عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان (29)
مـحـمــــــــود الـعـشــــــــــــــري
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
الوسيلة الخامسة والستون: الاجتهاد في العشر الأواخر 3_ia_a10
الوسيلة الخامسة والستون: الاجتهاد في العشر الأواخر
ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخَل العشر شدَّ مِئزره، وأحْيا ليله، وأيْقَظ أهله"، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "أحيا الليل، وأيْقَظ أهله، وجَدَّ وشَدَّ المِئزر"، وفي رواية لمسلم عنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره"، وفي صحيح البخاري: ((لا تواصِلوا، فأيُّكم أرادَ أن يواصِلَ، فليواصِل إلى السَّحر))، قالوا: فإنَّك تواصِل يا رسول الله؟ قال: ((إني لستُ كهيئتكم؛ إني أبيتُ لي مُطعِمٌ يُطعمني، وساقٍ يَسقيني))، وأخرَج ابن أبي عاصم بإسناد قال عنه ابن رجب: إنه مُقارب، عن عائشة قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان رمضان، قام ونام، فإذا دخَل العشر شدَّ المِئْزَر، واجتنَب النساء، واغتسَل بين الأذانين، وجعَل العشاء سحورًا"، وفي الصحيحين عنها أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يَعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله تعالى.

تُحَصِّل -أخي ابن الإسلام- من هذه الأحاديث بعضَ السُّنن المؤكدة التي يجب الاعتناء بها في العشر الأواخر، وهي من أهم وظائف هذا الشهر الكريم؛ لأنها فورة الوداع ومِسك الختام، وسأُلخص لك هذه السُّنن مع الكلام عن شيءٍ يسير من فِقهها وأسرارها، والله المستعان.

أولاً: إحياء الليل كله
ويدل عليه ظاهر قول عائشة: "أحيا الليل"، ويَشهد لهذا الأمر أيضًا قولُها: "جَدَّ"؛ أي: اجتَهَد وبالَغ في الطاعة والعمل، وهذه هي العزيمة اللازمة في أُخريات رمضان، فيجب تقليل النوم قدْر الإمكان، وجعْله في النهار، وشغْل الليل بالصلاة والذِّكر، وقراءة القرآن.

وقد ورَدَت عن بعض السلف آثار في بيان المراد بإحياء الليل، وأنه تَحصل بقيام غالبه، وهو قريب من الأوَّل، أو إحياء نِصْفه، وقيل: تحصيل فضيلة الإحياء بساعة، ونُقِل عن الشافعي وغيره أنَّ فضيلة الإحياء تحصل بأن يُصلي العشاء في جماعة، ويَعزم على أن يُصلي الصُّبح في جماعة، وفيه نظر؛ لأنه يتنافى مع مقاصد الحديث، وهو ضرورة البَذْل الزائد المُفضي للتأهُّل للمغفرة العامة، والله أعلم.

وهذا الإحياء المذكور يشمل كلَّ ليالي رمضان بوجْهٍ عام، والعشر الأواخر بوجْه خاصٍّ، وليلة القدر بأخص.

ومثل هذا الاجتهاد يحتاج إلى إعداد وعزيمة، ومُجاهدة ومُكابدة للنوم والتعب من جُهد العبادة، ويساعد على ذلك قلة الطعام، وتنويع العبادات بين قيام وركوع وسجود، وذِكر وتلاوة القرآن، وصُحبة العابدين لشَحْذ الهِمَم، وجِماع ذلك كله أن يَستمطر العونَ والمَدد والألطاف من الله -عزَّ وجلَّ- فهو القادر على أن يُقيمَك بين يديه الدهر كلَّه، دون نصَبٍ أو إرْهاقٍ أو سآمة.

ثانيًا: إشاعة الأجواء الإيمانيَّة في البيوت
بِحَثِّ الأهل على الاجتهاد في الطاعة والعمل، وإيقاظهم لصلاة التهجُّد، ويدلُّ على ذلك قول عائشة: "وأيْقَظ أهله".

ثالثًا: شدُّ المِئْزر
والمراد به على الراجح: اعتزال النساء، وعدم الجِماع والمباشرة والاستمناء، ووجهه كون النبي -صلى الله عليه وسلم- معتكفًا في المسجد؛ لطلب ليلة القدر، والمعتكف مأمور بمُجانبة النساء، ويؤخَذ من هنا أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُصيب من أهله في العشرين من رمضان، ثم يَعتزل نساءَه، ويتفرَّغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.

رابعًا: الاعتكاف
قال ابن رجب: وإنما كان يَعتكف النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه العشر التي يُطلب فيها ليلة القدر؛ قطعًا لأشغاله، وتفريغًا لباله، وتحلِّيًا لمناجاة ربِّه وذِكره ودعائه، وكان يَحتجر حصيرًا يتخلَّى فيها عن الناس، فلا يُخالطهم ولا يُشْغَل بهم، وذهَب الإمام أحمد إلى أنَّ المعتكِف لا يُستحبُّ له مُخالطة الناس، حتى ولا لتعليم عِلمٍ وإقراء قرآنٍ، بل الأفضل له الانفرادُ بنفسه، والتخلِّي بمناجاة ربِّه وذِكره ودُعائه.

وهذا الاعتكاف هو الخَلوة الشرعيَّة، وإنما يكون في المساجد؛ لئلا يُترك به الجُمَع والجماعات، فإن الخَلوة القاطعة عن الجُمَع والجماعات منهيٌّ عنها؛ سُئِل ابن عباس عن رجلٍ يصوم النهار ويقوم الليل، ولا يَشهد الجُمعة والجماعة؟ قال: هو في النار، فالخَلوة المشروعة لهذه الأمة هي الاعتكاف في المساجد، خصوصًا في شهر رمضان، وخصوصًا في العشر الأواخر منه؛ كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله، فالمعتكِف قد حبَس نفسه على طاعة الله وذِكره، وقطَع عن نفسه كلَّ شاغلٍ يَشغله عنه، وعكَف بقلبه وقالَبه على ربِّه، وما يُقرِّبه منه، فما بَقِي له همٌّ سوى الله وما يُرضيه عنه.

فمعنى الاعتكاف وحقيقته:
قطْعُ العلائق عن الخلائق؛ للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قَوِيت المعرفة بالله والمحبَّة له والأُنس به، أوْرَثَت صاحبها الانقطاعَ إلى الله بالكليَّة على كلِّ حال، وكان بعضهم ما يزال منفردًا في بيته، خاليًا بربِّه، فقيل له: أمَّا تستوحش؟ قال: كيف استوحش وهو يقول: "أنا جليس مَن ذكَرني"، وسيأتي الكلام عنه في الوسيلة الثالثة والسبعين -إن شاء الله تعالى.

خامسًا: إقلال الطعام للغاية، أو الوصال للسَّحر
وقد اختلَف العلماء في هذا الوصال، والصحيح -إن شاء الله- أنَّ الوصال إلى السَّحر فقط جائز؛ لما في البخاري: ((فأيُّكم أراد أن يواصِل، فليواصِل إلى السَّحر))، والغاية منه كما قال العلماء: خَواء البطن وشرايين الشهوات من مادة الثوران، وخَواء البطن مَجْلَبة لامتلاء القلب بصنوف المعارف، وكلما ازدَاد الجوع وألَمه، رقَّ القلب ولانَ وخشَع؛ قال ابن رجب: ويتأكَّد تأخير الفطر في الليالي التي تُرجى فيها ليلة القدر، قال زِرّ بن حُبَيْش في ليلة سبع وعشرين: "مَن استطاع منكم أن يؤخِّر فطره، فليفعل، وليُفْطِر على ضياح اللبن"، وضياح اللبن - ورُوِي ضيح اللبن - هو اللبن الخائر الممزوج بالماء.

سادسًا: الاغتسال بين المغرب والعشاء كلَّ ليلة من العشر الأواخر
وقد ورَدت فيه بعض الأحاديث الضعيفة والآثار المستفيضة عن سلف هذه الأُمَّة في التنظيف والتزيُّن والتطيُّب بالغسل والطِّيب، واللباس الحَسَن، وهي مشمولة بالنصوص العامة الآمِرة بالتنظُّف والتزيُّن والتطيُّب، والمستقرئ لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والسلف يَجزم بحِرْصهم على الاغتسال في أزمنة العبادة ومواسم الطاعة.

واعلم أيُّها النابه
أنَّ كلَّ هذه الوظائف تحوم حول تحصيل ليلة القدر وموافقتها، وهي ليلة حَرِىٌّ بالمسلم أن يستميتَ في تحصيل فضْلها وثوابها، ولا تنفع الأماني والأحلام في إثبات تَحَرِّيكَ لها، بل لا بدَّ من التشمير، وأن تُرِيَ الله من نفسك خيرًا؛ حتى يرى إقبالك فيَقبلك، واجتهادك فيَلْطُف بمقامك، ويَهِبك منشور الولاية، ويَضع اسْمك في ديوان العُتقاء من النار.

- لا تُهمل الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطعْتَ إلى ذلك سبيلاً؛ فإنها من صميم رسالتك في هذا الوجود، فوق كون هذا الأمر ثمرة النُّسك وتعظيم الأمر والنهي، وترْكه مُؤْذِنٌ بجَعْل الطاعات والعبادات بلا طعمٍ أو ثمرة، وما ثمرة صفِّ الأقدام أمام ربٍّ يتجاوز الناسُ حُرُماته، ويُجاهرونه ويُبارزونه بالمعصية وأنت لا تغضب له؟!

فإذا عجَزت عن الدعوة إليه، ودَلالة الناس عليه، وأمرهم بالمعروف ونَهْيهم عن المنكر، فاعْتَذِر إلى الله تعالى بإلقاء النصيحة، ولا عليك أن يترَكَها الناس؛ ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 164].

• لو كنت إمامًا أو خطيبًا أو داعيًا، فاجْتَهِد أن يكون لك دورٌ مع الناس في وصولهم إلى خالقهم ومَلِيكهم؛ فالدلالة على الله مهنة الأنبياء والرُّسل، وما إخال الدالَّ على الله محجوبًا عن الدخول مع الداخلين، ثم لا تَنس تشديد الحساب على نفسك في طاعتها، خاصة فيما تأتيه جَهرة، كإمامة أو خطابة، حتى تُنقِّي بواطِنَك من وَالِجَات الهوى.

• لو ضاع منك معظمُ الشهر، فلا تَحرِم نفسك الاجتهادَ في باقيه، ولا يُلْقِيَنَّ الشيطانُ في قلبك اليأسَ، فتقْعُد عن الاجتهاد، فلا يَبعد أن تُرى مع المشمِّرين، فيَهِبك الله لهم، فتَسْعد:
مَنْ لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ المُدَلَّلِ
تَمْشِي الهُوَيْنَى وَتَجِي فِي الأَوَّلِ

• إذا لَم يقع عليك الهمُّ من خوف الردِّ وعدم القَبول، فهو أمارة سوءٍ، فمن صفات المتقين أنهم: ﴿يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60]، قال مالك بن دينار: الخوف على العمل ألاَّ يُتقبَّل أشدُّ من العمل، وقال عطاء السُّلَيْمي: الحذَر على العمل ألاَّ يكون لله، وقال عبدالعزيز بن أبي رَوَّاد: أدركْتُهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعَلوه وقَع عليهم الهمُّ: أيُقبَل منهم أم لا؟!

قال ابن رجب:
كان بعض السلف يظهر عليه الحزنُ يوم عيد الفطر، فيُقالُ له: إنه يوم فرحٍ وسرور، فيقول: صدقتُم، ولكني عبدٌ أمرَني مولاي أن أعملَ له عملاً، فلا أدري أيَقبله منِّي أم لا؟!

رُوِي عن علي -رضي الله عنه- أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري، مَنْ هذا المقبول فنُهنِّيه؟ ومَنْ هذا المحروم فنُعزِّيه؟:
تَرَحَّلَ الشَّهْرُ وَالهَفَاهُ وَانْصَرَمَا
وَاخْتَصَّ بِالفَوْزِ فِي الجَنَّاتِ مَنْ خَدَمَا
وَأَصْبَحَ الغَافِلُ الْمِسْكِينُ مُنْكَسِرًا
مِثْلِي فَيَا وَيْحَهُ يَا عُظْمَ مَا حُرِمَا
مَنْ فَاتَهُ الزَّرْعُ فِي وَقْتِ البِذَارِ فَمَا
تَرَاهُ يَحْصُدُ إِلاَّ الهَمَّ وَالنَّدَمَا


• لا تَجزع من هَوْل التبعات وضِيق الأوقات بالعمل والدراسة ورعاية الأهل، إلى آخر هذه المنظومة، وكذلك المرأة لا يَهُولَنَّها ضخامة ما تقوم به من تربية الأولاد ورعاية البيت؛ فكل هذا

• وإن تفاقَم - لا يمنع القيام بواجب الخدمة للمعبود، والبَذل في هذا الشهر.

وسببُ تحاشي أولئك أنهم مُتَّكِلون على قوَّتهم، معتمدون على مهارتهم، فهنا يُوكَلون إلى ضَعفهم وعَورتهم، أمَّا صِدْق اللجوء إلى الله تعالى، فهو كفيل بقلب قوانين الزمان والجهد والقوَّة، فيَضحى اليوم مديدًا دون أن تشعرَ، وقوَّتك التي كانتْ تَخور أمام الأحمال الثِّقال، تراها عند الطاعات وثَّابة!

أمَا تعجَب من الصحابة، كيف كانوا يَغزون وزادُهم تمرات يَمصونها، فيُقِمْنَ أصلابَهم أمام أعدائهم؟!
بِاللهِ ثِقْ وَلَهُ أَنِبْ وَبِه اسْتَعِنْ
فَــإِذَا فَعَلْتَ فَــأَنْتَ خَيْـرُ مُعَانِ


• لا تُخلِ الأوقات من عمل نافعٍ، وقيِّد عندك البدائل، حتى إذا ما داخَلتْ نفسَك السآمةُ من عمل، كان عندك غيره ليَشْغَلك، وسيأتي -إن شاء الله- خُطة يوم تَنال به الجنة بفضْل الله تعالى، فاحرِص ولا تُفرِّط.
--------------------------------------------------------------