عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان (10)
الشيــخ: مـحــمـود الـعــــــشري
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
القاعدة العاشرة: إحياء الطَّاعات المهجورة والعبادات الغائبة Ia_aya22
القاعدة العاشرة: إحياء الطَّاعات المهجورة والعبادات الغائبة
فشأن التِّجارة الرَّابحة مع الله: أن تتناول كلَّ مَراضيه، والذي يفتِّش عن مُرادات إِلَهه ومَحابِّه فيأتيها، هو الحاذق في تِجارته مع ربِّه -عزَّ وجلَّ.

وقد اعتاد الناسُ عباداتٍ معيَّنةً ظَنُّوها هي وَحْدها الأبواب المفتوحة إلى الله، لكن ينبغي أن يكون السَّاعي في مرضاة ربِّه بحَّاثًا عن المَسالك المهجورة، والأبواب البعيدة، ذات الطُّرق الوعرة التي تنكَّبَت عنها إرادات الناس كسلاً أو عجزًا، فمِن تلك الطَّاعات التي غفل النَّاسُ عنها، وأهْمَلوها، ولم نَجِد من يُحافظ عليها إلاَّ القليل: الاستغفار بالأسحار، وهي عبادة الصَّادقين؛ قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: 15 - 17].

والسَّحَر هو آخر الليل، وهو وقت السُّحور؛ لذا استُحِبَّ أن يَطعَم مريدُ الصَّوم في هذا الوقت، ثم يُستَحبُّ له أن يُبقي وقتًا يسيرًا قبل الفجر للاستغفار، وطلب العَفْو والصفح، والعتقِ من النار، وهذا الوقت زبدة الأوقات العامرة، وخلاصة الأزمنة السَّائرة، تتَّصل الأرض بالسَّماء، ويعبق ليلُ المتهجِّدين بأنفاس الملائكة المُنَزَّلة، والألطاف الهاطلة، ويكون النُّزول الإلهيُّ المهيب في الثُّلث الأخير من الليل؛ حيث الأقدامُ مصفوفةٌ في مَحاريب التَّبجيل، والمآقِي مُغرَوْرِقة فرحًا بقرب الكبير الجليل، والأيادي مرفوعة بالأدعية والتَّراتيل، والألسنة لَهِجَة بالذِّكر وتلاوة التَّنْزيل.

ملاحظة:
في "صحيح البخاري ومسلم" عن أبي هُرَيرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يَنْزِل ربُّنا -تبارك وتعالى- كلَّ ليلة إلى السماء الدُّنيا حين يَبْقى ثلث اللَّيل الآخر، يقول: مَنْ يدعوني فأستجيب له؟ مَنْ يسألني فأُعْطيه؟ مَنْ يستغفِرُني فأغفر له؟)).

ومِن تلك العبادات المَهْجورة:
عبادة التأمُّل والتفكُّر في مخلوقات الله وعجائب قدرته، والتدبُّر في أسمائه وصفاته وآلائه ونعمته، قال -تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَأمَّا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 190 - 191].

وقال -تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164].

وقال -تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 97 - 99].

وقال -تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 68 - 69]... وغير ذلك من الآيات الدالَّة على قدرة الله -عزَّ وجلَّ- الداعية إلى التفكُّر، والتدبر، والتأمُّل فيها.

واعلم أنَّ هذه العبادة هي أصلُ طريق اليقين في الله -عزَّ وجلَّ- وبهذا التدبُّر يَثْبت بالضَّرورة في الذِّهن وجودُ الرَّب الخالق المدبِّر، ومن ثمَّ إِلَهيَّة هذا الربِّ المدبِّر، واستحقاقه للعبادة دون غيره، وبِهذا التقرير خاطبَ الله -عزَّ وجلَّ- المشركين، مُطالبًا إيَّاهم بأن يتفكَّروا في هذه الحقائق؛ قال -تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: 46]، وقال -تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس: 31].

واعلم أيضًا أنَّ هذه العبادة مِن أعظم ما يقرِّب الإنسانَ من ربِّه، ويوقفه على جلاله وعظَمتِه، بل هي العلم الذي أشار الله -عزَّ وجلَّ- إليه باعتباره موصِّلاً لخشية الله؛ قال -تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: 27 - 28].

وكذلك عبادة التبتُّل؛ أي:
الانقطاع إلى الله تعالى، قال -تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [المزمل: 8]، والتبتُّل: الانقطاع، وهو تَفعُّل من البَتْل وهو القَطْع، وسُمِّيت مَرْيم: البَتُول؛ لانقطاعها عن الأزواج، وعن أن يكون لها نُظَراء من نِساء زمانِها، ففاقَتْ نساء الزمان شرفًا وفضلاً، وقُطعت منهن.

ومَصْدر بتَّل: تبتُّلاً، كالتعلُّم والتفهُّم، ولكن جاء على التَّفعيل مصدر تفعّل؛ لسِرٍّ لطيف؛ فإنَّ في هذا الفعل إيذانًا بالتدريج والتكلُّف والتعمُّل والتكثُّر والمبالغة، فأتى بالفعل الدالِّ على أحدِهما، وبالمصدر الدالِّ على الآخر، فكأنه قيل: بَتِّل نفسك إليه تبتيلاً، وتبتَّلْ إليه تبتُّلاً، ففُهِم المعنيان من الفعل ومصدره، فالتبتُّل الانقطاع إلى الله بالكُلِّية.

ومِثْل هذه العبادة تُلازم الإنسانَ في كلِّ زمان ومكان، لا تنفكُّ عنه، فهو بَيْن الناس بِجِسمه، ولكن روحه تَطُوف حول العرش، يكلِّمهم بمحيَّاه ولِسانه، لكن مُشاهدة عظَمة الله وجَلاله في سُوَيداء جنانِه؛ يَفْرح مع الناس لفرحهم، لكن قلبه قد مُلئ وجلاً وخوفًا وخشية من ربِّه، يحزن مع الناس لحزنهم، ولكن فؤاده قد ملئ أنسًا ورِضًا وحبورًا بما قَضى الله وقدَّر، إنه ذلك الحاضر الغائب، الموجود المفقود بين الهَياكل والصُّوَر، والأجسام والغِيَر.

وأيضًا:
ِبادة الصَّدَقة والإنفاق، وهي من أرْجَى الطَّاعات عند السَّالكين، والفقه فيها عظيمٌ أثرُه في النَّفْس، في "الصحيحين" عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- قال: "كان النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يَلْقاه جبريلُ، فيُدارسه القرآن، فلَرسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريلُ أجودُ بالخير من الرِّيح المُرْسَلة".

قال الشافعيُّ -رحمه الله-:
أُحبُّ للرجل الزيادةَ بالجُود في شهر رمضان؛ اقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولحاجة الناس فيه إلى مَصالحِهم، وتَشاغُل كثيرٍ منهم بالصَّوم والصلاة عن مَكاسبِهم.

وليس المقصودُ كثرة المُنفَق، بل كثرة الإنفاق؛ أيْ: فعله وإن قلَّ المال، ورُبَّ درهمٍ يُنفقه امرؤٌ من درهمين يَمْلكهما أحبُّ إلى الله من مائةٍ ينفقها مَن يملك الآلاف، قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الحسَن الذي رواه النَّسائيُّ: ((سبَق درهمٌ مائة ألف درهم؛ رجلٌ له درهمان أخذ أحدَهما فتصدَّق به، ورجل له مالٌ كثير، فأخذ من عُرْضِه مائة ألف فتصدَّق بها))، وقد خرج أبو بكرٍ من ماله كلِّه، وترك لأهله الله ورسولَه -صلى الله عليه وسلم- وخرج عُمَر من نصفِ ماله، وتصدَّق عبدُالرحمن بن عوف بقافلة قدِمَت المدينة بأحلاسها وأقتابِها.

وأدبُ المتصدِّق أن يعلم منَّةَ الله عليه؛ إذْ رزَقه المال، ثم وفَّقه للصَّدَقة، ويسَّر له مَن يقبل منه صدقتَه، ثم تلقَّاها منه ربُّه، وقبِل منه ما رزقه، وأن يتصدَّق بأفضل ما عنده: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92]، وأن يتلطَّف في إعطائها للفقير أو المُحتاج؛ حتَّى لا يشعر بِمنَّة العبد فيها، فيعمل على إخفائها، أو إرسالها مع قريبٍ له، أو نحو ذلك.

وكان بعض السَّلَف إذا أعطى الصَّدَقة وضعَها على كفِّه، وناولها للفقير على يده مبسوطةً، حتى يتَناولها الفقيرُ بنفسه، فقيل له في ذلك، فقال: حتَّى تكون يدُه هي اليدَ العليا؛ يُشير إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((واليَدُ العليا خيرٌ من اليد السُّفلى))؛ وهذا من لطيف ما يَقوم به أولئك الأكابر، والله الموفِّق.

ومن الطاعات المهجورة، بل مِن أعظمها:
تحديثُ النَّفْس بالغَزْو والجِهاد، وخاصَّة في شهر رمضان، شهر المعارك الكُبْرى، كبَدْر وفَتْح مكَّة وغيرهما، بل إنَّ المتبادر من الحديث أنَّ هذه الطاعة واجبة، لا يجوز الانفِكاك عنها؛ فقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلمٌ وأحمد: ((من مات ولم يَغْزُ، ولم يحدِّث نفسه بالغزو، مات على شُعْبة من نفاق))؛ فالظَّاهر وجوب أحَدِ الأمرين حتى يَبْرأ من هذا النفاق.

وفائدة تحديث النفس بالغَزْو:
إحياء معاني الجهاد والعِزَّة، والولاء والنُّصرة للدِّين، والبَراءة من الكفر والشِّرك، ومُعاداة أهله، والوصول بالنَّفس إلى أعلى مراتب البَذْل، وهو بذل الأرواح والمُهَج في سبيل الله.

ولقد هُجِرَت هذه المعاني حتَّى صارت بين الملتزِمين -فضلاً عن عامَّة المسلمين- نسيًا منسيًّا! وما أجدرَنا أن نُعاود إحياء هذه المعاني في هذا الشَّهر المبارك؛ شهر الصَّبر والبذل وجهاد النَّفس.

فهذه بعض نماذج من العبادات المهجورة الغائبة، ولو تأمَّلت قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((الإيمان بضعٌ وسِتُّون شعبة، أو بضع وسبعون شعبة)) لعرَفْت كم ضيَّع الناس من شُعَب الإيمان العمَلِيَّة، وطرق الخير المُوصلة لرضا الربِّ -تبارك وتعالى- والله المُستعان.

وهذه العبادات - وكثيرٌ غيرها -ستأتي معَنا- إن شاء الله.
--------------------------------------------------------