في ظلال رمضان..
(25) الصيام وقضية التشريع Ocia1633
(25) الصيام وقضية التشريع

الصيام شعار من شعائر الإسلام، وحكمه الوجوب، والوجوب في الإسلام ليس وجوبا فرديا في نطاق الفرد الخاص، بل الوجوب في هذا الدين وجوب فردي وجماعي يقوم به الفرد في خاصة نفسه وتقوم به الجماعة ممثلة في تعاون الفرد مع إخوانه وممثل في دولة وسلطة قائمة على إقامة الدين وفرائضه وحفظ المحرمات والحدود وإقامة المجتمع على أساس التصور الرباني للحياة والأحياء والعلاقات والأموال وسائر ارتباطات البشر أفرادا وأسرا ومجتمعات وسلطة وعلاقات متبادلة.. وإعلام وتعليم وثقافة وهوية.
 
الصيام فرع عن أصل كبير يقول للناس كلها، على لسان نبيه،{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} [الشورى: 10]، فحق الربوبية والتوجه الى الله بالطاعة يظهر في هيمنة التشريع الرباني -والصوم أحد افراده- على الحياة كلها..
 
التشريع الرباني الذي يُغَيّرُ الحياة تغييراً عميقاً.. تصوراً، وقانوناً، وحدوداً، وأخلاقاً، وتوجيهاً..

يُغَيّرُ الفرد والمُؤسسات والشارع والمُجتمع والجيوش ونُظُم التعليم والإعلام..
 
الإسلام أحكام قانونية؛ مدنية وجنائية واجتماعية ودولية، وقوانين أسرة، قيم وأخلاق، فنون وآداب، مؤسسة حاكمة وتوجيه إعلامي وتربية تعليمية، تصور عن الحياة، ورسالة أمَّة إلى العالم، وصلة لسلسة النبوة المباركة للأنبياء جيلاً بعد جيل، بالقيام بإرث محمد صلى الله عليه وسلم الجامع لِمَا قبله والمهيمن والشاهد عليه.
 
التشريع الرباني منحة ليقوم الناس بالقسط، فقد نزلت الرسالات من أجل إقامة هذا المجتمع وهذه الحياة على وفق القسط المنزل وإقامة العلاقات على أساسها: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] والقسط هو ما أنزل الله لا ما يظنه البشر.
 
لا يستقل الخلق بالتشريع وإلا لما احتاج الناس الى الرسالات، لكنه تعالى أنزلها رحمة للعاملين لاحتياجهم اليها، ولدخول احتياجهم الى تشريع رب العالمين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15]؛ فمَنْ لم يَرَ احتياج البشر لتشريع ربهم فإمَّا جاهل أو مُعاند أو كاره لأمر ربه تعالى..

ومَنْ لم يَرَ تشريع ربه رحمة بل حِمْلًا فما أجهله.
 
الشريعة قسيم للهوى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]، فإمَّا هذا وإمَّا ذاك، العبودية أو الهوى، والهوى مُفْسِدٌ للحياة، ليس فقط، بل للأرض، ليس فقط، بل: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
 
المُشَرّعُونَ من البشر جُهَّالٌ وأصحاب قصور وأهواء وصفقات وانحياز، يتلاعبون بحياة ومشاعر ومصير أغلى مخلوق وأسماه، وهو الإنسان.
 
نازعوا الله في حقه.. لم يخلقوا ولم يرزقوا، ولكنهم يغتصبون حقَ مَنْ خلق ورزق: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
 
الإباحية عندهم والفاحشة حرية، والربا نماء، والخيانة وجهة نظر..

يخالفون الفطرة ويقتلونها، يشقون وتشقى بهم الأمم.
 
الإسلام منهج الله، فرض الصيام: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وفرض القصاص: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وشرع الآداب لتحقيق التقوى، وشرع جميع الشرائع على نفس منوال الصيام لتحقيق التقوى، فلا يحققها امرؤ يرفض بعض أحكامه أو يرفض تدخل الدين في حياته، بل لا يكون مسلماً ابتداءً.
 
الصيام فرع على تحقيق الخضوع والدينونة لله تعالى بقبول حُكمه والاستسلام له تعالى، عنوان الاستسلام (لا إله الا الله)، وحقيقته تحقيقها بإفراد الله تعالى بالعبادة والطاعة في التشريع، فرداً ومجتمعاً، فيقرر إقامة الحياة على وفق مقتضى إعلانه أنه لا إله الا الله، فتقوم الشريعة ويقوم الدين..

للإسلام حكمه في كل مجال، وله قِيَمَهُ وأهدافه وغاياته التي تتحقق في هذه المجالات ومن خلال الأفراد والمؤسسات.
 
عند وجود أمَّةٍ تحمل هذا المفهوم وتلك العقيدة فلن تماحك في أحكامه وسيادته راقصة ولا يعترض ديوث ولا يجادل جاهل ولا يحارب علماني إلا واجهته الأمَّة، بدلاً من أن يُصبحوا رُمُوزاً!!

لكن أين الأمَّة؟

وأين المفهوم؟

عن هذا نبحث، وعن ميلادها من جديد وإخراجها الثاني نبحث.