عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان (28)
مـحـمــــــــود الـعـشــــــــــــــري
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
الوسيلة السابعة والثلاثون: الدعوة إلى الله Ia_aya50
الوسيلة السابعة والثلاثون: الدعوة إلى الله
قال -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيما رواه مسلمٌ: ((مَن دعا إلى هدًى، كان له من الأجرِ مثل أُجورِ من تبعَه، لا ينقص ذلك من أجورِهم شيئًا))، فلك أن تتصوَّرَ -أخي الحبيب- كم من الحسناتِ تُسجَّل في صحيفتِك وأنت تدعو إلى الله، حتَّى ولو لم يهتدِ على يديك أحد، فيكفي أنك أعذرتَ إلى ربِّك، وقمتَ بالواجبِ عليك، فاجتهد في ذلك، وتحرَّك بهذا الدِّين، فإنَّ الحركةَ حياة، فأحْيِ الدِّينَ في نفسِك ومن حولك؛ يُحْيِك الله دائمًا في رضاه.

إنَّ طريقَ الدعوة طريقٌ رُسِمَت في السَّماء أعلامُه، وزكَتْ نفوسُ روادِه، ميدانُه في الأرض، وغايتُه في السَّماء، أئمته اصطفاهم الله؛ فكانوا خيرَ البشر، ونالوا من الذِّكرِ والأجر، وأسبغَ الله عليهم سبيلَ الهداية، فهم بين الدعوةِ والبلاء يتلذَّذون بالدُّعاء، أعلمُ النَّاسِ بالحقِّ، وأحرصُهم على هداية الخلق، كلما عظُمَ الخطب، لم يشغلْهم إلا مرضاة الرَّب، أسعدهم الله في الدُّنيا، وبشَّرهم بخيراتِ الآخرة، فأُجورُهم مُضاعَفة، وقرباتُهم لا تنقطع، آثارُ دعوتِهم في النَّاسِ أعمالٌ صالحة تُرفع إليهم بُكرةً وعشيًّا، فلِلَّه كم منَّ الله عليهم بأعظمِ منَّة، فرفعَ درجاتِهم بأعمالٍ لا تنقطع، ووفقهم إلى سبيلِ الدعوة، فحازوا أجورًا لا تسعُها أعمارُهم القصيرة.

• الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر:
خاصة ما ظهر منه، بحسبِ القواعد الشرعيَّة؛ من العلم، والبدء بالرِّفق ما أمكنَ، والصبر، واحتمالِ الأذى، ومراعاة المصلحة والمفسدة بالضوابط الشرعية، ومراعاةِ القدرة والاستطاعة، وهذا من الواجباتِ التي غابتْ بين أبناء تلك الأمة الميمونة؛ قال -تعالى-: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 78 - 79].

وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيما رواه مسلمٌ وأحمد والترمذيُّ وابن ماجه: ((من رأى منكم منكرًا، فليغيِّرْه بيدِه، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان))، وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيما رواه مسلمٌ وأحمدُ: ((ما من نبيٍّ بعثه الله في أمَّةٍ قبلي إلا كان له من أمتِه حواريُّون وأصحاب، يأخذونَ بسُنَّتِه، ويقتدون بأمرِه، ثم إنَّها تُخلف من بعدهم خُلوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمَرون، فمن جاهدَهم بيدِه فهو مؤمِن، ومن جاهدهم بقلبِه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانِه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمانِ حبَّة خردل)).

وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيما رواه أحمد والترمذيُّ وحسَّنه الألباني: ((والذي نفسي بيدِه، لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكرِ، أو ليوشِكَنَّ الله أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تدْعونه فلا يُستجاب لكم)).

ولكن ينبغي مراعاةُ الحكمةِ في ذلك، ومعرفة ضوابط الأمرِ والنَّهي؛ حتى لا تترتب أمورٌ ومفاسدُ أعظم، وأنصحُكَ بدراسةِ بحث الدكتور/ ياسر برهامي: "فقه الأمر بالمعروف"؛ فإنه جيدٌ في هذا الباب.

• التعاون على البرِّ والتقوى:
قال -تعالى-: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، فهذه الآية اشتملَتْ على جميعِ مصالح العباد في معاشِهم ومعادهم، فيما بينهم، وفيما بينهم وبين ربهم؛ فإنَّ كلَّ عبد لا ينفكُّ عن هاتين الحالتين، وهذين الواجبين: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق؛ فأمَّا ما بينه وبين الخلق من المعاشرةِ والمعاونة والصحبة، فالواجبُ عليه فيها أنَّ اجتماعَه بهم وصحبته لهم تعاونٌ على مرضاةِ الله وطاعته، التي هي غايةُ سعادةِ العبد وفلاحه، ولا سعادةَ له إلا بها؛ وهي البرُّ والتقوى اللذان هما جماعُ الدِّين كلِّه، وإذا أُفرِد كلُّ واحد من الاسمين دخل في مسمَّى الآخر، أمَّا تضمُّنًا وأمَّا لزومًا، ودخوله فيه تضمنًا أظهر؛ لأنَّ البِرَّ جزءُ مسمَّى التقوى، وكذلك التقوى جزء مسمى البِر، وكون أحدِهما لا يدخلُ في الآخر عند الاقترانِ لا يدلُّ على أنه لا يدخلُ عند انفرادِ الآخر، ونظيرُ هذا لفظُ الإيمانِ والإسلام، والإيمان والعمل الصَّالح، والفقير والمسكين، والفسوق والعصيان، والمنكر والفاحشة، ونظائرُه كثيرة.

وهذه قاعدةٌ جليلة، مَن أحاطَ بها، زالتْ عنه إشكالاتٌ كثيرة أشكلَتْ على كثيرٍ من النَّاس، ولأذكر من هذا مثالاً واحدًا يُستدَلُّ به على غيرِه؛ وهو البر والتقوى، فإنَّ حقيقةَ البر: هو الكمالُ المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه والخير، كما يدلُّ عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام، ومنه البُرُّ -بالضم- لمنافعِه وخيره بالإضافة إلى سائر الحبوب؛ ومنه رجل بارٌّ، وبَرّ، وكرام برَرَة، والأبرار، فالبِرُّ: كلمة جامعة لجميعِ أنواع الخير والكمال المطلوب من العبد، وفي مقابلته الإثم، وفي حديث النوَّاس بن سمعان أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال له: ((جئتَ تسأل عن البرِّ والإثم...))، فالإثم: كلمةٌ جامعة للشُّرورِ والعيوب التي يُذَم العبد عليها.

فيدخل في مسمى البر:

 الإيمانُ وأجزاؤه الظاهرة والباطنة، ولا ريبَ أنَّ التقوى جزءُ هذا المعنى، وكثيرًا ما يعبَّر عن بِرِّ القلب؛ وهو: وجود طعم الإيمان فيه وحلاوته، وما يلزم ذلك من طمأنينتِه وسلامته، وانشراحه وقوَّتِه، وفرحه بالإيمان؛ فإنَّ للإيمانِ فرحةً وحلاوة ولذَّةً في القلب، فمن لم يجدها، فهو فاقد الإيمان أو ناقصُه، وهو من القسمِ الذين قال الله -تعالى- فيهم: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14]؛ فهؤلاء -على أصحِّ القولين- مسلمون غير منافقين، وليسوا بمؤمنين؛ إذْ لم يدخلِ الإيمانُ في قلوبِهم، فيباشرها حقيقة.

وقد جمع الله -تعالى- خصال البر في قوله: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].

فأخبر -تعالى- أنَّ البرَّ هو الإيمانُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه -مع القضاءِ والقدر- هي أصولُ الإيمان التي لا قوامَ للإيمان إلاَّ بها، وأنه الشرائع الظاهرة من إقامةِ الصلاة وإيتاء الزكاة والنفقات الواجبة، وأنه الأعمالُ القلبية التي هي حقائقه من الصبر والوفاء بالعهد، فتناولَتْ هذه الخصالُ جميعَ أقسام الدِّينِ؛ حقائقه، وشرائعه، والأعمال المتعلِّقة بالجوارحِ والقلب وأصول الإيمان.

ثم أخبر -تعالى- عن كلِّ هذا أنه خصالُ التقوى بعينها، فقال -تعالى-: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.

وأمَّا التقوى، فحقيقتُها العملُ بطاعةِ الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيفعل ما أمر اللهُ به إيمانًا بالأمر وتصديقًا بوعدِه، ويترك ما نهى الله عنه إيمانًا بالنهي وخوفًا من وعيدِه؛ كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقعتِ الفتنةُ فأطفئوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: "أن تعملَ بطاعةِ الله، على نورٍ من الله، ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصيةَ الله، على نورٍ من الله، تخاف عقابَ الله"، وهذا أحسن ما قيل في حدِّ التقوى؛ فإنَّ كل عمل لا بد له من مبدأ وغاية، فلا يكون العملُ طاعةً وقربة حتى يكونَ مصدرُه عن الإيمان، فيكون الباعث عليه هو الإيمانَ المَحْض، لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك، بل لا بدَّ أن يكونَ مبدؤه محضَ الإيمان، وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته، وهو الاحتساب؛ ولهذا كثيرًا ما يُقرن بين هذين الأصلين، في مثلِ قول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا))، و: ((من قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا)) ونظائره، فقوله: "على نورٍ من الله" إشارةٌ إلى الأصلِ الأول؛ وهو الإيمان، الذي هو مصدرُ العملِ والسببُ الباعث عليه، وقوله: "ترجو ثواب الله" إشارةٌ إلى الأصلِ الثاني، وهو الاحتساب؛ وهو الغاية التي لأجلِها يوقع العمل ولها يقصد به، ولا ريبَ أنَّ هذا اسم لجميعِ أصول الإيمان وفروعه، وأنَّ البر داخل في هذا المسمى.

وأمَّا عند اقترانِ أحدهما بالآخر؛ كقولِه -تعالى-: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2]، فالفرقُ بينهما فرقٌ بين السببِ المقصود لغيرِه والغاية المقصودة لِنَفسِها؛ فإنَّ البر لذاتِه؛ إذْ هو كمالُ العبدِ وصلاحه الذي لا صلاحَ له بدونه كما تقدَّم، وأمَّا التقوى، فهي الطريقُ الموصل إلى البر والوسيلة إليه، ولفظها يدلُّ على هذا؛ فإنها فُعلى، من وقى يقي، وكان أصلها: وقوى، فقلبوا الواوَ تاءً؛ كما قالوا: تُراث من الوراثة، وتُجاه من الوجه، وتُخمة من الوخمة، ونظائرها، فلفظها دالٌّ على أنَّها من الوقايةِ؛ فإنَّ المتَّقي قد جعل بينه وبين النَّارِ وقاية، والوقاية من بابِ دفع الضر، فالتقوى والبر كالعافيةِ والصحة.

وهذا بابٌ شريف يُنتفع به انتفاعًا عظيمًا في فهمِ ألفاظِ القرآن ودلالته، ومعرفة حدودِ ما أنزل الله على رسولِه -صلَّى الله عليه وسلَّم- فإنه هو العلم النَّافع، وقد ذمَّ الله -تعالى- في كتابِه مَن ليس له علم بحدودِ ما أنزل الله على رسولِه؛ فإنَّ عدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين:
الأولى: أن يُدخل في مسمَّى اللفظِ ما ليس منه، فيحكم له بحكم المراد من اللَّفظ، فيساوي بين ما فرَّق الله بينهما.
والثانية: أن يُخرج من مسمَّى اللفظ بعضَ أفرادِه الداخلة تحته، فيسلب عنه حكمَه، فيفرق بين ما جمعَ الله بينهما.

والذَّكي الفطِن يتفطَّنُ لأفرادِ هذه القاعدة وأمثالها، فيَرى أنَّ كثيرًا من الاختلافِ أو أكثره إنَّما ينشأ من هذا الوضع، وتفصيل هذا لا يَفِي به كتابٌ ضخم، فالله المستعان.

ومن هذا: لفظ "الخمر"؛ فإنَّه اسمٌ شامل لكلِّ مُسْكِر، فلا يجوز إخراجُ بعضِ المُسْكرات منه، ويُنفى عنها حُكْمه، وكذلك لفظ "الميسر"، وإخراج بعضِ أنواع القمار منه، وكذلك لفظ "النِّكاح" وإدخال ما ليس بنكاحٍ في مسمَّاه، وكذلك لفظ "الرِّبا" وإخراج بعضِ أنواعه منه، وإدخال ما ليس برِبًا فيه، وكذلك لفظ "الظلم" و"العدل" و"المعروف" و"المنكر"، ونظائره أكثر من أن تُحصى.

والمقصود من اجتماعِ النَّاس وتَعاشُرِهم هو التَّعاونُ على البِرِّ والتَّقْوى، فيُعِين كلُّ واحد صاحبَه على ذلك علمًا وعملاً؛ فإنَّ العبدَ وحده لا يستقلُّ بعلم ذلك، ولا بالقدرةِ عليه، فاقتضت حكمةُ الربِّ -سبحانه وتعالى- أن جعلَ النوعَ الإنساني قائمًا بعضه ببعضه، معينًا بعضه لبعضه.

ثم قال -تعالى-: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]؛ والإثم والعدوان في جانبِ النَّهي نظير البِرِّ والتقوى في جانبِ الأمر، والفرقُ بين الإثم والعدوان كالفرقِ بين مُحَرَّم الجنس ومحرَّم القَدْر؛ فالإثم ما كان حرامًا لجنسِه، والعدوانُ ما حُرِّم لزيادةٍ في قدره، وتعدَّى ما أباح الله؛ فالزِّنا والخمر والسرقة ونحوها إثمٌ، ونكاحُ الخامسةِ، واستيفاء المجنيِّ عليه أكثرَ من حقِّه ونحوه عدوانٌ، فالعدوان هو تعدِّي حدود الله التي قال عنها: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 229]، وقال في موضعٍ آخر: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ [البقرة: 187]، فنهى عن تعدِّيها في آية، وعن قربانِها في آية؛ وهذا لأنَّ حدودَه -سبحانه- هي النهايات الفاصلة بين الحلالِ والحرام، ونهاية الشيء تارةً تدخل فيه، فتكون منه، وتارة لا تكون داخلةً فيه فيَكون لها حُكْم المقابلة، فباعتبارِ الأول نَهى عن تعدِّيها، وباعتبار الثاني نهى عن قربانِها.

فهذا حكمُ العبدِ فيما بينه وبين النَّاس، وهو أن تكونَ مخالطتُه لهم تعاونًا على البرِّ والتقوى علمًا وعملاً.

وأمَّا حاله فيما بينه وبين الله -تعالى- فهو إيثارُ طاعتِه، وتجنُّب معصيته، وهو قوله -تعالى-: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [المائدة: 2]؛ فأرشدَت الآيةُ إلى ذِكْرِ واجب العبد بينه وبين الخلق، وواجبه بينه وبين الحقِّ، ولا يتمُّ له أداء الواجب الأول إلاَّ بِعَزْل نفسِه من الوسط، والقيام بذلك لمحضِ النصيحة والإحسان ورعاية الأمر، ولا يتمُّ له أداء الواجب الثَّاني إلا بعزلِ الخلق من البين، والقيام له بالله إخلاصًا ومحبة وعبودية.

فينبغي التفطُّنُ لهذه الدقيقةِ التي كلُّ خللٍ يدخل على العبدِ في أداء هذين الأمرين الواجبين إنَّما هو عدم مراعاتِها علمًا وعملاً، والله المستعان.

التعاون على الهجرة إلى الله ورسوله:
ومن أعظمِ ما يقع فيه التعاونُ على البِرِّ والتقوى:
التعاونُ على الهجرةِ إلى الله ورسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لَمَّا فصَل عِير السَّفر، واستوطن المسافرُ دارَ الغربة، وحيل بينه وبين مألوفاتِه وعوائده المتعلِّقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظرًا، فأجال فكرَه في أهمِّ ما يقطع به منازلَ السفر إلى الله، ويُنفق فيه بقيةَ عمرِه، فأرشده مَن بيدِه الرشد إلى أنَّ أهمَّ شيء يقصده إنَّما هو الهجرةُ إلى الله ورسولِه -صلَّى الله عليه وسلَّم- فإنَّها فرض عينٍ على كلِّ أحد في كلِّ وقت، ولا انفكاكَ لأحدٍ عن وجوبِها، وهي مطلوبُ الله -تعالى- ومراده من العباد؛ إذِ الهجرةُ هجرتان: هجرةٌ بالجسم من بلدٍ إلى بلد، وهذه أحكامُها معلومة، وليس المراد الكلامَ فيها، والهجرة الثانية: الهجرةُ بالقلبِ إلى اللهِ ورسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهذه هي المقصودة هنا؛ وهذه الهجرةُ هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصلُ، وهجرة الجسدِ تابعة لها؛ لأنَّ مَن هاجرَ بالبدن لا بدَّ أنه هاجرَ بقلبِه أولاً.

وهذه الهجرةُ تتضمَّنُ "من" و"إلى"، فيهاجر بقلبِه من محبةِ غير الله إلى محبتِه، ومن عبوديةِ غيرِه إلى عبوديته، ومن خوفِ غيره ورجائه والتوكُّل عليه إلى خوفِ الله ورجائه والتوكل عليه، ومِن دعاءِ غيرِه وسؤاله والخضوع له والذلِّ والاستكانة له، إلى دعائه وسؤالِه والخضوع له والذل له والاستِكانة له، وهذا بعينه معنى الفرارِ إليه؛ قال -تعالى-: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذاريات: 50]، والتوحيدُ المطلوب من العبدِ هو الفرار من الله إليه.

وتحت "من" و"إلى" في هذا سرٌّ عظيم من أسرارِ التوحيد؛ فإنَّ الفرارَ إليه -سبحانه- يتضمَّنُ إفراده بالطَّلب والعبودية ولوازمها، فهو متضمِّن لتوحيدِ الألوهية التي اتفقت عليها دعوةُ الرسلِ -صلوات الله وسلامه عليهم.

وأمَّا الفرار منه إليه، فهو متضمِّن لتوحيدِ الربوبية وإثبات القدر، وأن كل ما في الكونِ من المكروه والمحذور الذي يفرُّ منه العبد فإنَّما أوجبته مشيئةُ الله وحده، فإنَّه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئتِه، وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجودُه لعدمِ مشيئته، فإذا فرَّ العبدُ إلى الله فإنَّما يفر من شيء إلى شيء وُجد بمشيئةِ الله وقدره، فهو في الحقيقةِ فارٌّ من الله -تعالى- إليه -سبحانه.

ومَن تصوَّر هذا حقَّ تصوُّرِه، فَهِمَ معنى قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((وأعوذ بك منك))، وقوله: ((لا ملجأ ولا مَنْجى منك إلاَّ إليك))، فإنه ليس في الوجودِ شيء يُفَرُّ منه ويُستعاذ منه ويُلتجأ منه إلا هو من الله خَلْقًا وإبداعًا، فالفارُّ والمستعيذُ فارٌّ مما أوجدَه قدرُ الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبِرُّه ولطفه وإحسانه، ففي الحقيقةِ هو هاربٌ من الله إليه، ومستعيذٌ بالله منه، وتصوُّر هذين الأمرين يُوجب للعبدِ انقطاع تعلق قلبِه عن غيره بالكلية خوفًا ورجاءً ومحبة؛ فإنَّه إذا علم أنَّ الذي يفرُّ منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئةِ الله وقدرته وخلقه، لم يبق في قلبِه خوفٌ من غير خالقِه وموجده، فتضمَّن ذلك إفرادَ الله وحده بالخوفِ والحبِّ والرجاء، ولو كان فرارُه مما لم يكن بمشيئةِ الله وقُدرتِه، لكان ذلك موجبًا لخوفِه منه، مثل أن يفرَّ من مخلوقٍ إلى مخلوق آخَر أقدر منه، فإنَّه في حالِ فراره من الأولِ خائفٌ منه حَذِرٌ، ألاَّ يكون الثاني يعيذه منه، بخلافِ ما إذا كان الذي يفر منه هو الذي قضى وقدَّر وشاء ما يفرُّ منه، فإنَّه لا يبقى في القلبِ الْتفاتٌ إلى غيرِه.

فتفطَّن إلى هذا السرِّ العجيب في قوله: ((وأعوذ بك منك))، و((لا ملجأ ولا منجى منك إلاَّ إليك))؛ فإنَّ النَّاس قد ذكَروا في هذا أقوالاً، وقلَّ مَن تعرَّضَ منهم لهذه النكتةِ، التي هي لبُّ الكلام ومقصوده، وبالله التوفيق.

فتأمَّلْ كيف عاد الأمرُ كلُّه إلى الفرارِ من الله إليه، وهو معنى الهجرةِ إلى الله -تعالى- ولهذا قال النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((المهاجرُ من هجر ما نهى الله عنه))؛ ولهذا يقرنُ الله -سبحانه- بين الإيمانِ والهجرة في غيرِ موضع؛ لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر.

والمقصود:
أنَّ الهجرةَ إلى الله تتضمَّنُ هُجْران ما يكرهه، وإتيانَ ما يحبُّه ويرضاه، وأصلُها الحب والبغض؛ فإنَّ المهاجرَ من شيء إلى شيء لا بد أن يكونَ ما هاجر إليه أحبَّ إليه مما هاجر منه، فيُؤثِر أحَبَّ الأمرين إليه على الآخر، وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانُه إنما يَدْعونه إلى خلافِ ما يحبُّه ويرضاه، وقد بُلي بهؤلاء الثلاث، فلا يزالون يدعونه إلى غيرِ مرضاة ربِّه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاةِ ربه، فعليه في كلِّ وقت أن يهاجرَ إلى الله -تعالى- ولا ينفكّ في هجرتِه إلى الممات.

وهذه الهجرةُ تَقْوى وتَضْعُف بحسب داعي المَحبَّة في قلبِ العبد؛ فإنْ كان الدَّاعي أقوى، كانت هذه الهجرةُ أقوى وأتَمَّ وأكمل، وإذا ضعف الدَّاعي، ضعفت الهجرةُ حتَّى لا يكاد يشعرُ بها عِلمًا، ولا يتحرَّك لها إرادة.

والذي يُقضَى منه العجَبُ:
أنَّ المرء يوسع الكلامَ، ويفرِّع المسائل في الهجرةِ من دارِ الكفر إلى دار الإسلام، وفي الهجرةِ التي انقطعَتْ بالفتح، وهذه هجرةٌ عارضة، رُبَّما لا تتعلَّقُ به في العمر أصلاً، وأمَّا هذه الهجرة التي هي واجبةٌ على مدى الأنفاس، فإنه لا يُحَصِّل فيها علمًا ولا إرادة، وما ذاك إلا للإعراضِ عمَّا خُلق له، والاشتغال بما لا يُنَجِّيه وحده عمَّا لا ينجيه غيره، وهذا حالُ من عَشَتْ بصيرتُه، وضعفَتْ معرفته بمراتبِ العلوم والأعمال، والله المستعان، وبالله التوفيق.

وأمَّا الهجرةُ إلى رسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فعلمٌ لم يَبْق منه سوى اسمه، ومنهج لم تترك بُنيات الطَّريقِ سوى رسمه، ومَحجَّة سفَت عليها السَّوافي، فطمسَتْ رسومها، وغارت عليها الأعادي فغورت مناهلها وعيونها، فسالكُها غريب بين العباد، فريدٌ بين كلِّ حي ونادٍ، بعيدٌ على قربِ المكان، وحيدٌ على كثرةِ الجيران، مستوحش مما به يَستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون -الحجَّة والدليل- مقيم إذا ظعنوا، ظاعنٌ إذا قطنوا، منفردٌ في طريقِ طلبه، لا يقَرُّ قرارُه حتى يظفرَ بأربه، فهو الكائنُ معهم بجسدِه، البائن منهم بمقصدِه، نامت في طلبِ الهدى أعينُهم وما ليل مطيتِه بنائم، وقعدوا عن الهجرةِ النبوية وهو في طلبِها مشمر قائم، يعيبونه بمخالفةِ آرائهم، ويُزرون عليه إزراءه على جهالاتِهم وأهوائهم، قد رجموا فيه الظُّنون، وأحدقوا فيه العيون، وتربصوا به ريبَ المنون؛ ﴿فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: 52]، ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 112].

والمقصود:
أنَّ هذه الهجرةَ النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاقِ بعيد، ولعمر الله، ما هي إلا نورٌ يتلألأ، ولكن أنت ظلامُه، وبدر أضاء مشارقَ الأرضِ ومغاربها، ولكن أنت غيمُه وقتامه، ومنهل عذب صافٍ وأنت كدرُه، ومبتدأ لخير عظيم، ولكن ليس عندك خبره.

فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها، وحاسب ما بينك وبين الله، هل أنت من الهاجرين لها أو المُهاجرين إليها؟!

فحَدُّ هذه الهجرة:
سفر النَّفس في كلِّ مسألة من مسائل الإيمان، ومنزلٍ من منازل القلوب، وحادثة من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى، ومنبع النور المتلقَّى من فم الصادق المصدوق الذي ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3 - 4]، فكلُّ مسألةٍ طلعَت عليها شمس رسالته، وإلاَّ فاقذف بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدَّله هذا المُزكِّي، وإلا فعُدَّه من أهل الريب والتهمات، فهذا حدُّ هذه الهجرة...

فما للمقيم في مدينةِ طبْعِه وعوائده، القاطن في مَرْباه ومولدِه، القائل: إنا على طريقة آبائنا سالكون، وإنا بِحَبلهم متمسِّكون، وإنا على آثارهم مقتدون، وما لهذه الهجرة التي كلَّت عليهم، واستند في طريقة نجاحه وفلاحه إليهم، معتذِرًا بأن رأيهم خيرٌ من رأي النبي لنفسه، وأنَّ ظنونهم وآراءهم أوثقُ من ظنِّه وحدْسِه، ولو فتَّشتَ عن مصدرِ مقصودِ هذه الكلمة لوجدتَها صادرةً عن الإخلاد إلى أرض البطالة، متولِّدةً بين الكسل وزوجه الملالة...

والمقصود:
 أنَّ هذه الهجرة فرضٌ على كلِّ مسلم، وهي مقتضى شهادة أنَّ محمدًا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما أنَّ الهجرة الأولى مقتضى شهادة أنْ لا إله إلا الله، وعن هاتين الهجرتين يُسأل كلُّ عبدٍ يوم القيامة، وفي البرزخ، ويُطالَب بها في الدُّنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين.

وقد قال -تعالى-: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، فأقسم -تعالى- بأجَلٍ مُقْسَم به - وهو نفسه -عزَّ وجلَّ- على أنَّه لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتَّى يُحكِّموا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في جميع موارد النِّزاع، وهو كلُّ ما شجَر بينهم من مسائل النِّزاع في جميع أبواب الدين؛ فإنَّ لفظة "ما" مِن صيغ العموم؛ فإنَّها موصولةٌ تقتضي نفي الإيمان، أو لم يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم، ولم يَقْتصر على هذا حتَّى ضمَّ إليه انشراحَ صدورهم بِحُكمه، حيث لا يجدون في أنفسهم حرجًا -وهو الضيق والحَصْر- من حُكْمه، بل يقبلوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالتَّسليم؛ لا أنَّهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على قذًى؛ فإنَّ هذا مُنَافٍ للإيمان، بل لا بدَّ أن يكون أخْذُه بقبول ورِضًا وانشراح صدر.

ومتى أراد العبدُ أن يَعلم هذا، فلْيَنظر في حاله، ويُطالع قلبه عند ورودِ حكمه -صلَّى الله عليه وسلَّم- على خلاف هواه وغرَضِه، أو على خلاف ما قلَّد فيه أسلافَه من المسائل الكبار وما دُونَها: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ [القيامة: 14 - 15].

فسبحان الله! كم من حزازةٍ في نفوس كثير من النَّاس من كثير من النُّصوص، وبِوُدِّهم أن لو لم تَرِدْ! وكم من حرارةٍ في أكبادهم منها! وكم مِن شجًى في حلوقهم منها ومن موردها!
سَتَبْدُو لَهُمْ تِلْكَ السَّرَائِرُ بِالَّذِي
يَسُوءُ وَيُخْزِي يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ


ثم لم يقتصر -سبحانه- على ذلك، حتى ضمَّ إليه قوله -تعالى-: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، فذَكَر الفعل مؤكَّدًا بِمَصدره القائم مقام ذِكْره مرَّتين، وهو التسليم والخضوع له، والانقياد لما حكم به طوعًا ورِضًا وتسليمًا، لا قهرًا ومصابرة كما يُسلِّم المقهور لمن قهره كرهًا، بل تسليم عبدٍ مطيع لمولاه وسيِّده الذي هو أحبُّ شيء إليه، يعلم أنَّ سعادته وفلاَحَه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبرُّ به منها، وأقدر على تخليصها، فمتى علم العبد هذا من رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- واستسلم له وسلم إليه، انقادت له كلُّ علَّةٍ في قلبه، ورأى أنْ لا سعادة له إلاَّ بهذا التسليم والانقياد.

وليس هذا مما يُحصَّلُ معناه بالعبارة، بل هو أمر انشقَّ القلب واستقرَّ في سويدائه لا تفي العبارة بمعناه، ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني، وفرقٌ بين علم الحب وحال الحب؛ فكثيرًا ما يشتبه على العبد علمُ الشيء بحاله ووجوده، وفرقٌ بين المريض العارف بالصحَّة والاعتدال، وهو مثخن بالمرض، وبين الصحيح السليم وإن لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها، وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به، وبين حاله ووجوده...

وتأمَّل تأكيدَه -سبحانه- لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوهٍ عديدة من التأكيد:
أوَّلُها: تصديرها بـ(لا) النافية، وليست زائدةً كما يظنُّ مَن يظن ذلك، وإنما دخولها لسرٍّ في القسَم، وهو الإيذان بتضمُّن المُقْسَم عليه للنفي، وهو قوله: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [النساء: 65]، وهذا منهجٌ معروف في كلام العرب إذا أقسموا على شيءٍ منفيٍّ، صَدَّروا جملة القسم بأداة نفيٍ، مثل هذه الآية وغيرها.
وثانيها: تأكيده بنفس القسَم.
وثالثها: تأكيده بالمُقسَم به؛ وهو إقسامه بنفسه لا بشيءٍ من مخلوقاته، وهو -سبحانه- يقسم بنفسه تارةً، وبمخلوقاته تارة أخرى.
ورابعها: تأكيده بانتفاء الحرَج ووجود التسليم.
وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر، وما هذا التأكيد إلا لشدَّة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم، وإنه مما يُعتنَى به ويُقرَّر في نفوس العباد بما هو أبلغ أنواع التقرير.

وقال -تعالى-: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب: 6]، وهو دليلٌ على أنَّ من لم يكن الرسول أولى به من نفسه، فليس من المؤمنين.

وهذه الأولوية تتضمن أمورًا:
منها: أن يكون أحبَّ إلى العبد من نفسه؛ لأنَّ الأولوية أصلُها الحبُّ، ونَفْس العبدِ أحبُّ إليه من غيره، ومع هذا يجب أن يكون الرَّسولُ أولى به منها، وأحبَّ إليه منها؛ فبذلك يحصل له اسم الإيمان، ويَلْزَم من هذه الأولوية والمحبَّة كمالُ الانقياد والطاعة والرِّضا والتسليم، وسائر لوازم المحبة؛ من الرضا بحكمه، والتسليم لأمره، وإيثاره على ما سواه.

ومنها:
ألاَّ يكون للعبد حكمٌ على نفسه أصلاً، بل الحكم على نفسه للرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- يحكم عليها أعظم من حكم السيِّد على عبده، أو الوالد على ولَدِه، فليس له في نفسه تصرُّفٌ قطُّ إلا ما تصرَّف فيه الرسول الذي هو أولى به منها.

فيا عجبًا كيف تحصل هذه الأولويَّة لعبدٍ قد عزل ما جاء به الرسولُ -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن منصب التَّحكيم، ورَضِيَ بحكم غيره واطمأنَّ إليه أعظمَ من اطمئنانه إلى الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وزعم أنَّ الهُدى لا يُتلقَّى من مِشْكاته، وإنَّما يُتلقَّى من دلالة العقول، وأن الذي جاء به لا يفيد اليقين، إلى غير ذلك من الأقوال التي تتضمَّن الإعراض عنه وعمَّا جاء به، والحَوالة في العلم النافع إلى غيره؟! ذلك هو الضلال البعيد، ولا سبيل إلى ثبوت هذه الأولوية إلا بعزل كلِّ ما سواه، وتولِّيه في كل شيء، وعرض ما قاله كلُّ أحد سواه على ما جاء به، فإن شهد له بالصحَّة قبله، وإن شهد له بالبطلان ردَّه، وإن لم تتبين شهادته لا بصحة ولا ببطلان، جعله بِمَنزلة أحاديث أهل الكتاب، ووقفه حتى يتبيَّن أيُّ الأمرين أولى به.

فمن سلك هذه الطريقَ، استقام له سفَرُ الهجرة، واستقام له عِلمُه وعمَلُه، وأقبلَتْ وجوه الحقِّ إليه من كل جهة، ومن العجب أن يَدَّعي حصولَ هذه الأولوية والمحبة التامة مَن كان سعْيُه واجتهاده ونصَبُه في الاشتغال بأقوال غيره وتقريرها، والغضب والمحبَّة لها، والرضا بها والتحاكم إليها، وعَرْض ما قاله الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- عليها، فإن وافقها قَبِلَه، وإن خالفها التمسَ وجوه الحِيَل، وبالغ في ردِّه ليًّا وإعراضًا، وقد قال -تعالى-: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 135].
-----------------------------------------------------