خاتمة

تعرَّض الشرق الأقصى لضغوط الغرب في صورة موجة إمبريالية اجتاحت المنطقة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتمثَّلت تلك الضغوط في حربَين شنتهما بريطانيا على الصين، وأقامت —مع غيرها من الدول الأوروبية— علاقاتها مع الصين على أساس ما عُرِف «بدبلوماسية الزوارق الحربية» ولعبت تلك السياسة دورًا هامًّا في إجبار اليابان على فتح موانيها للتجارة الدولية، كما تمثلت تلك الضغوط في التحديات التي واجهت الأسس التقليدية لثقافة البلدَين (الصين واليابان) نتيجة لزحف المؤثرات الغربية —من علوم، وأفكار وأنماط حياة وغيرها— على تلك المنطقة.

وتصدت كل من الصين واليابان للضغوط الغربية بوسائل متشابهة كالنفور، والعداء، والتركيز على التراث التقليدي، ثم التسليم بتفوق الغرب في الثروة والقوة… ولكنهما اختلفا مِن حيث أسلوب الاستجابة لتحدي الغرب… ففي الصين، وقفت الكنفوشية سدًّا منيعًا في طريق إدخال أي تغيير على السياسيات والأفكار، مما أدى إلى قيام نوع من «وحدة الهدف» بين الرجعية الصينية والقوى الأجنبية صاحبة الامتيازات، وترتب على ذلك تداعي النظام الإمبراطوري وانطلاق عصر الثورات.

أمَّا في اليابان، فقد نجح القوم في «استخدام البرابرة لمواجهة البرابرة»، فاستفادوا من علوم الغرب وثقافته في صياغة مشروع للنهضة رمى إلى بناء دولة (حديثة)، على درجة من القوة تمكنها من الوقوف مع الغرب على قدم المساواة، ومن ثَم تفرَّقت السبل باليابان والصين، فعلى حين اتجهت الأولى نحو التصنيع وإقامة أداة عسكرية عصرية قوية، وقعت الأخرى فريسة للفاقة والحروب الأهلية والأطماع التوسعية للدول الكبرى، بل بلغت المحنة ذروتها عندما هُزِمت الصين أمام اليابان.

وكانت النهضة اليابانية (عصر مايجي) تعبيرًا عن الطريق الذي اختارته اليابان بفضل قيادتها السياسية التي انتهجت سبيل الإصلاح، ونجحت في تحقيقه واتخذت منه أداةً لمواجهة التحدي الغربي، ولذلك كانت تجربة النهضة اليابانية تجربة فريدة، لم تجذِب أنظار الباحثين فحسب، بل كانت موضع جدل دار بينهم حول تحديد طبيعة المجتمع الياباني في ذلك العصر، شارك فيه المؤرِّخون اليابانيون فيما بعد، وعكست تحليلاتهم للتجربة المنطلقات الثقافية والفكرية التي جاءوا منها.

ورغم تعدد الاتجاهات في تفسير النهضة اليابانية الحديثة، فقد خلقت استجابة اليابان للتحدي الغربي مجتمعًا جديدًا، ألقينا الضوء عليه في الفصول السابقة من هذا الكتاب، وبذلك استطاعت اليابان أن تتعامل مع الدول الغربية على قدم المساواة، على حين بقي المجتمع الصيني —الذي واجه نفس التحدي— على ما هو عليه، متمسِّكًا بتلابيب القديم، رافضًا للغرب ولكل ما يأتي به.

ولما كانت تجربة النهضة اليابانية تشغل بال المثقفين العرب، وكثيرًا ما يُشار إليها باعتبارها «نموذجًا» يمكن الاهتداء به في علاج ما شاب نهضة أمتنا من أوجه القصور، يجب أن نتوقف أمام سؤال قد يعنُّ للقارئ: إلى أي مدًى يمكن أن تفيد البلاد النامية (أو ما كان يُسمَّى بالعالم الثالث) بتجربة النهضة اليابانية، وما مدى إمكان تكرار التجربة في بلاد «شرقية» أخرى؟!

يروج بعض الكتاب السياسيين اليابانيين لإمكانية استفادة بلاد العالم الثالث —التي تتلمس طريقها إلى النهضة، وتسعى سعيًا حثيثًا لتنمي اقتصادياتها— من تجربة النهضة اليابانية، ويصبُّ هذا الرأي —عندهم— في الاتجاه القومي الياباني الموروث مِن ذلك العصر، من حيث قدرة اليابان على النهوض بالشرق، والدور الحضاري الذي يقع على عاتق اليابان لتمدين الشرق الذي كان جوهر الدعاية المصاحبة للتوسع الياباني الإمبريالي في آسيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

ولكننا لا نشارك أولئك الكتاب الرأي؛ فقد اتخذت تجربة النهضة اليابانية مسارًا فريدًا —يرجع إلى ظروفها التاريخيَّة الخاصة— يجعلها نموذجًا لا يمكن أن يتكرر تكرارًا نمطيًّا، لعوامل عدة، من بين هذه العوامل أن اليابان تمكنت مِن تنمية وتكوين سوقها الوطنية المستقلة الخاصة بها —إلى حدٍّ ما— في أواخر عصر طوكوجاوا بالقدر الذي جعل النمو الاقتصادي الحديث ممكنًا، وفتح الطريق أمام الانتقال إلى المرحلة الرأسمالية بفضل ما حققه رأس المال التجاري الياباني مِن تراكم أغنى البلاد عن اللجوء إلى الممولين الأجانب على نطاق واسع، على نحو ما حدث في مصر —مثلًا— على عهد محمد سعيد باشا والخديوي إسماعيل، أما بلاد العالم الثالث —في آسيا وأفريقيا— فكانت مستعمرة أو شبه مستعمرة، ومن ثَم كانت أسواقها ترتبط بالسوق العالمية (والإمبريالية خاصةً) حيث تضخ فوائض اقتصادها في خزائن بنوك الدول الأوروبية التي تفرض عليها هيمنتها: وكان على تلك البلاد أن تسعى لتستقل بسوقها الوطنية أولًا، بما يترتب على ذلك مِن تغيُّر في طبيعة الإنتاج الذي يقتصر على إنتاج المواد الأولية في الأغلب والأعم، ولا يتحقق ذلك إلا بإعادة هيكلة الاقتصاد وتعديل توجهاته تعديلًا جذريًّا وهو أمر من الصعوبة بمكان.

خاتمة 1248
طوكيو الحالية.

ومن أهم عوامل تميُّز تجربة النهضة اليابانية عن ظروف بلاد العالم الثالث، أن اليابان استطاعت —في ظروف تاريخية معينة— أن تتحول إلى قوة إمبريالية، ومن ثَم استطاعت أن تحقق نموًّا اقتصاديًّا سريعًا، بفضل ما نهبته من ثروات البلاد الآسيوية التي وقعت تحت نيرها، وخاصة كوريا والصين وبذلك اعتمدت اليابان في نموها الاقتصادي المتصاعد على نهب موارد الشعوب التي وقعت تحت نيرها، أما بلاد العالم الثالث فكانت ضحية النهب الإمبريالي، وكان تخلفها نتيجة طبيعية لما تعرضت له من استنزاف لمواردها الاقتصادية.

وأخيرًا، نجحت اليابان في توظيف تراثها الثقافي الذي يرقى إلى مستوى العقيدة (الشنتو) في تعبئة اليابانيين لخدمة مشروع النهضة في إطار من التضحية ونكران الذات، جعل من معوقات سياسة التنمية أمرًا غير ذي بال، وأدى إلى تجنيب البلاد الكثير من المخاطر الاجتماعية المصاحبة للنمو الرأسمالي.

ومن ثَم لا تعد تجربة النهضة اليابانية نموذجًا تفيد به شعوب العالم الثالث، وتتخذ منه مثلًا يُحتذى به، فليس هناك نمط واحد للهيكل الاجتماعي في تلك البلاد، وإنما تتعدد الأنماط وتختلف باختلاف تلك المجتمعات عن بعضها البعض ولعل أهم ما يمكن الاستفادة به من تجربة النهضة اليابانية بالنسبة لبلاد العالم الثالث هو ذلك النجاح الملحوظ الذي حققته التجربة اليابانية في هضم المؤثرات الثقافية الغربية وتمثلها في نسيج جديد من الثقافة الوطنية، يوفر سبيل الاستفادة منها وتوظيفها لخدمة مشروع النهضة.
================================