المبحث السابع
تطور الحركة الوطنية الفلسطينية

(1920 ـ 1939)
أولاً: مرحلة الكفاح السياسي ضد المشروع الصهيوني (1920 ـ 1935)
اتسمت الحركة الوطنية الفلسطينية خلال هذه المرحلة باعتمادها على العمل السياسي في التعبير عن موقفها الرافض للمشروع الصهيوني في فلسطين، وإن تخلل هذه المرحلة بعض الإنتفاضات الثورية التي تفجرت دون تخطيط سابق نتيجة لانعكاسات السياسة البريطانية الرامية إلى تهويد فلسطين من ناحية والاستفزازات اليهودية من ناحية أخرى.
فمنذ صدور وعد بلفور عمل عرب فلسطين على تشكيل تنظيم سياسي يعبر عن إرادتهم يواجهون به سياسة حكومة الانتداب والنشاط الصهيوني في فلسطين، فتأسست في البداية الجمعيات الإسلامية والمسيحية التي قادت الحركة الوطنية خلال فترة الحكم العسكري البريطاني، وقامت تلك الجمعيات بتنسيق نشاطها السياسي مع الحركة العربية العامة التي اتخذت من دمشق مقراً لها.
وكانت مذكرات الاحتجاج والرفض والمؤتمرات الوطنية هي وسيلة تلك الجمعيات في البداية للتعبير عن موقف الحركة الوطنية الرافض لسياسة التهويد، فبالإضافة إلى مذكرات الاحتجاج التي قدمتها تلك الجمعيات إلى الإدارة العسكرية، أرسل المؤتمر الفلسطيني الأول ـ الذي كان منعقداً في القدس ـ مذكرة بتاريخ 3 فبراير 1919 إلى مؤتمر الصلح في باريس عبر فيها المؤتمر عن رفض الشعب الفلسطيني لتصريح بلفور والهجرة اليهودية إلى فلسطين، كما قدمت الجمعية الإسلامية المسيحية عريضة مماثلة.
وعندما منعت الإدارة البريطانية عقد المؤتمر الفلسطيني الثاني الذي دعت إليه اللجنة التنفيذية للمؤتمر الأول في فبراير 1920، بادر ممثلو فلسطين في دمشق إلى عقد المؤتمر هناك في نفس الشهر، حيث اتخذ عدة قرارات تلخصت في رفض الهجرة اليهودية، واعتبار فلسطين جزءاً من سورية، والمطالبة بالاستقلال التام وخروج المحتلين من فلسطين.
ولم يمض ثلاثة أشهر على قرار الإدارة البريطانية بمنع عقد المؤتمرات وحظر عقد الاجتماعات والمظاهرات على الفلسطينيين، حتى انفجرت انتفاضة شعبية في مدينة القدس أثناء الاحتفال بمولد النبي خلال الأسبوع الأول من أبريل 1920، نتيجة للإستفزازات الصهيونية، وسرعان ما انتشرت المظاهرات في سائر أنحاء فلسطين وتحولت إلى صدام بين الفلسطينيين من ناحية والشرطة البريطانية واليهود من ناحية أخرى، مما أدى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحي من الجانبين قبل أن تسيطر القوات البريطانية على الموقف.
وعلى أثر تلك الإنتفاضة، بادرت الإدارة العسكرية البريطانية إلى تشكيل لجنة عسكرية للتحقيق (لجنة بالين)، وانتهت تلك اللجنة في تقريرها إلى أن الاضطرابات ترجع إلى يأس العرب من تحقيق الوعود المقطوعة لهم بالاعتراف باستقلالهم، وإلى اعتقادهم أن تصريح بلفور هو اعتداء على حقوقهم.
وجاء احتلال الفرنسيين لدمشق وتقويض الحكم العربي في سورية في الرابع والعشرين من يوليه 1920 صدمة للفلسطينيين الذين كانوا يطالبون بالوحدة مع سورية. وعلى ذلك قرر المؤتمر الفلسطيني الثالث، الذي عُقد في حيفا خلال الفترة من 13 إلى 19 ديسمبر من نفس العام، المطالبة بحكومة فلسطينية مستقلة على عكس المؤتمر الثاني الذي طالب بالوحدة مع سورية.
وعندما حضر "ونستون تشرشل" وزير المستعمرات إلى القدس في 28 مارس من العام التالي عرضت عليه القيادات الفلسطينية مطالبها، إلا أنه رفض تلك المطالب، موضحاً التزام بلاده بوعد بلفور وإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وإزاء السياسة البريطانية الرامية إلى تهويد فلسطين، واستمرار تدفق المهاجرين وسلسلة القوانين التي أصدرها هربرت صموئيل عام 1920، عمَّت المدن الفلسطينية انتفاضة عارمة، بدأت في مدينة يافا في الأول من مايو 1921، على أثر احتكاكات بين العرب والمتظاهرين اليهود بمناسبة عيد العمال، وتفاقمت الأمور فهجم الثائرون على مركز الهجرة الصهيوني في يافا وعلى بعض المستعمرات اليهودية بين يافا وطولكرم وألحقوا بها خسائر كبيرة وإنبرت القوات البريطانية للدفاع عن اليهود، واستمرت الاضطرابات خمسة عشر يوماً أسفرت عن خسائر كبيرة بين الجانبين (48 شهيداً و75 جريحاً عربياً في مقابل 47 قتيلاً و146 جريحاً يهودياً). وكما تمخضت انتفاضة القدس عن ظهور موسى كاظم الحسيني كأول زعيم للحركة الوطنية الفلسطينية، فقد تمخضت انتفاضة مايو عن تأكيد الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين من عرب فلسطين الذين اشتركوا في تلك الانتفاضة جنباً إلى جنب.

وعلى أثر الإنتفاضة السابقة بادرت الحكومة البريطانية إلى تشكيل لجنة تحقيق برئاسة "السير توماس هايكرفت" قاضي قضاة فلسطين، وأرجع تقرير اللجنة أن السبب في الأحداث السابقة يرجع إلى:
1. معارضة عرب فلسطين للصهيونية وسياسية الحكومة البريطانية الرامية إلى إقامة وطن يهودي في بلادهم.
2. المركز المتميز الذي تتمتع به الجمعية الصهيونية في فلسطين الذي جعلها حكومة داخل الحكومة.
3. تدفق المهاجرين اليهود وما يمثله ذلك من خطر على عرب فلسطين، بعد نشوء الصهيونية السياسية التي تشجع اليهود على الهجرة إلى فلسطين والاستيلاء عليها.
وكانت انتفاضة مايو دافعاً إلى عقد المؤتمر الفلسطيني الرابع في القدس في الفترة من 29 مايو إلى 5 يونيه عام 1921، حيث قرر ذلك المؤتمر إرسال وفد فلسطيني برئاسة موسى كاظم الحسيني لشرح القضية الفلسطينية وتقديم مطالب عرب فلسطين إلى الحكومة البريطانية. إلا أن الوفد لم يستطع طوال عام قضاه في بريطانيا أن يغير من سياسة الحكومة البريطانية تجاه فلسطين، وأوفد ذلك الوفد خلال وجوده في لندن ثلاثة من أعضائه إلى جنيف للاشتراك في المؤتمر السوري الفلسطيني الذي دعا إليه حزب الاتحاد السوري، ولعرض القضية أمام أوساط عصبة الأمم، وقدم المؤتمر بياناً إلى رئيس عصبة الأمم يطالب فيه باستقلال سورية ولبنان وفلسطين وإلغاء تصريح بلفور.
وخلال وجود الوفد الفلسطيني في لندن، أطلعته الحكومة البريطانية على مشروع دستور لفلسطين، فوجده لا يفي بالحد الأدنى من المطالب الوطنية، وطالب أن يضمن ذلك الدستور الحقوق السياسية والاقتصادية للشعب الفلسطيني التي تجاهلها الدستور المقترح كما تجاهلها وعد بلفور من قبل، وأن ينص الدستور على إقامة حكومة وطنية مستقلة، إلا أن الحكومة البريطانية لم توافق على المطالب الفلسطينية لأنها تحول دون تنفيذ وعد بلفور.
وعندما أصدر "ونستون تشرشل" في 22 يونيه عام 1922 بيان سياسة الحكومة البريطانية في فلسطين (الكتاب الأبيض لعام 1922) على نحو ما سبق ذكره، قدَّم الوفد الفلسطيني في لندن مذكرة مؤرخة في 17 يونيه من نفس العام إلى وزارة المستعمرات، هاجم فيها ما جاء في الكتاب الأبيض، واتهم الحكومة البريطانية بأنها لن تقرر الحكم الذاتي إلا إذا أصبح اليهود أغلبية، وطالب الوفد بتشكيل حكومة وطنية مسؤولة أمام برلمان منتخب من قِبَل سكان البلاد المسلمين والمسيحيين واليهود.
وفي فلسطين رفضت كافة فئات الشعب العربي بيان تشرشل، كما أعلنوا رفضهم للانتداب البريطاني وطالبوا بإنشاء حكومة وطنية مستقلة، وعندما عاد الوفد الفلسطيني بخُفَّى حُنين في 21 أغسطس 1922 ـ بعد أسبوعين من تصديق عُصبة الأمم على صك الانتداب ـ عُقد المؤتمر الفلسطيني الخامس في اليوم التالي واستمرت جلساته حتى الخامس والعشرين من أغسطس. وبعد الاستماع إلى تقرير الوفد الفلسطيني العائد ومناقشة شتى جوانب الموضوع أصدر المؤتمر في جلسته الختامية عدة قرارات كان أبرزها: رفض دستور فلسطين الجديد، ومقاطعة انتخابات المجلس التشريعي، وتأسيس مكتب عربي فلسطيني في لندن، بالإضافة إلى تشكيل جمعيات إسلامية مسيحية في كافة أقضية فلسطين، ومقاطعة اليهود، ونشر التوعية بين الجماهير لكشف أهداف الصهيونية ووسائلهم، وفي أول سبتمبر أصدرت اللجنة التنفيذية للمؤتمر بياناً طالبت فيه المواطنين بمقاطعة انتخابات المجلس التشريعي المقترح، وهو ما أدى إلى فشل مشروع ذلك المجلس.
وعندما تقرر في 27 أكتوبر عام 1922 عقد مؤتمر لوزان بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا توجه وفد فلسطيني برئاسة موسى كاظم الحسيني إلى لوزان لعرض قضية بلاده، إلا أنه لم يُسمح لذلك الوفد بالإشتراك في المؤتمر، فتوجه إلى لندن للقاء جديد مع وزير المستعمرات البريطانية في محاولة دؤوبة لتغيير الموقف البريطاني من القضية الفلسطينية، إلا أن الوفد عاد خائباً.
وفي العاشر من يونيه 1923 عُقد المؤتمر الفلسطيني السادس في يافا الذي استمر حتى عشرين من نفس الشهر، لبحث مشروع المعاهدة التي استدرجت بريطانيا فيها الملك حسين للاعتراف رسمياً بالأوضاع السياسية التي أقامتها في المشرق العربي، نظير اعترافها باستقلال العرب في العراق وشبه الجزيرة العربية (ما خلا عدن) وشرق الأردن، وقرر المؤتمر رفض مشروع المعاهدة المشار إليها لعدم اعترافها باستقلال فلسطين وتكريسها للسياسة البريطانية الرامية إلى إنشاء الوطن اليهودي فيها، وطالب المؤتمر بتشكيل حكومة نيابية مستقلة.
كما قرر المؤتمر إرسال وفد جديد إلى لندن برئاسة موسى كاظم الحسيني يضم الدكتور ناجي الأصيل مندوب الملك حسين في المفاوضات التي تدور بينه وبين الخارجية البريطانية للدفاع عن قضية فلسطين طبقاً لقرارات مؤتمر يافا وتعديل مشروع المعاهدة الهاشمية البريطانية بما يحقق مطالب الشعب العربي في فلسطين، إلا أن جهود الوفد الفلسطيني لم تكلل بالنجاح لإصرار الحكومة البريطانية على موقفها تجاه إنشاء الوطن القومي اليهودي في هذا البلد.
وخلال السنوات التالية وحتى عام 1928 شهدت الحركة الوطنية الفلسطينية انقساماً حاداً نتيجة الخلافات والصراع العائلي بين آل الحسيني الذين كانوا على رأس الحركة الوطنية ويتبنون سياسة عدم التعاون مع حكومة الانتداب وآل النشاشيبي الذين كانوا يتبنون سياسة أكثر اعتدالاً ويقودون المعارضة ضد المجلس الإسلامي الأعلى الذي بدأ يبرز كقوة سياسية تحت رئاسة مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني، وأدى الخلاف بين هاتين الكتلتين إلى إحداث شرخ في الحركة الوطنية أدى إلى تشزذمها وظهور عدد من الأحزاب السياسية المعارضة للجنة التنفيذية العربية، مثل الحزب الوطني الذي تشكل برئاسة الشيخ سليمان التاجي الفاروقي في خريف عام 1923، وحزب الزراع الذي تشكل من مجموعة من الأحزاب الزراعية الصغيرة، وحزب الأهالي الذي تأسس في نابلس عام 1926.
وأدى تزايد معدلات الهجرة واتساع مساحة الأراضي التي تحولت إلى أيدي اليهود والمؤسسات الصهيونية، وتفاقم البطالة بين العمال العرب بعد تنفيذ شعار "العمل العبري" ـ الذي تسبب في طرد الفلاحين من الاراضي التي تحولت إلى أيدي اليهود، وحرم على الفلسطينيين العرب العمل في المستعمرات والمنشآت اليهودية ـ إلى الإسراع لعقد المؤتمر الفلسطيني السابع برئاسة موسى كاظم الحسيني في 5 يونيه 1928، إلا أن ذلك المؤتمر لم يأت بجديد وكان كل ما حققه هو تأييد قرارات المؤتمرات السابقة.
وأدت مضاعفات السياسة البريطانية الماضية بعزم لايلين في تهويد فلسطين خلال عقد العشرينيات وعجز القيادات العربية عن إحداث التغيير المطلوب في تلك السياسة إلى حالة من الغليان الشعبي قابلة للانفجار عند أي استفزاز يهودي، وهو ما حدث في أغسطس عام 1929 عندما تفجرت انتفاضة فلسطينية جديدة نتيجة الاستفزاز اليهودي حول حائط المبكى، حيث قامت المظاهرات اليهودية يومي 14 و15 أغسطس (خلال عيد الصيام) تهتف مطالبة به، فانطلقت مظاهرة عربية مضادة من المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة في اليوم التالي، وأزال المتظاهرون كل ما وضعه اليهود من أستار وأدوات للعبادة أمام الحائط، مما أدى إلى صدام بين المسلمين واليهود سرعان ما سرى في مدينة القدس وضواحيها، وامتدت الانتفاضة إلى الخليل ونابلس وحيفا وعكا ويافا وبيسان وصفد.
واضطرت حكومة الانتداب إلى طلب المزيد من القوات البريطانية من مصر لمواجهة الانتفاضة التي استمرت نحو أسبوعين وخلفت 133 قتيلاً و399 جريحاً من اليهود، في مقابل 116 شهيداً و232 جريحاً من العرب كان معظمهم برصاص القوات البريطانية.
وأدت تلك الانتفاضة الثورية إلى تحريك المياه الراكدة، حيث قرر العرب مقاطعة الصهاينة اقتصادياً، كما أرسلت الحكومة البريطانية ـ بعد أن هدأت الأوضاع ـ لجنة تحقيق برئاسة القاضي "والتر شو" في مارس 1930، ثم لجنة "جون سمبسون" في اغسطس من نفس العام، وعلى ضوء تقريري هاتين اللجنتين أصدرت الحكومة البريطانية كتابها الأبيض لعام 1930 على نحو ما سبقت الإشارة إليه في بداية هذا الفصل، وهو ما لاقى قبولاً حسناً من العرب الذين تصوروا أن حكومة الانتداب ستحد من الهجرة اليهودية وتسرب الأراضي الفلسطينية إلى أيدي اليهود والمؤسسات الصهيونية على ضوء ما جاء في ذلك الكتاب، إلا أن تراجع الحكومة البريطانية تحت الضغط الصهيوني زاد من نقمة العرب على كل من الحكومة البريطانية والصهيونيين، وأدركت جميع الأحزاب أنه لابد من مواجهة السياسة البريطانية والصهيونية على حد سواء، إلا أن مواجهة السياسة البريطانية انتقلت إلى صدارة العمل الوطني خلال المرحلة التالية.
وشهدت السنوات الأولى من عقد الثلاثينيات عدة مؤتمرات لتدارس سبل مقاومة السياسة البريطانية والحركة الصهيونية، كما شهدت قيام المظاهرات والانتفاضات الثورية التي عبرت عن غضب الجماهير العربية تجاه تزايد معدلات الهجرة اليهودية واستمرار تسريب الأراضي إلى أيدي اليهود.
وكان من أبرز المؤتمرات التي عقدت خلال هذه الفترة، مؤتمر المناضلين العرب الأول الذي عقد في نابلس في الثامنة عشر من سبتمبر 1931، والمؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس في الفترة من 7 إلى 17 ديسمبر من نفس العام، ثم مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني الأول الذي عقد في القدس في الرابع من يناير 1932، والمؤتمر النسائي العربي الأول الذي عقد يوم 28 من نفس الشهر، والمؤتمر الوطني الكبير الذي عقد في يافا في 26 مارس 1933 والذي نادى بتوجيه الكفاح الفلسطيني أولاً إلى الإنجليز لأنهم أصل البلاء، وقرر عدم التعاون مع حكومة الانتداب ومقاطعة البضائع الإنجليزية واليهودية ومنع بيع الأراضي لليهود.
ودعت اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الفلسطيني إلى مظاهرة في القدس يوم 13 أكتوبر من نفس العام يسير فيها أعضاؤها وممثلو زعماء البلاد العربية، وسرعان ما تحولت المظاهرة إلى انتفاضة ثورية ضد القوات البريطانية ، امتدت لستة أسابيع في كافة أنحاء البلاد، وسقط فيها 26 شهيداً و187 جريحاً من عرب فلسطين و56 بين قتيل وجريح من رجال الشرطة، وقد أوضحت لجنة التحقيق التي شكلت في أعقاب الانتفاضة برئاسة القاضي "وليم موريسون"، أن هذه الانتفاضة تختلف عن سابقاتها، فبينما وجهت تلك الانتفاضات ضد اليهود، فإن الإنتفاضة الأخيرة استهدفت حكومة الانتداب التي اتهمها العرب بالانحياز الكامل لليهود.

ثانياً: مرحلة الكفاح المسلح ضد السياسة البريطانية (1935 ـ 1939)
لم يقدر البريطانيون جيداً جذوة النار تحت الرماد، فقد كانت الانتفاضة السابقة مقدمة لأسلوب جديد من العمل الوطني الفلسطيني وهو الكفاح المسلح بعد أن فشلت كافة الجهود السياسية العربية في زحزحة البريطانيين عن موقفهم من تهويد فلسطين.
وكانت بداية الكفاح المسلح هي حركة الشيخ عز الدين القسام التي انطلقت من حيفا إلى غابات الجليل في الشمال في منتصف عام 1935، بعد أن نذر أعضاؤها أنفسهم للفداء وقتال البريطانيين والصهيونيين، إلا أن تلك الحركة وإن لم تعمر طويلاً لاستشهاد قائدها وبعض رفاقه برصاص البريطانيين فإنها كانت القبس الذي أشعل الثورة الفسطينية في العام التالي، فقد دل القسام الجماهير على الطريق وضرب بنفسه المثل على الفداء والاستشهاد غير آبه لجاه أو زعامة، فاستيقظت فلسطين على إستشهاده وبدأ المجاهدون من أتباعه يعودون إلى نشاطهم في قتال البريطانيين والصهيونيين بعد أن أعادوا تنظيم أنفسهم خلال الشهور الأولى من عام 1936[1].
وفي 15 أبريل اشتبكت جماعة من أتباع الشيخ القسام مع مجموعة من الصهاينة في طريق نابلس ـ طولكرم، وقتلت اثنين منهم، فردَّ الصهاينة بقتل اثنين من العمال العرب قرب مستعمرة بتاح تكفا في الليلة التالية مما أدى إلى تأزم الموقف، فقامت مظاهرة عربية في مدينة يافا يوم 19 من نفس الشهر، اشتبك خلالها المتظاهرون مع اليهود، فسقط 7 قتلى و29 جريحاً من اليهود واستشهد اثنان من العرب وجرح خمسة عشر آخرون. فأعلنت سلطات الانتداب قانون الطوارئ ومنع التجوال، مما جعل العرب يعلنون الإضراب العام.
وتحت ضغط الرأي العام قام زعماء الأحزاب الفلسطينية بتوحيد صفوفهم ورأب الصدع بينهم، بعد أن شعروا أن الأحداث تتخطاهم، فتشكلت اللجنة العربية العليا، التي اشترك في عضويتها جميع الأحزاب والهيئات واللجان من المسلمين والمسيحيين العرب، وأُسندت رئاستها إلى الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، وأصدرت اللجنة العليا بياناً عاماً دعت فيه الشعب العربي في فلسطين إلى الإستمرار في الإضراب العام إلى أن تبدل حكومة الانتداب سياستها بوقف الهجرة اليهودية، ومنع انتقال الأراضي إلى اليهود، وتشكيل حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب.
وفي 15 مايو أعلن عرب فلسطين العصيان المدني، وانتقل زمام المبادرة إلى الفلاحين والعمال وبدأت الجماعات المسلحة في الظهور في الشوارع وتزايدت أعمال التخريب التي بدأت بنسف للجسور وامتدت إلى قلب القطارات وقطع خطوط البرق ونسف أنابيب البترول وإحراق المصانع اليهودية واغتيال رجال الشرطة البريطانيين واليهود الذين اشتهر عنهم التنكيل بالعرب، مما اضطر بريطانيا إلى جلب عدد كبير من قواتها من مصر وقبرص ومالطة لتعزيز قواتها في فلسطين، واستعادة السيطرة على الموقف الذي تفجر في ذلك البلد.
وحاولت حكومة الانتداب القضاء على الثورة بأعمال التنكيل وتغليظ العقوبات الجماعية فزادت الثورة اشتعالاً، وأثبت عرب فلسطين خلال هذه المرحلة التي استمرت حوالي ستة أشهر أنهم وحدة مترابطة وضربوا أمثلة رائعة في تحدي قوات الاحتلال.
وجرت في خريف عام 1936 عدة اتصالات بين الملوك العرب والحكومة البريطانية، أسفرت عن وعد الأخيرة ببحث المسألة الفلسطينية بروح الإنصاف عندما يعود الهدوء، مما دفع الملك عبدالعزيز بن سعود والملك غازي ملك العراق والإمام يحي إمام اليمن والأمير عبدالله أمير شرق الأردن إلى توجيه نداء إلى عرب فلسطين يدعونهم فيه إلى إنهاء الثورة حقناً للدماء استناداً إلى وعد الحكومة البريطانية بتحقيق العدل.
وبعد عرض الموضوع على اللجان القومية التي تشكلت في بداية الثورة وموافقة الأخيرة على الاستجابة لنداء الملوك العرب، قررت اللجنة العربية العليا بالإجماع أن تدعوا الشعب العربي في فلسطين إلى الامتثال للهدوء وإنهاء الإضراب والثورة اعتباراً من يوم 12 أكتوبر 1936.
وما أن هدأ الموقف حتى أرسلت الحكومة البريطانية لجنة التحقيق الملكية برئاسة "اللورد بيل" التي اقترحت تقسيم فلسطين على نحو ما سبق ذكره، وهو ما رفضه الفلسطينيون وأيدهم في ذلك كل البلدان العربية عدا إمارة شرق الأردن التي كان يطمع أميرها عبدالله في أن يصبح ملكاً على الدولة المقترحة في مشروع التقسيم، ودعت لجنة الدفاع عن فلسطين في سورية إلى مؤتمر عربي عام عُقد في بلودان (قرب دمشق) في السابع من سبتمبر 1937 وحضره وفود من جميع الأقطار العربية المهتمة بالقضية الفلسطينية (مصر والعراق ولبنان وسورية وشرق الأردن وفلسطين)،

واستمرت جلسات المؤتمر ثلاثة أيام اتخذ في نهايتها عدة قرارات كان أبرزها:
1. تأكيد عروبة فلسطين وأنها جزء لا يتجزأ من الوطن العربي.
2. رفض ومقاومة تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها.
3. الإصرار على إلغاء الانتداب وتصريح بلفور، وإبدالهما بعقد معاهدة مع بريطانيا تضمن للشعب العربي في فلسطين استقلاله وسيادته.
4. تأليف حكومة دستورية يكون للأقليات فيها نفس حقوق الأغلبية وواجباتها وفقاً للمبادئ الدستورية العامة.
5. تأييد وقف الهجرة اليهودية على الفور، وإصدار تشريع يمنع انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود.
وفي أعقاب مؤتمر بلودان اندلعت الثورة الفلسطينية مرة أخرى بشكل أكثر عنفاً، فقد رأى الفلسطينيون أن الحل الذي جاءت به لجنة بيل بعد الثورة التي امتدت ستة أشهر، وراح ضحيتها ألف شهيد كان أسوأ من الحالة التي اندلعت بسببها الثورة.
وتوافد المتطوعون والمجاهدون من كافة الأقطار العربية لنصرة إخوانهم في فلسطين وشاركوهم شرف الجهاد والاستشهاد، ونجح الثوار في السيطرة على أجزاء كبيرة من فلسطين، مما دفع حكومة الانتداب إلى طلب العون من القوات البريطانية في الدول المجاورة حتى وصل عدد تلك القوات في فلسطين إلى خمسين ألف جندي.
ولكن الثورة مضت في طريقها وهاجمت المطارات والمعسكرات البريطانية والمخافر وقوافل السيارات العسكرية، في الوقت الذي استمرت فيه عمليات نسف خطوط المواصلات والسكك الحديدية ومحطاتها لشل حركة القوات البريطانية.
ولم تفلح كافة إجراءات القمع في وقف تيار الثورة التي شارك فيها كل فئات الشعب الفلسطيني، وفي إحصاء رسمي قدرت السلطات البريطانية حوادث العنف خلال فترة الثورة التي امتدت ما يقرب من سنتين ـ بعشرة آلاف حادث، وعدد القتلى البريطانيين بمائتي وأحد عشر قتيلاً وخمسمائة جريح، كما قدر عدد من سقط من اليهود بنحو ثلاثمائة وخمسين قتيلاً وستمائة جريح، في الوقت الذي استشهد فيه ما يقرب من ألفين من العرب كان معظمهم من الفلسطينيين، ولم تهدأ الثورة أو تتوقف حتى إندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939.
أبان تصاعد أحداث الثورة حضر إلى فلسطين لجنة "وود هيد" الفنية لبحث سبل تحقيق التقسيم الذي اقترحته اللجنة الملكية (لجنة بيل)، إلا أن اللجنة رأت بعد دراسة الموقف على الطبيعة استحالة تنفيذ ذلك التقسيم الذي يعارضه العرب ويتحفظ عليه اليهود، مما دعا الحكومة البريطانية إلى صرف النظر عن فكرة التقسيم والدعوة إلى مؤتمر يعقد في لندن يحضره كل من مصر والعراق والمملكة العربية السعودية وشرق الأردن وممثلون عن العرب واليهود في فلسطين.
وفيما يختص بالفلسطينيين، فقد وجهت الحكومة البريطانية في البداية الدعوة إلى حزب الدفاع الوطني دون غيره، إلا أن النشاشيبي ـ رئيس الحزب ـ وأنصاره رفضوا تلك الدعوة ورأوا أن اللجنة العربية العليا هي الممثل الشرعي لشعب فلسطين، ومن ثم تشكل الوفد الفلسطيني من بعض أعضاء تلك اللجنة، وقبل انعقاد المؤتمر في أواخر ديسمبر 1938، عقدت الوفود العربية المشتركة في مؤتمر لندن مؤتمراً عربياً تمهيدياً في القاهرة بهدف توحيد الآراء والمطالبة العربية بإستقلال فلسطين وإقامة حكومة عربية يمثل فيها وزيران يهوديان، وترتبط مع بريطانيا بمعاهدة تحالف، وجعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية في البلاد، مع وقف العمل بتصريح بلفور، وبقاء القوات البريطانية في فلسطين حتى يتم تكوين جيش وطني.
وفي السابع من فبراير عام 1939 تم افتتاح مؤتمر لندن، وفي البداية رفض العرب الجلوس على مائدة واحدة مع اليهود، مما اضطر "تشمبرلين" رئيس المؤتمر إلى الإجتماع بكل فريق على حدة، ومنذ اللحظة الأولى للمباحثات تمسك العرب بمبدأ إيقاف الهجرة اليهودية وانتقال ملكية الأراضي لليهود كأساس للاستمرار في المباحثات، وتقدمت الحكومة البريطانية خلال المؤتمر باقتراح يتضمن قيام حكومة مستقلة مرتبطة بمعاهدة مع بريطانيا، ووضع دستور يتضمن حقوق الإقليميات والوطن القومي اليهودي، وأن تكون هناك فترة انتقال قبل قيام تلك الحكومة، أما بالنسبة للهجرة اليهودية فقد نصَّ الاقتراح البريطاني على السماح بالهجرة طوال خمس سنوات بمعدلات تسمح بوصول عدد اليهود إلى ثلث السكان في نهاية تلك المدة.
إلا أن التصريح البريطاني قوبل بمعارضة شديدة من كلا الطرفين، فمن ناحية لم يوافق العرب عليه لإصرار الحكومة البريطانية على عدم تحديد مدة زمنية لفترة الانتقال، ومن ناحية أخرى رفض اليهود الاقتراح البريطاني لأنهم رأوا أنه يتضمن المطالب العربية والتحلل من تصريح بلفور، فضلاً عن رفضهم الإندماج في دولة واحدة يحكمها العرب.
وعلى أثر إخفاق مؤتمر لندن في التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية، في الوقت الذي كانت فيه الأحداث تنذر باندلاع الحرب العالمية الثانية، أصدرت الحكومة البريطانية كتابها الأبيض لعام 1939 على نحو ما سبق ذكره لتهدئة الخواطر العربية وتسكين الأوضاع في المنطقة التي كانت في أمس الحاجة إلى تعاون شعوبها خلال الحرب المقبلة.
وبالرغم من رفض العرب واليهود لما جاء في ذلك الكتاب مع اختلاف أسباب كل منهم، فقد أعلنت الحكومة البريطانية عزمها على تنفيذ ما جاء فيه سواء رضي الطرفان أم لم يرضيا.
[1] كان الشيخ عز الدين القسام أحد الثوار السوريين الذين أشعلوا الثورة ضد الفرنسيين في سورية عام 1919 ـ 1920، وحكم عليه غيابياً بالإعدام فلجأ إلى حيفا عام 1922، حيث عمل مدرساً فرئيساً لجمعية الشبان المسلمين وإماماً لجامع الاستقلال، وقد أحس الرجل بخطر الاستعمار الصهيوني، فكان يدعو إلى وحدة الصف والجهاد المقدس ضد المحتلين، فالتف الناس من حوله وشكل جماعته التي نذرت نفسها للجهاد، ونظم القسام أتباعه في البداية في خمس لجان هي: لجنة الدعوة، ولجنة التدريب العسكري، ولجنة التوعية، ولجنة الرصد، ثم لجنة الشؤون الخارجية. وأرسل القسام أحد أتباعه إلى الحاج أمين الحسيني يخبره عن عزمه على إعلان الثورة في الشمال طالباً منه إعلان الثورة في الجنوب، إلا أن المفتي رأى أن الوقت لم يحن بعد. فإنطلق الشيخ عز الدين وجماعته إلى غابات الجليل في الشمال في منتصف عام 1939، حيث بدأ جهاده ضد البريطانيين، إلا أنه لم يستمر طويلاً، فقد استشهد وبعض رفاقه في إحدى معاركهم ضد القوات البريطانية، ومن بقي منهم كانوا مشاعل للثورة الفلسطينية التي اندلعت في العام التالي.