المبحث السادس: تعظيم أهل الجاهلية للحرم
المبحث السادس: تعظيم أهل الجاهلية للحرم Ocia1065
أمر الله سبحانه وتعالى نبيه وخليله إبراهيم -رضي الله عنه-  أن يبني البيت الحرام؛ ليكون مثابة للناس وأمنا، قال تعالى: (أولم يرو أنا جعلنا حرمَا آمنًا ويُتخطّفُ النَّاس من حولهم) (85).

وقال تعالى: (وإذ جعلنا البيتَ مثابةً للنَّاس وأمنًا) (86).

ورَكَزَ سبحانه وتعالى في القلوب محبته وتعظيمه، وجعل القلوب تهفوا إليه، قال تعالى مُخبراً عن إبراهيم -عليه السلام- أنه دعا ربه فقال: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) (87) فاستجاب الله دعوته، وأمضى فريضته بحج بيته وتعظيمه، وعلى هذا توالت الشرائع الإلهية: (ولله على الناس حِجُّ البيت مَنْ استطاع إليه سبيلًا) (88).

وأخبر النبي ﷺ‬ أن الأنبياء توافدوا على البيت مُعَظّمين حَاجّين, فقال ﷺ‬ كما رواه مسلم عن بن عباس -رضي الله عنهما-: (أن رسول الله ﷺ مَرَّ بوادي الأزرق, فقال: أي وادٍ هذا؟ فقالوا: هذا وادي الأزرق. قال: كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطاً من الثنية، وله جؤار إلى الله بالتلبية. ثم أتى على ثنية هَرْشَى، فقال: أي ثنيةٍ هذه؟ قالوا ثنية هرشى. قال: كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام، على ناقةٍ حمراء جعدة، عليه جُبَّةٌ من صُوفٍ، خطام ناقته خلبة, وهو يُلَبّي. قال: ابن حنبل في حديثه قال هشيم: يعني ليفاً) (89).

وسار أتباع الأنبياء يقتفون خطى أنبيائهم, فقد قال ابن الزبير -رضي الله عنهما-: (إن هذا البيت كان يَحُجُّهُ من بني إسرائيل سبعمائة ألف، يضعون نعالهم بالتنعيم، ثم يدخلون حُفاةً؛ تعظيماً له) (90).

وتتابعت القلوب على ما فطرت عليه تعظيماً وإجلالاً لهذا البيت حتى بعدما اندرست النبوة, وخفيت معالمها، وغلبت الجاهلية، فكانت العرب تُعَظّمُ الحَرَمَ، ولا تطوف فيه بثياب عصت الله فيها، فكان الرجل إذا قدم الحرم اشترى ثياباً؛ ليطوف فيها، فإن لم يستطع استعار من أهل الحرم، فإن لم يجد طاف عارياً؛ كما ذكر ذلك ابن شهاب رحمه الله قال: (كانت العرب تطوف بالبيت عُرَاةً إلا الحمس، قريش وأحلافهم، فمَن جاء من غيرهم وضع ثيابه، فطاف في ثوبي أحمسي يستعيرهما منه، فإن لم يجد مَنْ يُعيره استأجر من ثيابهم، فإن لم يجد مَنْ يستأجر منه ثوبه من الحمس، ولا مَنْ يُعيره ذلك؛ كان بين أحد أمرين: إمَّا أن يلقي عنه ثيابه ويطوف عُرياناً، وإمَّا أن يطوف في ثيابه، فإن طاف في ثيابه ألقاها عن نفسه إذا قضى طوافه، وحرَّمها عليه فلا يقربها ولا يقربها غيره، فكان ذلك الثوب يُسَمَّى اللقي.

والمرأة في ذلك والرجل سواء إلا أن النساء كُنَّ يطفن بالليل، والرجال بالنهار، فقدمت امرأة لها هيئة وجمال فطافت عريانة، وقال بعضهم: بل كان عليها من ثيابها ما ينكشف عنها، فجعلت تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله        فما بدا منه فلا أحله

فكانوا على ذلك حتى بعث الله نبيه ﷺ‬ (91).

وقال السهيلي:
(كان سيدنا رسول الله ﷺ‬ حين قدم من تبوك أراد الحج، فذكر مخالطة المشركين للناس في حجهم، وتلبيتهم بالشرك، وطوافهم عُرَاةً بالبيت؛ وكانوا يقصدون بذلك أن يطوفوا كما ولدوا بغير الثياب التي أذنبوا فيها وظلموا، فأمسك ﷺ‬ عن الحج في ذلك العام) (92).

ولَمَّا أرادت قريش تجديد عمارة البيت الحرام بعدما تهدَّم تواصَّوا فيما بينهم ألا يُدخلوا فيه مالاً حراماً من ربا، أو مهر بغي، ولا مظلمة أحَدٍ من الناس، كما ذكر ابن إسحاق في السيرة عن عبد الله بن أبي نجيح أنه أخبر عن عبد الله بن صفوان بن أمية أن أبا وهب بن عابد بن عمران بن مخزوم وهو جد جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي قال لقريش: (لا تُدخلوا فيه من كسبكم إلا الطيب، ولا تُدخلوا فيه مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحَدٍ من الناس) (93).

كل ذلك من تعظيم الحرم، وأن لا يدخل في بنائه مَالٌ حرامٌ؛ ولذا لَمَّا قصرت بهم النفقة لم يستطيعوا إكمال بناء البيت؛ فأخرجوا منه الحِجْر، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (سألت النبي ﷺ‬ عن الجدر أمن البيت هو؟ قال نعم. قلت: فما لهم لم يُدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة. قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: فعل ذلك قومك؛ لِيُدْخِلُوا مَنْ شاؤوا ويمنعوا مَنْ شاؤوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت, وأن ألصق بابه بالأرض) (94).

وكانت العرب تمتنع فيه عما تستحله في غيره، فكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، ولم يعرض له حتى يخرج منه (95) وتُسَمّيه مُضَرُ الأصَمُّ؛ لسُكُون أصوات السّلاح وقعقعته فيه.

ولَمَّا أراد كُفَّارُ قريش قتل خبيب -رضي الله عنه- أخرجوه خارج الحرم؛ وذلك تعظيماً للحرم (96).
-------------------------------------
الهوامش:
85.     سورة العنكبوت الآية 67.
86.     سورة البقرة الآية 125.
87.     سورة إبراهيم الآية 37.
88.     سورة آل عمران الآية 97.
89.     صحيح مسلم 1/152، ح 166.
90.     أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، 2/267. قال محققه : إسناده صحيح.
91.     التمهيد لابن عبد البر: 6 / 377 - 378. وانظر صحيح مسلم 4/2320، ح 3028.
92.     عمدة القارىء 9/265.
93.     فتح الباري 3/444.
94.     رواه البخاري في صحيحه 2/573،ح 1507، واللفظ له، ومسلم في صحيحه 2/972، ح 1333.
95.     جامع البيان 1/534 ،2/346.
96.     رواه البخاري في صحيحه 3/1108، ح 2880.