المبحث التاسع عشر
أعمال القتال الجوية والبحرية للجانبين

أولاً: أعمال القتال الجوية للجانبين
1. أعمال القتال الجوية العربية
عندما بدأت مرحلة الحرب المعلنة في 15 مايو 1948، كانت القوة الجوية العربية التي تقرر دفعها للقتال في فلسطين تتشكل من نحو خمسة أسراب منها سربان ورف من طائرات القتال والتدريب المسلحة للهجوم الأرضي، وسرب قاذفات وسرب نقل جُهزت بعض طائراته لقذف القنابل، وقد تمركزت تلك الأسراب على الجبهات العربية على النحو التالي:

أ. سرب تدريب سوري مسلح باثنتي عشرة طائرة من نوع "هارفارد" جهزت للهجوم الأرضي وتمركزت في مطار "المزة" بالقرب من "دمشق" لمعاونة القوات السورية.

ب. سرب قاذفات وقسم مقاتلات عراقية من أنواع ما قبل الحرب العالمية الثانية (الأول مشكل من 12 طائرة "أنسون" والثاني من طائرتي "جلاديتور")، تمركزت بمطار المفرق شمال شرق عمان لمعاونة القوات العراقية.

ج. سرب قتال وقسم استطلاع وسرب نقل مصريين (الأول مكون من 12 طائرة "سبيتفير" والثاني مكون من طائرتي "لايسندر"، والثالث من خمس طائرات "داكوتا")، جهزت ثلاث منها لقذف القنابل، وتمركزت الأخيرة في مطار ألماظة بالقاهرة بينما تمركز سرب القتال وقسم الاستطلاع بمطار العريش بشمال سيناء لمعاونة القوات المصرية والأردنية.

ولما كانت إسرائيل لا تملك خلال الأسابيع الأولى من مرحلة الحرب المعلنة سوى الأسراب الأربعة الخفيفة وبعض طائرات النقل المجهزة لقذف القنابل، وسرب النقل الثقيل، فقد تمكنت القوة الجوية العربية من تحقيق السيطرة الجوية في مسرح العمليات الفلسطيني وتمتعت بحرية العمل في معاونة القوات العربية على الجبهات المختلفة، وطاردت الطائرات الإسرائيلية من مطار إلى آخر، وأجبرتها على قصر نشاطها على فترات الليل نظراً لعدم امتلاك الأسلحة الجوية العربية أية مقاتلات ليلية، وباستثناء القوة الجوية المصرية، لم تكن الأسراب العربية الأخرى قادرة على استيعاض خسائرها لافتقادها إلى أعداد احتياطية من الطائرات وقطع الغيار، فضلاً عن قلة ما توفر لها من الذخائر والقنابل ومن ثم كانت كثافة أعمالها القتالية أقل من نظيرتها المصرية.

فعلى الجبهة الإسرائيلية الشمالية بدأ سرب "الهارفارد" السوري أعمال قتاله يوم 15 مايو بالهجوم على مستعمرة "مسادا" (مسعدة) جنوب بحيرة طبرية، وفي اليوم التالي رُكزت أعمال قتال ذلك السرب لمعاونة القوات السورية في هجومها على مستعمرتي "مسادا"

و"شاعر هجولاني"، بينما قامت طائرات "الأنسن" العراقية بقصف القوات الإسرائيلية في بلدة "طبرية" على الشاطئ الغربي للبحيرة التي تحمل نفس الاسم.

وفي السابع عشر من مايو قامت طائرات "الهارفارد" السورية بتكرار القصف الجوي على "طبرية"، وبعد يومين نشطت تلك الطائرات مرة أخرى لمعاونة قوات اللواء الأول في منطقة "سمخ"، بينما قامت طائرات "الأنسن" العراقية بقصف المستعمرات الإسرائيلية شمال وادي الأردن، وفي العشرين من مايو قامت الطائرات السورية بقصف أرض الهبوط الإسرائيلية في مستعمرة "يفنئيل" التي كانت تتمركز بها طائرات سرب الجليل (من نوع أوستر)، مما أجبر ما تبقى من طائرات ذلك السرب على إعادة تمركزها في أرض الهبوط البريطانية السابقة في منطقة "منحايم" غرب مرتفعات الجولان، وبالرغم من هجوم الطائرات السورية عدة مرات على ارض الهبوط الأخيرة، إلا أن طائرات ذلك السرب نجت من التدمير بفضل أعمال الإخفاء الجيدة تحت الأشجار.

وفي يوم 21 مايو قامت طائرات الأنسن العراقية بقصف المستعمرات الإسرائيلية على الضفة الغربية لنهر الأردن والقوات المعادية عند تقاطع الطرق في منطقة "بيت شان" (بيسان) جنوب بحيرة طبرية، بينما ركزت الهارفارد السورية هجماتها في نفس اليوم على التجمعات والمستعمرات الإسرائيلية جنوب نفس البحيرة. وبعد ثلاثة أيام تكرر القصف الجوي العراقي على المستعمرات الإسرائيلية في نفس المنطقة.

ومع نقل العمليات البرية السورية شمال بحيرة طبرية، والعمليات البرية العراقية إلى مثلث "جنين/ نابلس/ طولكرم"، نُقلت جهود السربين السوري والعراقي لمعاونة أعمال قتال قواتهما البرية في تلك المناطق، حيث قامت "الهارفارد" السورية يوم 4 يونيه بقصف القوات الإسرائيلية في "روشبينا" و"المالكية" في الجليل الأعلى، كما قامت طائرات "الأنسن" بقصف "ناتانيا" شمال تل أبيب في نفس اليوم.

وفي اليوم التالي قامت الطائرات السورية بقصف القوات الإسرائيلية في مناطق "مشمار هايردين" شمال بحيرة طبرية و"روشبينا" و"منحايم"، بينما قامت الطائرات العراقية بقصف القوات الإسرائيلية في منطقة "العفولة".

وعلى عكس القوة الجوية السورية والعراقية اللتين رُكز نشاطهما في معاونة القوات البرية، فقد رُكزت جهود القوة الجوية المصرية اعتباراً من 15 مايو ولمدة أربعة أيام لشل وتدمير المطارات والطائرات الإسرائيلية على الأرض وفي الجو، فضلاً عن تدمير بعض الأهداف الإستراتيجية وبجزء من مجهودها قامت بتقديم المعاونة الجوية بالنيران والاستطلاع الجوي لصالح القوات المصرية بالجبهة.

وعلى ذلك قام سرب القتال المصري يوم 15 مايو بقصف مطار "سدى دوف" شمال تل أبيب عدة مرات، كما قصف أرض هبوط "نير عام" حيث كان يتمركز سرب النقب، بالإضافة إلى قصف مستعمرات "نيريم" و"كفار دوروم" و"نجبا". وفي اليومين التاليين قامت الطائرات المصرية بقصف ميناء "تل أبيب" ومصفاة ومستودعات البترول القريبة منه مرتين، بالإضافة إلى قصف مطاري "سدى دوف" و"كفار سيركين" ومستعمرة "نجبا". وفي الثامن عشر من مايو قامت طائرتا النقل المصرية المجهزة لقذف القنابل بقصف منطقة تل أبيب.

وخلال الأربعة أيام التالية (19-22 مايو) نقلت القوة المصرية جهودها الرئيسية لتدمير ميناء تل أبيب ومنشآت الصناعة الحربية ووسائل المواصلات في المنطقة، وبجزء من جهودها استمرت تلك القوة في قصف المطارات الإسرائيلية ومعاونة القوات البرية والقيام بمهام الاستطلاع الجوي.

ومن ثم قامت القوة الجوية المصرية خلال يومي 19، 20 مايو بتركيز أعمال قتالها في منطقة تل أبيب، حيث قامت بقصف محطة توليد الكهرباء ومستودعات الوقود والمصانع وورش الصيانة والإصلاح، فضلاً عن تكرار الهجوم على منطقة الميناء، بينما قامت بعض طائرات القتال بقصف مستعمرتي "يد مردخاي" و"نجبا" والأرتال الإسرائيلية قرب "رحابوت" وفي اليوم التالي تكرار القصف الجوي للمناطق الصناعية حول تل أبيب، بالإضافة إلى قصف مطاري "تل نوف (عكير)" و"الرملة" والهجوم على قطار بضائع شرق قيصرية.

وفي يوم 22 مايو قامت الطائرات المصرية بالهجوم على مطار "رامات دافيد" مرتين بطريق الخطأ ـ على ظن أن الأسراب البريطانية قد أخلت ذلك المطار وأن الطائرات الإسرائيلية تتمركز فيه ـ فدمرت ثلاث طائرات بريطانية وبعض منشآت المطار، إلا أن طائرات القتال البريطانية كانت في انتظارها في المرة الثانية وأسقطت منها خمس طائرات.

وانعكست الخسارة السابقة ـ التي كانت تمثل أكثر من 40% من طائرات القتال المصرية في مطار العريش ـ على جهود القوة الجوية المصرية في الجبهة، فرُكزت الجهود الرئيسية لتلك القوة اعتباراً من 23 مايو وحتى نهاية فترة القتال الأولى على معاونة القوات البرية المصرية والأردنية، وقصف التجمعات الإسرائيلية داخل وخارج المستعمرات، وبجزء من مجهودها استمرت القوة الجوية في قصف المطارات الإسرائيلية للحفاظ على السيطرة الجوية المكتسبة.

فخلال الفترة من 23 مايو وحتى نهاية فترة القتال الأولى قامت القوة الجوية المصرية بمعاونة القوات المصرية بقصف المستعمرات والتجمعات الإسرائيلية بشكل يومي، فتعرضت "نجبا" للقصف ست مرات وكل من "دوروت" و"بئيروت اسحاق" أربع مرات و"جات" مرتين وكل من "شديمو" و"البرير" و"كفار حاييم" و"كفار عام" مرة واحدة. كما تم تقديم المعاونة الجوية للقوات الأردنية في ممر "القدس" بقصف الحشود الإسرائيلية التي كانت تهاجمها ست مرات.

وللحفاظ على السيطرة الجوية التي حققتها القوة المصرية في الأيام الأولى من هذه المرحلة تم قصف مطار "تل نوف" (عكير) مرتين و"سدى دوف" مرة واحدة، بينما قُصفت المناطق الصناعية في منطقة تل أبيب وجنوبها خمس مرات، أما ميناء تل أبيب فتعرض للقصف مرتين.

وبنهاية فترة القتال الأولى كانت القوة الجوية المصرية قد نفدت 237 طلعة قصف واستطلاع، منها 30 طلعة لاحراز السيطرة الجوية والمحافظة عليها، وُوجهت هذه الطلعات لقصف مطارات "سدى دوف" (تل أبيب) و"تل نوف" (عكير) و"بتاح تكفاة" و"الرملة".

ولشل المنشآت الصناعية والبحرية في منطقة "تل أبيب" وما حولها نفذت القوة الجوية المصرية 64 طلعة لقصف الميناء والمنشآت الصناعية في منطقة "تل أبيب" وضواحيها.

ولمعاونة القوات البرية المصرية والأردنية وتدمير التجمعات ووسائل المواصلات الإسرائيلية قامت القوة الجوية المصرية بما يزيد على 114 طلعة قصف و29 طلعة استطلاع بالنظر والصور.

2. أعمال القتال الجوية الإسرائيلية[1]
عندما تفجر القتال في الخامس عشر من مايو بين القوات العربية النظامية ونظيرتها الإسرائيلية لم يكن هناك في فلسطين من الطائرات العديدة التي حصل عليها الإسرائيليون سوى الأسراب الأربعة المشكلة أساساً من طائرات الأوستر وبعض طائرات النقل الأخرى، بالإضافة إلى سرب النقل الثقيل (السرب الثالث)، الذي أقام جسراً جوياً بين أوروبا وإسرائيل لنقل الأسلحة والمعدات، وبالرغم من أن الأسراب الأربعة الأولى جُهزت للقيام بمهام القصف الجوي إلا أنها لم تكن نِداً لطائرات القتال العربية، مما ساعد الأخيرة على تحقيق السيطرة الجوية خلال فترة القتال الأولى بالرغم مما كانت تُعانيه من أوجه القصور العديدة التي كان أبرزها نقص قطع الغيار والقنابل والذخائر وبعض المعدات الفنية اللازمة لأعمال قتالها.

وكان لتمتع القوة الجوية العربية بالسيطرة الجوية طوال فترة القتال الأولى والإمكانات المحدودة للطائرات الإسرائيلية أثره الكبير في الحد من نشاط القوة الجوية الإسرائيلية وتقليل فعاليتها، وقصر نشاطها على الأعمال الليلية للإمداد والإخلاء والقصف المحدود عندما يتوقف نشاط طائرات القتال العربية ليلاً.

إلا أنه مع تزايد وصول الطيارين المتطوعين والمرتزقة الأجانب ذوي الخبرة وطائرات القتال الإسرائيلية من نوع "مسر شميت" خلال الأسبوع الأخير من مايو وتشكيل أولى أسراب القتال (السرب 101)، بدأت تظهر تلك الطائرات نهاراً اعتباراً من 29 مايو وحتى نهاية فترة القتال الأولى وتزايدت أعمال القصف الجوية الليلي بطائرات النقل التي جهزت لقذف القنابل، إلا أن أعمال القوة الجوية الإسرائيلية في تلك الفترة كانت محدودة الأثر وتتسم بالحذر.

وكان أول أعمال قتال القوة الجوية الإسرائيلية خلال هذه المرحلة هو قيام سرب الجليل بقصف الجسر الذي أقامه العراقيون بالقرب من مستعمرة "جيشر" ليلة 15/16 مايو إلا أن القصف لم يصب الجسر. وفي الليلة التالية قام نفس السرب ببعض أعمال القصف للتجمعات السورية والعراقية في وادي الأردن كما قام بعض طائرات سربي الجليل والنقب بإخلاء الجرحى من المستعمرات التي تعرضت للهجمات العربية وإمداد المستعمرات المحاصرة ببعض احتياجاتها الحيوية.

وعلى أثر قصف الطائرات المصرية لمركز المواصلات الإسرائيلية في تل أبيب، تلقى سرب النقب الأمر بقصف القوات المصرية شمال "غزة" نهاراً، غير أن الطيارين المتطوعين الأجانب رفضوا تنفيذ المهمة خوفاً من دوريات المقاتلات المصرية.

وفي ليلة 19/20 مايو قامت ثلاث طائرات من سرب "تل أبيب" بقصف القوات السورية في منطقة "سمخ" جنوب بحيرة طبرية وفي الليلة التالية قصفت بعض طائرات نفس السرب قرية "شعفات" العربية ومطار "غزة" ومحطة السكة الحديد فيها دون تأثير يذكر، وفي ليلة 23/24 من مايو قامت بعض طائرات "الأوستر" بقصف مستعمرة "يد مردخاي" ليلاً بعد سقوطها في أيدي القوات المصرية، كما قامت بعض طائرات سرب النقب بقصف بعض المواقع المصرية في "عراق سويدان" و"المجدل".

وفي الجبهة الشمالية والوسطى قام سرب الجليل ليلة 23/24 مايو بقصف مركز القيادة السوري في القنيطرة، كما قصف سرب تل أبيب القوات الأردنية في "اللطرون" ليلة 25 /26 مايو، في الوقت الذي قامت فيه طائرة "أرجوس" وأخريان من نوع "أوستر" و"بونانزا" بقصف منطقة "غزة"، كما قامت إحدى طائرات سرب "تل أبيب" بإسقاط بعض الإمدادات لسكان الحي اليهودي المحاصر في "القدس" خلال نفس الليلة.

وشهدت ليلة 28/29 مايو أول استخدام لطائرات "الداكوتا" الإسرائيلية كقاذفة قنابل ضد مدينة "رام الله" شمال القدس، بينما قامت بعض طائرات سرب تل أبيب بقصف "نابلس" و"طولكرم". وبالرغم من أن القصف الإسرائيلي الليلي كان يفتقر للدقة وعديم التأثير بصفة عامة فقد رأته القيادة الإسرائيلية أمراً لازماً لرفع معنويات قواتها التي بدأت تسوء على كافة الجبهات.

وفي مساء يوم 29 مايو بدأ أول هجوم جوي إسرائيلي حقيقي بطائرات القتال من نوع "مسر شميت" على الجبهة المصرية شمال أسدود، انتهى بإسقاط إحدى الطائرات الأربعة المهاجمة وإصابة أخرى بواسطة المدفعية المصرية المضادة للطائرات، وفي صباح اليوم التالي قامت طائرتا "مسر شميت" بقصف محطة السكة الحديد في "طولكرم" ورتل عراقي على الطريق إليها.

وبينما كانت تجري المفاوضات لعقد الهدنة الأولى قرر "بن جوريون" قصف القاهرة ودمشق وعمان، إلا أن موقف القوة الجوية الإسرائيلية آنذاك لم يكن يسمح بتنفيذ ذلك القرار، فاستقر الأمر على قصف العاصمة الأردنية وتأجيل قصف دمشق والقاهرة، وفي فجر الأول من يونيه قامت ثلاث طائرات إسرائيلية بقصف عمان.

وفي أعقاب هجوم الطائرات المصرية على مطار تل نوف (عكير) في الأول من يونيه، أعيد تمركز سرب القتال رقم (101) في أرض هبوط "هرتسليا" شمال تل أبيب بنحو 15 كم، لتوفير وقاية أفضل له من المقاتلات المصرية.

وشهد الأسبوع الأول من ذلك الشهر بعض الأحداث التي ساعدت على رفع الروح المعنوية للقوات الإسرائيلية، فقد اكتمل وصول طائرات السرب 101 من نوع "مسر شميت" المقاتلة، وبدأ تزايد تدفق الطيارين المتطوعين والمرتزقة الأجانب ممن اكتسبوا خبرات الحرب العالمية الثانية وكان بعضهم من أبطالها، كما حققت القوة الجوية الإسرائيلية أول إنجاز لها في الجو بإسقاط إحدى طائرات النقل المصرية المجهزة لقذف القنابل وإصابة أخرى يوم 3 يونيه، بواسطة إحدى طائرات القتال من نوع "مسر شميت"، الأمر الذي اعتبره الإسرائيليون نقطة تحول في الموقف الجوي، إلا أن ذلك الإنجاز لم يمنع القوى الجوية العربية عامة والمصرية على وجه الخصوص من قصف منطقة تل أبيب والمستعمرات والمطارات والقوات الإسرائيلية حتى سريان الهدنة الأولى على نحو ما سبق.

وعندما توقف القتال خلال تلك الهدنة استمرت القوة الجوية الإسرائيلية في إمداد المستعمرات الإسرائيلية المعزولة في النقب والقيام بمهام الاستطلاع الجوي، كما شُكل السرب (103) قاذفات من طائرات الداكوتا المجهزة لقذف القنابل في البداية إلى أن انضمت إليها في نهاية الهدنة الأولى ثلاث طائرات قاذفة ثقيلة من نوع "بي–17"، وتمركز الجميع في مطار "رامات دافيد" الذي تسلمته القوة الجوية الإسرائيلية من نظيرتها البريطانية في الثالث من يونيه. وبذا أصبح للقوة الجوية الإسرائيلية ثلاث قواعد رئيسية هي "رامات دافيد" في الشمال و"سدى دوف" (تل أبيب) و"تل نوف" (عكير) في المنطقة الوسطى بالإضافة إلى العديد من أراضي الهبوط في شمال ووسط فلسطين فضلاً عن أراضي الهبوط في مستعمرات منطقة "النقب".

ثانياً: أعمال القتال البحرية للجانبين
كان السلاحان البحريان المصري والإسرائيلي هما القوتان البحريتان الوحيدتان اللتان كان لهما دور في الجولة العربية الإسرائيلية الأولى، وإن كان دوراً محدوداً. فبالرغم من عراقة البحرية المصرية وإنجازاتها الحافلة على مدى التاريخ المصري الطويل، فقد كان حجم ودور تلك القوة غاية في التواضع عشية اندلاع الحرب في فلسطين، فقد نجح الإنجليز في تحجيم البحرية المصرية في أواخر حكم محمد على، ثم قاموا بتصفيتها تماماً بعد احتلالهم لمصر في أعقاب الثورة العرابية.

وعندما أُعيد بناء البحرية المصرية بعد الحرب العالمية الثانية، كانت سفنها لا تزيد عن بعض سفن خفر السواحل وبعض اليخوت الملكية. وفي عام 1947 ضُم على تلك القوة بعض كاسحات الألغام من مخلفات البحرية الأمريكية (جُهزت اثنتان منها بالمدافع)، وإحدى الفرقاطات القديمة من مخلفات البحرية البريطانية، استخدمت كسفينة قيادة للبحرية المصرية وأطلق عليها اسم الأمير فاروق. ومن تلك القوة خصص في البداية كاسحتا الألغام المسلحتان وبعض زوارق النقل لمساندة عمليات القوات المصرية بحذاء الساحل الفلسطيني.

وعلى الجانب الإسرائيلي كان السلاح البحري ـ الذي بدأ بسرية البالماخ بعد الحرب العالمية الثانية ـ أصبح يضم عشية تدخل الجيوش العربية إحدى الكاسحات وسفينة خفر سواحل وبعض سفن النقل التي كانت تستخدم أساساً في نقل المهاجرين والأسلحة والعتاد إلى إسرائيل. وفي مايو 1948، نجح مندوبو الحكومة الإسرائيلية شراء عدة قرويطات بريطانية من نوع "فلاور" حمولة ألف طن.

وبعد انتهاء الانتداب سمح البريطانيون ـ الذين كانوا لا يزالون يستخدمون ميناء حيفا قاعدة لهم ـ للإسرائيليين بتجديد وإصلاح وتجهيز سفنهم بالترسانة البحرية في تلك القاعدة. وكانت أول السفن التي أعيد تجديدها هي الكاسحة التي سلحها الإسرائيليون بمدافع عيار 65 مم وأطلقوا عليها اسم "إيلات".

وقد انحصرت مهام السفن البحرية المصرية والإسرائيلية خلال فترة القتال الأولى في تأمين السواحل المهددة وأعمال النقل البحري لأغراض الإمداد والمناورة بالقوات. إلا أنه مع تطور العمليات بدأت البحرية المصرية في المشاركة في أعمال القصف للموانئ الإسرائيلية للحد من أعمال النقل البحري الإسرائيلي النشط للمهاجرين والأسلحة والعتاد.

ففي الثاني من يونيه قامت كاسحة الألغام المصرية رقم (101) بقصف ميناء قيصرية (شمال ناتانيا بنحو 20 كم) عند الغروب، واستمرت تطلق نيران مدفعاها عيار 3 بوصة لمدة ربع ساعة متواصلة، ضربت خلالها منشآت الميناء وأغرقت الزورق الوحيد به وعادت إلى قاعدتها دون مقاومة.

وبعد يومين من القصف السابق تحركت مجموعة من السفن تتشكل من إحدى الكاسحات وسفينة إبرار وزورق نقل ثقيل قاصدة ميناء تل أبيب لتلغيم مدخله وتدمير منشآته، فقام الإسرائيليون ـ الذين رصدوا تحرك السفن المصرية شمالاً ـ بدفع الكاسحة إيلات مع دعم جوي لاعتراض السفن المصرية خوفاً من قيام الأخيرة بعمليات إبرار بحري.

وفي الساعة 1230 رصدت السفن المصرية الكاسحة "إيلات" على مسافة نحو 20 كم شمال غزة ونحو 7 كم من الشاطئ الإسرائيلي، كما رأت "إيلات" السفن المصرية، ولما كانت طائرات المعاونة لم تصل بعد، فقد تلقت الكاسحة الإسرائيلية الأمر بالعودة فاتجهت شمالاً وفي أعقابها الكاسحة المصرية التي استطاعت أن تصيب مؤخرة إيلات قبل أن تبتعد الأخيرة خارج مرمى نيران الكاسحة المصرية.

وعندما وصلت السفن المصرية أمام يافا ظهرت الطائرات المجهزة لقذف القنابل من سرب تل أبيب (البونانزا ودراجون رابيد والأرجوس) على التوالي، فانتشرت السفن المصرية وبدأت في الاشتباك مع الطائرات الإسرائيلية بمدافعها من عيار 20 مم مما أجبر تلك الطائرات على عدم الانخفاض وأحبط هجماتها المتكررة بالرغم من تكرارها الطلعات ثلاث مرات خلال ساعتين. وعندما أشرفت ذخيرة المدافع المضادة للطائرات على النفاد طلبت السفن المصرية حماية جوية فأقلعت لها إحدى طائرات القتال من مطار العريش بقيادة قائد السرب (نقيب طيار) محمد عبدالحميد أبو زيد الذي أسقط الطائرة الأرجوس فاختفت الطائرات الأخرى.

ولما كانت مهمة السفينة المصرية قد اُكتشفت وضاع عنصر المفاجأة الذي كان يتوقف عليه نجاح العملية، فقد صدرت لها الأوامر بالعودة دون إتمام المهمة.

وفي الثاني من يونيه كُلفت الكاسحة رقم 102 باعتراض السفينة التجارية "كاترين ماري" وإغراقها قبل وصولها بما تحمله من أسلحة وعتاد وذخائر إلى إسرائيل ثم التوجه لقصف مرسى "نهارية" شمال "عكا" بنحو ثمانية كيلومتر لتدمير المرسى وإغراق ما تصادفه من زوارق معادية.

وأثناء الرحلة صدرت الأوامر للكاسحة بتعديل مهمتها والتوجه مباشرة إلى "نهارية" لاحتمال وصول السفينة إليها، وعندما اقتربت الكاسحة من هدفها عند الغروب لم تجد أية قطع بحرية بالمرسى، فقامت برصد أهداف القصف، وما أن حل الظلام اقتربت الكاسحة من المرسى وأمطرت أهدافها بنيران مدافعها عيار 3 بوصة لمدة ربع ساعة ثم قفلت عائدة إلى قاعدتها سالمة.

ثالثاً: تطور الموقف العسكري خلال الهدنة الأولى
عندما شعرت الحكومات العربية أنها مضطرة للإذعان لقرار الأمم المتحدة بوقف القتال لمدة أربعة أسابيع، فإنها كانت قد خسرت الحرب نهائياً، فبالرغم من تقدم القوات العربية على كافة الجبهات، وإلحاقها العديد من الهزائم بالقوات الإسرائيلية المرهقة فإن البنية الأساسية للأخيرة ظلت سليمة بالرغم من الخسائر الفادحة التي لحقت بها.

وحاول الطرفان استغلال فترة الهدنة لالتقاط أنفاسهما وإعادة تنظيم قواتهما وتعزيزها بعتاد أفضل وقوات أكثر تدريباً. وبالرغم من الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة ووجود مراقبين دوليين كانت مهمتهم مراقبة الأطراف المتصارعة ومنعها من تغيير حجم قواتها أو الحصول على مزيد من السلاح والعتاد، فقد استفاد الإسرائيليون ـ الذين لم يلتزموا بشروط الهدنة ـ من توقف القتال أكثر مما استفاد العرب، فمن ناحية، كان اليهود أكثر خبرة وحنكة من أعدائهم في مجال تهريب الرجال والأسلحة منذ أيام الكتاب الأبيض، كما كانوا يجدون تعاطفاُ في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وحتى بين مراقبي الأمم المتحدة نفسها لقضيتهم التي نجحوا في الترويج لها بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ناحية أخرى فقد كانوا أسبق من العرب في مشتريات السلاح وتعبئة القوى البشرية، وكان لهم أسلحة مكدسة في أوروبا ورجال ينتظرون أول فرصة لنقلهم إلى فلسطين، الأمر الذي لم يتوفر للعرب كما استفاد الإسرائيليون من فترة الهدنة في تعبئة الاحتياطي وتدريبه على نحو أفضل من العرب، الذين استنفدت مشاكل الأمن الداخلي جزءاً كبيراً من قواتهم.

وبينما تمكن الإسرائيليون من تحقيق مزيد من الوحدة العسكرية خلال الهدنة، فقد انعكست الشكوك والصراعات السياسية بين الحكومات العربية على قواتهم المسلحة فتزايدت فُرقتها وانعدم تنسيقها خلال المرحلة الأخيرة والحاسمة من الحرب.

1. تطور الموقف العسكري على الجانب العربي
عندما انتهت فترة القتال الأولى كانت القوات العربية تحتل معظم الأجزاء التي خصصها قرار التقسيم لعرب فلسطين وتحاصر الإسرائيليين في "القدس الجديدة" كما وصلت قواتهم إلى ما يقرب من خمسة عشر كم شرق ناتانيا وتل أبيب ونحو ثلاثين كم جنوب الأخيرة في الوقت الذي تم فيه عزل المستعمرات الإسرائيلية في النقب بما يُهدد بشطر الدولة العبرية وتفتيتها. (اُنظر ملحق تقدير موقف القوات المصرية في فلسطين (منتصف يونيه 1948))

وبالرغم من أن الموقف العسكري العام كان يبعث على تفاؤل الشعوب العربية إلا أن قادتها العسكريين لم يكونوا على نفس القدر من التفاؤل، فقد وصلت قواتهم إلى أقصى مدى تسمح به إمكاناتها، في الوقت الذي لم يتم فيه تدمير القوات الإسرائيلية بعد، بل إن الأخيرة كانت تتلقى في كل يوم جديد مزيداً من الدعم لقواتها وأسلحتها، نتيجة التخطيط المبكر لقادتها وتأييد القوى العظمى لقضيتها.

وتوضح الوثائق الخاصة باجتماعات رؤساء أركان الجيوش العربية في القاهرة يومي 15، 16 يونيه أوجه القصور الذي كانت تعاني منها القوات العربية في نهاية فترة القتال الأولى، فبالنسبة لمصر أوضح تقدير الموقف الذي أجرته رئاسة أركان حرب الجيش المصري عشية اجتماعات رؤساء أركان حرب الجيوش العربية المشار إليها أوجه القصور التالية:
أ. فيما يتعلق بالأسلحة كان هناك نقص كبير في كافة أنواعها الخفيفة والمتوسطة (البنادق والرشاشات والهاونات)، كما كان هناك عجز في المدافع المضادة للدبابات، أما مدفعية الميدان فلم يكن هناك أية مواسير احتياطية.

ب. وبالنسبة للذخائر فقد كان هناك نقص في مخزون ذخائر البنادق والرشاشات الخفيفة والمتوسطة، حيث كان المتوفر منها يكفي فقط فترة قتال تتراوح مدتها بين عشرين وثلاثين يوماً، بمعدلات استهلاك فترة القتال الأولى.

ج. أما دانات الهاون عيار 3 بوصة فكان المتوفر منها لا يكفي إلا لمدة ستة عشر يوماً، بينما لا يكفي المتوفر من القنابل اليدوية أكثر من أسبوعين. كما كان المتوفر من ذخائر المدفعية لا يكفي إلا لمدة 12 يوماً بالنسبة للهاوتزر عيار 3.7 بوصة، و21 يوماً بالنسبة للمدافع عيار 25 رطلاً، و29 يوماً بالنسبة للمدافع المضادة للدبابات عيار 2 رطل.

ولم يكن حال الجيوش العربية الأخرى بأفضل من حالة الجيش المصري، فطبقاً لما دار في اجتماعات رؤساء أركان حرب الجيوش العربية في القاهرة يومي 15، 16 يونيه ظهر أن معظم الدول المشتركة في القتال في حاجة إلى عدد كبير من البنادق والرشاشات والمدافع المضادة للدبابات والطائرات بالإضافة إلى عدد محدود من المدافع عيار 25 رطلاً. كما كانت جميع الجيوش العربية المحاربة في حاجة إلى دبابات وسيارات مدرعة لاستكمال مرتبات الوحدات وتعويض الخسائر.

وبالنسبة للذخائر كانت كل من القوات السورية واللبنانية تعاني نقصاً في ذخائر الأسلحة الصغيرة، كما كانت كل القوات العربية في أمس الحاجة إلى ذخائر مدافع الميدان عيار 25 رطلاً والمدافع المضادة للطائرات عيار 2، 6 رطل، فضلاً عن ذخائر الهاون.

وعندما بحث رؤساء أركان الجيوش العربية في اجتماعاتهم المشار إليها موقف الأسلحة الجوية العربية، ظهر أن السلاح الجوي المصري يفتقر إلى القاذفات وما لديه من القنابل يكفي العمليات لمدة شهر واحد فقط، وبالنسبة للسلاح الجوي العراقي، فبالرغم من إحلال سرب مقاتل من نوع "فيوري" محل "الجلاديتور" الذي ينتمي إلى عقد الثلاثينيات، فإنه لم يتوفر للسرب الجديد أية أسلحة أو ذخائر، كما كان الموجود من القنابل لقاذفات "الأنسن" لا يكفي إلا لمدة عشرة أيام فقط، ولم يكن سرب التدريب السوري الذي جُهز للهجوم الأرضي أفضل حال، فقط كان ذلك السرب في أمس الحاجة إلى القنابل والذخيرة.

ولم يكن موقف الاحتياطيات العربية بأفضل حال، فقد أوضح رؤساء أركان حرب الجيوش العربية أنه لا يوجد لديهم آنذاك قوات احتياطية كافية لغيار وحداتهم المجهدة، أو لاستخدامها كقوة هجومية بعد أن اتخذت القوات العربية أوضاعاً دفاعية على كافة الجبهات.

وعندما اجتمع رؤساء أركان حرب الجيوش العربية بالأمين العام لجامعة الدول العربية يوم 16 يونيه في نهاية اجتماعاتهم السابقة، أوضحوا له أوجه القصور التي تعاني منها الجيوش العربية في ذلك الوقت واحتياجاتهم اللازمة لتلافي هذا القصور، مؤكدين على أن كل ما عملته القوات العربية حتى الآن لا يعدو حشد القوات وعمليات الاقتراب إلا أنه لم يتم الاصطدام بالقوات الإسرائيلية الرئيسية بعد، وأن المناطق التي اجتازتها الجيوش العربية تُركت بها مستعمرات قوية تهدد مواصلات هذه الجيوش. (اُنظر ملحق محضر اجتماع رؤساء أركان حرب الجيوش العربية مع الأمين العام لجامعة الدول العربية (16 يونيه 1948))

كما أوضح اللواء نور الدين محمود، نائب القائد العام للقوات العربية، للأمين العام "أن المرحلة القادمة ليست سهلة وإنما هي من أشق المراحل وتحتاج إلى جهود عظيمة"، وأن القوات الموجودة في الميدان تفتقر إلى الاحتياطيات اللازمة للعمليات الهجومية، وأن تلك القوات اتخذت أوضاعاً دفاعية في نهاية فترة القتال السابقة لهذا السبب، كما أن العدو وإن كانت أسلحته الثقيلة وأساليب قتاله في المرحلة السابقة أضعف من القوات العربية، فلا يمكن التكهن به مستقبلاً، "ويحتمل أن يتقوى العدو في السلاح والطيران مما يجعله متفوقاً علينا، وهذا أيضاً يدعونا إلى حساب لهذا".

وبالرغم من أوجه القصور السابقة، فقد كان هناك إصرار من الأمين العام لجامعة الدول العربية على استئناف العمليات الهجومية عل الفور فيما لو نقض الإسرائيليون الهدنة الأمر الذي وافق عليه رؤساء أركان حرب الجيوش العربية.

وحتى لا تُزج القوات المصرية في القتال على غير استعداد ـ كما حدث في فترة القتال ـ الأولى قدم مدير العمليات الحربية إلى وزير الدفاع المصري تقديراً جديداً للموقف بتاريخ 17 يونيه، على ضوء ما استقر عليه الأمر في اجتماع رؤساء الأركان العرب مع الأمين العام لجامعة الدول العربية يوضح له فيه حالة القوات المصرية ومدى قدرتها على القيام بالعمليات الحربية مستقبلاً.

وفي هذا التقدير أوضح مدير العمليات الحربية أن القوات المصرية زج بها في فلسطين قبل أن تستكمل استعداداتها للحرب، وأنه على ضوء الاعتبارات السياسية توغلت تلك القوات بسرعة في الأراضي الفلسطينية مسافة 80 كم مُخلفة وراءها عدداً من المستعمرات المعادية تهدد خطوط مواصلاتها التي امتدت مسافة 115 كم بعيداً عن قاعدتها في العريش، مما ألزم القيادة المصرية بترك قوات على طول تلك الخطوط لتأمينها، الأمر الذي لم يبق لدى القيادة المصرية في الجبهة أية احتياطيات يمكن استخدامها كقوة ضاربة للقيام بعمليات جديدة أو لغيار بعض الوحدات التي تحتاج إلى إعادة التنظيم أو قليل من الراحة.

كما أوضح مدير العمليات الحربية في تقدير الموقف المشار إليه الحالة المتدنية لمخزون الذخائر والعجز في بعض أنواع الأسلحة والعتاد على نحو ما سبق توضيحه، ثم خلص إلى أن الحاجة ماسة إلى تشكيل مجموعة لواء مشاة جديدة وتزويدها بكل احتياجاتها من الأسلحة والذخائر والعتاد الذي يسمح لها بالعمل كقوة ضاربة، كما حدد أصناف وأعداد الأسلحة والمعدات والذخائر اللازمة للقوات المصرية لمواجهة أعبائها في المرحلة القادمة.

وقد بذلت مصر والدول العربية الأخرى جهوداً مضنية لتدبير احتياجاتها من الأسلحة والعتاد والذخائر من السوق الأوروبية إلا أن جهودها في هذا الشأن جاءت متأخرة عن نظيرتها الإسرائيلية التي بدأت قبلها بشهور عديدة، ومن ثم جاء الحظر الذي فرضه مجلس الأمن على تزويد الدول المتحاربة في فلسطين بالأسلحة والمواد الحربية ليحبط معظم هذه الجهود. وحتى الأسلحة التي استطاعت مصر والعراق والأردن تدبيرها قبل أو بعد سريان هذا الحظر لم تستطع تلك الدول الحصول على ذخائرها وقطع الغيار اللازمة لها سواء أثناء الهدنة أو خلال المرحلة الأخيرة من الحرب، مثلما حدث بالنسبة لطائرات "الفيوري" العراقية وطائرات سبيتفير المصرية، والمدفعية الأردنية.

وقد ذهب النقراشي باشا (رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت) في إلحاحه على طلب احتياجات القوات المصرية من بريطانيا إلى حد القبول بمخاطرة رفع الولايات المتحدة الأمريكية حظر توريد السلاح إلى إسرائيل فيما لو قامت بريطانيا بتلبية المطالب المصرية، فقد كان يرى أن أي تدفق جديد للأسلحة من أمريكا إلى إسرائيل بعد رفع الحظر من شأنه أن يستغرق بعض الوقت يمكن خلاله للدول العربية حسم الموقف في فلسطين.

وعلى ذلك اضطرت القوات العربية إلى خوض المرحلة الأخيرة والحاسمة من الحرب بكل ما كانت تعانيه من قصور، وبالرغم من أن كلاً من مصر والعراق استطاعتا زيادة أعداد قواتها خلال فترة القتال الأولى وحتى بداية المرحلة الثانية من الحرب المعلنة لتصل أعداد الجيوش العربية في فلسطين إلى نحو 35 ألف فرد ـ بعد أن كانت أقل من 15 ألف فرد في بداية فترة القتال الأولى ـ فإن قوات هاتين الدولتين ظلتا تعانيان من أوجه القصور التي سبق بيانها، وإن كانت مصر قد نجحت جزئياً في معالجة بعض أوجه القصور السابقة بفضل المخلفات البريطانية في منطقة قناة السويس والصحراء الغربية، والمخلفات الأمريكية في مطار "باينفيلد" التي اصبح فيما بعد مطار القاهرة الدولي، ودعم الجهود الحكومة المصرية في هذا الشأن استغلالها لقواعد القانون الدولي في مصادرة العتاد الحربي الذي يمر في الأجواء والمياه المصرية إلى إسرائيل، وشراء الاحتياجات الصالحة للمجهود الحربي من المصادر المدنية في مصر.

2. تطور الموقف العسكري على الجانب الإسرائيلي
في الرابع عشر من يونيه ـ بعد ثلاثة أيام من بداية الهدنة الأولى ـ عُقد اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي برئاسة "بن جوريون" الذي أوضح للمجلس تصوره لخطة العمل من أجل استغلال الهدنة، وقد تلخصت تلك الخطة في النقاط الخمس التالية:
أ. حل مشكلة إمداد القدس باستكمال تمهيد الطريق البديل لتفادي عقبة "اللطرون" على الطريق الرئيسي، ومنع السكان من الهجرة من القدس.

ب. دعم القوات المسلحة، والنهوض بتدريبها وإعادة تنظيمها وتحسين الانضباط العسكري فيها.

ج. زيادة الإنتاج الحربي لاستكمال أي نقص في استيراد الأسلحة من الخارج.

د. زيادة معدلات جلب المهاجرين من الخارج وإنشاء المستعمرات في الداخل.

هـ. رفع مستوى الجهد القتالي للشعب الإسرائيلي في فلسطين.

وبعد أربعة أيام من الاجتماع السابق لمجلس الوزراء عقد "بن جوريون" ـ بصفته وزير الدفاع ـ اجتماعاً في تل أبيب حضره قادة الألوية الإسرائيلية ورؤساء شُعب رئاسة الأركان لبحث الموقف العسكري ومتطلبات المرحلة التالية على ضوء دروس المرحلة السابقة. وكان الانطباع العام أن الهدنة جاءت في الوقت الملائم، فعلى حد تعبير قادة الألوية "نزلت علينا كالندى من السماء"، فقد كانت الوحدات متعبة وخائرة القوى، والروح المعنوية منخفضة، والخسائر في كتائب المشاة عالية، في الوقت الذي تزايدت فيه حالات الهروب من الخدمة، ومن ثم كان من الضروري إعطاء الوحدات بعض الراحة لالتقاط الأنفاس ورفع الكفاءة القتالية بالتدريب وتعزيز الكتائب.

وبعد أن استمع "بن جوريون" إلى تقارير قادة ألويته ومسؤولي رئاسة الأركان الإسرائيلية ومقترحاتهم بشأن دعم القوات الإسرائيلية ورفع كفاءتها القتالية، أوضح لهم تصوره للمرحلة التالية التي تتلخص في أنه عندما سيتجدد القتال بعد الهدنة فإن الحرب ستدخل مرحلتها الفاصلة" وهنا يكون السؤال الأهم، هو كيف يكون لنا أن نكسب؟" … ومن ثم "يجب علينا أن نقرر أين نضرب الضربة الحاسمة وضد من؟".

ويرد بن جوريون على تساؤله بقوله:
"يوجد في الوقت الحاضر ثلاث جبهات: الجبهة الشمالية حيث نحارب اللبنانيين والسوريين، والجبهة الوسطى حيث نحارب الفيلق العربي (الأردني)، والجبهة الجنوبية، بما فيها النقب، حيث نحارب المصريين. وليس لدينا قوات كافية للقيام بهجمات حاسمة على الجبهات الثلاث. ولذا فإنه ينبغي لنا أن نقرر أين نركز جهودنا. ونظرة إلى الخريطة تقدم لنا الإجابة. فمن وجهة النظر اليهودية تُعتبر المنطقة القاطعة (الحاسمة) هي منطقة مثلث "تل أبيب/ حيفا/ القدس" وإن سقوط هذه المراكز أو حتى اثنين منها يعني هزيمتنا النهائية. إن أفضل قوة عسكرية عربية ـ الفيلق العربي ـ محتشدة في ذلك المثلث … ويمكننا أن نحقق انتصاراً إذا ما نحن وجهنا ضربة قاصمة لهذه القوة وفتحنا المثلث. وبعد أن نقصم ظهر الفيلق العربي يمكننا أن نمسح الجيش اللبناني ونطرد السوريين وربما استطعنا أيضاً أن نقصف دمشق، وبذا يبقى الجيش المصري وحده.

"من الوجهة النظرية، يستطيع الجيش المصري أن يستمر في القتال فترة طويلة من الزمن. إن سكان مصر وجيشها وموازينها (ميزانيتها) المالية كل ذلك يفوق ما لنا، إلا أنه يُشك فيما إذا كان المصريون سيمضون في القتال ما لم ير الإنجليز أن ذلك هو الطريق الذي يسلكونه…".

وهكذا حدد بن جوريون أسبقية العمل على الجبهات العربية المختلفة خلال المرحلة الأخيرة والحاسمة من الحرب، ولتحقيق ذلك مضت جهود القيادتين السياسية والعسكرية لدعم القدرات العسكرية ورفع الكفاءة القتالية للقوات الإسرائيلية على ثلاث مسارات رئيسية هي: الأول؛ استيعاب الأسلحة الجديدة والعتاد الذي تزايد تدفقه على إسرائيل بعد نهاية الانتداب وإعلان الدولة اليهودية، والثاني؛ عقد صفقات أسلحة جديدة لتحقيق التفوق في الأسلحة الثقيلة والطائرات على القوات العربية ودعم التفوق الذي حققته القوات الإسرائيلية في باقي الأسلحة والقوى البشرية خلال فترة القتال الأولى، والثالث؛ إعادة تنظيم القوات المسلحة مع دمج قوات الهجناة والبالماخ وقوات منظمة "الأرجون" في تنظيم عسكري واحد وإخضاعها جميعاً لقيادة عسكرية واحدة.

وعلى صعيد المسار الأول أتاحت الهدنة فرصة ثمينة للقوات الإسرائيلية لالتقاط الأنفاس والتدريب المكثف على الأسلحة الجديدة التي سمحت بتشكيل لواء مدرع جديد هو اللواء الثامن بالإضافة إلى دعم القوة القتالية للألوية التسعة التي سبق تشكيلها خلال مرحلة الحرب غير المعلنة ولواء "عوديد" واللواء السابع اللذان بدأ تشكيلهما عشية فترة القتال الأولى، فضلاً عن زيادة عدد كتائب المدفعية التي بدأ تشكيلها خلال نفس الفترة.

وعلى المسار الثاني، فبالإضافة إلى صفقات الأسلحة والعتاد والذخائر التي سبقت الإشارة إليها في الفصل السابق، عقد مندوبو الحكومة الإسرائيلية العديد من صفقات الأسلحة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية خلال المرحلة الثانية من الحرب ـ مولها يهود القارتين ـ سمحت بتزويد القوات الإسرائيلية بكافة احتياجاتها من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة والذخائر بكافة أنواعها، بالإضافة إلى طائرات القتال والقاذفات والسفن الحربية.فظهرت خلال فترة القتال الأولى المدافع الإسرائيلية من عيار 65، 75 مم و25 رطلاً والعربات المدرعة وطائرات القتال من نوع "مسر شميت" ثم ظهر خلال فترات القتال التالية الهاون عيار 120 ومدافع الهاوتزر ودبابات الشيرمان والعربات المدرعة المجهزة بنصف جنزير، بالإضافة إلى طائرات القتال من نوع "سبيتفير" وقاذفات القنابل الثقيلة من نوع "بي ـ 17" والسفن المجهزة بمدافع عيار 20 و65 مم.

وعشية فترة القتال الثالثة، كان لدى الجيش الإسرائيلي في أول أكتوبر 67500 بندقية، و21300 رشاش، و675 مدفعاً مضاداً للطائرات، و250 مدفع ميدان.

وقد سمح تزويد القوات الإسرائيلية بالأسلحة السابقة وتدفق نحو 102 ألف مهاجر عام 1948 (جاء معظمهم في النصف الثاني من العام بعد انتهاء الانتداب وسقوط قيود الهجرة) بزيادة أعداد القوات الإسرائيلية النظامية إلى أكثر من مائة ألف مقاتل بعد أن كانت نحو 62 ألف في بداية الحرب المعلنة.

وبالنسبة للمسار الثالث، كانت الهدنة فرصة ثمينة لإعادة تنظيم الإدارة المدنية والقوات الإسرائيلية التي جرى تشكيلها تحت نيران الحرب، ودمج المنظمات العسكرية المختلفة في هيكل تنظيمي واحد يخضع لسلطة رئيس الحكومة المؤقتة الذي كان هو نفسه وزير الدفاع فيها.

ومن ثم كان أبرز العناصر الرئيسية في عملية إعادة التنظيم هو وضع القانون رقم (4) الصادر في 28 مايو موضع التنفيذ. وقد نص ذلك القانون على إنشاء جيش قومي اعتباراً من أول يونيه 1948، وعُرف ذلك الجيش باسم "زاحال" (قوات الدفاع الإسرائيلية)، وتتشكل من الأسلحة البرية والجوية والبحرية. وحظر ذلك القانون إنشاء أو تجنيد أية قوة عسكرية خارج نطاق "زاحال". وعلى ذلك تم الاتفاق مع قائد منظمة الأرجون (الأيتسل) في أول يونيه على حل منظمته العسكرية ووضع إمكاناتها العسكرية تحت تصرف قيادة قوات الدفاع الإسرائيلية.

وفي ظل عملية إعادة التنظيم أنشأت القيادة الإسرائيلية أربع قيادات للجبهات الإسرائيلية (الشمالية، والوسطى، والقدس، والجنوبية)، إلا أن الخلاف بين رئاسة الأركان الإسرائيلية و"بن جوريون" حول اختيار قادة هذه الجبهات أجل وضع هذه القيادات موضع التنفيذ باستثناء جبهة القدس التي كان يجري التحضير للعمليات فيها فور انتهاء الهدنة، وعُين لقيادتها "إيجال آلون" آخر قادة البالماخ قبل دمجها في جيش الدفاع الإسرائيلي.

************************
[1] لم يكن لدى القوات الجوية العربية أية مقاتلات ليلية في ذلك الوقت.