الباب الثالث
عالمية الرسالة الإسلامية
عالمية الرسالة الإسلامية Ocia1435
الفصل الأول
الرسالة الإسلامية نوعيتها وسر انتشارها
هوية الرسالة العالمية
لقد كان أثر الرسالة الإسلامية عميقاً في جزيرة  العرب التي تحققت وحدتها العملية في المرحلة الأخيرة من حياة الرسول، ومع اكتمال الدين الإسلامي... هذا، وإن الثورة الكبيرة التي حدثت فيها لم تقف عند تلك الحدود، بل سرعان ما خرجت ألوية الدعوة الإسلامية، لتشمل سائر بلاد العرب ثم العالم الإسلامي، لتؤكد هويتها العالمية ورسالتها الإنسانية فالإسلام ليس دين العرب وحسب، بل هو لسائر الشعوب والأمم...

يحدث الباحث الفرنسي المستشرق إتيين دينيه عن وثبة الإسلام، بقوله:
((عندما رفع الله إليه مؤسس الإسلام العبقري، كان هذا الدين القويم قد تم تنظيمه نهائياً، وبكل دقة، حتى في أقل تفاصيله شأناً.. وكانت جنود الله قد أخضعت بلاد العرب كلها، وبدأت في مهاجمة إمبراطورية القيادة الضخمة بالشام. وقد أثار القلق الطبيعي المؤقت، عقب موت القائد الملهم، بعض الفتن العارضة، إلا أن الإسلام كان قد بلغ من تماسك بنائه، ومن حرارة إيمان أهله، ما جعله يبهر العالم بوثبته الهائلة التي لا نظن ان لها في سجلات التاريخ مثيلاً.. ففي اقل من عام، ورغم قلة عددهم، استطاع العرب الأمجاد -وقد اندفعوا لأول مرة في تاريخهم، خارج حدود جزيرتهم المحرومة من مواهب النعم- أن يستولوا على أغلب بقاع العالم المتحضر القديم: من الهند إلى الأندلس)).

الفتح الإسلامي ونشر روح الحضارة
أمَّا إلمؤرخ الفرنسي المستشرق سيديو فإنه رأى في انتشار رسالة الإسلام  ليس مجرد توسع إقليمي، بل نشر روح الحضارة والمدنية يقول: ((وبعد ظهور محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي جعل قبائل العرب أمة واحدة، تقصد مقصداً واحداً ظهرت للعيان أمة كبيرة مدت جناح ملكها من نهر تاج في أسبانية إلى نهر الغانج في الهند، ورفعت على منار الإشادة أعلام التمدين في أقطار الأرض أيام كانت أوروبة مظلمة بحهالات أهلها في القرون المتوسطة)).

سر جاذبية الإسلام
هذا، ولقد أثارت مسألة  ولادة الإسلام ومن ثم انتشاره بتلك الوثبة العملاقة اهتمام المستشرقين الغربيين، فكان أن طرحت التساؤلات عن سر جاذبية الإسلام وهويته وقوته وانطلاقته العظيمة تلك..

يقول روجيه غارودي في كتابه "ما يعد به الإسلام":
((إن ولادة الإسلام وانتشاره يطرحان قضية نوعية خاصة إذ لا يجوز الاكتفاء بالإشارة إلى أن الجزيرة العربية بحاضرتيها مكة والمدينة، كانت نقطة التقاء المعجزة التجارية الكبرى والقوافل المتوجهة من الشرق إلى الغرب، ومن أوروبة والشرق الأدنى إلى الهند والصين، ومن البحر المتوسط إلى المحيط الهندي، لأن الاكتفاء بهذه الإشارة قد يفهم منه أنه بفضل وقوع الجزيرة العربية على مفترق طرق الحضارات قد تم تمازج الأديان والثقافات التي لم يكن الإسلام إلا محصلة لها ومبشراً بها، بل إنه خلافاً لهذا فقد انطلق من مكة والمدينة وشبه الجزيرة العربية بصحاريها وواحاتها، وراح يشع على مدى قرون، عقيدة واحدة وروحاً جماعية مشتركة سينسجم عنها ثقافة نوعية أغنت الثقافات الأخرى وجددتها وذلك عبر ثلاث قارات من الهند إلى أسبانية، ومن آسية الوسطى إلى قلب إفريقية. وظاهرة الانتشار هذه لا تشبهها أية ظاهرة أخرى سابقة أو لاحقة، نعني هجرة الموجات البدوية العديدة من أقاسي آسية، والغزوات الأوروبية الكبرى على أمريكة وإفريقية، هذه الغزوات التي تتمتع بتفوق عسكري مطلق، قوامه المدفع والبندقية أولا والرشاش ثانياً.. ولم تكن الجزيرة العربية غزيرة السكان، ولم يكن العرب يملكون ما يملك الفرس والبيزنطيون من أسلحة وفنون حربية. وهكذا فالإمبراطورية العربية لم تقم إذاً على أساس من علاقات (القوة) التي تؤمن لها تفوق ساحقاً.. زد على ذلك أنه ليس بالامكان تطبيق هذه الأطروحة أو تلك من مقولات (ماركسية) مطلقة مختزلة على الظاهرة الإسلامية، هذه الأطروحة التي تفسر حركة التاريخ وثوراته وتحولاته بالمستوى التقني والعلاقات الاقتصادية وصراع الطبقات الناجم عنها)).

لقد شغلت قضية انتشار الإسلام وقوة وثبته أفكار العظماء، ومنهم نابليون الذي سحر -كرجل عسكري- بالفتوحات العربية الإسلامية، وكان يرى وراءها قوة سرية كامنة في نشأة الإسلام وقوته الذاتية، وانتهى إلى النتيجة القائلة:
((إنه، إذا طرحنا جانباً الظروف العرضية التي تأتي بالعجائب، فلا بد أن يكون في نشأة الإسلام سر لا  نعلمه، وأن هناك علة أولى مجهولة جعلت الإسلام ينتصر بشكل عجيب على  المسيحية وربما كانت هذه  العلة الأولى المجهولة: أن هؤلاء القوم، الذي  وثبوا فجأة من أعماق الصحارى أمة قوية، ومواهب عبقرية، وحماس لا يقهر، أو ربما كانت هذه العلة شيئاً آخر من هذا القبيل)).

رسالة الإسلام النوعية
إلاً أن روجيه غارودي، حاول أن يضع يده على السر، الذي وجده كامناً في رسالة الإسلام النوعية، وأن تفسيره لا يمكن أن يتم خارج  إطار الإسلام نفسه، أو بمعزل عن تفهم العقيدة والروح الجماعية في الإسلام.

ويخلص إلى القول:
((ولكن إذا لم تكن مسلماً ولم تنظر إلى القرآن على أنه كتاب منزل من الله على محمد فمن المتعذر عليك كمؤرخ أن تنظر إلى تفجر ذلك الينبوع الحياتي الذي راح يزعزع العالم على أنه حقيقة دامغة، وذلك دون الخوض في تبسيطات الفلسفة الوضعية وأحكامها السابقة.. إذ التسليم بهذه الحقيقة الأساسية لا يلزما الاستغناء عن اللجوء إلى التفسير، وإنما يدعونا سلفاً بكل بساطة إلى أن لا نستثني هذا البعد الحياتي أو ذاك، من حركة الولادة والنمو التي تمارسها الإنسانية في مسيرتها التاريخية.. وفي كل تاريخ مفعم بالإنسانية تلعب (الغايات) والأهداف دورا فاعلاً لا يقل عن دور (الأسباب))).

ومن هنا نجد أن انتشار الإسلام  حدث بفعل قوته الذاتية، ولم ينجم عن أسباب خارجية، أو حصراً بالنشاط العسكري للمسلمين.

يقول غارودي:
((إذاً لا يمكن  تفسير ظاهرة انتشار الإسلام  بعوامل خارجية كالضعف البالغ أو الأغلال الذي انتاب الإمبراطوريات المهزومة (الإمبراطورية الرومانية الشرقية وإمبراطورية الفرس الساسانية وإمبراطورية الفيزيغوت في أسبانية) كما لا يمكن تفسرها بعوامل عسكرية صرفة.. ولكن الأسباب العميقة لذلك الانتشار العاصف أسباب (داخلية) تتصل بجوهر الإسلام وروحه، فعشية موت النبي وعلى مدى اثنتي عشرة سنة (من 633_ 645م) تمت سيطرة العرب على فلسطين وسورية وما بين النمرين ومصر. ولم تقف في وجه الموجة الأولى إلا الحواجز الطبيعية كسلسلة جبال طوروس في آسية الوسطى، وجبال شرقي إيران، وصحارى ليبية والنوبة في الغرب)).

رسالة تحرير لا استعباد
كان نضال المسلمين الملحمي في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر رسالة الخير والإنسانية لسائر أبناء البشر، هذه الرسالة التي لم تقتصر على الجانب الديني، وإقامة العبادات والشعائر فقط، وإنما عملت اجتماعياً على تحقيق المساواة والأخوة، وناضلت بروح من التسامح لا تعرف الأحقاد الطائفية الدينية.. فكانت رسالة تحرير للشعوب لا استعباد، وكانت الشعوب تستقبل المسلمين استقبال المحرر من الاسنعباد.

ويتابع غارودي بحث قضية سر انتشار الإسلام وقوة جاذبيته » بقوله:
((وهكذا  وفي كل مرة تتم فيها هزيمة الطبقة المسيطرة المكروهة من شعبها كان العرب يستقبلون على أنهم محررون من قبل ضحايا الإرهاب الاجتماعي أو السياسي أو الاضطهاد الديني.. كان انتصار العرب تحريراً وتخليصاً، فلقد حرروا المسيحيين القائلين بطبيعة واحدة للمسيح المهتمين بالهرطقة من قبل الإمبراطورية البيزنطية، كما حرروا النساطرة في بلاد الفرس، وقبائل البربر التي كانت قد تبنت مذهب الأسقف (دونات) والتي استعدى عليها القديس أوغسطين، إمبراطور رومة ليبطش بها، لأنها مارقة في نظره، كما كان انتصار العرب تحريراً لليهود والنصارى الأريوسيين وأتباع بريسيليان في أسبانية من اضطهاد (الأكليروس) المتعصب، كما كان تحريراً للفلاحين الأقباط في مصر الذين كانوا يعانون من ابتزاز كبار ملاكي الأراضي في بيزنطة)).

الفتح الإسلامي والحريات الدينية
ومن جانبه، اكد  فلاسكو إيفانيز في كتابه: "في ظل الكاتدرائية" أن ظاهرة انتشار الإسلام لم تأخذ طابع الاستعمار ولا سمة الغزو، يقول:

((إن أسبانية المعجزة من قبل ملوك لاهوتيين، وأساقفة شرسين، قد فتحت ذراعيها للفاتحين.. وفي مدى عامين استولى العرب على بلاد استغرق استرجاعها سبعة قرون. ولم تكن القضية قضية غزو أو اجتياح بحد السيف وإنما هي مسألة مجتمع جديد تترسخ جذوره القوية في جميع الاتجاهات. أما مبدأ حرية ممارسة الشعائر -وهو حجر الزاوية لعظمة كل أمة- فكان العرب حريصين على  تطبيقه، ففي كل المدن التي حكموها كانت كنيسة المسيحيين تقوم إلى جانب معبد اليهود)).

الديناميكية الداخلية لرسالة الإسلام
وحدة الإسلام الداخلية وتماسكه  واندماج الفرد في حياة الجماعة وخلق الأخوة الإسلامية، قد مدت الرسالة بتلك القدرة العجيبة على اقتراح المعجزات، رسوخاً في البقاء كنظام متماسك رغم كل أسباب التمزق، ورغم انقسام العالم الإسلامي.

يقول مارسيل بوازار:
((لقد كان الدين حافزاً فعالاً على تأليف كيان متميز لم تصدعه صروف الدهر، ولإ الاحتكاك بمختلف الحضارات على مر العصور.. ولقد تمكن المجتمع الإسلامي الذي قام على الدين من الصمود في وجه التفكيك السياسي، ولم تتأثر الروابط الدينية على الحدود والتخوم بين الدول كبير التأثير)).

تقدمية الرسالة القرآنية
وكان لتقدمية التعاليم الإسلامية إلى جانب العوامل الأخرى سر جاذبية الإسلام وخصيصة انتشاره السريع.

يقول بوازار:
((لقد أظهرت الرسالة القرآنية وتعاليم  النبي أنها تقدمية بشكل جوهري، وتفسر هذه الخصائص انتشار الإسلام السريع بصوره خارقة خلال  القرون الأولى من  تاريخه)).

كما اعتبر المستشرق الفرنسي هليار بلوك انتشار رسالة الإسلام معجزة حملت للإنسانية الخير والعطاء، ونادت بالمثل العليا، يقول في كتابه: « محمد والقرآن »: ((إني أقول إن معجزة كهذه من حيث خطرها وبعد أثرها، وعظيم نتائجها، كانت مسوقة بقوة لا يستطاع تفسيرها، وإن كان ما لدينا من المصادر والوثائق يساعدنا على تفهم الأسباب التي جعلتها أمراً واقعاً منظوراً.. كانت الحركة دينية، ما في ذلك شك، فلم يخرج العرب من جزيرتهم للنهب والسلب، وإنما خرجوا لنشر الدين الجديد الذي جاء به محمد، والتبشير بالمثل العليا التي نادى بها محمد، والصفات الجليلة التي دعا إليها محمد)).