربي الحديث عامة فإن حدة الحمى الطوباوية المشيحانية التكنولوجية تختلف من عقيدة لأخرى. فهي خافتة مثلاً في الفكر الليبرالي، ولكنها ولا شك كامنة فيه، فهو فكر يدور حول فكرة التقدم والإيمان بأن ما هو مجهول لابد أن يصبح معروفاً (فلا مجال للمجهول أو للغيب)، الأمر الذي يعني تَزايُد التحكم (الإمبريالي) في الواقع، إلى أن يصل الإنسان إلى قدر عال من المعرفة العلمية بقوانين الطبيعة، بحيث يمكن تحقيق ما يشبه السعادة الكاملة المخططة المُبرمَجة، أي الفردوس الأرضي.

وإذا كانت الحمى المشيحانية التكنولوجية خافتة في النموذج النفعي العقلاني الديموقراطي الليبرالي، فهي تزداد سخونة في الفكر الماركسي لدى حديثه عن المجتمع الشيوعي، حيث تزول كل الحدود ويتطابق الداخل والخارج ويتحقق الفردوس الأرضي. وتصل السخونة إلى درجة الغليان والانصهار في الستالينية حيث يتم إصلاح العالم بقرارات وزارية وعسكرية مادية جدلية علمية رصينة تطرح الحلول النهائية التي تكفل إزالة جميع العناصر المُقاومة للتقدم وسائر الانحرافات عن المسار الحتمي الواضح المؤدي إلى السعادة الكاملة وإلى تحقيق المجتمع الشيوعي العادل (وقد شبَّه أحدهم نهاية التاريخ بأنه بوليس سري يطرق باب المعارضين). 

وفي ألمانيا النازية، كان الرايخ الثالث الترجمة المباشرة للعقيدة الألفية ذات الطابع المشيحاني (وكان المفترض فيه أن يستمر لمدة ألف عام). ففي الرايخ الثالث كان سيتم القضاء على كل آلام الشعب الألماني ويتم تحقيق الرخاء الأزلي، الأمر الذي كان يتطلب إزالة بضعة ملايين من الأطفال المـعوقين والعـجزة والغـجر والسـلاف واليهود ممن لا نفع لهم، فنهـاية التاريخ تتطلب بطبيعة الحال الحل النهائي.

النظام العالمى الجديد وما بعد الحداثة ونهاية التاريخ:

يمكن القول بأن النموذج الكامن وراء معظم الأيديولوجيات العلمانية الشاملة (النازية ـ الماركسية ـ الليبرالية ـ الصهيونية) هو ما يُسمَّى «التطوُّر أحادي الخط» (بالإنجليزية: يوني لينيار unilinear)، أي الإيمان بأن ثمة قانوناً علمياً وطبيعياً واحداً للتطور تخضع له المجتمعات والظواهر والبشرية كافةً، وأن التقدم هو في الواقع عملية متصاعدة من الترشيد المادي، أي إعادة صياغة الواقع الإنساني في إطار الطبيعة/المادة فتُستبعد كل العناصر الكيفية والمركبة والغامضة والمحفوفة بالأسرار، بحيث يتحول الواقع إلى مادة استعمالية بسيطة ويتحول الإنسان إلى كائن وظيفي أحادي البعد. 

ومن ثم يمكن توظيف كل من الواقع المادي والإنساني بكفاءة عالية. ثم تتصاعد عمليات الترشيد (والتنميط والتسوية) إلى أن يتحقق حلم اليوتوبيا التكنولوجية، حين تتم برمجة كل شيء، والتحكم في كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، ظاهره وباطنه (ومن ثم يمكن استنساخه ببساطة). وعمليات الترشيد تأخذ شكل مراحل تمر بها كل المجتمعات البشرية (ومن هنا ولع الفكر الغربي بتقسيم التاريخ إلى مراحل محددة).

وتصاعُد عمليات الترشيد على مستوى العالم هو العولمة بحيث يصبح العالم كله مادة استعمالية ويصبح كل البشر كائنات وظيفية أحادية البعد يمكن التنبؤ بسلوكها. وتتصاعد معدلات الترشيد إلى أن تصل سائر المجتمعات البشرية إلى نقطة تتلاقى عندها ويسود التجانس الكامل بينها، وهذا ما يُسمَّى أيضاً «نظرية التلاقي» (بالإنجليزية: كونفيرجانس ثيري convergence theory). 

والتلاقي هو تَوحُّد النماذج كلها بحيث تتبع نمطاً واحداً وقانوناً عاماً واحداً هو قانون التطور والتقدم بحيث يصبح العالم مُكوَّناً من وحدات متجانسـة؛ ما يحـدث في الواحدة يحدث في الأخرى. وقد أشار أحد المعلقين إلى أن ما يحدث الآن في العالم هو سقوط الماركسية وبدلاً من الماركسية، ماركسيزم Marxism، ظهرت عبادة السوق ماركتزم Marketism. وعبادة السوق هذه وهيمنتها على العالم بأسره، بشماله وجنوبه وشرقه وغربه، هي في واقع الأمر نقطة التلاقي التي تحدَّث عنها علم الاجتماع الغربي.

وقد تنبأ ماكس فيبر بأن عمليات الترشيد ستؤدي إلى تحويل المجتمع إلى حالة المصنع وإلى إدخاله القفص الحديدي. ونحن نتفق معه تماماً في صورة القفص الحديدي، ولكننا نذهب إلى أن العالم سيحكمه إيقاع ثُلاثيّ: المصنع (حيث ينتج الإنسان) ـ والسوق (حيث يشتري ويبيع) ـ وأماكن الترفيه (حيث يفرغ ما فيه من طاقة وتوترات وعُقد وأبعاد)، أي أنه إيقاع يستوعب كلاً من الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني ويشبع جميع رغباتهم البسيطة الطبيعية أحادية البُعْد، التي لا علاقة لها بأي تركيب إنساني.

وحينما يسيطر هذا الإيقاع الثلاثي على العالم بأسره يظهر النظام العالمي الجديد وأيديولوجيات نهاية التاريخ وما بعد الحداثة. وهي أيديولوجيات نابعة من الموقف المزدوج لعصر الاستنارة من التاريخ: موقف هيجلي يُقدِّس التاريخ ويؤكد أنه ذا غاية محددة وأنه يصل إلى نهايته حين تتحقق هذه الغاية، وقسم معاد لهيجل يرى أن التاريخ لا غاية له ولا هدف. والتياران، كما سنبين، في تقديسهما وفي عدائهما للتاريخ، ينكرانه.

1 ـ التاريخ يصل إلى نهايته عند تَحقُّق غايته: فوكوياما وهنتجتون:
فوكوياما ونهاية التاريخ:

يرى فرانسيس فوكوياما أن كلاًّ من هيجل وماركس كانا يريان أن التاريخ سيصل إلى نهايته حينما تصل البشرية إلى شكل من أشكال المجتمع الذي يشبع الاحتياجات الأساسية والرئيسية للبشر، فهو عند هيجل الدولة الليبرالية وعند ماركس المجتمع الشيوعي. ولكن العالم بأسره قد وصل إلى ما يشبه الإجماع بشأن الديموقراطية الليبرالية كنظام صـالح للحكم بعد أن ألحـقت الهزيمة بالأيديولوجيات المنافسة. وهذا يعود إلى أن الديموقراطية الليبرالية خالية من تلك التناقضات الأساسية الداخلية التي شابت أشكال الحكم السابقة.

ويستخدم فوكوياما نموذج العلوم الطبيعية (المادية) لتفسير التاريخ. فالعلوم الطبيعية الحديثة تمثل النشاط الاجتماعي المهم الوحيد الذي يُجمع الناس على أنه يتسم بالنمو والتراكم والغائية، ومن ثم يقرر فوكوياما أن منطق العلوم الطبيعية الحديثة يبدو كأنه يفرض على العالم (الطبيعة والإنسان) تطوراً شاملاً يتجه صوب الرأسمالية والسوق الحر، أي أن ما تمكن تسميته «الرأسمالية العلمية»، الممثل الوحيد والحقيقي للمبدأ الطبيعي/المادي الواحد، قد حلت محل ما كان يُسمَّى «الاشتراكية العلمية»، التي كانت تدَّعي لنفسها شرف تمثيل المبدأ الطبيعي. 

وبذا، تَحوَّل الإنسان في الشرق والغرب إلى الإنسان الاقتصادي (المادي) الذي يمكنه إدارة حياته على أسس علمية رشيدة.

ولكن يبدو أن فوكوياما، بعد أن استخدم نموذج العلوم الطبيعية/المادية بهذه السوقية والفجاجة، وبعد أن أكد أسبقية المادة على الإنسان بشكل مطلق، يحاول أن يراجع نفسه ويقرر أن يُدخل عنصراً إنسانياً غير مادي (وهذا نمط متكرر في الأيديولوجيات المادية العلمانية كافة، فهي لا تستطيع أن تواجه وحشية ماديتها، ومن هنا فإنها تُدخل مُحسِّنات روحية معرفية). 

والعنصر الإنساني غير المادي الذي يُدخله فوكوياما هو سعي البشر إلى نيل الاعتراف بقدرهم أو الاعتراف بقدر الأشخاص أو الأشياء أو المبادئ التي يعتقدون أن لها قدراً كبيراً (وهو ما يُسمَّى «عزة النفس»). والديموقراطية الليبرالية ستحقق كل ما يريده الإنسان على المستويين الاقتصادي (المادي) والإنساني (غير المادي). ولكن رغم كل هذه المحسنات، نجد أن فوكوياما يثير الشكوك حول إمكان أن يؤدي التطـور التاريخي العلمي إلى سـعادة الإنسان، فالتـأثير النهائي لهذا التطور على سعادة البشر أمر غامض. 

بل إن فوكوياما يورد، بقدر من الاستحسان، عبارة من كتابات كوجيف (مفسر هيجل الذي يعتمد عليه فوكوياما) يقول فيها: "إن اختفاء الإنسان بانتهاء التاريخ ليس بكارثة كونية [طبيعية/مادية]. فالعالم الطبيعي [المادي] سيبقى كما كان عليه منذ البداية. ولا هو بكارثة بيولوجية، فالإنسان سيبقى حياً كالحيوانات منسجماً مع الطبيعة/المادة". أما ما سيختفي، فهو الإنسـان بمعناه الشـائع؛ والإنسـان بمعـناه الشـائع أمر حضاري تاريخي مُركَّب لا يهتم به الماديون الطبيعيون كثيراً.

إن إعلان فوكوياما نهـاية التاريخ هـو إعلان نهاية الإنسـان وانتصار الطبيعة/المادة، أي الموضوع (اللاإنساني) على الذات (الإنسانية)، ومعناه تَحوُّل العالم بأسره إلى كيان خاضع للقوانين الواحدية المادية (التي تجسدها الحضارة الغربية) التي لا تُفرِّق بين الإنسان والأشياء والحيوان والتي تُحوِّل العالم بأسره إلى مادة استعمالية، فنهاية التاريخ هي في واقع الأمر نهاية التاريخ الإنساني وبداية التاريخ الطبيعي.

صموئيل هنتنجتون وصدام الحضارات:

أشار بعض المحللين السياسيين إلى أن أطروحة هنتنجتون هي عكس أطروحة فوكوياما، فبينما يعلن الأول تَصاعُد الصراع بين الحضارات يعلن الثاني انتهاء الجدل والتدافع والتاريخ. والأمر هو بالفعل كذلك لو قنعنا بالمستوى التحليلي السياسي وبنقل الأفكار، أما إذا تعمقنا وحاولنا الوصول إلى المستوى المعرفي فإننا سنجد أن الأمر مختلف تماماً.

يبدأ هنتنجتون بتأكيد أن دور الدولة القومية كفاعل أساسي في الصراعات الدولية قد تَراجَع (ولم يختف كليةً)، وظهر بدلاً من ذلك الصراع بين الحضـارات والثـوابت الحضارية. وقد نشب هذا الصراع نتيجة دخول الحضارات غير الغربية كعناصر فاعلة في صياغة التاريخ، أي أن الغرب لم يَعُد القوة الوحيدة في هذه العملية. فالصراع ليس حتمياً وإنما هو نتيجة دخول لاعبين جدد!

واستخدام هنتنجتون لكلمة «حضارة» يعادل تقريباً استخدام كلمة «معرفي» عندنا. فلكل حضارة ـ حسب رؤية هنتنجتون ـ رؤية للكون تدور حول العلاقة بين الإنسان والإله (الفرد والمجتمع ـ الجزء والكل)، وتُؤسَّس على هذه الرؤية للكون منظومات معرفية وأخلاقية تحدد تراتب المسئوليات والحقوق (المساواة والسلطة ـ الفرد والأسرة ـ المواطن والدولة ـ الصراع والاتساق). 

هذه الرؤية للكون أمر متجذر في البشر عبر قرون طويلة ولا يمكن أن يُمحَى أثرها في سنوات قليلة، وما يراه أهل حضارة معينة أمراً أساسياً قد يراه آخرون هامشياً. ويؤكد هنتنجتون أن أساس اختلاف الحضارات هو التاريخ واللغة والحضارة والتقاليد، ولكن أهم العناصر طراً هو الدين (نلاحظ بشكل جانبي أن طريقة هنتنجتون في التصنيف ليست جيدة، فهو يورد عناصر متداخلة مثل التقاليد والتاريخ باعتبارها عناصر مستقلة تمام الاستقلال، كما أنه يذكر العناصر بشكل رأسي وكأنها جميعاً متساوية، ولكن يجب أن نذكر أنه يعطي مركزية سببية للدين). 

فكأن هناك صراعاً حضارياً في العالم هو في واقع الأمر صراع ديني. وبعد أن يبلور هنتنجتون أطروحته بهذا الشكل (الحضارة الغربية مقابل الحضارات غير الغربية) يعطي انطباعاً بأن ثمة تنوعاً حضارياً هائلاً في العالم (ومن هنا حديثه عن الحضارة الغربية الأرثوذكسية مقابل البروتستانتية والكاثوليكية، والحضارة الكونفوشيوسية والحضارة الإسـلامية اللتين يرى أنهما يمارسـان نوعـاً من التعاون في اكتسـاب القوة والثروة).

ولكننا لو دققنا النظر لوجدنا أن التعددية التي يطرحها هنتنجتون واهية زائفة إذ تطل الثنائية الصلبة بوجهها، فالعالم ينقسم إلى قسمين اثنين: الغرب من ناحية وبقية العالم من ناحية أخرى (أو كما يقولون بالإنجليزية: ذا ويست آند ذا رست the West and the rest)، ولوجدنا أن العالم بأسره يتحرك في واقع الأمر نحو الغرب (تماماً مثلما بشَّر فوكوياما). وسنكتشف أن كلمة «الغرب» تعني في واقع الأمر «الحداثة»، فثمة تَرادُف بين هاتين الكلمتين عند هنتنجتون (وهـناك كلمات أخـرى مثل «السـوق الحرة» و«الديموقراطية» و«الفردية» تؤكد هذا الترادف). 

أو كما يقول هنتنجتون "إن الحضارة الغربية حديثة وغربية"، أي أن التحديث هو التغريب، ومن ثم فإن "من يود أن يُحدَّث فليُغرَّب". وهو يقتبس باستحسان بالغ كلمات نايبول (الكاتب الجامايكي الذي تَخصَّص في تأليه الغرب وتجريح العالم الثالث، ومنه وطنه الأم، الهند، كما تَخصَّص في الهجوم على الإسلام): "إن الحضارة الغربية هي الحضارة العالمية التي تناسب كل الناس"، ومعنى ذلك أن الحضارة الغربية حالة طبيعية، صفة لصيقة بطبيعة الإنسان، ومن ينحرف عنها فهو إنسان غير طبيعي وشاذ! وهذا يعني أن التاريخ يتبع مسـاراً واحـداً وأن هنتنجتون يؤمن بالنمـوذج أحـادي الخط، رغم كل حديثه عن التعددية والصراع.

ويتضح هذا الإيمان بالنموذج أحادي الخط في الأمثلة التي يسوقها في مقاله. فهو يذكر أنه اكتشف، أثناء مقابلة له مع رئيس جمهورية المكسيك، أن هذا الأخير يود أن يحوِّل بلده من بلد أمريكي لاتيني إلى بلد أمريكي شمالي (أي يحاول أن يجعلها تلحق بركب الحضارة الغربية والطبيعية!)، ولا يملك هنتنجتون إلا أن يُعبِّر عن إعجابه العميق بعملية التطبيع هذه، التي ستجعل المكسيك متسقة مع قوانين الطبيعة وأمريكا الشمالية، وتقوِّم إنحرافها عن الصراط المستقيم. هذ هو الإيمان المستقر. 

ولكن رئيس جمهورية المكسيك، هذا الذي يعرف أمور السياسة، يحذره من الإفصاح عن هذا الإيمان ويقول: "لا يمكن أن نقول ذلك علناً"، إذ أن السيد الرئيس يعرف أن جماهير الشعب تتمسك بالخصوصية والأصالة ولا تدرك، كما يدرك هو وكما يدرك هنتنجتون بطبيعة الحال، أن الخصوصية زخرفة يمكن الاستغناء عنها، وأن الهوية إضافة لا مبرر لها. ولحل هذه الإشكالية لابد من الحديث عن الخصوصية والأصالة ذراً للرماد في العيون مع الاسـتمرار في عملـيات التحـديث والتغريب والتطبيع. وهذا ما فعله أوزال رئيس جمهورية تركيا، هذا الذي يؤمن بالتحديث كتغريب وتطبيع، ومع هذا أدى فريضة الحج إلى مكة.

هؤلاء هم أبطال هنتنجتون، رجال يؤمنون بأن الحضارة الغربية حضارة عالمية تناسب كل الناس في كل زمان ومكان، ولذا فبطله الأساسي هو أتاتورك الذي قام بأشمل وأسرع عملية تحديث وتغريب (انطلاقاً من إيمانه بضرورة التخـلص من الهـوية والخصوصية والماضي) حـتى يصل بمجتمعـه إلى الحالة الغـربية الطبيعية/المادية الحديثة، وهي حالة ـ على كلٍّ ـ سيصل إليها المجتمع في نهاية الأمر، شاء أم أبى، من خلال قوانين التقدم التاريخية الطبيعية العلمية الحتمية.

ولكن كل حضارة، كما يؤكد هنتنجتون، تستند إلى رؤية دينية ، فما البُعد الديني للحضارة الغربية؟. يعلن هنتنجتون أن قيم الحضارة الغربية هي الديموقراطية والاقتصاد الحر وفصل الدين عن الدولة والليبرالية والدستورية وحقوق الإنسان. وفي الواقع، فإن ما يود هنتنجتون أن يقوله هو أن الأساس الديني الثابت للحضارة الغربية هو فصل الدين عن الدولة (وهو يُظهر هنا مرة أخرى عدم مقدرته على التصنيف الذكي والترتيب الدال، ولكن ما يهمنا هنا هو أن النموذج الفكري كامن وواضح). 

ولابد أن إعجابه بأتاتورك ينبع من هذا الإيمان الحار بالعلمانية، وليس من قبيل الصدفة أن يقتبس كلمات المستشرق الأمريكي اليهودي العنصري برنارد لويس حين يتحدث عن نشوب ثورة من جانب الحضارة غير الغربية "ضد التراث اليهودي/المسيحي وضد حاضرنا العلماني وضد انتشارهما عالمياً"، فالعنصر اليهودي/المسيحي ينتمي للماضي (مجرد تراث)، أما الحاضر فهو العلمانية، أما الوعد فهو الانتشار.

أي أن ثمة ترادفاً بين الغربي والعلماني والإمبريالي التوسعي (يفترض فؤاد عجمي هذا الترادف في مقاله الذي رد به في مجلة الشئون الخارجية على هنتنجتون، فهو يتحدث عن عمليات العلمنة في الهند وتركيا باعتبارها عمليات تغريب وتحديث). والواقع أن مفهوم الدولة الممزقة أو المتمزقة (بالإنجليزية: تورن ستيت torn state) الذي يستخدمه هنتنجتون يفترض هذا الترادف، فهي دولة ممزقة بين الحديث والغربي والعلماني من جهة، وبين تراثها وهويتها وقيمها من جهة أخرى.

ثمة ثنائية حادة واستقطاب متطرف في عالم هنتنجتون بين الأنا الغربي (الحديث العلماني) من جهة، والآخر (غير الغربي غير الحديث غير العلماني) من جهة أخرى، وهي ثنائية لابد أن تُمحَى، وهذا هو في واقع الأمر صراع الحضارات، أي صراع الحضارة الغربية الحديثة العلمانية ضد الحضارات الأخرى. وهي نفس الثنائية الكامنة في عالم فوكوياما وفؤاد عجمي.

ولكن نقطة الاختلاف الأساسية بين الثلاثة تكمن في الاختلاف حول سرعة الوصول، ففوكوياما زادت حرارته المشيحانية فتَعجَّل وأعلن أننا قد "وصلنا" و"عدنا" ولذا فهو يُعلن نهاية الآخـر وانتصار الذات ونهاية التـاريخ وبداية الفـردوس الأرضي، بينما يرى فؤاد عجمي أننا قد بدأنا كلنا نستحث الخطى ولكننا لم نصل بعد. أما هنتنجتون فهو أقل تفاؤلاً من كليهما، فهو يرى أن الطريق إلى النهاية الفردوسية الطبيعية في لحظة الوصول ليست بهذه البساطة. 

وحتى يوضح وجهة نظره، فإنه يشير إلى تلك الأيام الجميلة حينما كان الغرب يهيمن على المؤسسات السياسية والأمنية الدولية والاقتصادية ثم تغيَّر الأمر بعد ذلك إذ ظهر لأول مرة بعد إعلان حقوق الإنسان (وهو إعلان علماني تماماً يستند إلى فكرة القانون الطبيعي) دول لا تؤمن لا بالتراث المسيحي/اليهودي (أي تراث الحضارة الغربية) ولا بالقانون الطبيعي (التحديث على الطريقة الغربية والعلمانية). وقد زادت هذه الدول عدداً وأصبحت الآن في المقدمة. 

وهذه الدول التي لا تنضوي تحت المنظومة الغربية لا تحث الخطى نحو النهاية الموعودة (والاستسلام للآخر لمحو الثنائية) إذ أن بعضها بدأ (على حد قول جورج ويجيل الذي يقتبس هنتنجتون كلماته) يتراجع عن عمليات العلمنة والتغريب في العالم وبدأت تقاوم، بل قد تتحالف مع بعضها ضد الفردوس الأرضي ونهـاية التاريخ وحالة الطبيعـة. ويُعَدُّ هذا التراجع الحقيقة الاجتماعية الأساسـية في الحيـاة في نهاية القرن العشرين. 

والدين (كما قال هنتنجتون) أساس الهوية والخصوصية الحضارية التي تتجاوز الحدود القومية وتُوحِّد الحضارات، فالصراع ليس صراعاً بين حضارات (لكلٍّ قيمتها وقيمها) وإنما هو صراع بين منظومة قيمية غربية علمانية تدور في إطار المرجعية المادية وتستند إلى فكرة القانون الطبيعي (المادي) بكل ما يتضمنه ذلك من إنهاء للتاريخ والإنسان والهوية من جهة، ومن جهة أخرى كل من يقاوم ذلك ولا يوافق عليه ويرى أن الإنسان ليس مجرد مادة (وهذه هي الصلة الحقيقية بين الإسلام والكنفوشيوسية). 

ولكن هنتنجتون موقن تماماً أن ذلك صراع مـؤقت، فثمة نقطة أسـاسـية واحـدة يتجه نحوها العالم فيتحقق فيها القانون الطبيعي (والعقل الكلي الغربي، الطبيعي/المادي الحديث)؛ نقطة انتصار الحضارة الغربية الحديثة الطبيعية/المادية العلمانية، وهي نقطة وصلت إليها بعض البلاد بالفعل.

ويقين هنتنجتون بشأن الحضارة الغربية باعتبارها حالة الطبيعة أمر يثير الخوف. فمن يقاوم حالة الطبيعة لابد من تقويمه بطبيعة الحال ووضعه على المسار الطبيعي، فهو المسار الوحيد والصحيح، الأمر الذي يتطلب طبعاً اتخاذ بعض الإجراءات الطبيعية غير السارة وطرح بعض الحلول الطبيعية الجذرية النهائية مثل إسقاط الحكومات القومية (التي تتمسك بأهداب خصوصية زائفة) ودك العواصم المقاومة (التي تدافع عن قيم لا جدوى لها مثل الكرامة والعزة الوطنية) واسـتباحة المدن والقرى العـاصية التي تقـاوم قانون الطبيعة والتطور الغربي!

2 ـ التاريخ لا هدف له ولا غاية: ما بعد الحداثة:

ما بعد الحداثة هي الرؤية الفلسفية التي أحرزت مؤخراً شيوعاً لا نظير له في العالم الغربي، وهي رؤية تنطلق من عدة أطروحات فلسفية متداخلة ومصطلحات صاخبة رنانة (تتغيَّر بمعدل مرة كل أسبوع تقريباً) كلها تؤكد غياب المرجعيات وتآكل الذات وفقدانها حدودها، وتآكل الموضوع وفقدانه حدوده، وهيمنة النسبية المعرفية الأخلاقية، ومن ثم استحالة الوصول إلى فكرة الكل، سواء كانت هي فكرة الإله أو الأخلاق المطلقة أو الطبيعة البشرية (أساس الأنطولوجيا الغربية) (تُعتبَر فلسفة ما بعد الحداثة قمة الثورة ضد الهيجلية، وهي تَبلور للاتجاه الفلسفي الغربي المعادي للفلسفة). 

ولكن هذا يعني في واقع الأمر اختفاء العقل، أي الملكة التي يقوم الإنسان من خلالها بمراكمة المعنى والإنجازات، ويظهر ما سماه أحدهم «ذاكرة الكلمات المتقاطعة»، أي معلومات متناثرة لا يربطها رابط وينشأ الإحساس بأننا في الحاضر الأزلي، تَغيُّر مستمر بلا ماض ولا مستقبل، تجارب دائمة بلا عمق ولا معنى. ويتحول التاريخ إلى مجرد لحظات جامدة، وزمن مسطح لا عمق له، ملتف حول نفسه لا قسمات له ولا معنى.

ويتزامن الحاضر والماضي والمستقبل تتساوى تماماً مثل تَساوي الذات والموضوع والإنسان والأشياء، ولكنه تَزامُن دون استمرار، فثمة انقطاع كامل. ومن هنا، يتحدث أنصار ما بعد الحداثة عن إحلال القصص الصغيرة (أو الجزئية أو الذاتية) محل القصة الكبيرة (أو الشاملة أو الكلية)، أي أن الإنسان غير قادر على الوصول إلى رؤية تاريخية شاملة تضم البشر كافة ولكنه قادر على خوض تجارب جزئية يمكنه أن يقصها بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل، ولكنها لا ترقى البتة إلى مستوى تاريخ عام للبشر، فليست لها أية شرعية خارج نطاق تجربته.

وقد لا تطرح رؤية ما بعد الحداثة نماذج خطية تطورية أو حلولاً نهائية، وقد لا تبشر بالفردوس الأرضي أو باليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية، ولكنها هي الأخرى إعلان لنهاية التاريخ ونهاية الإنسان ككائن مركب اجتماعي قادر على الاختيار الأخلاقي الحر، ليحل محله إنسان ذو بُعد واحد يدور في إطار المرجعية الكامنة أو دون أية مرجعيات، فالإنسان يعيش منكفئاً إما على ذاته الطبيعية التي لا علاقة لها بما هو خارجها، فهي مرجعية نفسها، أو على كليات لاإنسانية مجردة لا علاقة لها بالإنسان كما نعرفه. 

وهذا الإنسان لا ذاكرة له فهو يعيش في اللحظة دائماً، في قصته الصغرى. ولذا لخص أحدهم ما بعد الحداثة بأنها نسيان نشط للذاكرة التاريخية، وهي طريقة متضخمة متورمة للقول بنهاية التاريخ. ويمكننا القول بأنه إذا كان فوكوياما قد اكتشف نهاية التاريخ فإن ما بعد الحداثة تقوم بقتله.

ما علاقة نهاية التاريخ وصراع الحضارات وما بعد الحداثة بواقعنا وبالنظام العالمي الجديد؟

إن كل آليات الإغواء التي يستخدمها النظام العالمي الجديد تصب في هدف واحد أو حل نهائي واحد هو ضرورة ضرب الخصوصيات القومية والمرجعيات الأخلاقية حتى يفقد الجميع أية خصوصية وأية منظومة قيمية ليصبحوا آلة إنتاجية استهلاكية، لا تكف عن الإنتاج والاستهلاك دون أية تساؤلات، ومن هنا تظهر نهاية التاريخ كمفهوم أساسي، فالنظام العالمي الجديد لا يشير إلا للحظة الراهنة وحسب، ولا يتحدث إلا عن المستقبل، ولكنه لا يتحدث قط عن الماضي فهو نظام يدَّعي أنه هو نفسه لا ماضي له، وأن كل البشر لا ماضي لهم، وإن كان لهم ماض فهو ليس مهماً فكل شيء جديد طازج مثل صفحة لوك البيضاء (باللاتينية: تابيولا رازا tabula rasa). 

داخل هذا الإطار، يصبح الإنسان إنساناً طبيعياً أحادي البُعْد لا عمق له ولا ذاكرة ولا قيم، يبدأ دائماً من نقطـة الصفر وينتهي فيها، يعيش في عالم بلا دنس ولا خطيئة ولا حياة، عالم مغسول في الرشد المادي والإجرائي، كل ما فيه يتحرك بشكل هندسي متناسق، معقم من التدافع والجدل.

ولنلاحظ أن ما تَساقَط هنا ليست خصوصية قومية بعينها وإنما مفهوم الخصوصية نفسه، وليس تاريخاً بعينه وإنما فكرة التاريخ نفسها، وليس هوية بعينها وإنما كل الهويات، وليس منظومة قيمية بعينها وإنما فكرة القيمة نفسها، وليس نوعاً بشرياً بعينه وإنما فكرة الإنسان المطلق نفسها، الإنسان ككيان مركب لا يمكن رده إلى ما هو أدنى منه. لقد اختفت المرجعية، أية مرجعية، وظهر عالم لا خصوصيات فيه ولا مركز له. 

هذا العالم الذي لا مركز له، يسير فيه بشر لا مركز لهم ولا هدف، لا يمكنهم التواصل أو الانتماء لوطن أو أسرة، كل فرد جزيرة منعزلة أو قصة صغيرة، فيظهر إنسان استهلاكي أحادي البُعد يُحدِّد أهدافه كل يوم، ويُغيِّر قيمه بعد إشعار قصير يأتيه من الإعلانات والإعلام، إنسان عالم الاسـتهلاكية العالمية الذي ينتج بكفاءة ويسـتهلك بكفاءة ويُعظِّم لذته بكفاءة حسـب ما يأتيه من إشـارات وأنماط! هذا هو الحل النهائي في عصر التسوية الذي حل محل الحل النهائي لعصر التفاوت، فبدلاً من الإبادة من الخارج، يظهر التفكيك من الداخل.

إن ما بعـد الحداثة، فى واقع الأمر، هي الإطار المعرفي الكـامن وراء النظام العالمي الجديد، فهى رؤية تنكر المركز والمرجعية، وترفض أن تعطى التاريخ أي معنى أو أن تجعل للإنسان أىة قيمة أو مركزية أو إطلاق، وتُسقط كل الأيديولوجيات (عصر ما بعد الأيديولوجيات)، وتنكر التاريخ (عصر نهاية التاريخ)، وتنكر الإنسان (عصر ما بعد الإنسان). فالعالم حسب هذه الرؤية يفتقر إلى المركز، فكل الأمور مادية، وكل الأمور متساوية، وكل الأمور نسبية، فهو عالم في حالة سيولة كاملة (تماماً مثل التناص textuality حين يحيلك نص إلى نص قبله ونص بعده، فيختفي المعنى وتختفي الحدود والهوية والمسئولية). 

وكما يقول فريدريك جيمسون، الناقد الأمريكي الماركسي، إن روح ما بعد الحداثة تعبِّر عن روح رأسمالية عصر الشركات متعددة القوميـات حـيث قام رأس المال (هـذا الشيء المجـرد المتحرك الذي لا يكترث بالحدود أو الزمان أو المكان) بإلغـاء كل الخصوصيات، كما ألغى الذات المتماسـكة التى يتحد فيها التاريخ والعمـق والذاتية، وحلت القـيمة التبادلية العامة محل القيمة الأصيلة للأشياء.

ونحن نقبل بتحليل جيمسون لفكر ما بعد الحداثة وإن كنا نستبدل بكلمة «رأسمالية» عبارة «علمانية شاملة». والحديث عن القيمة التبادلية العامة التي تُلغي الخصوصيات ليس، فى واقع الأمر، حديثاً عن رأس المال باعتباره شأناً اقتصادياً وإنما عن رأس المال باعتباره آلية ذات بُعد معرفي تؤدي إلى تفكيك وهدم كل ما هو فريد وخاص وعميق ومقدَّس ومحمل بالأسرار، ومن ثم فهي آلية معادية للإنسان لأنها معادية لكلٍّ من التاريخ والحضارة، إذ أن التاريخ والحضارة ـ كما أسلفنا ـ هما مصدر التفرد الإنساني. 

ورأس المال هنا آلية دفع الإنسـان من عالم الحضارة والتاريخ المركب إلى عالم الطبيعة الأحادي البسـيط، هو آلية سـيادة القانون الطبيعى المادي الواحدي، فهو أهم آليات نزع القداسة عن الإنسان. ولكنه ليس الآلية الوحيـدة، إذ تُوجَد آليات أخرى أعتقد أن من أهمها (فى عصر ما بعد الحداثة) الإباحية وصناعة اللذة المتمثلـة فى هـوليود وأفلامها.

ويمكننا الآن أن نعود مرة أخرى إلى موضوع إلغاء التاريخ وإلغاء الإنسان: الموضوعين الأساسيين في كتابات فوكوياما وهنتنجتون وكُتَّاب ما بعد الحداثة. فمع وصول التاريخ إلى نهايته، ينتهي الصراع وتختفي كل المنحنيات وتنبسط كل النتوءات، ويظهر بشر ذوو بُعد واحد وتختفى الذاتية والعمق والحضارة والإنسان، عالم موت الإنسان بعد أن مات الإله. 

وهكذا، ورغم اختلاف المنطلقات، تتفق النتائج. والنظام العالمي الجديد، بهذا المعنى، نظام معاد للإنسان ومعاد للتاريخ، وهو عداء نابع من العداء الذي يحس به ذوو الاتجاه الطبيعي/ المادي نحو كل الظواهر المركبة بكل ما تحوي من قداسة أو أسرار، وهو أيضاً نابع من رغبتهم العارمة في فرض الواحدية المادية وفي تسوية الإنسان بما حوله، حتى يذوب في الطبيعة/المادة ويختفي ككيان مركب مستقل.

ومحاولة التسوية هذه تفسر سبب اتصاف خطاب النظام العالمي الجديد بالاعتدال الشديد، بل نجده "ثورياً" أحياناً حين يرفض مركزية الغرب وينادي بالمساواة. ولكن المساواة في هذا السياق هي في واقع الأمر تسوية (وليست مساواة) ورفض لكل الخصوصيات والمركزيات والمطلقات، على أن يصبح الجميع (ومنهم الغرب) مادة استعمالية، ولذا يحلو لي أن أقارن النظام العالمي الجديد بالآلة الضخمة التي تدور بكفاءة فتفرم الجميع، ومنهم أصحابها، رغم أنهم يستفيدون منها ويوظفون العالم من خلالها لصالحهم (فهى تشبه فرانكنشتاين من بعض الوجوه).

وفي وسط هذه السيولة يظل الغرب صلباً، فهو المطلق العلماني الشامل الجديد، النموذج الذي يُحتذى، ولذا فرغم حالة العولمة السائلة الشاملة، يظل الغرب مركز العالم، الأمر الذي يعطيه حقوقاً مطلقة وقدراً من الصلابة. 

كما أنه في حالة النسبية الشاملة السائلة ومع اختفاء الحقائق المطلقة فإن الغرب بأسلحته وأجهزته الإعلامية يصبح هو مركز العالم الذي لا مركز له، ولكنه مع هذا يظل مختبئاً وراء آليات الإغواء وخطاب السيولة والنسبية والتعددية. 

وبهذا المعنى، يمكن القول بأن النظام العالمي الجديد هو إمبريالية عصر ما بعد الحداثة، إذ يجد الإنسان نفسه في عالم بلا تاريخ تتفكك فيه علاقة الدال بالمدلول وينزلق فيه الإنسان من الخصوصية الإنسانية والتاريخية إلى عالم الطبيعة/المادة تحيط به إمبريالية شرسة لا تُسمِّي نفسها «إمبريالية» وإنما «النظام العالمي الجديد».

الفردوس الأرضى:

حال الدنيا عند نهاية التاريخ، وهو الطوبيا (اليوتوبيا) عند علي عزت بيجوفيتش، وهي لحظة نماذجية وتعبير عن النزوع الجنيني (انظر: «نهاية التاريخ»).


الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الباب الثانى: العلمانية (والإمبريالية) واليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية
» الباب التاسع: العلمانية الشاملة: تاريخ موجز وتعريف
» قائمة تفسيرية نقدية بأهم الأعمال باللغتين العربية والإنجليزية
» العلمانية الشاملة: تعريف
» الجزء الرابع: العلمانية الشاملة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــــافـــــــــــة والإعـــــــــــلام :: موســـــوعة اليهــــــود-
انتقل الى: