المبحث العاشر: منع غير المسلمين من دخول الحرم
المبحث العاشر: منع غير المسلمين من دخول الحرم Ocia1070
كثيراً ما يتردَّد في وسائل الإعلام، وفي المؤتمرات الصحفية، وفي مواقع الشبكة العنكبوتية التساؤلات التالية:
يُحَرّمُ الإسلام على غير المسلمين دُخول مكة، وكذلك دُخول المدينة؛ ويُعلّل ذلك بأن غير المسلم نجس.
أليس هذا دليلاً قاطعاً على احتقار المسلم لغيره من بني البشر؟
أليس هذا من الاعتداء على حقوق الإنسان وكرامته؟
أليس هذا من الاعتداء على حق المعاملة بالمثل؟ والمسلمون يدخلون معابد ومقدسات غير المسلمين؟
أليست مكة بيت الله؟
أليس الله رب الجميع؟
لماذا يحتكر المسلمون بيت الله لأنفسهم دون غيرهم؟


وهذه التساؤلات والشُّبَه كلها واهية، بل هي أوهى من بيت العنكبوت، كما سيتبيَّنُ لك فيما بعد، ولعل من المناسب أن تكون الإجابة على هذه التساؤلات مُجملة؛ لأن إجابة بعضها متعلقة بالإجابة على بعضها الآخر، ولئلا يَمَلُّ القارىء من تكرار الأدلة, وتردُّد الحُجَج.

فأقول مُستعيناً بالله:
إن الله سبحانه وتعالى شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل؛ من أجل أن يرتقي الجنس الإنساني، ويبلغ كماله المنشود، فأبى الكافر إلا أن يظلم نفسه, ويدنسها، ويوبقها بالكفر والمعاصي، ويمنعها حقها الفطري , وهو عبادة الله وحده، فأبى أن يعبّدها لله، وعبّدها لغيره، ثم يطالب أن يسوى بينه وبين من يعبد الله، كلا فلا يستوي المؤمن والكافر، كما لا يستوي الخبيث والطيب.

وأمَّا بيان زيف هذه المطالبة، وسقوط هذه الشبهة فيتضح من خلال الوجوه التالية:
الوجه الأول:
أن هذا الدين حق، ولا يقبل الله في الدنيا والآخرة ديناً غيره، قال تعالى: (ومَن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (164).

وقد جعله اللهُ مُهيمناً على ما سبقه من الأديان والشرائع قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لِمَا بين يديه من الكتاب ومُهَيْمِنًا عليه) (165).

وهذا الدِّين هو مِلَّةُ إبراهيم -عليه السلام- وهو النبي المُبجَّل من جميع أصحاب الأديان قال تعالى: (ومَنْ أحسنُ دينًا مِمَّنْ أسلم وجههُ لله وهو مُحسنٌ واتَّبعَ مِلَّةَ إبراهيم حنيفًا) (166).

الوجه الثاني:
أن أنبياءهم بَشَّرُوا أقوامهم بهذا النبي الخاتم، وبهذا الدين الكامل، قال تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مُصدقًا لِمَا بين يَدَيَّ من التوراة ومُبَشِّرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) (167).

وكُتُبُ اليهود والنصارى مملوءة بالشواهد المنقولة عن أنبيائهم التي تُبَشِّرُهُمْ بمقدم هذا النبي ﷺ‬ كقول موسى -عليه السلام- مُخبراً عن الله أنه يقول: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، واجعل كلامي في فمه, فيُكلمهُم بكل ما أوصيه به) (168).

وجاء أيضاً قول موسى -عليه السلام-: (إن الرَّبَّ تعالى جاء من طُور سيناء، وأشرق من ساعير، وظهر من جبال فاران) (169).

وفي هذا النص إشارة إلى مواطن الرسالات الثلاث، فطور سيناء إشارة لرسالة موسى -عليه السلام-، وساعير إشارة إلى موطن رسالة عيسى -عليه السلام-، وفاران -وهي جبال مكة- إشارة إلى مهبط الرسالة الخاتمة، رسالة نبينا محمد ﷺ‬.

الوجه الثالث:
شهادة مَنْ أسلم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن هذا الدين حَقٌ، فقد صَنَّفُوا في ذلك مُصنَّفات كثيرة، وضمَّنُوها من الأدلة والبراهين والحُجج ما فيه حُجَّة على كل مبطل، ومن هذه الكتب: بذل المجهود في إفحام اليهود, للمهتدي السموأل، كان يهودياً فأسلم، والدين والدولة في إثبات نبوة نبينا محمد ﷺ‬ لعلي بن ربّن الطبري، والنصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية, لنصر بن يحيى المتطبب، وتحفة الأريب في الرد على أهل الصليب, لعبد الله الترجمان، ومحمد ﷺ‬ في التوراة والإنجيل والقرآن, لإبراهيم خليل أحمد، وكل هؤلاء كانوا نصارى؛ فهداهم الله إلى الإسلام (170)، وقد نقل عن هذه الكتب أئمَّة الإسلام كابن تيمية, وابن القيم, والقرافي, وابن حزم, ورحمة الله الهندي... وغيرهم مِمَّنْ صَنَّفَ في مجال الجدل مع أهل الكتاب.

الوجه الرابع:
تضمَّنت كُتُبُ اليهود والنصارى أن النبوة تُنزع  منهم، وتُعطى أمَّةً تقدرها حق قدرها؛ ولذلك ذكّرهم المسيح -عليه السلام- بما يجدونه في كتبهم حينما قال لهم: (أمَّا قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية... لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع منكم، ويعطى لأمَّة تعمل أثماره) (171).

ويلحظ القارىء تشابهاً كبيراً بين هذا النص وبين ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) (172).

الوجه الخامس:
تضمَّن الإنجيل حرمان غير بني إسرائيل من الهداية, وحصرها فيهم، وعدم جواز تقديمها إلى غيرهم، فقد جاء في إنجيل متى: أن امرأة طلبت من المسيح -عليه السلام- أن يشفي ابنتها؛ فرفض، فشفع في شأنها حواريوه فقال لهم: (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، فأتت, وسجدت له قائلة: يا سيدي أعني. فأجاب, وقال: ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين, ويطرح للكلاب) (173).

والحرْمَان من الهداية أعظم من الحرْمَان من مكان العبادة؛ لأن الهداية لا تُتَلقى إلا من رسول، بينما يستطيع العبد أن يعبد ربه في كل مكان.

وإذا كانت هذه الرسالة مقصورة على أهلها، فإن رسالة محمد ﷺ‬ موجهة إلى كل البشر، فقد وجه محمد ﷺ‬ كتبه ورسله إلى الملوك والزعماء, كما هو مشهور من كتب السنة والسيرة.

الوجه السادس:
أن كُتُب أهل الكتاب نصَّت -كما مَرَّ معنا- على نجاسة الكافر والمُشرك، وأنه ينجس الزمان والمكان الذي يحل فيه، ويجب نفيه وإبعاده عن المدينة والمحلة التي يسكنها غيره.

بل توجب هذه النصوص نفي الأبرص, وتجعله نجساً.

وقد يقول قائل منهم:
إننا تركنا ذلك, ولا نعتقده.

فنقول:
لا تزال فئام منكم كثيرة تعتقد ذلك, وتدين به، وهب أنكم تركتم العمل بهذا, فهل نطالب بأن نترك العمل بشرعنا؟ فأنتم تركتم ذلك كما تركتم غيره من شعائر دينكم، ونحن تمسَّكنا بما أمرنا الله به من تحريم أن يقرب حَرَمَهُ كافرٌ أو مُشرك، كما تمسَّكنا ببقية شرائع ديننا، وأنتم ضيَّعتم هذا الأمر كما ضيَّعتم بقية شرائع دينكم.

الوجه السابع:
أن منع غير المسلمين من دخول الحرم ليس احتقاراً لذواتهم؛ وإنما هو تنزيه للمكان الذي شرع اللهُ تطهيره من أن يقربه من يحمل في قلبه الكُفر بالله، أو يُشرك معه آلهة أخرى، فإذا كان البيت الحرام أمر اللهُ ببنائه تعظيماً لِذِكْرِهِ، وإعلاناً لتوحيده؛ فلا يجوز أن يتردَّد الكُفَّارَ في الموطن الذي جعله اللهُ خالصاً للتوحيد، وميداناً لعبادة الله وحده، وقد مَرَّ معنا أن نصوصهم تمنع من دخول العُصَاةُ في الأماكن المقدسة.

الوجه الثامن:
أن الرسول الذي بَلَّغَ البشرية أمر تحريم الحَرَم، وتحريم أن يدخله مُشرك- هو إبراهيم الخليل -عليه السلام-، وهو أبو الأنبياء، وهو النبي الذي يدَّعي جميع أتباع الأديان: اليهودية، والنصرانية، والإسلام، أنهم يتبعونه, ويبجلونه, ويعظمونه، فمَنْ كان حقاً مُتَّبِعاً لإبراهيم ومُعَظّماً لِمَا حَرَّمَهُ ومنعه؛ فليُحَرّم ما حَرَّمَهُ، وليمتنع مِمَّا منعه.

والمسلمون حينما يمنعون الكفار من دخول الحرم، فإنما يتبعون أمر الله الذي بَلَّغَهُ إبراهيمُ إلى البشرية، وجدَّدهُ نبينا محمد ﷺ‬، فهم متبعون لا مبتدعون، ويقتفون أثر الأنبياء , ولا يمارسون الاحتقار أو التفرقة العنصرية؛ إذ لم يكن تشريعاً خاصاً بشريعة محمد ﷺ‬؛ بل كان تشريعاً ربانياً منذ خلق الله السموات والأرض.

الوجه التاسع:
أن جَعْلَ الإسلام المُشركَ نجساً نجاسة حكمية إنما هو بسبب ما اتَّصَفَ به من شرك وكفر، بينما جعلت نصوص أهل الكتاب أن من سواهم فهم أنجاس نجاسة ذاتية، وأنه ينجس المكان كما في سفر حزقيال: (يكفيكم كل رجاساتكم -يا بيت إسرائيل- بإدخالكم أبناء الغريب الغلف القلوب، الغلف اللحم؛ ليكونوا في مقدسي, فينجسوا بيتي) (174).

ووصفوا -أيضاً- بأنهم كلاب، ولا يحسن أن تقدم لهم الهداية، كما مَرَّ معنا في الوجه الخامس (175).

الوجه العاشر:
أن الإسلام يجعل أصل الجنس البشري واحداً, وهو آدم -عليه السلام-، كما قال تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبَثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً) (176).

وعلى هذا فلا فرق بين الناس إلا بالتقوى, قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (177).

فالله سبحانه وتعالى جعل الناس شعوباً وقبائل؛ ليتعارفوا، لا ليتفاخروا, ويحتقر بعضهم بعضاً.

الوجه الحادي عشر:
أن الإسلام وضع القواعد الشرعية التي تكفل التعايش البشري الراقي، وينهى عن كل ما يدعو إلى الأحقاد والضغائن، واحتقار الخلق، كما قال ﷺ‬: (إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، والناس بنو آدم, وآدم من تراب، لينتهين أقوام فخرهم برجال، أو ليكونن أهون عند الله من عدتهم من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن) (178)، فبيَّن النبيُّ ﷺ‬ أصل الخليقة، ونهى عن التفاخر الممقوت، ووضح أسس التفاضل المحمود الذي يحقق للبشرية السعادة والرُّقِي المنشود.

الوجه الثاني عشر:
أن الله سبحانه خلق خلقه لغاية شريفة، وهي عبادته سبحانه وتعالى، ونهى عن معصيته، وأخبر أن البشرية إما مؤمن تقي، أو فاجر شقي، ولا يستوي -شرعا وعقلا- البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فمن سوى بينهما فقد سوى بين المتضادات, وجمع بين المتفرقات، والله, وهو رب الجميع -المسلم والكافر- هو الذي أمر أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام أن يمنعوا الكافر من دخول الحرم، وأوجب عليهم أن يبلغوا أتباعهم وجوب المحافظة على هذه الأوامر الإلهية؛ فمن قام بها فقد أطاع الله، ومن خالفها فقد عصى ربه، واستوجب عقوبته.

الوجه الثالث عشر:
أن المسلمين لا يمنعون الكفار من دخول سائر المساجد؛ وإنما يمنعونهم من دخول الحرم المكي والحرم المدني، فليس لقائل أن يقول: كما يدخل المسلمون سائر المعابد، فليؤذن لغير المسلمين بدخول الحرمين، فالمعابد تقابلها المساجد، والحَرَمَانِ لا تقابلهما المعابد.

كما أن هذا المنع ليس من الاعتداء على حق المعاملة بالمثل؛ لأن من حق غير المسلمين أن يمنعوا المسلم من دخول سائر معابدهم ومقدساتهم، والمسلمون لا يطالبون غيرهم بأن يؤذن لهم بدخول معابدهم؛ فقد أغناهم الله ببيوت الله عن بيوت مَنْ سواه.

الوجه الرابع عشر:
أن الجزيرة العربية هي الحصانة الجغرافية للدين الإسلامي، كما ورد ذلك في البيان الصادر عن المجلس الأعلى للدعوة والإغاثة في جلسته المنعقدة في القاهرة بتاريخ 10/ 10/ 2000م، والحرمان الشريفان هما قلبها وقاعدتها وأساسها، فكيف يُطالب غير المسلم أن يظهر دينه المخالف للإسلام في قلب العالم الإسلامي وأساسه وقاعدته.

إن لكل دين أساساً وحصانة يحرص أتباعه على المحافظة عليها نقية من كل دخل، صافية من كل شائبة؛ حتى يبقى للدين كيان محفوظ يحفظ به على مَرِّ الأجيال.

الوجه الخامس عشر:
أن المملكة العربية السعودية -وهي تحافظ على هذا الأمر الرباني- إنما تقوم بواجب شرعي يفرضه عليها دينها، وموقعها الشرعي والجغرافي والسياسي فرض عليها التزامات إدارية وأدبية أمام بقية العالم الإسلامي -بحكوماته وبشعوبه- الذي يبلغ تعداده ملياراً ومائتي ألف مسلم؛ إذ هذه البقعة الشريفة المباركة هي قبلة صلاتهم، وإليها يتجهون في كل يوم خمس مرات، وهي مهوى أفئدتهم، يقصدونها من جميع أنحاء المعمورة؛ لأداء مناسك الحج والعمرة، وهذا الأمر لا خيار للملكة العربية السعودية فيه؛ إذ يستند إلى أمر إلهي، وتشريع رباني، ويعتمد على قاعدة من قواعد الشريعة، وليس أساسه قانوناً وضعياً، أو حُكماً برلمانياً قابلاً للتبديل والتغيير، بل لا تملك أي سلطة على وجه الأرض حق التبديل أو التغيير في هذا الأمر الإلهي، بل على جميع المسلمين السَّمع والطَّاعة.

الوجه السادس عشر:
أن هذه البقعة الخاصة لها أحكام خاصة، فكما يمنع الكافر من دخولها، فكذلك المسلم يحرم عليه فيها ما لا يحرم عليه في غيرها، بل إن المسلم يعاقب بنية الإثم فيها, ولو كان خارج الحرم، كما قال تعالى: (ومَن يُرد فيه بإلحادٍ بظلم نُذقهُ من عذابٍ أليم) (179)، وهذه الخصوصية شملت الحيوان والطير والنبات , فلا يُصاد صيدها، ولا يُقطع شجرها، ولا يُختلى خلاها.

الوجه السابع عشر:
أن أهل الجاهلية -مع شركهم وبُعدهم عن هدي الأنبياء- كانوا يُعَظّمُونً الحرم، ويمتنعون فيه عن أشياء لا يمتنعون عنها خارج الحرم -كما مَرَّ معنا- فوجب على أتباع الأنبياء أن يُعَظّمُوا الحرم تعظيماً أعظم من تعظيم أهل الجاهلية له، وتعظيم الحرم من تعظيم الله، وتعظيم شعائر الله يدل على تقوى القلب, وزكاة النفس، قال تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) (180).

فتعظيم الحرم يدل على التقوى، والمطالبةُ بامتهان الحرم والاستهانةِ بما عَظَّمَ اللهُ علامةٌ على فساد القلب، وخُبث الطوية، وسُوء المقصد.

الوجه الثامن عشر:
أن وجود الكُفَّار والمُشركين والأوثان والأصنام في أماكن العبادة, بل في أشرفها مكاناً وأعظمها حُرمة -يُخالفُ مقصود العبادة وغايتها، وهو تعظيم الله سبحانه وتعالى وعبادته وحده لا شريك له, بل يخالف شرع الله الذي أمر أن لا يقربها كافرٌ أو مُشرك.

الوجه التاسع عشر:
أن النجاسات المعنوية كالشرك والكفر ووجود الأوثان -أعظم أثراً, وأبلغ في التدنيس لأماكن العبادة من النجاسات الحسية؛ وما ذاك إلا لأن النجاسات المعنوية تخالف مقصود العبادة وغايتها، ولا يمكن تنظيفها منها وتطهيرها إلا بإزالتها وإبعادها عنها.

الوجه العشرون:
أن هذه المواطن والمقدسات والحُرُمَات أقيمت لعبادة الله وحده، وأقام إبراهيم الخليل -عليه السلام- أول مسجد -وهو الكعبة- عنواناً على التوحيد، وإعلاناً به، كما قال تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا) (181)، فلا حق لغير المسلم بالاقتراب منها أو المرور فيها فضلاً عن أن يتعبَّد فيها.

فإذا أذن اللهُ بعمارته لتوحيده، فكيف يؤذن لِمَنْ أراد تدنيسه بالكُفر والشرك الذي يُخالف غاية وجوده - أن يقربه؟!.

الوجه الحادي والعشرون:
أن اللهَ عَهِدَ إلى إبراهيم في ذريته في قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلماتٍ فأتمَّهُنَّ قال إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) (182)، فالإمامة بالدين مرتبة شريفة لا ينالها إلا المتقون، فمَن اتَّصف بالكُفر والشّرك فلا يناله عهد الله، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: (لا ينال الإمامة في الدين مَنْ ظلم نفسه وضَرَّهَا، وحَطَّ من قدرها؛ لمُنافاة الظلم لهذا المقام، فإنه مقامٌ آلتهُ الصبرُ واليقينُ، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة، والأخلاق الجميلة، والشمائل السديدة، والمحبة التامة، والخشية والإنابة، فأين الظلم من هذا المقام؟) (183).

وقال ابن عاشور:
(وفي الآية تنبيه على أن أهل الكتاب والمشركين يومئذ ليسوا جديرين بالإمامة؛ لاتصافهم بأنواع من الظلم كالشرك وتحريف الكتاب) (184).

الوجه الثاني والعشرون:
أن الله كما حكم على الكفار بالظلم فقد بين أنهم سفهاء, ومن علامة سفههم أنهم يكفرون بالله, ثم يدعون أحقيتهم بالولاية الدينية، وينسون الحظ الأعلى, وهو الرغبة في الجنة, ويطلبون لأنفسهم الحظ الأدنى, وهو دخول الأماكن المقدسة؛ ألا يعلمون أن الأماكن المقدسة لا تقدس أحداً.
------------------------------------
الهوامش:
164.     سورة آل عمران 85.
165.     سورة المائدة الآية 48.
166.     سورة النساء الآية 125.
167.     سورة الصف الآية 6.
168.     التثنية 18: 18.
169.     التثنية 33: 1 – 3.
170.     وقد استقصيت هذه الحجج والأدلة في كتابي (مسلمو أهل الكتاب وأثرهم في الدفاع عن القضايا القرآنية).
171.     متى 21 : 42 – 43. وقد استدل به المهتدي إبراهيم خليل أحمد لهذا الغرض في كتابه محمد ﷺ في التوراة والإنجيل والقرآن ص 73.
172.     رواه البخاري 3/1300،ح 3342، ومسلم 4/1791 ،ح 2286.
173.     متى 15: 21 – 26. ونحن نعلم أنه لا يجوز السجود إلا لله، كما نعلم أن الرسالات السابقة كانت خاصة، لكن هم يزعمون أن رسالتهم عامة لكل البشر, ومع ذلك ففي كتابهم أن الدر لا يطرح للخنازير، وأن خبز البنين لا يقدم للكلاب.
174.     حزقيال44: 8.
175.     النصوص التي يستدل بها النصارى على عموم رسالة المسيح هي من النصوص التي ألحقت بالأناجيل وليست منها، انظر الدراسة التي أعدها المهندس أحمد عبد الوهاب عن حقيقة التنصير في كتابه: حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر، ص 18 وما بعدها.
176.     سورة النساء الآية 1.
177.     سورة الحجرات الآية 13.
178.     رواه أحمد في المسند2/361، والترمذي 5/389، وأبو داود 4/331.
179.     سورة الحج الآية 25.
180.     سورة الحج الآية 32.
181.     سورة آل عمران / الآية 96.
182.     سورة البقرة الآية 124.
183.     تيسير الكريم الرحمن ص65.
184.     التحرير والتنوير 1/707.