الباب الثالث
من الهجرة إلى وفاته -صلى الله عليه وسلم-
الفصل الأول
الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية الأولى
الهجرة إلى المدينة
مع العام الثالث عشر للبعثة الإسلامية، حدثت الهجرة النبوية التي كانت مبدءاً للتاريخ الإسلامي، من مكة -عاصمة الشرك- إلى المدينة -قاعدة الإسلام الأولى-.

يقول توماس  كارليل:
((ومن هذه الهجرة يبتدىء التاريخ فى المشرق، والسنة الأولى من الهجرة توافق 622 ميلادية، وهى السنة الخامسة والخمسون من عمر محمد، فترون أنه كان قد أصبح شيخاً كبيراً، وكان أصحابه يموتون واحداً بعد واحد ويخلون أمامه مسلكاً وعراً، وسبيلاً قفراً وخطة نكراة موحشة، فإذا هو لم يجد من ذات نفسه مشجعاً ولامحركاً، ويفجر بعزمه ينبوع أمل بين جنبيه، فهيات أن يجد بارقات الأمل فيما يحدق به من عوابس الخطوب ويحيط به من كالحات المحن والملمات، وهكذا شأن كل انسان في مثل هذه الأحوال)).

الدلائل الروحية للهجرة
ولقد حملت الهجرة معان عدة، فهى هجرة الشرك وخلاص المسلمين المهددين بفتنتهم عن دينهم، بسبب الحصار القرشي العنيف ، واضطهاد ضعفاء المسلمين ، كما حفلت بدلائل ايمانية عميقة، قاربت المعجزات حين اختباً الرسول عن أعين مطارديه هو وأبو بكر في الغار الذي نسجت العنبوت على فمه نسجها وباض الحمام على مدخله....

وتحدث المستشرقين الأمريكي ماكس و(1795 -1686) في كتابه: « عظماء الشرق » عئ هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودلائل النبوة والقوة التي ظهرت في تلك المرحلة التي مثلت منعطفاً تاريخياً عظيماً في سيرة رسول الله وتطوراً نوعياً في مسار الدعوة الإسلامية.

يقول ماكس:
((لقد نفذت روح الإسلام من محمد رسول الله إلى المسلمين، إلى الهداة والصالحين، وإن هذه الروح القوية حدت بالنبي إلى الهجرة من مكة إلى المدينة ، بينها كان أعداؤه من المشركين يجدون في البحث عنه ليؤذوه بل ليذيقوه ريب المنون، ومن الغريب أن أعداء النبي لم يقنعوا أنفسهم بتركه مكة بل تعقبوه في هجرته، وهناك ضربوا على منزله سياجاً من الحيطة لأجل القبض عليه، ولكن روح الإسلام الدفينة في أعماق الهمة، ألهمته أن يتناول قبضة من تراب فتناولها وربى بها عليم فأخذتهم سنة من النوم تمكن خلالها النبي من النجاة منهم إلى الصحراء حيث اختفى في غار هناك، لا تقل إن اختفاءه في الغار يجول دون هلاكه وحتفه، ولكن الإسلام وما في ثناياه من روحانية وقوة، جعل الحمام يبيض على باب الغار، ولما أفاق أعداؤه من غشيانهم تتبعوا أثره إلى الغار، وأخذتهم هواجس الظن، لعلمهم بأن النبي لا يمكن بأي حال أن يكون في الغار، فمن يرد أن يؤمن بوحدانية الله، فعليه أن يشاهد بسهولة يد الله المحركة للكائنات من غير أن تبصرها العين المجردة وخاصة عندما أحيطت حياة  النبى من يد العدوان برعاية الطير الذي اندفع إلى حماية محمد بيد الإله الخافية عن الأبصار)).

الدلائل الايمانية للهجرة
لا مرية فى أن الهجرة الإسلامية من مكة إلى يثرب تمثل مرحلة من مراحل الصراع الدينى السياسي الدائر في الجزيرة العربية، كما تتضمن دلائل إيمانية بخروج المسلمين من عهد الجاهلية وتشكيل بداية التاريخ الإسلامي.

يقول المستشرق الفرنس مارسيل بوازار في كتابه «انساية الإسلام »:
((وما ان شعر محمد بالخطر حتى أوعز لفئة قليلة ممن آمنوا بدعوته، وكانوا مهددين بشكل خاص، على الهجرة إلى الحبشة. ثم ما لبث أن نظم هجرة أتباعه بالتدريج إلى ثرب التي عرفت فيما بعد باسم (المدينة). وائتمر المكيون لقتل النبي، وعلم بالأمر، وتمكن من النجاة بشبه معجزة بمساعاة شجاعة من ابن عمه علي، كما تقول كتب السيرة. وفي المدينة استقبل محمد بالتهليل في شهر تموز عام 622م، وكانت « الهجرة » التي يحدد بها المسلمون مطلع سنتهم، والتي تعتبر بداية التاريخ الإسلامي. وتعني اللفظة حرفياً ترك البلاد الى أخرى، والمنفى، والنجاة بالنفس. أما الدين فقد أضفى عليها معنى خاصاً هو الخلاص من الجهل، ورفض الشر، واطراح الكفر، وبكلمة تكون الهجرة فعل ايمان. ومن المفيد التذكير بأن الهجرة (ابتعاد طوعى وإن يكن محدداً بأسباب لا إرادية) يتجدد بلا انقطاع اذا حدث اذلال أو اضطهاد. وعلى المسلم أن (يهاجر اذا اقتضى الأمر ليجاهد في سبيل الله حتى يزول كل ظلم)).

معالم الدولة الاسلامية الاولى
ومع وصول الرسول إلى المدينة عام 622 بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الحركة الإسلامية الفتية، هي مرحلة كانت ما بين عهدي الجاهلية والإسلام. وأخذت تتبلور فيها معالم الدولة الإسلامية الأولى، المبنية على قاعدة الإخاء الإسلامى ما بين الأنصار (الأوس والخزرج) والمهاجرين المكيين وأسس الدستور الإسلامي الجديد الذي نظم العلاقات ما بين قوى المدينة، المسلمين والقبائل التي لا تدين بالإسلام واليهود، فكان التعايش بين مختلف الطوائف هو مدى هذا الدستور، والإخاء لحمته... دستور المدينة، الذي نضمن تنظيم العلاقات ما بين المسلمين من جهة، وأصحاب اذاهب الأخرى من جهة أخرى، في إطار من الحرية الدينية.

يقول المستشرق الروماني جيورجيو:
((وقد حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بنداً، كلها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعاثرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الاؤلى للهجرة، أى عام 623م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده)).

وحقق المجتمع الديني في ظل الدستور الجديد نقلة نوعية، وثورة اجتماعية، اذ غدت الأمة الإسلامية هي البديل العملي للعصبية القبلية، والإخاء والمساواة عوضاً عن طبيعة العلاقات الاجتماعية الجائرة... وأخذ بالسطوع نجم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذى أصبح عملياً الحاكم السياسي للمدينة، فكان الداعية والنبى والحاكا والقاثد العسكرى وأصبحت سيرة حياته تاريخاً للحركة الإسلامية.

عوامل انتشار  الدعوة الاسلامية
كانت المدينة قبل الهجرة تعانى اضطرابات داخلية، ومشاكل اقصادية وتمور داخلها تيارات سياسية وفكرية شتى، ناهيك بما كانت تعيش من صراعات قبلية.

هذا ويتحدث الباحث الإنكليزي غلوب باشا عن واقعها السكانى وأحوالها في تلك المرحلة بقوله:
((كانت المدينة  مأهولة عندما هاجر اليها  النبي بقبائل عدة، منها العربية ومنها اليهودية. (أرى من الأسهل التمييز بينها على هذا النحو، وان كان من يدعون باليود قد لا يخرجون عن كونهم عربأ تحولوا الى اليودية). وكان اليهود ينقسمون الى ثلاث قبائل تعمل اثتان منها في الزراعة وتعيش على زراعة النخيل والحبوب، أما الثالثة فتضم فنيين يعملون في صياغة الذهب والفضة وصناعة الأسلحة.أما العرب فكانوا قبيلتين: الأوس والخزرج، ولم تكن قد انقضت أربع سنوات على توقف الحرب بينهما ليحل محلها السلام، وليصبح للقبيلتين ريئس واحد هو عبد الله بن أبي يتولى قيادتهم وزعامتهم معاً)).

التفوق الروحي والزمني للرسول
كل هذه العوامل مجتمعة ساعدت على انتشار الإسلام في يثرب، ومكنت الرسول حين بلوغها إلى تحويلها قاعدة انطلاق لنشر الدعوة الإسلامية، ومركزاً للدولة الإسلامية الأول مما أكسب الرسول التفوق الروحي والزمني، ومنح الإسلام عزة ومنعة.

يقول المستشرق الهولندي فلوتن يان (1807- 1879) صاحب الدراسات العديدة والجادة في كتابه: "الفصول":
((إن محمداً لم يلبث أن أصبح له تفوق روحي وزمني بعد سنين قلائل من الجهاد والاضطهاد، كما يدل على ذلك غير آية من القرآن، وذلك بتحول أهل المدينة إلى الإسلام بفضل ذلك النفوذ الذي كان يتمتع به الرسول. وغدا الإسلام دينا قويا ما لبث أن انتشر بين الشعوب عن طريق الوعد والوعيد)).

أعداء الإسلام في المدينة
وكان أن واجهت الرسالة الإسلامية صعوبات مع قيام الدولة الإسلامية الأولى... ممن لم يعجبهم الواقع الديني الاجتماعي السياسي الجديد، فشكلت القوى التي عملت بالسر أو بالعلن على تخريب الإسلام من الداخل والإيقاع بين المسلمين.

وقد تشكلت من ركائز ثلاث:
أولاً: القبائل العربية التى ما زالت محافظة على وثنيتها، وتلتقي مع قريش في اتجاهاتها الدينية ومصالحها الاقتصادية.

ثانياً: اليهود بقبائلهم وتجمعاتهم السكنية الثلاثة (قينقاع وقريظة والنضير) وذلك حين شعروا بخطر الدعوة الإسلامية التي عملت على تقويض نفوذهم الديني ومكانتهم الاقتصادية، فكانوا أن عمدوا الى إثارة الفتن بين المسلمين وحبك الدسائس ضدهم، وهذا ما قاد الرسول في مرحلة تالية إلى تقويض وجودهم في المدينة، اذ  أجلى القبيلتين الأوليين (قينقاع والنضير) وأنفذ حكم السيف في القوة الثالثة (قريظة) حين تأكد من تآمرها وتواطئها مع قريش، والحلف العادى للرسول (في معركة الخندق).

ثالثاً: المنافقون، وهم الحركة السياسية التي تزعمها عبد الله  بن أبي، التي أعلن أفرادها اسلامهم ظاهراً، لكنهم ظلوا يكيدون للإسلام وللمسلمين ويحاولون الإيقاع بين الأنصار (مسلمي المدينة، وهو الاسم الذي أطلقه الرسول على قبيلتي الأوس والخزرج اللتين نصرتا الإسلام) والمهاجرين (مسلمي مكة) الذين هاجروا الى المدينة.

بدء  الصراع مع قرشيي مكة
الا أن أعداء الداخل لم يكونوا هم الخطر الوحيد الذي يهدد الإسلام ودولته... لقد كان العدو الخارجي - أي مشركو قريش- هم الخصم الأساسي، الذين عملوا على كسب أعداء الداخل، واستخدموا مختلف الأساليب في الضغط السياسي والاقتصادي والتهديد العسكري، كما لجؤوا إلى أسلوب الفتنة التى كان هدفها الوقيعة بين المسلمين ويهود المدينة، غير أن جميع وسائل الضغط والترهيب لم تجد فتيلا» لاسيما وأن مكانة الرسول والتفاف القوى الإسلامية حوله أدخلت الذعر في قلوب أعداء الداخل...

الصراع الاقتصادي
وكان السهم الخطير الذي لعبته مكة، هو الحصار الاقتصادي الذي ضربته على المدينة، وكان له أثره في تعجيل الصراع ما بين قوتي الشرك والإسلام، رغم أن الرسول الكريم  كان يهدف الى نشر الدعوة بالوسائل السلمية، إلا أن موقف العدو الذى يسيء إلى القضاء على الدعوة في مهدها، بخنقها اقتصادياً فرضت على المسلمين المواجهة.

يقول توماس كارليل:
((وكانت نية محمد حتى الآن أن يشهر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة فقط، فلما وجد أن القوم الظالمين لم يكتفوا برفض رسالته السماوية وعدم الإصغاء إلى صوت ضميره وصيحة لبه، حتى أرادوا أن يسكتوه فلا ينطق بالرسالة - عزم ابن الصحراء على أن يدافع عن نفسه دفاع رجل، ثم دفاع عربي، ولسان حاله يقول (أما وقد أبت قريش الا الحرب فلينظروا أى فتيان هيجاء نحن)- وحقا رأى أن أولئك القوم صموا آذانهم عن كلمة الحق وشريعة الصدق، وأبوا إلا التمادي في ضلالهم يستبيعون الحريم ويهتكون الحرمات ويسلبون وينهبون ويقتلون النفس التى حرم الله، ويأتون كل اثم ومنكر، وقد جاءهم محمد من طريق الرفق والأناة فأبوا لم لا عتواً وطغياناً، فليجعل الأمر اذن إلى الحسام المهند والوشيج المقوم، الى كل مسرودة حصداء وسابحة جرداء، وكذلك قضى محمد بقية عمره وهي عشر سنين اخرى في حرب وجهاد لم يسترح غمضة عين ولا مدر فواق وكانت النتيجة ما تعلمون)).

ومن هذا المنطلق الفكرى يتحدث المستشرق الفرنسي جان بروا في كتابه: «محمد نابليون السماء» بقوله:

((إن إبلاغ الرسالة الى العالم هو الهدف الأول والأخير للنبي محمد، ولم تكن مشاغل الأسرة والحياة لتحول بينه وبين أدائها أبداً، وإنك إذا نظرت الى عنف قريش ومؤامراتها الدموية وربط جأثسها على اغتياله مراراً، بل اذا نظرت الى كل القبائل العرية حينذاك، ألفيت الفزو جل عملها، ولم يكن النبي إلى ذلك الوقت - وإن كثر حوله الرجال - قد - اذن له في النضال ودفع العدوان بالعدوان، ولكن بعد كل تلك الاعتداءات جاء الوحي الإلهى يبيح له حرب المعتدين (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) (22 /39) (الحج) وجاء أيضاً: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يجب المعتدين) (2 / 190)).

الحصار الاقتصاى المضاد
وكان طبيعياً أن يواجه المسلمون المشركين بصراع اقصادى مضاد، فكان أن أنفذ الرسول عدداً من السرايا العسكرية، التى شكلت خطراً على القوافل التجارية القرشية... كما عقد عدداً من المعاهدات مع القبائل العربية، التى شكلت رديفاً في صراعه مع قادة مكة.

وهذا، ما دفع المستشرقين لأن ينظروا الى الرسول كنبي ورجل دولة وقائد عسكرى حين قرن الدين بالسيف والدعوة بالقوة.

يقول المستشرق اً. أفريمان في كتابه: " تاريخ العرب ":
((وجد النبي -الذي لا كرامة له في عشيرته- الولاء والإجلال في مدينة الهجرة. وأخذ النبى يظهر تدريجياً في صورة جديدة. فالنبي المضطهد يتحول الآن الى محارب ظافر. واذا فشلت: نذر النبي وبشائره في اقناع قريش فإن سلطان الفاتح سيرغمهم على الاقتناح)).

الاذان بالقتال وبدء العمليات العسكرية
وما إن نزلت الآية القرآنية التي تأذن للمسلمين بقتال أهل الشرك حتى أدرك المسلمون أن عليهم واجباً مقدماً. هو نشر الرسالة سلماً وحرباً، ومجابهة أعداء الإسلام عسكرياً، لأن هؤلاء يهدفون أساساً إلى القضاء على الدولة الإسلامية الأولى... فكان أن تحول المسلمون إلى الثورة الإسلامية وغدت المدينة قاعدة الانطلاق للعمليات العسكرية الموجهة ضد مكة، وكانت فاتحة لتاريخ الإسلام العسكري، وقادت إلى أول مواجهة ما بين الطرفين فى موقعة بدر...