خاتمة
خاتمة Ocia2035
أمَّا بعد:
فهذا ما استطعت التقدم به في هذا البحث الذي رجوت أن يكون تجديدًا في دراسة السنة من ناحية الموضوع -وهو مدرسة الحديث في مصر في أهم فترات أزدهار دراسته فيها- ومن ناحية المنهج التفصيلي الذي عولت عليه في عرضي له، وإبرازه للقارئ الكريم إما في صميم الموضوع وكنهه، وإما فيما لا بد منه لتصويره والإحاطة به، كالموضوعات التي تعرضت فيها لغير مصر من الأماكن، وتعرضت فيها لغير الزمن الذي حددته للبحث، ولغير الأعلام الذين ينتمون إلى هذا البلد، ضرورة الربط العلمي في التطوير، وبناء اللاحق على السابق، وربط المعاصر بالمعاصر بما تدعو إليه ضرورة الأخذ والإعطاء، مهما تباعدت الأماكن أو تقاربت، ومهما اختلفت الأشخاص والأجناس؛ إذ كان المهم أن يبرز الموضوع مستوفيًا جميع جوانبه، واضحًا للقارئ مهما كلف ذلك من استعانة بوسائل إيضاحه التي استدعتها ضرورة البحث فيه، وهذا ما دعاني إلى أن أتناول في دراسة الأعلام تراجم مختصرة للصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الزمن المحدد لهذا البحث، باعتبار أنهم الأسس الأولى لهذه المدرسة الحديثية في مصر، كما دعاني هذا إلى بذل الجهد في محاولة استقصاء أهم المؤلفات الحديثية التي سبقت العصر المقصود بالبحث في كل نوع تناولته بالدراسة من أنواع علوم الحديث، إذ كانت هذه الكتب هي مواد هذا العصر التي يرجع إليها بالاقتباس أو التهذيب، أو الاختصار أو الشرح، أو النسج على منوالها في جمع المعارف الحديثية، وإن اختلفت المناهج وتعددت المسالك ولذلك أوردت بين يدي دراستي لكتب الأحكام عديدًا من أسماء الكتب التي سبقت مؤلفات علماء مصر في أحاديث هذا النوع، كما أوردت دراسات لمناهج بعض هذه الكتب، حتى يظهر للقارئ مسلك المتقدمين في التأليف، وتتضح أمامه الصورة في تطوره وتدرجه في نقل العلوم الحديثية وتدوينها، وسلكت هذا الطريق في دراسة كتب الترغيب والترهيب، وفي دراسة كتب الجوامع، وكتب الزوائد، وكتب توضيح المهمات، وغيرها مما تضمنته الفصول الثمانية في دراسة المدونات الحديثية.

ولقد بذلت أقصى الجهد في تتبع موضوع البحث في مظانه من كتب الأصول الأولى المعتمدة، سواء منها ما هو في متن السنة، أو فيما يتعلق به من علوم المصطلح والتخريج والرجال وغير ذلك.

وقد عزوت كل ما استقيته من هذه الأصول إلى مراجعه, وأثبته في هوامش الصفحات تقريبًا للقارئ، وتيسيرًا، له حين يريد المراجعة والتثبت من صحة النقول، وصدق عزوها إلى الأصول، سواء في ذلك ما يتعلق بالأعلام والرجال، وما يتعلق بالمدونات والكتب، وما يتعلق بالأحكام في دراسة هذه المدونات.

ولعل القارئ يرى أنني لم أقتصر في دراسة أي موضوع على مرجع واحد، وإنما طلبته من عدة مراجع، تحقيقًا للعلم، وزيادة في الاطمئنان والتثبت، وربما استدعاني هذا إلى بحث عدة أسفار، أستغرق فيها وقتًا طويلًا أصل فيه الليل بالنهار في محاولة التأكد من جزئية صغيرة تتصل بعلم من أعلام الحديث، أو بمدونة من المؤلفات في السنة، حتى أصل إلى مظنته، ثم أواصل البحث في هذه المظنة حتى أطمئن إلى تحقيق تلك الجزئية، وإلى سلامة عرضها على القارئ -بعد التثبت منها- وقد أمنت العثار والزلل فيما أقدمه من معلومات جهد طاقتي.

ولعل القارئ قد لمس في هذا البحث عدة استطرادات هي في حقيقتها أمور كان يدعو إليها محاولة التثبت، أو توثيق الربط بين ما هو من صميم الموضوع وصلبه، وما يحتاج إليه في تدعيمه وتأكيده.

والواقع أنني حين بدأت محاولتي في كتابة هذا الموضوع لم أكن أتوقع أن يصل حجم البحث فيه إلى ما وصل إليه الآن من الكبر والضخامة، ولكنه شأن العلم وما يدعو إليه من التوافر على الاحتياط، ومحاولة إبرازه كاملًا في كل جوانبه ونواحيه مهما أمكن ذلك، على أنني ما ذكرت شيئًا ثم رأيت بعد إيراده أنه كان ينبغي تركه والإعراض عنه لأنه من الزوائد أو الفضول، بل كان الأمر على العكس من ذلك، لما يتركه من الأثر في إيضاح الحقائق المطلوبة في صميم البحث.

وهل كان يسعنا أن نعرض عن دراسة تراجم أعلام الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم إلى العهد الذي حددنا به موضوع هذا البحث وهم الأساتذة الذين حملوا العلوم والمعارف الحديثية إلى هؤلاء الذين جعلناهم المقصود المهم من هذه الدراسة؟

وهل كان يسعنا أن نحلل الكتب المؤلفة في هذا العهد فقط وللمصريين وحدهم دون أن نبين من رسم لهم طريق التأليف والتصنيف من الأوائل والمتقدمين في مؤلفاتهم في مختلف الموضوعات، وأن نبين كيف اتفق هؤلاء وأولئك فيما اتفقوا فيه، وكيف اختلفوا معهم فيما اختلفوا فيه، وما لتوالي العصور وتجدد الثقافات وتطورها من أثر في ذلك؟

وماذا يضير القارئ أن يصل إلى مائدة شهية حافلة بالأطايب، مما أضنيت نفسي بالتنقيب عنه في بطون الكتب المتعددة، من بيان المراجع الحديثية وإيراد أسمائها وأسماء مؤلفيها وزمان تأليفها -فيما سبق التأليف فيه من الكتاب المناظرة لمؤلفات هذا العصر المقصود- في كل ما تناولته بالدراسة من أنواع علوم الحديث، ليرجع إليها عند إرادة الاستقلال توسعًا في البحث، أو موازنة بينها وبين كتب المتأخرين، وهي لا تتسنى له في مرجع واحد أو مرجعين أو ثلاثة، ولكنها مبعثرة في عدة مراجع يعز تطلبها والعثور عليها؟

ولعل في عرض هذه الجهود ما يصور مدى عناية الأجيال المتلاحقة منذ عصر النبوة، بحمل رسالة الإسلام من كتاب وسنة إلى الناس في كل العهود والأقطار الإسلامية والحفاوة بها، وحياطتها بكل ما يلزم لبثها ونشرها والإفادة بها، بمختلف الأساليب والطرق والمناهج، ثم ما يصور نصيب المدرسة المصرية في الحديث وجهود أعلامها في جميع السنة وتدوينها ونشرها وتقريبها والدفاع عنها، وهو ما نراه واضحًا فيما خلفوه من ثروة دينية وعلمية حديثة، حافلة بما تحويه من دراسات لكل ما تحتاجه دراسة السنة، وتستدعيه ضرورة البحث فيها، وتفهمها على وجهها، متمثلًا في تلك المؤلفات التي لا تحصى كثرة في مختلف علوم الإسلام، وقد بينا ذلك بيانًا تفصيليًّا مسهبًا في هذه الدراسة، بل كان له أكثر نصيب منها.

وقد شاء الله أن تكون تلك الموسعات الضخمة والمؤلفات المتكثرة في علوم الدين بعامة، وعلوم السنة بخاصة، مادة خصيبة لمعالجة قضايا العصر في المشاكل المتعلقة بشئون الدين والدنيا، وفي رد تيار العدوانات التي تفتح فوهاتها من كل جهات الكفر وأعداء الحق من المبشرين وأذنابهم، فكانت أسلحة لكل مدافع عن الإسلام، وقوة لكل واقف في ثغوره يدفع بها كل كيد له أو عدوان عليه.

ولقد شاء الله أن يحتفظ للأزهر بنصيبه المدخر في خدمة السنة، فحفظ له هذا التراث، حتى استيقظ على تلك المجهودات رجال منه، كرمهم الله بحمل لواء السنة، وشرفهم بالعمل على تجديد العهد بها وإحياء الاتجاه إليها، فكان فيه تخصصات مختلفة لهذه العلوم تجلت في كلياته المختلفة: في كلية أصول الدين بالقاهرة، ونظيرتها في فرع جامعة الأزهر للبنات، ثم بأسيوط، ومعهد السنة وأقسام الدراسات العليا في السنة وعلومها، ولجان السنة بمجمع البحوث، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية -وعلماؤها من الأزهر- مما أبرز للعالم الإسلامي رجالًا تفاخر بهم مصر في خدمة السنة، وتجدد بجهودهم عهدها الأول الذي زخر بخيرة المحدثين ورجال السنة الأماثل.

وهذا دليل على ما يريده الله لهذه الأمة من رعاية بتجديد أمر دينها، تحقيقًا لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الله يبعث لهذه الأمة في كل فترة من الزمن من يجدد لها أمر دينها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ولا يفوتني -قبل أن أختم هذا البحث- أن أتقدم بتوصيات تابعة عن شعور صادق وعميق بالرغبة في مباركة الجهود حول الحفاظ على السنة، وتيسير دراستها وتقريبها بكل الوسائل الممكنة، حتى تترك آثارها الإسلامية في نفوس المسلمين، فترد إليه مجدًا كاد يتقلص بإهمال شئون هذا الدين.

وسبيلنا إلى هذا ما يأتي:
1- تكوين حلقات طلابية حديثية، يشرف عليها أساتذة متخصصون في الكليات المعنية بدراسة السنة: في أصول الدين والشريعة والدراسات الإسلامية وغيرها، ويختار الأساتذة لكل من هذه الحلقات أبوابًا من الكتب الأصول في الحديث بما يناسب أوقاتهم وطاقتهم في مراحلهم العلمية المختلفة، يكلفون بدراستها، وتعرف طريقة المؤلفين فيها، وتدوين بحوث تصور مناهج الدراسة في هذه الكتب، وما ينبغي الأخذ به من تلك المناهج، وما يصح الاستغناء عنه منها، على أن تعرض نتائج هذه البحوث في ندوة علمية يحضرها الأساتذة، ويناقشها من شاء مناقشة منظمة تعين على تكوين ملكة البحث، وتثير عند الطلاب غريزة المناقشة، ثم يرجع إلى تلك البحوث في تقديرهم عند الاختيار، ويوصي بنشر الجيد منها في المجلات الدينية والنشرات العلمية، حفزًا للطلاب على مواصلة البحث والإجادة فيه.

2- إنشاء قسم الاتصال بالأمم الإسلامية ذات الخبرات المتقدمة في خدمة السنة النبوية، مثل الهند وباكستان وبعض بلاد المغرب، يكون على صلة دائمة بهذه الأمم للانتفاع بما لديها من ملكات، والتعرف على ما عندها من مؤلفات في الحديث وعلومه، سواء في ذلك المطبوع النادر والمخطوط كذلك، لتيسير طبع ما يمكن تداوله منها، والرجوع إلى علماء السنة في هذه البلاد، لتبادل الرأي في المشكلات الحديثية التي قد تطرأ في مجال التطبيق العملي في حياة الناس ولتكوين رأي عام يقاوم ما يفد من الأمم المنحرفة عن الإسلام وتوجيهاته من آراء تفسد على الناس عقائدهم وسلوكهم، وتحول دون تطبيق تعاليم الإسلام في مختلف الشئون.

3- الدعوة إلى عقد مؤتمرين لعلماء الحديث في كل عام، أحدهما: في موسم الحج، حيث يجتمعون من شتات العالم الإسلامي لتداول الرأي فيما ينهض بالسنة، وللتعرض على ما عند كل أمة من وسائل النهوض بها، لتأخذ به بقية الأمم التي لم يقع لها الانتفاع به، والثاني: يتم تحديد موعده الزماني والمكاني في مؤتمر الحج حيث يكون تحديد زمان المؤتمر ومكانه من بين أعمال ذلك المؤتمر، ليجتمع مرة أخرى في العام نفسه في إحدى البلاد التي لها اعتناء بالسنة دراسة لها، أو جمعًا للكتب التي قد يقع عليها اختيار بعض المؤتمرين لنشرها، وليدلي المؤتمر برأيه في ذلك وفي الطريقة التي يعم الانتفاع بها من هذه الكتب، وفي عقد المؤتمر الثاني على هذا الوجه ما يمكنه من دراسة التراث الحديثي على الطبيعة في مواطن وجوده، على أن تتولى لجان المؤتمر متابعة تنفيذ توصياته على الصعيد الإسلامي، عن طريق أعضائه المشتركين فيه، والذين يقومون بدور فعال في الاتصال بالمسئولين في أممهم ممن لهم القدرة على ذلك التنفيذ.

4- العمل على إيفاد بعثات علمية من الممتازين في دراسة السنة إلى البلاد المتقدمة في دراستها للانتفاع بمواهب البارزين في تلك البلاد، وللتعاون مع المؤتمر تحضيرًا لأعماله في شأن الكتب التي تعرض عليه في الجلسة المقبلة، وتنفيذًا لما أوصى به في جلسة ماضية.

5- وإلى أن يتم تنفيذ ما سبق يمكن أن يبدأ منذ الآن بإخصاب المناهج الدينية في الأزهر بتضمين مناهجه مقررات خاصة من الأحاديث النبوية يلزم الطلاب بحفظها في جميع المراحل، بدءًا من المرحلة الابتدائية، على أن تكون من الأحاديث الصحيحة المختارة بما يتناسب مع سنهم وقدرتهم العلمية، وأن يفيدوا بما فيها من ثقافات إسلامية رفيعة، تدفعهم إلى الخير، وتنأى بهم عن مواطن الزلل، وتكون مادتهم العلمية في أهم أصول الإسلام بعد كتاب الله عز وجل.

وليس هذا بعسير، وفي المناهج متسع لهذا الركن الذي هو أساس الإسلام ودعامته، لو استطعنا أن نستغني عن بعض ما لا حاجة لإنفاق وقت الطلاب فيه.

بل إن على ولاة الأمور في الدولة أن يضعوا مناهج لدراسة الحديث لتلاميذ المدارس الابتدائية والإعداية، وطلاب التعليم الثانوي والجامعات، كل على حسب سنه ومستواه الثقافي، فقد جرب الأزهر مزج المناهج العامة بالمناهج الدينية في جامعته في كلياتها المدنية، فلم يحل ذلك بين الطالب وبين استكمال دراسته المدنية كزملائه في بقية الجامعات.

6- على أن ما أوردناه فيما سبق لا يعدو أن يكون تصويرًا لبعض جوانب نشر السنة لإفادة الناس بها، وإلا فإن هناك من وسائل النشر الكثرة التي تستعملها الدولة في نشر ما تراه من توجيهات للشعب في شئونه الأخرى ما هو كفيل بأن يحقق جانبًا واسعًا في هذا السبيل، فعن طريق أئمة المساجد في المدن والقرى، وعلى موجات الأثير في الإذاعة المسموعة والمرئية، وفي الصحافة وفي النشرات التي تصدرها المؤسسات الدينية المختلفة مجال فسيح للتوجيه الإسلامي نحو السنة الكريمة، وتهيئة النفوس لها تهيئة صادقة، وهذه الوسائل مستعملة في بعض البلاد الإسلامية المعنية بالدين، فإن في كثير منها أركانًا مخصصة للسنة قراءة ودرسًا، وكتابة وبحثًا، فليكن لنا من الباعث والحافز مثل ما لهذه الأمم التي تضعنا في مركز الصدارة لها في كثير من شئون الحياة.

نسأل الله سبحانه أن يبعث في نفوس المسلمين: أفرادًا وجماعات، حكامًا ومحكومين من الهمة ما يكفل العمل على مرضاة الله في إظهار هذا الركن العظيم من أركان الإسلام حتى يعيد لهم من المجد والنصر ما شمل به أولئك الأولين الذين قاموا بواجبهم في الدعوة إلى الدين ونشر تعاليمه من الكتاب والسنة في كافة الأرجاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

"سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين".

محمد رشاد محمد خليفة