المبحث الخامس: تعظيم الإسلام للحرم
المبحث الخامس: تعظيم الإسلام للحرم Ocia1064
إن للحرم حُرمة عظيمة في الإسلام، وحسبك بأمر عظّمه العظيم فلا بد أن يكون عظيماً، إن عظمة الحرم لا يحيط بها وصف، ولا يلمّ بها بيان، ولا يطيقها بنان، فهل يتحدث الباحث عن التحريم الإلهي الموغل في القدم لهذا المكان، أم يتناول الأمن الشامل في هذه البقعة المقدسة، أم يعرض لكونه مهوى الأفئدة وقبلة الوجوه والقلوب، أم يشير إلى مضاعفة الحسنات والأجور، أم يذكّر بأنه أحب البقاع إلى الله سبحانه وتعالى، أم يذكر أنه مأرز الإيمان.

إن الباحث حينما يهم بالحديث عن هذا الأمر العظيم تصيبه الدهشة، ويمنعه الإجلال عن الحديث؛ فلا يدري عن أي أمر يتحدث، ولكن حسب الباحث أن يورد آية، ويستدل بحديث، ويستشهد بقول عالم؛ ليشير إلى هذا الأمر، وإن لم يحط به.

إن عظمة الحرم تتناول جوانب عظيمة وكثيرة منها:
1-   أن الله سبحانه وتعالى حرم هذه البلدة منذ خلق السموات والأرض، قال تعالى: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرَّمها وله كل شيء) (58)، وفي الصحيحين عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير! أحدثك قولاً قام به رسول الله ﷺ‬ الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: (إن مكة حرَّمها الله ولم يُحرّمها الناس، لا يحل لامرىءٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجراً) (59) وقال ﷺ‬ يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض) (60).

2-   أن الله جعل هذا البيت مثابة للناس، قال تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) (61) قال أبو جعفر الطبري: (فمعنى قوله: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) وإذ جعلنا البيت مرجعاً للناس ومعاذاً يأتونه كل عام، ويرجعون إليه فلا يقضون منه وطراً) (62).

3-   أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه جعله حرماً آمنَّا قال تعالى: (أو لم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا ويُتخطّفُ الناسُ من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) (63) قال الشافعي رحمه الله: (يعني والله أعلم آمنا من صار إليه لا يتخطف اختطاف من حولهم) (64) وذكّر أهل الحرم بما امتن عليهم حتى في حال جاهليتهم فقال تعالى: (لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (65)، وقال سبحانه وتعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) (66) قال السيوطي: (آمناً من العدوان أن يحمل فيه السلاحَ، وقد كانوا في الجاهلية يُتخطفُ الناس من حولهم وهم آمنون) (67).

4-   أنه من شعائر الله، قال تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) (68)، قال ابن العربي بعد أن أورد أقوال العلماء في المراد بالشعائر: (والصحيح أنها جميع مناسك الحج) (69) وقال تعالى مُبيناً أن تعظيم هذه الشعائر علامة على الإيمان: (ذلك ومَن يُعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) (70) قال ابن جرير: (قال ابن زيد في قوله: (ومَن يُعظّم حُرُمَاتِ الله) قال: الحُرُمَات المشعر الحرام، والبيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، هؤلاء الحُرُمَات) (71).

5-   أنه قبلة للقلوب والوجوه، قبلة في الحياة وفي الممات، قال تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) (72).

6-   تحريم الإلحاد فيه، والإلحاد هو الميل عن الحق إلى الباطل (73)، وهو شامل لكل عدول عن الصواب إلى الظلم، وارتكاب المنهيات على تنوعها حسبما فسرته السُّنَّة (74)، وقد حرَّم الله الإلحاد في كل زمان ومكان، ولكن يختص الحرم دون ما سواه أن العبد يؤاخذ بالذنب في الحرم بمجرد الهم فيه، وهو عامد قاصد أنه ظلم وليس بمتأول، ولو لم يفعله، قال تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) (75)، وأورد ابن كثير قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: (لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم) وقال: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري (76).

7-   تعظيم الحسنات ومضاعفتها فيه، فكما عظّم الباري سبحانه وتعالى أثم من ألحد فيه، فقد عظّم وضاعف أجر من عمل صالحاً فيه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) (77)، ففي هذا الحديث بين النبي ﷺ‬ مضاعفة أجر الصلاة لِمَنْ صلّى فيه، ولم يبين عدد التضعيف؛ بينما ورد من حديث عبد الله بن الزبير عند ابن حبان أن الصلاة فيه تعدل مائة صلاة في المسجد النبوي، فعن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله ﷺ: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في ذاك المسجد أفضل من مائة صلاة في هذا، يعني في مسجد المدينة) (78).

8-   أن مكة أفضل البلاد وأحبها إلى الله ورسوله ﷺ‬ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ لمكة: (ما أطيبك من بلدة، وأحبك إليَّ، ولولا أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك) (79).

9-   أن مكة والمدينة النبوية هما مأرز الإيمان في آخر الزمان فمنها انطلق، وإليهما يعود فعن بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين، كما تأرز الحية إلى جحرها) (80).

10- أن مكة حَرَّمها اللهُ، فلا يُعضَّد شجرها، ولا يُنَفَّرُ صيدها، فعن بن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ‬ قال: (حَرَّمَ اللهُ مكة فلم تحل لأحَدٍ قبلي، ولا لأحَدٍ بعدي؛ أحِلَّتْ لي ساعة من نهار، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا يُنفَّر صيدها، ولا تُلتقط لقطتها إلا لمُعَرِّفٍ، فقال العباس -رضي الله عنه-: إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا، فقال: إلا الإذخر) (81).

11- أن مما خَصَّ اللهُ به الحرم  أنه يجبى إليه ثمرات كل شيءٍ قال تعالى: (أولم نمكن لهم حرمًا آمنًا يُجبى إليه ثمرات كل شيءٍ رزقًا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) (82)، وهذه الثمرات المتتابعة على هذا الحرم الآمن هي منّة من الله تعالى، واستجابة لدعوة الخليل -عليه السلام- حين دعا ربه قائلاً: (رب اجعل هذا بلدا آمنًا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر) (83)، وقال الله سبحانه وتعالى مُخبراً عن إبراهيم الخليل -عليه السلام- أنه توسَّل إلى ربه فقال: (ربنا إني أسكنتُ من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المُحَرَّم ربنا ليُقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من النَّاس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) (84).          

فكان الواقع المشاهد في هذا الحرم وفرة الرزق، وتعدُّد الثمرات وتنوعها.
--------------------------------------
الهوامش:
58.     سورة النمل الآية 91.
59.     متفق عليه، صحيح البخاري، ح 4044، 4/ 1563، وصحيح مسلم،ح 1354، 2/987.
60.     المسند المستخرج على صحيح مسلم 4/32.
61.     سورة البقرة الآية 125.
62.     جامع البيان 1/532.، وانظر تفسير القرآن العظيم 1/169 ،170، وأحكام القرآن للشافعي1/119.
63.     سورة العنكبوت الآية 67.
64.     الأم 2/141.
65.     سورة قريش 1-4.
66.     سورة البقرة الآية 125.
67.     الدر المنثور 1/289.
68.     سورة البقرة الآية 158.
69.     أحكام القرآن لابن العربي 3/288،287.
70.     سورة الحج الآية 32.
71.     جامع البيان 17/153.
72.     سورة البقرة الآية 144.
73.     أحكام القرآن للجصاص 5/62.
74.     الموافقات 4/64.
75.     سورة الحج الآية 25.
76.     تفسير القرآن العظيم 3/216. وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن راهويه، وأحمد، وعبد بن حميد، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، الدر المنثور 6/23.
77.     صحيح البخاري ،ح1133، 1/398، وصحيح مسلم ،ح 1394، 2/1012.
78.     صحيح ابن حبان ، ح 1620، 4/499.
79.     رواه الحاكم في المستدرك وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ح1787، 1/661، ورواه ابن حبان في صحيحه، ح 3709 ، 9/23 ، والضياء في المختارة، ح 217، 10/210.
80.     صحيح مسلم ،ح 146 ، 1/128، وانظر صحيح البخاري، ح 1777، 2/ 663.
81.     صحيح البخاري واللفظ له، ح 1284، 1/452، وصحيح مسلم ، ح 1355، 2/988.
82.     سورة القصص الآية 57.
83.     سورة البقرة الآية 126.
84.     سورة  إبراهيم الآية 37.