المبحث السابع: من أحكام الحرم
المبحث السابع: من أحكام الحرم Ocia1066
جعل اللهُ -سبحانه وتعالى- البيت الحرام مثابةً للناس وأمناً، وأخبر رسول الله ﷺ‬ أن الله شَرَّفَ مكة, وعَظَّمَهَا, وحَرَّمَهَا، منذ خلق الله السموات والأرض، وخَصَّ اللهُ -سبحانه وتعالى- هذا البلد بخصائص وأحكام لم يشترك معه فيها غيره.

وهذه الأحكام مختلفة:
فمنها ما يتعلق ببيان حُرمته وشرفه، فقد بَيَّنَ النبي ﷺ‬ أن الله حَرَّمَ مكة يوم خلق السموات والأرض كما روى ذلك أهل الصحاح والسُّنن، ومن ذلك قوله ﷺ‬: (إن الله حَرَّمَ مكة يوم خلق السماوات, والأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة, لم تحل لأحد قبلي, ولا تحل لأحد بعدي, ولم تحلل لي إلا ساعة من الدهر, لا يُنَفَّر صيدُها, ولا يُعَضَّد شوكها ولا يُختلَى خلاها ولا تَحِلُّ لُقطتُها إلا لِمُنْشِدٍ) (97).

وأخرج البخاري عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال: (إن الله حَرَّمَ مكة فلم تحل لأحَدٍ قبل, ولا تحل لأحَدٍ بعدي, وإنما أحلت لي ساعة من نهار, لا يختلى خلاها, ولا يعضد شجرها, ولا ينفر صيدها, ولا تلتقط لقطتها إلا لِمُعَرّفٍ) (98).

وقال رسول الله ﷺ: (إن إبراهيم حَرَّمَ مكة ودعا لأهلها, وإني حَرَّمْتُ المدينة كما حَرَّمَ إبراهيمُ مكة وإني دعوتُ في صاعها ومُدّهَا بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة) (99).

وفي الحديث الأول, والثاني أن الله حَرَّمَ مكة وجعلها آمنة، وفي الحديث الثالث أن إبراهيم الخليل -عليه السلام- هو الذي حرم مكة.          

فقد يتساءل متسائل أوما كان الحرمُ آمناً قبل أن يسأل إبراهيم ربه لــه الأمان؟.
فيقال: المسألة محل نظر واختلاف, وقد أورد ابن جرير -رحمه الله- الأقوال في ذلك, وذكر دليل كل فريق, ثم قال: (والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرماً حين خلقها وأنشأها، كما أخبر النبي أنه حَرَّمَهَا يوم خلق السماوات والأرض بغير تحريم منه لها على لسان أحَدٍ من أنبيائه ورُسُلِهِ، ولكن بمنعه مَنْ أرادها بسوء، وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات، وعن ساكنيها ما أحَلَّ بغيرها وغير ساكنيها من النقمات، فلم يزل ذلك أمرها حتى بوَّأها اللهُ إبراهيم خليله -عليه السلام-, وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل، فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه؛ ليكون ذلك سُنَّةً لِمَنْ بعده من خلقه يستنون بها فيها، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلاً , وأخبره أنه جاعله للناس إماماً يُقتدى به، فأجابه ربه إلى ما سأله، وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على لسانه؛ فصارت مكة -بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها بغير إيجاب الله فرضَ الامتناع منها على عباده، ومحرمة بدفع الله عنها بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله- فرضاً تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم -عليه السلام-، وواجباً على عباده الامتناع من استحلالها، واستحلال صيدها وعضاهها، بإيجابه الامتناع من ذلك؛ ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليك بذلك إليه؛ فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم، فقال رسول الله ﷺ: إن الله حَرَّمَ مكة؛ لأن فرض تحريمها الذي ألزم اللهُ عباده على وجه العبادة له به -دون التحريم الذي لم يزل مُتعبداً لها به على وجه الكلاء والحفظ لها قبل ذلك- كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه، لزم العباد فرضه دون غيره) (100).

وقال الشوكاني -رحمه الله- بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في ذلك, وساق الأقوال: (ولا تعارض بين هذه الأحاديث؛ فإن إبراهيم -عليه السلام- لَمَّا بلغ أن الله حرمها، وأنها لم تزل حرماً آمناً، نسب إليه أنه حرَّمها، أي أظهر للناس حُكم الله فيها، وإلى هذا الجمع ذهب ابن عطية وابن كثير، وقال ابن جرير: إنها كانت حراماً ولم يتعبد الله الخلق بذلك، حتى سأله إبراهيم فحرَّمها وتعبَّدهم بذلك. وكلا الجمعين حسن) (101).

وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عند قوله تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم)...: (فالله جَلَّتْ قُدرته أمر نبيه إبراهيم وابنه إسماعيل أن يُطَهّرا هذا البيت، وهكذا جميع ولاة الأمور يجب عليهم ذلك؛ ولهذا نَبَّهَ النبي ﷺ‬  على ذلك يوم فتح مكة، وأخبر أنه حَرَمٌ آمِنٌ، وأنَّ اللهَ حَرَّمَهُ يوم خلق السموات والأرض، ولم يُحَرّمْهُ النَّاس) (102).

ومنها ما يتعلق بعمارته الحسية والمعنوية بالعبادة فيه, والطواف حوله, ومضاعفة الحسنات فيه.
فقد بَيَّنَ النبي ﷺ‬ عظيم أجر مَنْ بنى لله بيتاً في سائر الأرض فقال رسول الله ﷺ: (من بنى لله مسجداً, ولو كمفحص قطاة, بَنَى اللهُ له بيتاً في الجنة) (103).

فما بالك بعمارة المسجد الحرام الذي جعله اللهُ مثابة للناس وأمناً، وشرع أن تُشَدُّ الرّحالُ إليه؛ طلبا لمُضاعفة الأجر فيه إذ يقول الرسول ﷺ‬: (لا تُشَدُّ الرّحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول ﷺ، ومسجد الأقصى) (104).

وبَيَّنَ النبي ﷺ‬ مضاعفة الصلاة فيه فقال: (صلاةٌ في مسجدي أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام, وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه) (105).

وأخبر ابن عمر -رضي الله عنهما- عن الأجور المترتبة على الطواف بالبيت  حينما سأله والد عبد الله ابن عبيد بن عمير بقوله لابن عمر: إنك لتزاحم على هذين الركنين فقال ابن عمر: إن أفعل فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (مسحهما يَحُطُّ الخطايا، وسمعته يقول: مَنْ طاف بالبيت لم يرفع قدماً, ولم يضع إلا كتب اللهُ له حسنة, ويَحُطُّ عنه خطيئة, وكتب له درجة. وسمعته يقول: مَنْ أحصى أسبوعاً كان كعتق رقبة, قال يوسف في حديثه: ورُفِعَتْ له بها درجة) (106).

ومنها ما يتعلق بتطهيره وتهيئته للمتعبدين والطائفين والقائمين والرُّكع السجود، قال تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) (107).         
وقال تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئًا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والرُّكع السجود) (108).          

وقال تعالى: (ولله على الناس حِجُّ البيت مَنْ استطاع إليه سبيلًا) (109).

ومنها ما يتعلّق بحمايته من أن يقربه مشرك, أو يجوس في أرضه كافر.          

قال تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) (110).

وأمر النبي ﷺ‬ ألَّا يَحُجَّ  البيت مُشْركٌ، فقد قال أبو هريرة: (بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمّره عليها رسول الله ﷺ قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك) (111).

وسأل رَجُلٌ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بأي شيءٍ بُعِثْتَ في الحَجَّةِ؟ قال: (بُعِثْتُ بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عُريان، ولا يجتمع مؤمن وكافر في المسجد الحرام بعد عامهم هذا، ومَنْ كان بينه وبين النبي ﷺ عَهْدٌ فعهدهُ إلى مُدَّتِهِ، ومَنْ لم يكن له عهدٌ فأجلهُ أربعة أشهر) (112).

وقال الشافعي رحمه الله: قال الله تبارك وتعالى: (إنما المشركون نجس)... الآية, قال: فسمعت بعض أهل العلم يقول: المسجد الحرام: الحرم.          

وبلغني أن رسول الله ﷺ قال: (لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج، ولا لمشرك أن يدخل الحرم).          

قال: وسمعت عدداً من أهل العلم بالمغازي يروون أنه كان في رسالة النبي ﷺ: لا يجتمع مسلم ومشرك في الحرم بعد عامهم هذا، فإن سأل أحَدٌ مِمَّنْ تؤخذ منه الجزية أن يُعطيها ويَجري عليه الحُكم على أن يُترك يدخل الحرم بحال فليس للإمام أن يقبل منه على ذلك شيئاً، ولا أن يدع مشركاً يطأ الحرم بحال من الحالات طبيباً كان أو صانعاً بنياناً أو غيره؛ لتحريم الله عز وجل دخول المشركين المسجد الحرام، وبعده تحريم رسوله ذلك، وإن سأل مَنْ تُؤخذ منه الجزية أن يعطيها ويجري عليه الحُكم على أن يسكن الحجاز لم يكن ذلك له، والحجاز مكة) (113).

وقال -أيضاً-: ولا بأس أن يبيت المُشرك في كل مسجد إلا المسجد الحرام, فإن الله عز وجل يقول: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)، فلا ينبغي لمشرك أن يدخل الحرم بحال (114).          

وبَيَّنَ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن هذا الحكم يدخل فيه الكافر الوثني والكتابي وجميع الكفار (115).

قال ابن قدامة -رحمه الله- مُبَيّنَاً ما يختصُّ به الحرم عن سائر الحجاز: (ويخالف الحجاز؛ لأن الله تعالى منع منه، مع إذنه في الحجاز، فإن هذه الآية نزلت, واليهود بخيبر والمدينة وغيرهما من الحجاز، ولم يُمنعوا من الإقامة به، وأول مَنْ أجلاهم عمر -رضي الله عنه-، ولأن الحرم أشرف؛ لتعلق النُّسُك به، ويحرم صيده، وشجره، والملتجىء إليه، فلا يُقاس عليه، فإن أراد كافر الدخول إليه مُنِعَ منه، فإن كانت معه ميرة أو تجارة خرج إليه مَنْ يشتري منه، ولم يُترك هو يدخل، وإن كان رسولاً إلى إمام بالحرم خرج إليه مَنْ يسمع رسالته, ويبلغها إيَّاه، فإن قال: لا بد لي من لقاء الإمام، وكانت المصلحة في ذلك؛ خرج إليه الإمام، ولم يأذن له في الدخول، فإن دخل الحرم عالماً بالمنع عزر، وإن دخل جاهلاً نُهِيَ وهُدِّدَ، فإن مرض بالحرم أو مات أخرج, ولم يُدفن به؛ لأن حُرمة الحرم أعظم) (116).

ومنها ما يتعلّق بأمن وحماية مَنْ حَلَّ فيه من آدمي أو حيوان أو طير أو شجر وتحريم الاعتداء عليه.          
قال تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمنًا) (117) وكذلك ما جاءت به الأحاديث الصحيحة والصريحة عن رسول الله ﷺ‬ التي تُحَرِّمُ أن يُسفك فيه دَمٌ حَرَامٌ, أو أن يُقتل فيه صَيْدٌ, أو يُعَضَّدُ فيه شجر (118).

وجمع الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في المجموع الأحكام التي يُخالف الحرم فيها غيره من البلاد, وأوصلها إلى سبعة عشر حُكماُ, فقال: (المسألة السادسة: في الأحكام التي يُخالف الحرم فيها غيره من البلاد, وهي كثيرة نذكر منها أطرافاً: أحدها: أنه ينبغي أن لا يدخله أحَدٌ إلا بإحرام, وهل ذلك واجبٌ أم مستحبٌ؟ فيه خلاف، وختمها بقوله: السابع عشر: لا يجوز إحرام المُقيم في الحرم بالحج خارجه) (119).
--------------------------------------------
الهوامش:
97.     صحيح البخاري4/1567، ح 4059، صحيح مسلم 2/986 ، ح 1353.
98.     صحيح البخاري 2/651 ، ح 1737.
99.     صحيح مسلم 2/991 ، ح1360.
100.     جامع البيان 1/543.
101.     فتح القدير 1/208.
102.     بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق ، لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بحث منشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي، السنة 18، العدد 10 ص 19 – 25 . النص في ص 21.
103.     صحيح ابن حبان ج:4 ص:490 وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه 2/268، وابن ماجه في سننه 1/243، والترمذي في سننه 2/134، والبيهقي في السنن الكبرى 2/437.
104.     رواه البخاري في صحيحه 1/398، ح 1132، ومسلم في صحيحه 2/1014، ح 1396.
105.     رواه احمد في مسنده 2/420، والبخاري في، 1/398،ح 1133 ومسلم في صحيحه2/1012، ح 1394، وابن ماجه في سننه 1/451، واللفظ له، وعبد الرزاق في مصنفه 8/456.
106.     صحيح ابن خزيمة ج:4 ص:227.
107.     سورة البقرة الآية125.
108.     سورة الحج الآية 26.
109.     سورة آل عمران الآية 97.
110.     سورة التوبة الآية 28.
111.     رواه البخاري 4/1709،ح 4378، ومسلم واللفظ له 2/982، ح 1347.
112.      أخرجه الحاكم في المستدرك 3/54. وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
113.     الأم ج:4 ص: 177.
114.     الأم 1/54، وانظر المجموع 2/198.
115.     انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 3/119.
116.     المغني ج:9 ص:286- 287.
117.     سورة البقرة الآية 125.
118.     سبق ذكر بعض هذه الأحاديث, فلا حاجة لتكرارها خوفا من الإطالة.
119.     المجموع ج: 7 ص: 388.