الاستغراب الديني
ومن هذا المنطلق فإن الاستغراب يدرس كذلك الدين السائد في الغرب، وهو هنا النصرانية أولًا، ثم اليهودية، ويأتي الإسلام ليطغى -من حيث العدد- على اليهودية، ثم النصرانية بعدئذ؛ إذ المتوقع أن يكون الإسلام بحلول عام 1445هـ (2025م) هو الدين الأول في أوروبا، ولعله من الآن أضحى الدين الأول -كما صرح الفاتيكان بذلك- في سنة 1434هـ (2013م)، ولعل مقصود الفاتيكان بذا أن المسلمين يفوقون اليوم الكاثوليك في الغرب الأوسط، أو أوروبا الغربية من حيث العدد، على اعتبار أن الكاثوليك لا يرون معنى لظهور البروتستانتية على يد القسيس الألماني مارتن لوثر (1483 - 1546م)، محتجة على تعاليم الكاثوليكية الصارمة في عدم الخروج للحياة (العلمانية)، وعلى صكوك الغفران وسلطة الباب، فلا يدخلونها في إحصائياتهم، ولسنا بحاجة إلى الاستغراب في دراسة الإسلام!

ولا تعني دراسة هذه الأديان، أو الدينين بتعبير أدق، أن نترك نظرتنا نحن المسلمين لهما، من خلال ما نراه في كتاب الله تعالى وسُنَّةِ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل إنهما يكونان منطلقًا (مقياسًا) مُهِمًّا من منطلقات الدراسة، التي لم يكن الفكر الإسلامي خلوًا منها، وإن لم تنهض التسمية مصطلحًا لهذه الدراسات.

على أن هناك أمورًا لها دلالات في الكتاب الكريم والسُّنَّةِ النبوية، يمكن الانطلاق منها في الدراسات، وحيث إنها من حيث تفسيرها تدخل في جانب التحليل بعد اليقين بالكتاب والسُّنَّةِ، وعليه فإن هناك مجالًا رحبًا للدراسة، ويدخل في ذلك الإطلاق لأتباع عيسى ابن مريم -عليهما السلام- من حيث التسمية، فهل هم نصارى أم هم مسيحيون؟ وهل يحبذون اليوم تسميتهم بالنصارى أم بالمسيحين؟ وهل تسميتهم بالنصارى ثقيلة عليهم، إلى درجة الإساءة؟ فالقرآن الكريم يسميهم بالنصارى، ولم يرد في القرآن تسميتهم بالمسيحيين، بل ورد تسمية عيسى ابن مريم -عليهما السلام- بالمسيح.

قال الله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45]، وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 157 - 159]، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171]، وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 172، 173]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]، وقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 75، 76]، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30].

وعليه، فإن هذه المناقشة السريعة فيما له علاقة بالاستغراب الديني ستعتمد تسمية أتباع عيسى ابن مريم -عليهما السلام- بالنصارى، دون إغفال التسمية الأخرى من حيث شيوع المصطلح، ومن حيث القاعدة العربية: لا مشاحة في الاصطلاح، ومراجع هذه الدراسة تراوح بين تسميتهم بالنصارى والمسيحيين، ولم ترد تسميتهم بالمسيحيين في كتب التراث التي تعرَّضت للنصرانية من قريب أو بعيد، بل تواترت عندهم التسمية بالنصارى.

ومن باب طرح نماذج يمكن أن تكون مجالًا رحبًا للدراسات الاستغرابية الدينية يمكن التطرق لثلاث قضايا حساسة لدى النصارى، وهي ذات علاقة بالمسيح عيسى ابن مريم -عليهما السلام- من حيث طبيعته أولًا، وظروف ولادته ثانيًا، وادِّعَاءِ وفاته عليه السلام ثالثًا، حيث الافتراق الواضح في هذه القضايا الثلاث بين المعتقد النصراني والمعتقد الإسلامي.

ولا ينبغي أن يكون في دراسة هذه الموضوعات حساسية، ما دامت هذه الموضوعات والقضايا تبحث بمنظور علمي موضوعي هادئ، لا يُقصد به سوى الوصول إلى كلمةٍ سواءٍ؛ قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 64، 65].

ويتبع هذه القضايا المفصلية الثلاث عدد من القضايا السائدة في الغرب على أنها من الدِّين، وقد تكون كذلك، وقد لا تكون كذلك، والمعيار (المقياس) في هذا كله هو المثبت عند الدارسين، وليس بالضرورة عند المدروسين، وهو في حالنا هذه القرآن الكريم وصحيح السُّنَّةِ النبوية الشريفة، ثم الرجوع إلى المصادر اليهودية والنصرانية المُعتبرة، دون إغفال إعمال العقل الصحيح فيما ليس توقيفيًّا في العبادات والمُعاملات، ولا بد من المقياس في الحكم على قضايا مفصلية في سلوكيات تنسب إلى الدين السائد.