الباب الثاني
من البعثة إلى الهجرة

الفصل الأول
البعـــــــــــــــــــــثة
الوحي وبدء البعثة
لقد عرف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان دائب الاعتكاف يتأمل في سر الوجود، حبب إليه الخلوة والتحنث، يقض الأيام الطوال في العزلة والتعبد... وكان نزول الوحي عليه في شهر رمضان من عام 610 ميلادية حين بلغ الأربعين من عمره وهو في غار حراء» فهو المصطفى المختار ليكون للناس كافة بشيراً ونذراً....

يتحدث المستشرق الفرنسي جان توزنون كرو (1867 - 1924م) في كتابه « العرب » عن مقدمات النبوة وبدء البعثة في مقدمة كتابه بقوله:
((أن الله اصطفى محمداً لإرشاد أمته، وعهد إليه هدم ديانتهم الكاذبة وإنارة أبصارهم بنور الحق، فأخذ من ذلك العهد ينادى باسم الواحد الأحد، بحسب ما أوحى إليه وبمقتضى عقيدته الراسخة)).

إلى أن قال:
((وقذف في نفس محمد مجموع كتاب ملآن بالأسرار والإلهية، وأوحى إليه مجموعة حقائق تجتاز مسافة عقله الطبيعي، لذلك فإن الله علم الإنسان بالقلم علمه ما لم يعلم، هذا هو سر الوحي، وهو سر الكلمة المكتوبة، وكانت الكلمة المكتوبة  وحياً إلهياً)).

ويتابع الباحث الفرنسي حديثه من بدء البعثة بقوله:
((وفي نواحي سنة 610  للميلاد، بلغ محمد أشده، فكان لا يقدر أن يتصور حال قومه بدون أن يتألم، وكان يرى أن أمراً ضرورياً ينقصه وينقص قومه، وكان العرب، كل قبيلة منهم عاكفة على صنمها، وكانوا يقولون بالجن والأشباح والغيلان، ولكنهم  كانوا في غفلة عنها، وكانت هذه الغفلة هي الموت الروحي، وكان قلب محمد قد خلا من كل فكر غير الفكر بالله، وكان قد تجرَّد من كل قوة غير هذه القوة، وكان ليس في نظره غير واجب الوجود الأحد الصمد، إلى أن قال: «وأحَبَّ مُحَمَّدٌ في تلك الفترة العُزلة، فكان يشعر في خلوته في جبل حراء بسرور عميق، يتزايد يومأ فيوماً» فكان يقض هناك الأسابيع وليس معه إلا قليل من الغذاء، لأن نفسه كانت تلتذ بالصوم والتهجد»)).

وتحدَّث المفكر الإنكليزي توماس كارليل في كتابه الأبطال عن اعتكاف الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتفكره بحقائق الحياة وأسرار الكون حين يقول:
«وكان من شأن محمد أن يعتزل الناس في شهر رمضان، فينقطع إلى السكون والوحدة دأب العرب وعادتهم، ونعمت العادة ما أجل وأنفع، ولا سيما الرجل كمحمد، لقد كان يخلو إلى نفسه فيناجي ضميره صامتاً بين الجبال الصامتة، متفتحاً صدره لأصوات الكون الغامضة الخفية. آجل، حبذا تلك عادة ونعمت، فلما كان في الأربعين من عمره وقد خلا إلى نفسه في غار بجبل (حراء) قرب مكة شهر رمضان، ليفكر في تلك المسائل الكبرى، إذ هو  قد خرج إلى خديجة ذات يوم، وكان قد استصحبها ذلك العام وأنزلها قريباً من مكان خلوته، فقال لها: انه بفضل الله قد استجلى غامض السر واستثار كامن الأمر، وأنه قد أنارت الشبهة وانجلى الشك وبرح الخفاء، وآن جميع هذه الأصنام محال، وليست إلا أخشاباً حقيرة، وان لا اله الا الله وحده لا شريك له، فهو الحق وكل ما خلاه باطل، خلقنا ويرزقنا وما نحن وسائر الخلق والكائنات إلا ظل له وستار يحجب النور الأبدي والرونق السرمدي، الله اكبر والله الحمد، ثم الإسلام وهو آن نسلم الأمر لله، ونذعن له، ونسكن إليه، ونتوكل عليه، وآن القوة كل القوة في الاستنامة لحكمه، والخضوع لحكمته، والرضا بقسمته، أية كانت في هذه الدنيا وفي الآخرة، ومهما يصبنا به الله ولو كان الموت الزؤام فلنلقه بوجه مبسوط ونفس مغتبطة راضية، ونعلم أنه الخير وآن لا خير إلا هو)).

ويتابع كارليل الحديث عن هذا الاعتكاف والتفكر في شؤون الحياة والكون، إذ كشفت له الحقيقة وأنيرت بصيرته، مع نزول الوحي عليه» بقوله:
((نعم، هو نور الله قد سطع ئ روح ذلك الرجل فأنار ظلماتها، هو فياء باهر كشف تلك الظلمات التي كانت تؤذن بالخسران والهلاك، وقد سماه  محمد -عليه السلام- وحياً و« جبريل »، وأينا يستطيع أن يحدث له اسماً، ألم يجيء في الإنجيل أن وحى الله يهبنا الفهم والإدراك، ولا شك أن العلم والنفاذ إلى صميم الأمور وجواهر الأشياء سر من أغمض الأسرار لا يكاد المنطقيون يلمسون منه إلا قشوره. وقد قال نوفاليس: «أليس الإيمان هو المعجزة الحقة الدالة على الله؟» فشعور محمد -إذ اشتعلت روحه بلهيب هذه الحقيقة الساطعة- بأن الحقيقة المذكورة هي أهم ما يجب على الناس علمه، لم يك إلا أمراً بديهياً، وكون الله قد أنعم عليه بكشفها له ونجاه من الهلاك والظلمة، وكونه قد أصبح مضطراً إلى إظهارها للعالم أجمع، هذا كله هو معنى كلمة (محمد رسول الله) وهذا هو الصدق الجلي والحق المبين)).

لقد أنار نزوع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الوحدة والتأمل الوجداني العميق، مفكراً بالشؤون الدينية والقضايا الاجتماعية، أنار له الطريق لإدراك جوانب الفساد وضروب الضلال في المجتمع المكي، كما كشف له الحقيقة الأزلية: حتمية وجود خالق فرد صمد، ولا بد بالتالي أن يخضع هذا الكون الكبير لنواميس تديره، ~ من أصنام قريش وأوثانها.

ويتحدث المؤرخ الألماني كارل بروكلمان في كتابه: « تاريخ الشعوب الإسلامية » عن بعثة الرسول بقوله:
((وأغلب الظن أن محمداً قد انصرف إلى التفكير في المسائل الدينية في فترة مبكرة جداً، وهو أمر لم يكن مستغرباً عند أصحاب النفوس الصافية من معاصريه الذين قصرت العبادة الوثنية عن أرواء ظمئهم الروحي. وتذهب الروايات إلى أنه اتصل في رحلاته ببعض اليهود والنصارى، أما في مكة نفسها فلعله اتصل بجماعات من النصارى  كانت معرفتهم بالتوراة والإنجيل هزيلة إلى حد بعيد. ومع الأيام أخذ الإيمان بالله يعمر قلبه ويملك عليه نفسه، فيتجلى له فرغ الآلهة الأخرى)).

ويجدر بنا أن نقف عند نقطة هامة، أثارها بروكلمان عرضاً، لكن وقف عندها الكثير من الباحثين الفرنسيين، وهي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أخذ من اليهود والمسيحيين أخبارهم السالفة، ومعلوماتهم الدينية والتاريخية ليشككوا بصدق الوحي، لينتهوا إلى القول بأن القرآن من تأليف محمد.

ولقد أشار الباحث العربي اللبناني الدكتور عمر فروخ في تعليقه على كتاب بروكلمان بقوله:
((أكثر المبشرين والمستشرقين يذكرون أن الرسول اتصل ببعض النصارى واليهود وأخذ عنهم عدداً من المعلومات الدينية والتاريخية. ثم هم يذكرون أن هذه المعلومات كانت خاطئة أو ناقصة.. أمَّا وجه الحق فخلاف ذلك. إلا أنني لا أريد هنا على المبشرين والمستشرقين مفنداً جميع أقوالهم فذلك مما يطول، ومما اشتعل به نفر من العلماء أيضا كالشيخ محمد عبده. ولكنني أقول أن العرب أنفسهم قالوا للرسول أن ما في القرآن يشبه بعض ما يقوله علماء اليهود، فنزلت الآيات الكريمة (26/192 - 197): (وانه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروحُ الأمينُ. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين. وانه لفي زبر الأولين. أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل؟).. فالخلاف إذن لا يتناول أن بعض المعلومات التي في القرآن تشبه بعض المعلومات التي في التوراة، بل في زعم هؤلاء بأن القرآن فهم هذه المعلومات فهماً خاطئاً في رأيهم أو أخذها من مصادر غير موثوقة. فالقضية كانت من العرب الأولين ومن المستشرقين اليوم قضية تعصب فقط)).

طبيعة محمد الروحية:
لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذا طبيعة روحية عالية، جم التفكير، عميق التقوى، حسَّاساً  بطبعه، متديناً بفطرته، فرضت عليه أحواله الحياتية الخاصة وأسفاره وتعرفه على حقائق الحياة  وتفكره بشؤون الكون، أن يكون مهيأً لحمل الرسالة....

يقول الباحث الإنكليزي المستشرق  روم لاندو:
((وفي أمكان المرء أن يتخيل، في يسر، ما استشعره الشاب الحسَّاس من وحدة وانفراد، والأثر الذي لاذ لا بد لذا الوضع أن يتركه في تكوينه العقلي. والواقع أن ما نزل عليه بعد من وحي لم يهبط في خواء Vacuum، بل هبط في جو من الاستبطان Int -صلى الله عليه وسلم- ospeetion المحتوم والتساؤل الروحي - وهو الجو الذي يلائم في العادة حياة غلام فقد أباه وأمه، وعدم الأخوة والأخوات)).

والى جانب كونه رجل فكر وذا طبيعة روحية، كان رجلاً عملياً واقعياً، أدرك نواحي الفساد في مجتمع قبلي وثني، فابتعد عنه وهداه التفكير إلى بلوغ الحقيقة الأزلية القائمة على فكرة الإله الواحد...

يتابع (روم لاندو)، قائلاً:
((كان محمد تقيأ بالفطرة، وكان من غير ريب مهيأ  لحمل رسالة الإصلاح التي تلقاها في رؤاه. وبالإضافة إلى طبيعته الروحية، كان في جوهره رجلاً عملياً عرف مواطن الضعف ومواطن القوة في الخلق العربي، وأدرك أن الإصلاحات الضروريه ينبغي أن تقدم إلى البدو الذين لا يعرفون انضباطاً والى المدينين الوثنيين، في آن معاً، على نحو تدريجي. وفي الوقت نفسه كان محمد يملك إيماناً لا يلين بفكرة الإله الواحد -وهى فكرة لم تكن جديدة كل الجدة في بلاد العرب- وعزماً راسخاً على استئصال كل أثر من آثار عبادة الأصنام التي كانت سائدة بين الوثنيين العرب)).

أمَّا الباحث العسكري جان باغوت غلوب، الذي عرف في البلاد العربية باسم غلوب باشا، حيث كان رئيساً لاركان الجيش الأردني، فقد كتب عن تحنُّث الرسول، ونزول الوحي عليه في كتابه: «الفتوحات العربية الكبرى»، بقوله:
((واقترب عام 610 ميلادية، وكان محمد قد بلغ الأربعين من عمره وازداد ميله إلى الوحدة والتأمل. وكان يهرب من طرقات مكة المحرقة المغبرة، ويلجأ إلى كهوف الجبال القريبة من الوادي العتيق الذي تقبع فيه المدينة ليقض فيا أحياناً أياماً متوالية. وتسرح أفكار الرجل متأملاً في هذه القمم الجرداء الداكنة التي يراها من فتحات الكهوف، والتي لا تظهر عليها نأمة حياة، ولا تفصلها عن بعضها إلا شعاب عميقة ضيقة من الأخاديد والوديان الجافة، وتعود فتتركز على فلسفة الحياة الأخرى التي كان قد سمع نتفاً عنها من اليهود والنصارى، وعلى وجود اله واحد أحد قوي صمد عنده الجنة السرمدية والحياة السعيدة الأزلية، يمنحها للمؤمنين من عباده، وعنده جحيم بما فيما من عذاب لا نهاية له ينزله بالكفرة وغير الصالحين..

وكان يعود إلى بيته وقد أثقلته هذه الأفكار فيبوح بها إلى زوجته الوفية خديجة التي ما برح يجد عندها المستقر والمراح والحث والتشجيع وقد مزجت في رعايتها له بين حب الزوج وحنان الأم..

وألف محمد اللجوء إلى الغار في الجبال في فترات معينة من شهر رمضان طلباً للتأمل والتعبد والتفكير والتهجد. وبينما كان  يتعبد في غار حراء حسب عادته إذ نزل عليه جبريل رأس الملائكة)).

الوحي في كتب الحديث والسيرة:
لقد اهتمت المصادر الإسلامية من كتب الحديث أو السيرة بمسألة الوحي، حين صاع الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، إذ كانت هذه الحادثة هي الانقلاب الخطير في حياة محمد -صلى الله عليه وسلم- وبالتالي في حياة العرب... إذ بدأت منذ ذلك اليوم مرحلة تاريخية جديدة، مع الدعوة الإسلامية...

ونجد هنا من المناسب أن نذكر أحدى روايات الحديث، من رواية للسيدة عائشة أم المؤمنين عن بدء الوحي بقولها:
((أول ما بدىء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي: الرؤيا يا الصالحة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه، -وهو التعبد الليالي ذوات العدد- قبل آن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق -وفي رواية: حتى فجأة الحق- وهو في غار حراء، فجاء الملك، فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أنا بقاريْ، قال: فأخذني فغطني، حتى بلغ منى الجهد، تم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقاريء، قال: فأخذني فغطني ثانية حتى بلغ منى الجهد، تم أرسلني، فقال: اقرأ: فقلت: ما أنا بقاريْ؟ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد، تم أرسلني، فقال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم) و(96/ 1-5).. فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملونى، زملونى، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة -وأخبرها الخبر-: لقد خشيت على نفسي، فقالت له خديجة: كلا، أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبداً، أنك لتصل الرَّحِم، وتصدُقُ الحديث، وتحملُ الكَلَّ، وتُكْسِبُ المعدوم، وتُقْرِي الضيف، وتُعِينُ على نوائب الحق..

فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قص -وهو ابن عم خديجة- وكان امرءأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمى، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى، فقال له ورقة: «هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك». فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: أوَ مُخرجِيَّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وان يدركني يومك حياً أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي)).

الوحي صوت الحقيقة الأبدية:
هذا، وقد تناول عدد من المستشرقين قصية البعثة ونزول الوحي على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن الصوت الذي سمعه في غار حراء كان حقاً هو صوت الحقيقة الأبدية التي أنزلها الله عليه عن طريق جبريل عليه السلام.

يقول الأب هنري لامنس:
((هكذا كان محمد بحراء، فكان ينشد الكون في تلك الجبال إلى كان يذهب يخلو بنفسه فما متأملاً في السماء ذات الكواكب، إلى ما كان في يسمعه من أعمق أعماق قلبه، وهو الرجل  الأمي الفطري الصادق، وذلك الصوت هو صوت الحقيقة الأبدية)).

ويتابع الأب هنرى لامنس، قوله:
«لم يكن محمد ممن لم يعرف العالم الباطن، نعم، لم يكن متصوفاً بالمعنى المعروف، إلا انه كان عن يرى أن الأمور التي في الغيب أعظم من الأمور التي تحت الحس، المشهود أدنى درجة من المحجوب، فالنظام الروحي في نظره هو الأهم وهو الوجود الحقيقي)).

بينما كتب المشتشرق اليوغسلافي الدكتور التر بتكين (1833-1907م) في مؤلفه: (الحياة تبدأ بالأربعين)، قائلاً:
((في أحدى ليال شهر رمضان بينما كان محمد نائماً في أحد كهوف حراء، عاد فتجلى عليه ذلك الشبح، وفي يده قطعة من الحرير عليها كتابة، وقال له ذلك الشخص: اقرأ، فأجابه: لست بقاريء، فأعاد عليه القول ثانياً: اقرأ - اقرأ أ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق إلى آخر السورة فردَّدَ محمد هذه الكلمات، وأحسَّ بالنور قد أشرق عليه».

أمَّا المستشرق الروسي ماكس مايرهوف (1815 - 1887) فقد قال في كتابه: (العالم الإسلامي):
((أن محمداً عام 610 للميلاد كان كثير التفكير والانفراد، وكان يقصد إلى البادية ويخلو بنفسه في جبل حراء قرب مكة، فرأى ذات يوم رؤيا هي أن الملك جبريل تجلى له، وناوله كتاباً وقرأ عليه هذه الآيات ص السورة السادسة والتسعون من القرآن: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)... الخ، نزل عليه هذا الكلام وحياً فأخبر امرأته بما وقع، ثم جاء وحىٌ آخر فيما بعد، فلمَّا شعر تغطى بثوب فسمع هذه الكلمات: (يا أيها المدثر قم فأنذر ودربك فكبر (74/3) ومنذ ذلك الحين اقتنع بأن الله اختاره مبشراً بعقيدة جديدة، وتسمَّى برسول الله ليدعو إلى الله بلسان عربي مبين)).

أن نزول الوحي على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- كان إيذاناً ببدء المرحلة التاريخية الحاسمة الجديدة في حياته -عليه السلام- أولاً، وفي حياة شبه الجزيرة العربية ثانياً، لقد كان الإسلام منعطفاً تاريخياً كبيراً، ولا بد لانتشاره من أن يصطدم بكل القيم والعادات والتقاليد والعبادات السائدة... فالدعوة الجديدة تحمل في ثاناياها خصوصية مرحلتها وعالمية الدعوة دونما تناقض أو تنافر، فهي تسعى إلى صلاح الإنسان وصلاح المجتمع، ونبذ العادات القبلية الذميمة كوأد البنات والعبادات الوثنية ونقلها إلى العادات الإنسانية السامية، ورأسها العبادة التوحيدية التي تقول بوحدانية الله وربوبيته.

صلاحية الرسالة ووحدانيتها:
لذا، فإن الكثير من المستشرقين المنصفين رأوا في دعوة الرسول دعوة إصلاحية قوامها صلاح المجتمعات وتوحيديته: أي المناداة بوحدانية الله، وان مرحلة النبوة الحقة التي جعلت من الرسول قطب أقطاب رجالات التاريخ العظماء، وبطل الأبطال الأفذاذ، وخاتم الأنبياء أصحاب الرسالات الخالدة.

يقول المستشرق والمؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه صاحب كتابي، (الحروب الصليبية)، و(مدنيات من الشرق) في مؤلفه الأخير:
((كان محمد لما قام بهذه الدعوة شاباً كريما نجداً، ملآن حماسة لكل قضية شريفة، وكان أرفع جداً من الوسط الذي يعيش فيه، وقد كان العرب يوم دعاهم إلى الله منغمسين في الوثنية، وعبادة الحجارة، فعزم على نقلهم من تلك الوثنية إلى التوحيد الخالص البحت، وكانوا يهتفون بالفوضى، وقتال بعضهم بعضاً فأراد أن تؤسس لهم حكومة ديموقراطية موحدة، وكانت لهم عادات وحشية همجية صرفة، فأراد أن يلطف أخلاقهم، ويهذب من خشونتهم)).

بينا نظر اليه المستشرق السويسري ادوار مونتيه (1810 - 1882م) مدير جامعة جنيف ومدرس اللغات الشرقية  في مؤلفه: «المدنية الشرقية» » نظرته إلى الأنبياء التوراتيين القدماء بقوله:
«كان محمد نبياً بالمعنى الذي كان يعرفه العبرانيون القدماء، ولقد كان يدافع عن عقيدة خالصة لا صلة لها بالوثنية، وأخذ يسعى لانتشال قومه من ديانة جافة لا اعتبار لها بالمرة، وليخرجهم من حالة الأخلاق المنحطة كل الانحطاط، ولا يمكن أن يشك لا في إخلاصه، ولا في الحمية الدينية التي كان قلبه مفعماً بها)).

ويقول مونتيه نفسه في مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن:
((كان محمد نبياً صادقاً، كما كان أنبياء بنى إسرائيل في القديم، كان مثلهم يؤتى رؤيا ويوحى إليه، وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود الألوهية متمكنتين به كما كانتا متمكنتين في أولئك  الأنبياء أسلافه فتحدث فيه كما كانت تحدث فيهم، ذلك الإلهام النفسي، وهذا التضاعف في الشخصية اللذين يحدثان في العقل البشرى المرائي والتجليات والوحي والأحوال الروحية التي من  بابها)).

هذا، ولا بد من وقفة مطولة في دراسة صدق الرسول وصحة الرسالة الإسلامية، في بحث مستقل سندرس فيه حقيقة الوحي، وأن محمداً لم يؤلف القرآن، ونرد على المزاعم الاستشراقية التي اتهمت الرسول بالصرح والجنون والاحتيال، وبأن الوحي الذي سمعه في رؤاه الصادقة كان صوت الحقيقة الأبدية، صوت الله الذي اختاره ليكون رسولاً للناس كافة..... ونقول: أن الرسالة التي نزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد حملته أعباء هائلة فوق طاقة البشر.

يقول آتيين دينيه:
((نزل الوحي كجذوة وهاجة بددت من نفس محمد كل شك، وأشعلت فيما تلك الآمال اللاشعورية، وتلك القوى الكامنة التي كدسها في نفسه خمس عشر سنة تقضت في التأمل والتحنث. لقد فتح الوحي عينيه على آفاق شاسعة. وأطلعه على ما يجب أن يقوم به نحو تلك الرسالة من جهود جبارة خطرة. لم يدر بخلد محمد يومأ ما أنه سيحمل هذا العبء، الهائل، ولئن كان بعض الرهبان قد تنبئوا بشي، منه، فإنه لم يعر تنبؤاتهم أي اهتمام، بل لقد نسيها، وان اضطرابه وخوفه، حينا فوجي بالوحي، من أن يكون فريسة لتخيلات شيطانية، ليؤكدان لنا صحة ما نقول.. وهذا محمد الذي كان يفر من الاختلاط ببني جنسه، والذي كان يأبى أية وظيفة من تلك الوظائف العامة، التي كان مواطنوه على استعداد لأن يمنحوها إياه، وقد أصبح -تحت تأثير الوحي- مستعداً لأن يواجه الحياة الصاخبة الجارفة، وقد امتلأ قلبه إيماناً مكيناً، وأفعمت نفسه بشجاعة لا تلين، وتأهب للقيام بالرسالة، بل تأهب للقيام بأعظم رسالة اؤتمن عليما إنسان. ولقد تأهب، في غير ما خوف أو إشفاق من تلك الامتحانات الهائلة التي لا مفر من أن يبتلى بها أمثاله من الهداة المرسلين. في تلك الليلة الخالدة، ليلة القدر، نزل القرآن كله من السماء العليا حيث كان محفوظاً بها إلى السماء الدنيا، التي تنتشر مباشرة فوق كرتنا الأرضية. وفي هذه السماء الدنيا وضع القرآن في بيت العزة، ذلك البيت الذي على سمت بيت الله: الكعبة المقدسة)).