الخاتمة
ويمكن أن نختم هذه الوقفات باقتباس لسميح فرسون يجيب فيه عن سؤال طرحه أحمد الشيخ عمن يمكنه تأسيس ثقافة الاستغراب والانطلاق بها نحو الأهداف المرجوة منها، حيث يجيب: "دراسة الغرب ينبغي ألا تترك للصدفة أو تتم عشوائيًّا، بل لا بد أن تكون قرارًا واعيًا ومقصودًا من قبل الدول العربية... ويجب أن يشمل هذا القرار إنشاء وتجهيز مراكز ومعاهد ومكتبات للدراسات الغربية، وأن يتم تكوين جيل جديد من المستغربين العرب؛ كي يساهموا في دراسة المجتمعات والتاريخ والثقافات الغربية، لقد حان الوقت لذلك".

وهو الأمر نفسه الذي يحاول كل من أحمد الشيخ ومازن مطبقاني القيام به بجهود ذاتية تفتقر إلى الدعم المباشر من ذوي الشأن في البلاد العربية والإسلامية والمراكز الأخرى المعنية بهذا الشأن، بعد أن يتوافر عنصرا الاقتناع والإرادة لدى ذوي الشأن، فيبذلون في سبيل الوصول إلى رؤية واضحة في التعامل مع الشأن الغربي من منطلقات علمية (أكاديمية) بحثية موضوعية، لا تغفل عامل الانتماء ولا تدعي الحياد العلمي البحت، وهي في الوقت ذاته لا تتجنى على ثقافات الآخرين، ولا تعتذر لهم، ولا تسوغ لما أسهموا به من عوامل توسيع الفجوات بين الثقافات.

مع هذه الجهود في التعرف على مفهوم جديد في لفظه قديم في منطلقه، لم ينَلْ هذا المصطلح الاستغراب العناية التي يستحقها، وظل جانب معرفة الآخر قاصرًا لدى جمع من المثقفين، الذين يرغبون في توسيع آفاقهم، وفتح مجالات للحوار بين الثقافات.

عند الدخول في تحليل هذا الفهم، فإنه يقود إلى نواة الاستغراب التي يدعو إليها بعض العرب والمسلمين، كما يدعو إليها بعض المُستشرقين، ومنهم المستعربون، والمهتمون بالحضارة العربية والثقافة الإسلامية من غير المُستشرقين.

وهناك من يدعو إلى اتباع أسلوب الاستغراب، من منطلق أن نعامل أولئك القوم بمثل ما يعاملوننا به، وهذا وإن صدق في الأعراف الدبلوماسية ونحوها، من منطلق المعاملة بالمثل، فإنه لا يصدق بحال في مجال النظرة إلى القوم من منطلق دينهم وأنبيائهم ورسلهم؛ ذلك أنه من تمام إيماننا نحن المسلمين أن نؤمن بهذه الأديان وأولئك الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام جميعًا.

يقول كمال عبدالملك ومنى الكحلة: "هل نستطيع أن نتكلم عن وجود نمط من الكتابة العربية يمكن أن نسميه علم الاستغراب العربي؟ يعني كتابة منظمة تتسم بالتنميط الثقافي للغرب في مقابل علم الاستشراق الغربي؟ كأن العرب يردون على تنميط الغربيين لهم، ويقولون لهم: نحن أيضًا نستطيع أن نخضع ثقافتكم الغربية لنظراتنا الفاحصة، نحن أيضًا بوسعنا أن نوصف ونحلل ونصنف وننمط، وحتى نسخر من عاداتكم وتقاليدكم ونظراتكم للحياة؟ العين بالعين، السن بالسن، والبادئ أظلم".

وحيث إن هذه التساؤلات المفصلية الثلاثة تحتاج إلى إجابة، فربما تكون الاجابة للباحثين الفاضلين: ما هكذا تورد الإبل، فنحن محكومون بعلمية وموضوعية -كما يقول أحمد الشيخ- يمليها علينا منهجنا في نقد أنفسنا وغيرنا، وتحكمنا الآية الكريمة الثامنة من سورة المائدة التي سبق ذكرها، وهي (دستور) لكل المواقف، مع الأعداء ومع غيرهم، كل هذا مع التوكيد على عدم التهاون في ثوابت الأمة.

على أن لدينا في المحيط العربي من جمع بين الاستشراق والاستغراب والتغريب في آن واحد، أو جمع بين الاستشراق والاستغراب، أو الاستشراق والتغريب، أو الاستغراب والتغريب، وشخصية فيليب حتى -مثلًا- تحتاج إلى دراسة علمية، تغطي هذه الأبعاد الثلاثة في شخصيته، فهو عربي يكتب عن الإسلام من وجهة نظر استشراقية، وينتقد الغرب من وجهة نظر استغرابية، وله أفكار تغريبية، ومثل ذلك يُقالُ عن عدد من المفكرين العرب الذين جمعوا بين الاستشراق والاستغراب والتغريب، ومن أولئك ألبرت حوراني، وعدد من عرب المهجر الذين كانت لهم إسهامات في هذه الجوانب الثلاثة مجتمعة ممن يحتاجون إلى دراسة علمية مستقلة.

ولا يدخل في هذا المجال التغريبيون من عرب المهجر، ومن المقيمين في الشرق من أمثال لويس عوض (1915 - 1990م)، وغيره كثير، ممن نهجوا نهجًا واضحًا في تبني أفكار الغرب وعاداته وتقاليده، وسَمَّاهُمْ أنور عبدالملك في السبعينيات بالعملاء الحضاريين، "هذه الفئة المُتغرّبة التي تتصرَّف في إطار من النقل والمُحاكاة.."، وهم كثير ويزيدون، فهؤلاء لهم مجالهم في الدراسة، بحسب دوافعهم وانتماءاتهم الفكرية، فلا يدخل هذا في نطاق هذه الدراسة.